تَأصِيل وصِيانة قِيمَة الوَلاء لِطقوسِ مَظلوميَّةِ كَرْبلَاء


فئة :  مقالات

تَأصِيل وصِيانة قِيمَة الوَلاء لِطقوسِ مَظلوميَّةِ كَرْبلَاء

تَأصِيل وصِيانة قِيمَة الوَلاء لِطقوسِ مَظلوميَّةِ كَرْبلَاء

يختلفُ المُسلمون عُموماً في طَريقَةِ فَهمِهم التاريخيَّة لمعركةِ كربلاء التي وقعت في العاشرِ من محرم عامَ (61هـ/ أكتوبر 680م)، والتي قُتل فيها الحُسين حَفيدُ النَّبي مُحمد، وكَذلك الحَال بالنسبة إلى معركةِ صِفِّين والجمل ومَعاركٌ أخرى راح ضحيتها آلاف المُسلمين نتيجةَ خلافاتٍ على الحكم وأحقيَّة خلافة رسول الله محمد، وباختلافِهم هذا يختلفون أيضاً في كيفية توصيفِ الأحدَاثِ وآثارها والمراد من طرائق إحيائِها بشكلٍ سنويٍّ في مناسباتٍ تغمرها المراسيم ذات الطابع الطقوسي. وبتعدد هذا الاختلاف في الفَهم، وطريقة الانتصار لحفيد النبي وآل بيته، وبتعدد الآراءِ الدِّينية والاجتماعية من الأحداث، تتعدد الخطابات.

لقد أنتجتْ الاختلافات في الفَهم على مقتلِ الحُسين، أربعةُ أنواعٍ من الخطابات، وهي: خِطابان عاطفيان وهما: خطابُ القُرب (بهدف الاستعانة)، وخطابُ الحبِّ (بهدفِ الشفاعة)، وخطابانِ تشريعيان وهما: خِطابُ المسؤُولية (بهدفِ صيانةِ الأمانة)، وخطابُ التَّرابط أو صفِّ الصُفوف (بهدف الاتفاق)، وجميع هذه الخطابات الأربعة، ولا سيما الخطابات التشريعية تعبِّر عن الولاءِ الذي فيه إخلاصٌ وانتماءٌ، فأما الإخلاص فهو مأصول للنبي مُحمد، وأما الانتماء فيه انتسابٌ لفكرة الإعلانِ عن الرفضِ التي تفجرت في ذهن الحُسين قبلَ مَقتله، والسياق التاريخي لقصة ثَورته التي أحياها أتباعه على مر الزمان.

عندما نستنتج حصولَ تعددٍ في الخطابات، فهذا يعني حصولَ تعددٍ في سيكولوجيا وبيئة الخطابات وصولاً إلى تعدد المفردات المستخدمة فيها، كأنْ يقالَ في توصيف حدث مقتل الحُسين "شهادة الحسين" أو "مقتل الحسين" أو "مصرعَ الحُسين" أو "موت الحسين" أو "حَتْفَ الحُسين"، وهناك فرق في المعنى والمغزى، ولكلٍّ تعبيرٌ أيديولوجيًا، وبالتالي فإنَّ كل خطاب يمكنُ تقييمه من خلال تقييم مفرداته، وليس فقط من خلال النظر إلى سرديته أو أسلوب ودلالةِ الخطاب. على سبيل المثال: فإنَّ التعبير عن الذات المظلومة ليس كالتعبير عن الذات الثورية وليس كالتعبير عن الذات المقاتلة، وليس كالتعبير عن الذات الشجاعة، وعندما يقال "انتصر يزيد بالقتل وانتصر الحسين بالشهادة"[1]، فإن ذلك يعتبر قولبةً أو تعريفًا للصراع سواء كان صراعاً بين الحق والباطل أو الخيرِ والشر أو الظالم والمظلوم، والخطاب في الجملة هنا يقدم استدلالاً واضحاً للجريمة مع الإشارة إلى المجرم والضحية وفق التعريفات الشرعية والدنيوية لمعنى القتل والشهادة. هذه التبرئة للحسين والاتهامية ليزيد تجعلنا نستطلع ونسأل عن أهمية سرديات أخرى، مثل سردية الأخلاق والفتن التاريخية في كافة عصور الإسلام السابقة واللاحقة.

