بين العقل والأسطورة: محكمة الغربان أنموذجا


فئة :  مقالات

بين العقل والأسطورة: محكمة الغربان أنموذجا

بين العقل والأسطورة: محكمة الغربان أنموذجا

تبدو محنة العقل القياسي شديدة الوضوح حينما يواجه المعرفة العلمية، ويحاول التكيف معها بمنهاجيته أحادية التفسير، وعندما يدرك استحالة ذلك يدفعه ولاؤه للدوغمائية إلى محاولة تزييف الوقائع واختلاق الحقائق؛ فالعقل المتمترس خلف كل ما هو موروث يواجه إشكالية التناقض الظاهر بين هذا الموروث والواقع، هنا يحاول إثبات صحة موروثه بشتى الطرق فيحمل معطياته المطلقة إلى ميدان المعرفة العلمية النسبية، فتخرج نتاجات نظرية غاية في الارتباك والتدليس، لتقع تحت مقصلة السببية ومنطق الاحتمالات العقلية وشتى العمليات الاستقرائية.

يبدو هذا القصور الإجرائي شديد الوضوح في كتاب "آيات الإعجاز العلمي، الحيوان في القرآن الكريم"، حيث لا يجد مؤلفه "زغلول النجار" مانعاً من اختلاق ما أسماه بالحقائق العلمية، ويذهب بالقارئ في رحلة شيقة ومثيرة أقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة وحكايات كليلة ودمنة، ينسج من خياله صوراً ومشاهد أقرب إلى الاختلاق عن عوالم الغربان العاقلة... بداية، يطرح النجار تساؤلاً - يجيب عنه فيما بعد - هو: لماذا بعث الله غراباً، ليعلم بني آدم دفن موتاهم ولم يبعث طائراً آخر؟ ويمضي في إجابته المطولة مؤكداً أن السبب يكمن في الغــراب نفسه بصفته أذكى الطيور وأمكرها على الإطلاق!.. ويعلل ذلك بأن دراسات سلوك عالم الحيوان (دون أن يذكر أيا من تلك الدراسات) تؤكد أن الغربان كائنات عاقلة لديها منظومة قانونية أو ما يطلق عليه "محاكم الغربان"! وفيها تحاكم الجماعة أي فرد يخرج على نظامها حسب قوانين العدالة.

ويمضي الكاتب في أطروحته التي ألبسها ثوب العلم، مؤكداً أن لكل جريمة عند جماعة الغربان عقوبتها الخاصة بها كما يلي:

- جريمة اغتصاب طعام الفراخ الصغار: العقوبة تقضي بأن تقوم جماعة من الغربان بنتف ريش الغراب المعتدي، حتى يصبح عاجزاً عن الطيران، كالفراخ الصغيرة قبل اكتمال نموها!

- وجريمة اغتصاب العش أو هدمه: تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدى عليه.

- جريمة الاعتداء على أنثى غراب آخر، وفيها تقضي جماعة الغربان بقتل المعتدي ضرباً بمناقيرها حتى الموت.

ثم يطلق الرجل عنان خياله ليصور لنا مشهد المحاكمة: "وتنعقد المحكمة عادة في حقل من الحقول الزراعية أو في أرض واسعة، تتجمع فيها هيئة المحكمة في الوقت المحدد، ويجلب الغراب المتهم تحت حراسة مشددة!، وتبدأ محاكمته فينكس رأسه، ويخفض جناحه ويمسك عن النعيق اعترافاً بذنبه".

هنا تحتبس الأنفاس انتظاراً للحظة النطق بالحكم ...!!

فإذا صدر الحكم بالإعدام وثبت، فإن جماعة من الغربان تنقض على المذنب توسعه تمزيقاً بمناقيرها الحادة حتى يموت، وحينئذ يحمله أحد الغربان بمنقاره، ليحفر له قبراً يتواءم مع حجم جسده يضع فيه جسد الغراب القتيل، ثم يهيل عليه التراب احتراماً لحرمة الموت، وهكذا تقيم الغربان العدل الإلهي في الأرض أفضل مما يقيمه كثير من بني آدم على حد قوله.

ثم ينطلق النجار بعد مشهد المحاكمة المهيب، ليؤكد على حقيقة علمية أخرى، وهي أن الغراب من بين سائر الحيوانات والطيور يقوم بدفن موتاه[1].

يستحق هذا الكلام المرسل وقفة مطولة؛ فالمؤمن لا يعنيه كثيراً أن يمتلك الغراب هذا النسق القانونى المهيب ليصدق قصة ابنيْ آدم من عدمها، فلماذا التدليس المهترئ والاختلاق الساذج لتأكيد الإيمان بشكل يضر بقضية الإيمان ذاتها.

