بين الغواية في التطرف والملل والقسوة في المواجهة


فئة :  مقالات

بين الغواية في التطرف والملل والقسوة في المواجهة

في السؤال الملحّ المتكرر عن مواجهة التطرف تظلّ الإجابات مترددة غير يقينية؛ فالتطرف بما هو معتقدات ومشاعر وعواطف لا يحكمها العقل ينشئ حالة متماسكة لا يطالها الشكّ والتغير، والإجابة بما هي بحث وتفكير وتجربة تبدو عملا قاسيا ومملّا، تشكل الهشاشة والتغير مكونا بنيويا ومؤسسا، والتطرف بما ينشئه من تضامن وتحشيد يتفوق على المواجهة بما هي عمل عقلاني نخبوي لا يكاد يستمع إليه سوى أقلية من الناس، فيما تفضل الأغلبية تلك المتعة العاطفية والفكرية التي يمنحها التطرف والكراهية للأعداء المشتركين فأعداء المتطرفين غالبا هم أيضا أعداء الشعوب والأمم المستضعفة والمقهورة والمحتلة والمهمشة، والتطرف مبادر وسبّاق ينشئ الحالة وينشغل العالم بالردّ عليها، فيظل غالبا إن لم يكن دائما سابقا بخطوات، وما أن يطفئ العالم حرائقه حتى يشعل حرائق جديدة، وفي المغامرة التي يقوم عليها التطرف ثمة ذكاء ومفاجآت ودهشة، والردّ بما هو الحكمة المتأتية من الدراسة واستخلاص العبر يأتي متأخرا، فكما يقول هيغل: "منيرفا (بومة الحكمة) لا تحلّق إلا في الغسق"، أي أن الحكمة تظهر بعد انقضاء الحدث، وليس قبله أو حتى في أثناء وقوعه، ولكن برغم ذلك كله، فإن الحكمة تظل قادرة على المواجهة والانتصار، ويظل العلم ببطئه ونسبيته وعدم يقينه قادرا على مواجهة تماسك ويقين المجازفة والفشل، والعمل القاسي المملّ يقدر على إحباط الكسل والاستسهال بما فيهما من متعة وغواية، .. وعلى أيّ حال، فليس في مواجهة الكراهية والتطرف خيار سوى المواجهة، وليس في المواجهة خيار سوى ما تقتضيه طبيعتها من حكمة تخلو من الإثارة والمفاجأة، لكنها في دأبها وما تمنحه من ثقة تقدم الحلول، وتنشئ التقدم، .. وأسوأ ما تقع فيه عمليات ومؤسسات مواجهة التطرف والإرهاب أن تنزلق إلى الإثارة والحشد والدعاية والتحريض؛ ففي ذلك تمضي مواجهة التطرف إلى ملعبه، وتستدرج نفسها إلى معركة محسومة مسبقا لصالح الكراهية والعنف والقسوة، ففي هذا المجال يتفوق التطرف، ويملك أدوات وقدرات يصعب مواجهتها إلا بتطرف مقابل، فيتحول الصراع إلى كراهية متبادلة، ولا ينتهي إلا بإقصاء أحد الطرفين، الأمر الذي قد لا يحدث، فيطول الصراع، وإذا حدث بالفعل وانتصر أحد الطرفين، فإنها كارثة أيضا، .. لن يكون لدينا سوى تطرف منتصر!

هل يمكننا التوقف عن القسوة؟ تسأل كاثلين تايلور في خاتمة كتابها "القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري"، وفي حين يبدو متماسكا وواضحا شرح كيف ولماذا يكون الناس قساة، فإن البحث والتفكير في إيقاف القسوة ومعالجتها ينشئ أفكارا وإجابات غامضة مستمدة من الفكرة الأساسية عن دوافع وكيفية نشوء القسوة.

تقول تايلور: يتصرف الناس معتقدين أنهم على صواب ولديهم أسباب جيدة لتفسير رؤيتهم، ويحيط باختياراتهم الرغبات العاجلة والمباشرة، والضغوط الناشئة عن الموقف، والميل إلى نسيان وتجاهل حياة الآخرين وتجاربهم، وحدود قدراتهم على تدبر نتائج وعواقب أفعالهم، .. وقد يؤدي تكرار حدوث الأفعال إلى تحويلنا إلى قساة أو لا مبالين تجاه معاناة الناس.