خِطاباتُ الحُسين تَحتَ مِجهر التوكّلِ والعدلِ والمَصير

إنَّ خطابات الجماهير العاطفية والتشريعية الأربعة: (القُرب والحبّ والمَسؤولية والترابط) يقابلُها خطابُ الحُسين الذي سنصطلح على تسميته (خطابُ الأصلِ أو الخطابُ المَأصول). كما أن مجموع الخطابات التاريخية التي صدرت عن المجموع البشري الهائل الذي يدافع عن الحسين أو يعارضه تجعلنا نتفق ضمنياً أن مظلومية كربلاء أُشبعت في النقاش التاريخي والسياسي والديني، لكنها لم تطرح مثلاً للنقاش القيمي العلمي الشرعي والفقهي اللُّغوي، وأهم ما في قيمة الأحداث إدراك دوافع الحسين الإصلاحية الابتدائية (السابقة على وقت مقتله) والتي لها قيمة التوكل على الله، والدوافع المتوسطة (الراهنة، أي وقت مقتله) والتي لها قيمة العدل، والاستنتاجية (التالية على وقت مقتله) والتي لها قيمة المصير. لقد كان مصرع الحسين في كربلاء ناتجًا عن فيض في التوكل على الله والرغبة في إقامة العدل في الذات وهذه المسألة واضحة في خطابه يوم عاشوراء قبل قتال أهل الكوفة، حيث قال: "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، المغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم فتباً لكم ولما تريدون إنا لله وإنا إليه راجعون"[2]. يلاحظ في خطاب الحسين استدراكه لوقت مقتله وعلمه به، وإحاطته بمكانته من مكانة الناس، واستيعابه حيز العلاقة بين الناس وإرادة الله النافذة في عباده، والوعي بزوال الدنيا وخلود الآخرة، والأهم من ذلك أنه كان على استيقان من غرور الشيطان في استحواذه على أعدائه، فجعل مقتله حرباً مع الشيطان وليس حرباً مع أعدائه. أما الدوافع الإصلاحية المتوسطة التي لها قيمة أو ميزان العدل مع نفسه وأصحابه، فيدل عليها خطابه عندما جمع أنصاره قبل التوجه إلى الكوفة وخيَّرهم بين أمرين، إما البقاء معه لنصرته أو تركه، فقال: إنِّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهلَ بيت أبرّ ولا أوصل من أهلِ بيتي فجزاكم الله عني خيراً ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء القوم ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتَّخذوه جملاً وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري[3]. إنَّ الإشارة إلى تعدد سيكولوجيا الخطاب تجعلنا نعتقد بتعدد معاني قول الحسين: "هؤلاء القوم لا يريدون غيري"، فهي إما أنَّها تعني أنه المستهدف الوحيد فعلاً، وهو يدرك أن المعركة معه لأسباب شخصية لا تتعدى إلى أصحابه وآل بيته، أو تعني أنه لا يريد إقحام أصحابه وآل بيته في المعركة مع أعدائه، وبالتالي يبحث ضرورة تجنيبهم أوزار المعركة وتبعاتها أو أن خطابه يسعى لترسيخ مظلوميته في أصحابه وآل بيته.

ومما قاله في ميزان الإصلاح الذاتي والاجتماعي: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدِّي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردَّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين[4]. يعد خطاب الإصلاح هذا استمرارية في صيانة رسالة التبليغ في أمة رسول الله، وتعظيماً لحمل الأمانة الإلهية وتقويماً للناس على أوامر وحكم السماء. وإن حمل هذه الأمانة هو الذي أدى إلى التأسيس للدوافع الإصلاحية الاستنتاجية التي لها قيمة المصير؛ وذلك عندما قال الحسين في أحد خطاباته: عندما سمع عبد الله بن عمر بخروجه إلى الكوفة أدركه أول الطريق وقال له: "أين تريد يا ابن رسول الله؟ فأبى الحسين ومضى. وحين كرر أخوه محمد بن الحنفية نصحه إليه قال الحسين: إن الموت كُتب على ابن آدم![5] وفي خطاب آخر قال: كتب الموت على ولد آدم[6]. إن قوله بحتمية الموت هو تأكيد إضافي على الخطاب التأسيسي الذي يتعلق بحقيقة الفناء والنهاية الحتمية لكل النفوس، باعتبار أنها ذائقة للموت. لقد كان الحسين في موقع اختيار تاريخ ومكان وطريقة النهاية لحياته كي لا يواجه صدق الواقع والخطاب القرآني، فأبى أن يعود عن قرار الموت ليس لأنه متيقن من ضرورته في مواجهة أعدائه، ولكن لأنه حقيقة لا يمكن التراجع عنها في الحياة.