إن هذا المشهد الأسطوري الأقرب إلى دنيا الحكايا وعوالم الحواديث، يعني أن الغراب طائر عاقل له كامل الأهلية، يسن القوانين والتشريعات، ويعقد المحاكمات التى تصدر أحكاماً يتم تنفيذها على الفور! فهل الغراب وفقا لذلك مكلف؟ فكائن يمتلك هذا النسق الأخلاقي والتنظيمي، لابد أن يكون مكلفاً من السماء، فلا يمكن أن يذهب هذا النضج التشريعي والفكري سدى !!

نخرج من مستنقع الميثولوجيا لميادين العلم اللامتناهية؛ فعلوم الحيوان ودراسات سلوكيات الطيور، تؤكد أن الغربان من رتبة العصفوريات أو الجواثم Passeriformes التي تضم نحو 56 فصيلة، تعيش في مستعمرات (مجاثم)، وتتغذى بشكل أساسي على اللحوم، وهي من الطيور آكلة الجيف. وبالتالي، فإن سلوكياتها تتبع سلوكيات آكلات الجيف من حيث الصراع الدائم والشراسة وفقا لقاعدة "البقاء للأقوى"، ولم يتم رصد هذه المحاكمات العبقرية في عوالم الغربان على اختلاف أنواعها.[2]

ويتبادر سؤال مهم إلى الأذهان، لو كان الغراب بمثل هذه العبقرية، وهذا العدل والنضج فلماذا تعاملت معه المرويات بنوع من الازدراء والتنفير، بل وحرضت على قتله، باعتباره من الفواسق؛ فعن عائشة قالت: قال رسول الله: خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور- متفق عليه".[3]

لقد جاءت رمزية الغراب في القصص القرآنى، لتظهر مدى عجز "قابيل" وقلة حيلته أمام جسد أخيه المسجى أمامه، وكيف أن طائراً قد جاء إليه بالحل من خلال النبش أمامه في الأرض، وهنا تبقى خاصية الدفن حالة إنسانية لا يفعلها غير الإنسان وحده، تلقاها قابيل من طائر وتوارثها بنى الإنسان...ولم يفعلها هذا الطائر أو أي من سلالته فيما بعد؛ فهي حالة خاصة بغراب ابنيْ آدم وحده...مثلما لم يتحدث هدهد سليمان مع غيره، أو تخرج من بين الصخر سوى ناقة صالح.

وتؤكد كل المصادر العلمية أن الغراب لا يدفن موتاه ولا يعقد تلك المحاكمات العبقرية، ولا صحة إطلاقا لمثل هذا الاهتراء في علوم سلوكيات الحيوان.[4]

عودة للنص القرآنى الذي يكذب ادعاء الدفن نفسه؛ فالآية تقول: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين" (المائدة-31)

هنا الغراب بعث ليبحث في الأرض؛ أي ينبش وينقر بجوار جسد هابيل المسجى، بينما لا يوجد أي ذكر لغراب آخر ميت جاء هذا الغراب ليدفنه؛ فكل ما فعله هو النبش ليلفت انتباه القاتل إلى كيفية موارة جسد القتيل، وبالتالي فإن الغراب لم يدفن أحداً من البداية، ولا تعرف مجتمعات الغربان عادة دفن موتاها، بل إن الإنسان وحده دون سائر المخلوقات هو من يقوم بدفن موتاه في التراب، والأفيال فقط هى من تغطي موتاها بفروع الشجر فقط.

هذا المثال، يعكس إلى أي مدى تورطت العقلية المتشرنقة والمتخندقة في جب التراث، وأقحمت النص في ميادين معرفية بعيدة كل البعد عن مجاله، فسقطت في أحابيل الميثولوجيا، وجنحت عن المنهج العلمي فيما يشبه الانتحار العقلي.


[1]- زغلول النجار، من آيات الاعجاز العلمي، الحيوان في القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت، 2006، ص ص 406-408

[2]-Thomas J.chamas, Thomas P.monath: The Flaviviruses: Detection, Diagnosis and Vaccine Development, advances in Virus Research, vol61, Reed Elsevier inc massachusetts New York , 2003, P 197

[3]- صحيح مسلم، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم: 3- 856

[4]- Animal Behavior Abstracts, Cambridge Scientific Abstracts, Vol.28.No.1-1300, Association for the Study of Animal Behaviour, Information Retrieval Limited, Cambridge Scientific Abstracts, Inc, University of Southampton, Southampton, 2000, p 64