إن القسوة بما هي معاقبة الأبرياء وإيذاؤهم، تتباين في مستوياتها وطبيعتها ودوافعها وأهدافها؛ فهي تتراوح بين قسوة القلب إلى السادية بما هي الاستمتاع بالإيذاء، حيث يكون الألم متعة أو مكافأة يحصل عليها المجرم أو يسعى إليها. وقد تكون القسوة لأجل المكافأة؛ مثل الانتماء إلى الجماعة أو الحب أو القوة أو الكسب المادي، .. وهناك قسوة ناشئة عن الفشل، الفشل الجماعي سياسيا كان أو غير ذلك، أو الفشل الفردي.

إن الناس غالبا ما يكونون قساة، لأن القسوة تبدو أسهل الطرق للتصرف في ظروفهم الخاصة، وقد تكون هناك أسباب قوية لعدم القسوة، لكن الأمر الذي يتطلب مجهودا أقل هو تجاهل هذه الأسباب بدلا من مقاومة الضغوط من الآخرين، أما اللامبالاة والكسل والجهل عن عمد والخوف من النتائج المجهولة، فقد يزيد من المناورة والتلاعب المتعمد لاختيار القسوة.

هكذا، فإننا في مواجهة القسوة بما هي بطبيعة الحال منتهى التطرف والإرهاب يجب أن نواجه أو نغير محفزاتها، وأولها الانحياز، فذلك يزيد من غلظة القلوب واللامبالاة تجاه معاناة الناس وآلامهم وحقوقهم.

تقول تايلور: "لقد نشأ الجنس البشري على معاملة العالم دون مساواة في اعتبارات عديدة، فنحن بطبعنا وما جبلنا عليه نهتم بأقاربنا (أو الأقارب الرمزيين) وبمن نرى أنهم أعضاء أقوياء في جماعتنا، وبالمعتقدات التي تتفق مع ما نعتقده ونراه، إننا بالطبيعة نولي اهتماما أقل بالغرباء وللناس الأقل في المكانة الاجتماعية أو للأفكار التي تناقص معتقداتنا، ونحن محدودو القدرة على تنظيم المعلومات، ونجهل كثيرا مما تخبرنا به حواسنا، لأنها لا تتناسب مع ما نريد أن نعتقده وما يرضينا، كما أننا نبتعد عن الموضوعية في رؤيتنا للحياة بمرور الوقت، ونعتبر النتائج المستقبلية والعواقب البعيدة شيئا أقل في لأهمية من الأحداث المعاصرة أو القريبة، وهي ظاهرة يطلق عليها علماء النفس إسقاط الزمن من الاعتبار، ولذلك عندما نختار أن نكون قساة، فغالبا ما نختار على أساس مدخلات منحازة، ونفشل في أخذ نتائج الضرر الذي يحدثه في الاعتبار، ومكافآت القسوة لا تدوم طويلا، فالغنيمة تختطف، والتهديد من الضحية يزول، وموافقة الجماعة واضحة، أما عقوبات القسوة فعادة ما تستغرق وقتا أطل كثيرا إذا وقعت بالفعل".

ويبدأ الحلّ بالتعليم، ففي ذلك يمكن كما تقول تايلور أن نقلل من سيطرة المعتقدات الزائفة؛ فالمعرفة بالحقائق ومعرفة كيف نفكر سوف تساعدنا في كشف ملايين الأشكال من الهراء الذي يقدمه من يستفيدون كثيرا من إقصاء الآخر. وسوف نستطيع أن نميز إذا ما كان أي ادعاء يستند إلى نظرية الماهية والجوهر تجاه الآخر أي أن الآخرين جوهرهم فاسد فنرفضهم، وبذلك فسوف نتحدى التنميطات، ويمكننا أيضا أن نعلم أطفالنا التاريخ الصحيح والأفضل، وليس معنى ذلك أن نعيد سرد الأخطاء القديمة أو نجلد من ارتكبوها، فمن المحتمل أن كل بلد ارتكب الفظائع وعانى منها، وتعلم التاريخ يمكن بدلا من ذلك أن يضع هذه الجرائم في مضامينها ويظهر أن هناك أسبابا لحدوثها ويطرح الأمل في أن يتم تحاشيها فيما بعد.