بالنظر إلى قيم التوكل والعدل والمصير في خطابات الحسين منذ لحظة اتخاذه القرار بالخروج إلى الكوفة يمكن القول إن الحسين لم تغالبه نزعة الانكسار ولا الانتقام، بل كانت ذاته أقرب إلى الحزن والانفعال الإيجابي الاستشفائي الذي يُراد به التضحية بالنفس بهدف القرب إلى الله؛ وذلك بعد إدراك حقيقة الدنيا. ولذلك فقد كانت ذاته الانفعالية هائمة في قيامها لاستنهاض النفس بالحق ولأجل الحق؛ أي إنها لا تريد أن تلبس ميزان الحق بالباطل وهي تعلم ذلك، فأرادت أن تلبس ميزان الحق بالحق كي تدحض الباطل كفعل أو قرار غير قابل للرجوع عنه سوى بالتضحية التي هي الحق من وجهة نظره. لقد استوت ذاتُ الحسين من خلال اقتناعه بوجوب أداء أمانة ذاته وإرجاع روحه إلى الله، فأراد بالحق إعادة تسليم الروح إلى خالقها. إن خطاب الحسين المأصول الذي ينطوي على التوكل والعدل والمصير هو الذي أنتج الخطابات الجماهيرية العاطفية والتشريعية الأربعة (القرب والحب والمسؤولية والترابط) وإن هذه الخطابات العاطفية والتشريعية هي التي أنتجت الطقوس، وإن حدة أو خمود وتيرة الطقوس يعتمد بالضرورة على قوة أو ضعف هذه الخطابات الأربعة أو النشاط الديني والاجتماعي الذي يُحمّس أو يدور حول هذه الخطابات؛ بمعنى آخر، إن التجارب الطقوسية -بما فيها الدماء التي تسيل في الطقوس- في مجملها تدور حول مجموعة الخطابات المعرفية الانتسابية المتبادلة بين الناس الطقوسيين من جهة، وخطابات الحسين والمجموع الذين قتلوا معه في كربلاء من جهة أخرى. لفهم أنواع الخطابات العاطفية والتشريعية الأربعة المناصرة للحسين لا بد من تعيين زمن الخطابات لفهم اختلافاتها وتحولاتها، علماً بأن التشيع مر في حقب تاريخية عدة، منذ القرن الأول الهجري وصولاً إلى أوائل العهد الصفوي مروراً بالثورة الإسلامية في إيران وصولاً إلى حكم الرئيس صدام حسين للعراق وما بعد سقوط حكمه، علماً بأن الطقوسية بدأت أصداؤها بعد مقتل الحسين مباشرة من خلال ما نسميه "تبني خطاب الاستتباع"، سواء كان الخطاب حركياً عقلانياً مأصولاً (منقولاً عن الحسين) أو مظهرياً تابعاً له.

على الرغم من تنوع الخطابات زمانياً واتساع رقعة الطقوس الحسينية وتعدد أشكالها ودوريتها ‫-لأنها تحصل كل عام في عاشوراء‫- إلا أنها لم تصنع حركة اجتماعية واحدة لها فاعلية دورية منتظمة، لكنها كونت حركات دينية فاعلة متعددة الخطابات أو أشخاص متعددي الخطابات الدينية ولهم أتباع؛ لأن خطاب كل حركة وكل شخص يختلف عن الآخر؛ وذلك بحسب اختلاف فهم كل خطاب للحسين وأنصاره أو أعدائه للأحداث التي قتل فيها الحسين، فنقول هناك خطاب مفهوم ومبرر، وخطاب غير مفهوم وغير مبرر، وكل خطاب من هذه الخطابات له طقوسه. لقد أنتج الحسين أول خطاب مأصول لأهم وأبرز شقاق دموي جمعي على الحكم، ولم يكن لهذا الخطاب طقس، بل حدث، أي الحدث الذي قتل فيه مع أهل بيته. هذا الخطاب المأصول "يمثل فيه الحسين الإنسان الكامل الذي يكون مقابلاً لجميع الحقائق الوجودية بنفسه، فيقابل الحقائق العلوية بلطافتها، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته"[7].

لذلك، فإن مظلومية الحسين تنتسب إلى ماهية خطابه باعتباره المسؤول تاريخياً عن انكشاف الحقيقة القاسية عن أهمية شكل الحكم في الإسلام، وإن خطابه -الذي أنتج كل الخطابات الطقوسية- ينتسب أولاً إلى قيمة التشريع ومصدره الأول وهو القرآن، فكل قول له يحتكم إلى آية، فتكون مجموع خطاباته هي مجموع ما هو مستيقن منه في الآيات القرآنية؛ أي تقييم أو تقدير قوله بمعايير قرآنية، وكذلك الحال بالنسبة إلى كل فرد لديه ولاء لهذه المظلومية، فإن مجموع ما هو مستيقن منه في هذا الولاء هو مجموع ما هو مستيقن منه في الخطاب القرآني، لا سيما بالنسبة إلى كل الأشخاص الذين يعتقدون بقرب الحسين وآل بيته من درب جده محمد وهو درب النبوة. أي وجود تلازم عند الحسين في النظر إلى رسالة قدوته النبي محمد، فالقول بدماثة أخلاق الحسين يعني استذكار أخلاق النبي محمد القرآنية في قوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" {القلم: 4}. هذا الاستيقان من قيمة التشريع دفع أبو بكر بن العربي المالكي إلى القول في كتابه الذي سماه "العواصم والقوائم": إن الحسين قُتل بشرع جده، وهو ما غلطه به ابن خلدون[8]. لقد قام الحسين من خلال هذه المأصولية بإعلان تأديب نفسه بالشرع فجعل زهق روحه هي الطريقة المثلى لهذا التأدب في سبيل الرضى الإلهي عنه وفي سبيل الوفاء لمنهج نبوة جده محمد. بدأ الحسين هذا التأديب في خطاباته التشريعية العلوية الثورية الأولى التي انتهت بحدث مقتله، بينما توالت باقي الخطابات الدنيوية الانتفاعية أو الانتهازية بعد مقتله وانتهت بالطقوس. بمعنى آخر، أدت واقعة كربلاء إلى إنتاج خطاب واحد، مأصول (منقول كتابة أو قولاً) وليس له طقوس، وتلا ذلك خطابات مستتبعة (منقولة مُجوَّدة) ولها طقوس، أو خطابات لا مأصولة ولا مستتبعة ولها طقوس، وهذه الأخيرة تسمى وحدة حال المجموع الديني الشعبي أو شكلاً من أشكال السياسة الدينية الشعبية، وهي عبثية في مجملها لأنها تقع خارج المأصول والمستتبع. لذلك فإن الطقوس الشيعية كافة مرتبطة بالخطابات المستتبعة (الفرعية)، ما يدل على أن خطابات الحسين الابتدائية قبل واقعة كربلاء هي القاعدة الأساسية التي يُعتمد عليها لمحاولة ترسيخ قيمة وجوهرية الطقوس، يليها الخطابات المستتبعة، فإما أن تُبنى الطقوسية على خطاب مأصول (الرواية الأصلية) أو خطاب مستتبع (ما بُني على الرواية الأصلية)، مع العلم أن هناك خطاب مأصول لا يُبنى عليه أي طقوسية، وهو خطاب أو صوت الحسين في أتباعه، وهو الخطاب الذي يستخدمه العقلاء والإصلاحيون لرفض تبني الطقوس الشيعية كمسار ظاهري لنصرة الحسين.

عندما تُبنى الطقوسية على الخطاب المأصول فهي بذلك تكون منطلقة من الخطاب أو متزامنة معه، مثل القصائد التي يتم إلقاؤها لرثاء الحسين، هي في حد ذاتها طقس خطاب، وغالبية القصائد مستتبعة ومنها ما هو غير مأصول وغير مستتبع وهي القصائد التي تتخذ مواقف سياسية أو تقوم بتلوين القصيدة بألوان اجتماعية أو قبلية مثلاً. عندما تُبنى الطقوسية على الخطاب المستتبع فهي تكون منفصلة عنه، ونادراً ما تكون تابعة له، وتكون في حد ذاتها خطاب آخر، مثل اللطم على الصدور أو المسرحيات التمثيلية لأن الواقع غير الحقيقة، وتجسيد الوقائع الحقيقية بالتمثيل يُضعف الحقائق ويُنزلها منازل أدنى منها بدرجات متفاوتة.

تناقض واستتباعية خطاب ابن خلدون عن الحسين

تعد غالبية الخطابات الفكرية الإصلاحية المعارضة للطقوس الحسينية خطابات شبه مأصولة، وإن شبه مأصوليتها تتمحور حول الأفكار التي تتضمنها الخطابات، والتي غالباً ما تكون متناغمة مع خطابات الحسين من ناحية تفانيه للصفات الأخروية العلوية وبراءته من الصفات الدنيوية السفلية. كما أن أفكار الإصلاحيين غالباً ما تحرص على الخلاص من الفتن بهدف تنزيه الحسين من مهمة سيرورة التصارع على الحكم، وبهدف سلامة ذاته الجوهرية لصالح إنكار مظهريته. من هذه الخطابات الدنيوية شبه المأصولة والداعية للإصلاح التشريعي قول أحمد الكاتب "بأن الطقوس الشيعية تشكل أھم المظاھر المتبقیة من التشیع "الدیني" بعد انقراض نظرية "الإمامة الإلھیة"، وأنه لا یمكن التحرر من ضغط الطقوس الشیعیة إلا بإعادة النظر في عقیدة "الإمامة الإلھیة" وكون الأئمة مصدراً من مصادر التشریع"[9]. مثل هذه الدعوات تكرس لمفهوم خط النبوة من خلال إعادة النظر -بطريقة إصلاحية- في أنظمة الحكم الدنيوية باعتبار أن كل ما هو إلهي يتعلق بالقرآن، والقرآن مرتبط بالنبوة (الرسالات السماوية)، وهو كلمة الله العليا والأخيرة إلى الناس في الأرض؛ بمعنى آخر فإن الإمامة شأن دنيوي لكنها إرادة باطنية واجتباء سماوي بإذن الله وليس بأمر الله، والإذن غير الأمر، وهذا ما يدفعنا للقول إن خطاب الكاتب لا يتشابه ولا يؤصل لمنهج النبوة. بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ وجود مأصوليات اجتماعية متسقة مع نهج الحسين الاجتماعي، حيث يَعتبر الكثير من الإصلاحيين الإسلاميين العقلاء –مثل مرتضى مطهري الذي أسس لمفاهيم نقدية في قضية الطقوس الشيعية في كتابه "الملحمة الحسينية"– يعتبرون أحداث التاريخ تربوية، ويجب أن تخلو من الحس الأسطوري والقصص الخيالية، أي ما يجعل منها طقوس قديمة، علماً بأن الطقوسية إما أن تروضها أو ترسخها مرة تلو الأخرى. نحن هنا نتحدث عن الطقوس الحسينية بوصفها مصنوعة، وحركة التاريخ تشهد أننا أمام صناعة شعبية طويلة متغيرة ومتطورة للطقوس. يقول مرتضى مطهري: "إنه لابد من قهر الرغبة غير المسؤولة المنتشرة بين الناس والخطباء، والتي تتوقع من المجالس الحسينية أن تصبح مجالس حارة وحماسية أو كما يصطلح عليها البعض "كربلاء ثانية"[10]. إن جملة "قهر الرغبة غير المسؤولة" هو في حد ذاته ترسيخ لخطاب المسؤولية (بهدف صيانة الأمانة)، وهذه الكربلاء الثانية هي تعبير عن الحركة القصوى للطقوسية التي يكون فيها الخطاب غير مأصول وغير مستتبع، وتسمى شكلاً من أشكال السياسة الدينية الشعبية، والتي قلنا إنها (عبثية). وأما من بين الخطابات المتنوعة المستتبعة بشأن المظلومية، القول بأن "التشيع كعقيدة، كان في البدء جماعة تشيعت للإمام علي وآمنت بحقه في الخلافة، وبعد مقتل عثمان بن عفان تحوّل إلى اتجاه سياسي، ثم تطور بعد استشهاد الإمام الحسين في كربلاء إلى قوة سياسية دخلت التاريخ، وقاد إلى ثورات وانتفاضات متعاقبة ضد الدولة الأموية وسياسة الظلم والاستبداد الفردي"[11]. هذا خطاب مستتبع آخر؛ لأن الطقوس الحسينية ليست طقوساً عقيدية أو دينية لأنه لم يكن في عهد عمر وأبو بكر ما يشير إلى وجود عقائد فيما يخص التشيع، وذلك ليس في جوهر الدين، بل هي خطابات سياسية واجتماعية مستتبعة، وإن مركز الاستتباعية في هذا الخطاب يتمحور حول فرز التشيع إلى إيمان مطلق بمبدأ لا يُستجاب إلى الظن فيه. كما أن استتباعية خطاب الطقوسية تظهر مدى ركاكته عند نزعه أو تحييده عن خطاب المُتشيع لأجلهم، على سبيل المثال نزع خطاب التشيع لعلي بن أبي طالب عن خطابات نهج البلاغة المنسوبة إليه مثلاً.