حسب نظرية الكم والريبة، فإن طبيعة الملاحظة تغير من طبيعة الذي نلاحظه، ويساعدنا التعلم من المجتمع أو التبرير الذي يأتي فيما بعد في أن نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون، وهذا أيضا يشكلنا في صورة تتماثل بشكل أفضل مع مدركات الناس عنا وما "يرونه" فينا، ويصل ذلك بنا إلى أن نتبنى توقعات الآخرين عنا كما لو كانت توقعاتنا نحن، فيصبح ما يتوقعونه لنا هو ما نصير إليه، إننا بذلك نشاركهم معتقداتهم ونرغب فيما علمونا أن نرغب فيه.

إن طواعية التشكل وسهولة الانقياد، عنصران حيويان ومهمان في أسلوب حياتنا الحديث؛ فذلك يبقينا متوائمين اجتماعيا، لكن لسوء الحظ فإن المعتقدات التي تخلق التحدي والصراعات من الغير يمكن أن تصبح قيمتها كبيرة نتيجة لذلك، وقد تصعد أحيانا إلى مرتبة المبادئ المقدسة كما أن بعض المعتقدات يؤدي إلى الصراع، مثل فكرة أننا جميعا لنا الحق أن تُحترم معتقداتنا القوية مهما كان محتواها، وهناك جماعة من الناس تشجع إضفاء القداسة على مبادئنا ومعتقداتنا، لأنهم هم الذين يستفيدون من ذلك، ويساوون بين نقد هذه المعتقدات وبين عدم الاحترام.

وبالطبع، فإن القيم والمبادئ الأخلاقية تساعد في إنشاء منظومات لحماية المجتمعات والأفراد من القسوة والظلم، لكن الأخلاق كما يقول دارون هي منظومات طورها الإنسان لأنها مفيدة، وهذا ليس أمرا سيئا بطبيعة الحال، ولكن يجب الملاحظة بأن الأخلاق ليست أفكارا ومعتقدات تهبط من خارج عالم الإنسان، بل يجري تطويرها في تفاعل المصالح وتقدير الضرر والمخاطر، فنحن البشر كحيوانات اجتماعية لا بد أن نتفاعل مع بشر آخرين، وإن سببنا لهم ضررا، فربما يضروننا إن استطاعوا، والمشكلة الثانية هي أننا نقضي جزءا كبيرا من حياتنا معتمدين على النوايا الحسنة من الآخرين، فنحن في الطفولة نحتاج الرعاية، وفي الكبر يفقدنا السن والمرض كثيرا من دفاعاتنا، والقوة التي يمكننا أن نجبر بها الناس على تحقيق النفع والخير لنا لا يمكن أن تدوم، ولا بد أن نجعلهم هم الذين يريدون مساعدتنا، وفي ذلك فإن البناء الأخلاقي والقيمي في مواجهة القسوة والتطرف يتشكل في سياق النظام الاجتماعي والاقتصادي نفسه، ويكون التطرف مؤشرا إلى الخلل أو الفشل أو الثغرات في هذا النظام، ولا يمكن المواجهة بمبادئ أخلاقية معزولة عن إصلاح النظام الاجتماعي والاقتصادي؛ فالتطرف وفق المنظور الأخلاقي يتحول إلى معالجة اجتماعية اقتصادية تنظر الى التطرف بما هو خروج من المجتمع أو خروج عليه!

وقد أظهرت التجربة المشهورة لعالم النفس، فيليب زيمباردو، في سجن ستانفورد، أن شباباً أصحّاء نفسياً تحولوا إلى حراس ساديين خلال أيام قليلة، وقد فسّر زيمباردو هذا البحث الشهير بأنه أظهر أن فعل الشر إغراءٌ نتعرّض جميعاً له في الظروف المناسبة: "نحن يمكننا أن نتعلم أن نصبح طيبين أو أشراراً، بصرف النظر عن ميراثنا من الجينات، أو شخصيتنا أو تراثنا العائلي". يقول فولجنس بوناني، أحد المشاركين في الإبادة الجماعية في رواندا: "كلما تزايدت رؤيتنا للناس وهم يموتون، وكلما قلّ تفكيرنا في حياتهم، وقلّ حديثنا عن موتهم؛ ازداد تعوّدنا على ذلك، واستمتاعنا به".