ومن أهم الخطابات المستتبعة بشأن مأصولية خطاب الحسين قول ابن خلدون في كتابه "مقدمة بن خلدون": "إن غلط الحسين هو في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه؛ لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك، ولقد عَذَلهُ ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك، ولم يرجع عما هو بسبيله، لما أراده الله[12]. لقد جعل ابن خلدون عدم رجوع الحسين عن ذهابه إلى الكوفة لملاقاة يزيد غلطاً دنيوياً، ثم جعل ظنه إرادة إلهية، وهذان أمران لا يستويان؛ لأن ذلك يجعل انتساب الغلط الدنيوي إلى إرادة الله، ولذلك فالأولى أن نقول إن إرادة الله قضت أن يكون خطاب الحسين خطاباً انتسابياً إلى لغة الشرع وخطاباً نفسياً علوياً محاطاً بإرادة الله. ومن خطاباته المستتبعة الأكثر تقييماً واستنتاجاً لصراع الحسين مع أعدائه قبل وبعد مقتله قول ابن خلدون: "لما ظهر فسقُ يزيد عند الكافة من أهل عصره، بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره، فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فِسقه، لا سيما من له القدرة على ذلك، وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهلية: فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة: فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مُضَر كانت من قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه"[13]. في تعقيبه على ما ذكره بن خلدون، قال إبراهيم الحيدري في كتابه "تراجيديا كربلاء": إن تغليط ابن خلدون للحسين في أمر خروجه على حكم يزيد لكونه مؤيداً لعصبية قريش، هو رأي غير سديد؛ لأن ابن خلدون انطلق من نظريته في العصبية القبلية التي ترى بأن الحق من دون قوة تسنده لا خير فيه، وعلى صاحب الحق أن ينظر في قوته وعصبيته، فإذا وجدها قوية وكافية نهض بها وإلا فالسكوت واجب[14]. نقول إن موقف ابن خلدون اجتماعي، ولكنه أيضاً عاطفي، يريد بأن الحسين ذهب ضحية الشوكة؛ لأنها أقوى من الأهلية أو متطابقة معها، وهو بذلك لا يلوم الحسين، ولكنه يتعاطف معه على الصعيد الاجتماعي انطلاقاً من فهمه لطبائع وسيكولوجيا البيئة القبلية آنذاك. رغم ذلك فإن مجمل ما ذكره ابن خلدون حول غلط الحسين لأسباب تتعلق بالشوكة وغلطه لما قال إنه أمر دنيوي، كله يتعارض مع قول ابن خلدون: "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلقُ الكِبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب الغلظة والأنفة، والوازع عن التحاسد والتنافس"[15]. إذا كان المُلك يحصل لهم بصبغة دينية من نبوة، فالأولى أن يحصل ذلك للحسين بسبب تحقق النبوة لجده محمد، وأما بالنسبة للولاية فالأولى أن تكون له نسبة إلى نبوة جده. بالتالي، فإن العرب لا يحصل لهم المُلك بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، ولكن من القوة العصبية والاقتصادية والأثر والسمعة الاجتماعية. عندما قلنا إن خطاب الحسين ينتسب إلى قيمة التشريع ومصدره القرآن، فإننا ذكرنا أن هناك خطابا مستيقنا وآخر غير مستيقن، والاستيقان متعلق بدرجة قبول الاجتهاد. ورغم أن ابن خلدون غلَّط الحسين لأمر يتعلق بالشوكة وقال إن ما قام لأجله الحسين أمر دنيوي، إلا أنه أشار إلى اجتهاد الحسين وفق ما قاله "الصحابة الذين كانوا بالحجاز، ومع يزيد بالشام والعراق، ومن التابعين لهم، الذين رأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز، لما ينشأ عنه من الهرج والدماء، فأقصروا عن ذلك، ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثّموه، لأنه مجتهد، وهو أسوة المجتهدين. ويقول ابن خلدون: "لا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره، فإنهم أكثر الصحابة، وكانوا مع يزيد، ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم -وهو بكربلاء- على فضله وحقه، ويقول: سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن سعد وزيد بن أرقم وأمثالهم، ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره، ولا تعرَّض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم، كما أن فعله عن اجتهاد منه. وأضاف ابن خلدون: لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد، وإن كان هو على اجتهاد"[16].

إن كل ما قاله ابن خلدون في مقدمته هو خطاب ترجيحي مستتبع يُبنى على فرضيات حقيقية بوجود نزعات تنافس وتصارع وتغالب تقليدية قبلية وبدوية كانت راسخة في بيئة ذاك الزمان وفي داخل وخارج قريش وقتذاك، لكنها لم تُبنى على مأصولية أو مضمون خطاب الحسين بل الحقائق الاجتماعية التي أحاطت به قبل وبعد مقتله. وبالتالي تعتبر وجهة نظر ابن خلدون أيضاً خطاباً آخر مستتبع من ضمن الخطابات التي فهمت مظلومية الحسين من خلال فهم بيئة وخطاب النزاع على الحكم من ناحية اجتماعية فقط.

نقول: إن مظلومية الحسين تقاس بمعايير ذاتية فردية ومعايير اجتماعية، فأما الذاتية الفردية؛ فهي تتعلق بالنظر إلى الخطاب الشخصي للحسين، وأما المعايير الاجتماعية فهي تتعلق بالنظر إلى الخطاب الاجتماعي لأنصار الحسين وخطاب أعدائه في بيئته الاجتماعية، وكلها خطابات مأصولة لكل واحد منها تقييم شرعي خاص، ولا يستوجب القول إن قرار الحسين بشأن الحكم والذي دفع إلى مقتله كان قراراً منعزلاً عن التفاعلات والخطابات الفردية الشخصية والاجتماعية المأصولة الأخرى التي أحاطت به؛ أي بمعنى آخر سواء كان ذلك بتحريض أو حماسة أو منع من قبل المجموع الاجتماعي المحيط به على المستوى القريب والبعيد في مكة أو الكوفة أو في كربلاء نفسها. إن مجموع هذه الخطابات المأصولة هي التي دفعت إلى إنتاج الخطابات المستتبعة والتي لعبت دوراً في عملية تراكم الخطابات ومن ثم إنتاج الطقوسية والبناء عليها وتراكمها في الصورة البصرية التي أصبحنا نراها في العراق وإيران وفي أماكن أخرى، وهو ما دفع علي الوردي إلى الربط مثلاً بين الطقوس والوجاهة الاجتماعية وقال: "إنه العامل الأول الذي يقف في مقدمة الدوافع وراء إنشاء المواكب الحسينية"[17]. ومن الخطابات الشعبية المستتبعة التي أنتجت في التاريخ القول "بأن الشيعة الأوائل كانوا أقلية محكومة ومضطهدة لا تقدر على ممارسة طقوسها بحرية وعلانية وأنه لم يكن يحق للشيعي أن يزور الإمام الحسين في كربلاء أو حتى أن يأتي باسمه على لسانه"[18]. يعتبر هذا الخطاب من أهم الخطابات الرمزية التي رسخت فكرة الخوف من خطاب مظلومية الحسين، والتعرض للظلم بسبب غياب إمكانية إحياء المظلومية أو إنتاج خطابات جديدة مستتبعة أخرى، وهذه المسألة تطرح خطاب الاندفاعات النفسية والاجتماعية الراغبة في التعبير عن الأفكار التي إما أن تكون قناعات ذاتية راسخة أو مشاركات اجتماعية تقليدية هدفها الانتفاع السياسي، فأما إذا كانت قناعات ذاتية راسخة، فهي بالتالي أفكار كامنة في العقل، ويمكن أن تكون أفكار معقلنة إصلاحية، ولا يمكن للأفكار المعقلنة عن الحسين أن تتماهى مع الطقوسية التي لا تتسق بالضرورة مع حركة العقل. أما إذا كانت مشاركات اجتماعية تقليدية، فهي مقترنة بالآخر أو بأفكار الآخر عن المظلومية أو بالصورة الكبرى للمجموع الكلي الذي يفكر بشكل جمعي عن المظلومية، وبالتالي يكون اعتقاده متعلق بضرورات خارج التفكير العقلي الجاد، وهذا العقل لا يكون مستعداً للتفكير المحض في أي خطاب من خطابات المظلومية، ولذلك تسمى خطابات استتباعية.