لذلك، فإنه من المتوقع دائما ويجب أخذ ذلك بالاعتبار أن ظروفاً قد تشجع على القسوة والتطرف، وتحوّل طيبين إلى قتلة، وحتى لا نغفل عن القسوة التي صبغت المخزون الثقافي للبشر منذ زمن طويل؛ أو لا نقع ضحية جهل التاريخ أو تقديسه، فمن الضرورة التأكيد على ملاحظة أن حالةً من الارتقاء الإنساني تشكلت، منذ منتصف القرن العشرين، تنشئ قيماً جديدةً من الحريات والعدالة والمساواة حقوق الإنسان وحماية البيئة والتضامن العالمي الإنساني والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والتعاطف مع الأطفال وكبار السن والمعوقين، وتمكين المرأة والتمييز الإيجابي للأقليات والمستضعفين والمهمشين، بعد تاريخ طويل غير مشرّف لجميع الأمم والحضارات في العبودية والظلم والقتل الاعتداء على الطبيعية والمستضعفين، .. وأن يكون ثمة أمثلة صحيحة تردّ على هذه المقولة لا ينفي صحتها.

ولكن، وكما يدفع الجوع مثلاً الإنسان إلى التخلي عن القيم المنظمة للمجتمعات، أو حتى يدفعه إلى أكل لحوم البشر، فإنه من المتوقع أن بعض الظروف قد تشجع على القسوة والتطرف، وتحوّل أشخاصاً طيبين إلى قتلة وإرهابيين يستمتعون بالأذى والإضرار، وقد يكون سهلاً أو مغرياً ردّ القسوة والنزعة إلى الأذى والإضرار من غير سببٍ، أو ضرورةٍ، إلى الأفكار والمعتقدات الدينية. ولكن، هناك أسباب كثيرة يمكن أن تجعلنا قساةً حتى من غير الأفكار والمعتقدات الدينية المتطرفة، وإن كان من الضروري أيضاً إجراء مراجعاتٍ فكريةٍ نزيهةٍ للمصادر الدينية والتراثية والثقافية للقسوة والكراهية والعنف، أو تمجيدها والدعوة إليها، وأن يُعاد بناء الخطاب الديني وفهم النصوص الدينية وقراءتها، بمناهج عقلانية منبثقة عن روح العصر ومنجزاته، ذلك أن الخطاب، بما هو معالجة منهجية لفكرة أو موضوع مستقل عن النص أو المعتقدات، وإن كان مستمداً منها، أو قراءةً وتحليلاً للنصوص والتجارب.

فهناك مصدر أساسي ومهم لتشكل المعتقدات، إضافة إلى العقل والمشاعر والأفكار الدينية، وهو البيئة لخارجية المحيطة، بما تعنيه من مصالح وانتماء وعلاقات واحتياجات ومخاطر. وتنشأ مع الزمن معتقدات وقيم وثقافات يؤمن بها أصحابها، وعلى الرغم من أنها في منشئها مستمدةٌ من المنافع والمصالح، فإنها تتحول مع الزمن إلى أفكار مستقلة عن روايتها المنشئة، وتصبح معتقداتٍ قائمةً بذاتها، وغاية وليست وسيلة.

التهديد والشعور بالخطر على سبيل المثال أنشأ منظومةً من المعتقدات الكبرى والصغرى، ونشأت في ذلك الهوية والعداوة والصداقة والقيم، ويمكن النظر، هنا، إلى الهوية القومية المرتبطة بدين، إذ تتحول العقيدة الدينية إلى رابطةٍ وروايةٍ وطنيةٍ، يتصل بها وجود الدولة وكيانها.

وسوف تكون مواجهة الكراهية والتطرف المرتبطة في نشوئها وتأثيرها بمعتقدات ومصالح قومية أو قضايا التحرر والمقاومة أشبه بالخيانة في نظر أصحاب هذه المعتقدات، وتتحول الدعوات العقلانية إلى الارتقاء والتحرر من الكراهية إلى اعتبارها مواجهة عدائية مع الأوطان والتحرير والمقاومة والقضايا الكبرى أو المقدسة، كما أنها (القضايا الكبرى والمقدسة) سوف ترعى الكراهية باعتبارها مغوية لأصحابها، والأكثر أهمية أنها تكون موردا سهلا لكسب الأنصار والمؤيدين وللتغطية على الفشل والاستبداد والفساد، وكما دخلت المواجهة مع التطرف إلى مواجهة مع الفشل الاقتصادي، فإنها أيضا تتحول إلى مواجهة مع الاستبداد والفساد!