عمل انتقال صوت الاحتجاج من مظلومية الحسين إلى مظلومية الناس على إنتاج مظلوميات جديدة، وتكثيف الطقوس وتعددها، حيث ارتبط تاريخ وتعدد الطقوس بتاريخ وتعدد الخطابات، أو بمعنى آخر كل طقس له تاريخ وخطاب، وتطور كل طقس مرتبط بتطور الخطاب في كل عصر من العصور، فخطاب الطقوس في عهد الدولة العباسية يختلف عن خطاب الطقوس في عهد الدولة البويهية أو الدولة الصفوية أو العهد الملكي والجمهوري في العراق. كما أن اختلاف خطابات الطقوس له صلة بتعدد الخطابات الثقافية والسياسية والاجتماعية في كل عصر، على سبيل المثال، عندما يقال: "إن فن الخطابة الحسينية بدأ في كربلاء سنة 61)) للهجرة واتخذ طابع إنشاد الشعر وإلقاء النصوص النثرية في الرثاء"[19]، فهذا يعني أن بيئة فن الخطابة أصبحت متسقة مع بيئة الخطاب الفني الثقافي بعدما كانت منفصلة عنه، وعندما نقول إن فن الخطابة تطور إلى اللطم، فذلك يعني تطور بيئة وثقافة الخطاب الفني الثقافي إلى اللطم مع تغير الخطاب اللغوي إلى خطاب حسي بصري، كأن يكون اللطم ناتج عن وجود بيئة مساعدة على هذا النوع من التطور في الخطاب.

لقد بلغت الطقوس أقسى حدة لها ببلوغ الخطاب أقسى حدة له، فكان التعبير عن الصمت والاكتفاء باللطم هو خطاب مستتبع بالغ الأثر في نفوس مستخدمي هذا النوع من الخطاب، وهو وإن كان خطاباً دموياً إلا أنه لا يرقى إلى خطاب الحسين الشرعي المعقلن الذي سبق وصاحب معركة كربلاء بكل دمويتها. ومما جاء في وصف العنف الذي يرافق بعض مراسيم العزاء وطقوسه في عاشوراء كالتطبير بالسيوف والضرب بالسلاسل الحديدية، أنه عنف موجه نحو الداخل وليس نحو الآخرين الذين هم سبب ذلك، وهو بهذا "تعذيب جسدي" أكثر مما هو "عنف جسدي" موجه نحو الآخرين. وإذا كان هذا "الجلد الذاتي" واعياً، فإنه وعي زائف ولا يمكن تبريره. وإذا كان هذا الوعي الزائف نتاج شعور عميق بالقهر والاستغلال، فهو بهذه الحالة، ضعف واستلاب، مثلما هو انتقام معكوس وموجه نحو الذات بدل الآخرين![20] إن استخدام طريقة "التعذيب الجسدي" الموجه للداخل هو خطاب فارغ المضمون؛ لأنه يتعارض مع قيمة الخطاب الذي وجهه الحسين إلى أعدائه قبل بدء معركته، وهنا يمكن القول إن معركة كربلاء وقعت بعدما تغلبت الكلمة على السيف، فكان وقوع المعركة ناتج عن وصول الخطاب إلى أفق المصير، ومع ذلك كان هناك خطاب، فكانت المعركة التي خاضها الحسين وأعداؤه مبنية على الخطاب، وهذا أسوأ مما لو كانت معركته من دون خطاب، أي أن الدماء التي سالت في كربلاء كانت دماءً تمت تزكيتها بالكلمة وكانت الكلمات لها حكمة، فكانت الدماء لها حكمة كذلك. أما بالنسبة للدماء التي تسيل في الطقوس فليس من ورائها أي حكمة سوى استنزاف طاقات المجتمع لأجل إثبات الولاء لخطاب الحسين المحكم والموثوق في أصالته بسبب درجة الإصلاحية التي كان ينشدها، وهي غير متحققة في غالبية الطقوس الخالية من أي وفاق على أي برنامج إصلاحي. بالتالي فإن الدماء التي تسيل غير مبررة، ولا يجب أن تبرر تحت عنوان "أصالة خطاب الحسين الإصلاحي" لأن خطاب الكلمة أقوى من خطاب الدم. يقول على شريعتي: إن الدق على الصدور، والضرب بالنصال، والسير في مواكب التعزية بالجريدة والتي هي صليب، والنعوش التي تمثل شهداء آل البيت كلها أمور لا تتناسب مع الإسلام؛ إنها تعري الرجال أمام الأنظار، وإيذاء البدن ليس من الجائز شرعاً[21]. بينما يرى مهتدي الأبيض في كتابه (اجتماعية التدين الشعبي) "بأن هذه الممارسات تعتبر عقاباً ذاتياً لغفران الذنوب والخطايا"[22] بالنسبة إلينا فإن ذلك يعتبر اصطفافاً في التعبير إلى جانب الخطابين العاطفيين، وهما: خطاب القرب (بهدف الاستعانة)، وخطاب الحب (بهدف الشفاعة)، ولا يمكن تبرير سيل الدماء في الطقوس؛ لأنه لا يمكن تبرير خطاب الحكمة بالدم.

لقد أنتجت مظلومية الحسين خطابات أخرى خارج السياق الديني، مثل الخطابات القومية، ومنها الخطاب الاستتباعي القومي عندما "تصادف في زمن الشاه عباس الكبير حلول ذكرى عاشوراء مع عيد النيروز، ونشأ تعارض هنا، أيهما الأجدر بالاحتفال عاشوراء أحد المرتكزات الروحية للشيعة التي يظهر فيها الحزن على مصارع آل البيت وعلى رأسهم الإمام الحسين، أم عيد النيروز ذو الأصل القومي الفارسي الزرادشتي، الذي يمثل أول أيام السنة الفارسية؟ وأخيراً صدر الفرمان بأن يكون هذا اليوم يوم عزاء وعاشوراء، ثم صدر في اليوم التالي أمر آخر بالاحتفال بعيد النيروز[23]. نلاحظ هنا أن هذا النوع من الخطاب ليس خطاباً استتباعياً محضاً، بل هو خطاب يدور في فلك ترسيخ الطقوسية وجعلها نظير الأيقونة القومية بهدف الانتفاع السياسي، ولا يمكن القول إن هذا التزامن له علاقة بخطاب الحسين قبل مقتله في كربلاء لكن له علاقة بالتلازم التنافسي بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، والذي دفع علي شريعتي إلى القول إن: "الحركة الصفوية حرصت لأجل هذا التشيع على تعطيل أو تبديل الكثير من الشعائر والسنن والطقوس الدينية وإهمال العديد من المظاهر الإسلامية المشتركة بين المسلمين". كان ذلك في سياق إظهار خطاب القومية الفارسية من داخل خطاب المظلومية الحسينية، "وفي سياق التمايز أو إعلان الحرب ضد الدولة العثمانية آنذاك، حيث أرادت الحركة الصفوية إظهار التشيع الإيراني في وجه التسنن التركي"[24]. بالتالي حتى عندما يقال: "إن كربلاء مدرسة ومنهج وخط، وإن كربلاء ليست مقبرة للنوح ولبس السواد، وإنها جامعة للتربية والتعليم والبناء والتحضر، وهي ليست لوحة موت وفناء، إنما هي لوحة حياة وحركة وإحساس بالمسؤولية وشجاعة ووعي"[25] فإن ذلك كله يعتبر خطاباً، ولكنه خطاب تنويري تقدمي، وهو خطاب استتباعي له انحياز صريح، وتصل كثير من الخطابات إلى حد الرمزية قبل أن تتجاوزها إلى الطقوس بحسب درجة فاعليتها. لقد بُنيت سردية المظلومية التاريخية الاستتباعية أو (خطاب الاستتباع) على عملية تراكمية من خطابات الولاء أولاً، والقناعة ثانياً، واستهجان القتل ثالثاً، وبناءً على هذه الخطابات الرمزية قامت فاعلية الطقوس واستمرت إلى يومنا هذا، بحيث أنه لا يمكن لأحد أن يستحسن القتل، ولا يمكن لمسلم أن ينكر ولاءه لذرية النبي محمد، وأما القناعة فهي تُبنى على سابقاتها، أي على استهجان القتل والولاء إلى آل بيت النبي، وهذا ما دفع الباحث حمزة الحسن إلى إنتاج خطاب استتباعي من خلال اتخاذ موقف في كتابه "طقوس التشيع" بقوله "إن اللطميات لم يستهجنها أحد، ومن يستهجنها اليوم لا يستهجنها في الغد، لأن الذوق العام ليس حالة ستاتيكية، بل في حالة تطور وتقلب"[26]. إن إنكار عدم استهجان اللطميات؛ لأنها في حالة تطور، وعدم اتخاذ موقف نقدي منها، يعتبر في حد ذاته خطاباً استتباعياً رمزياً، بل إن كافة الخطابات التي تؤيد أو تتناغم مع اللطميات تدفع نحو بقائها أو تطورها دون تبريرها، حتى من خلال استخدام الخطاب المستتبع (المنقول المُجوَّد) وأحياناً يمكن لبعض هذه الخطابات أن تلامس المأصولية دون أن تكون خطابات مأصولة، فيرافقها شعور عام أنها خطابات أو أفعال حقيقية للحسين وهي ليست كذلك.

إن الصيغة الدينية التي تُقدم لنا من خلال الطقوس الحسينية - كي تصبح مقدسة - هي صيغة صناعية من تدبير البشر في محاولة منهم للتحول من تجربة دينية إلى صناعة دينية. لهذا السبب، فإن التجربة التاريخية المتعلقة بالإمامة وأحقية الخلافة وما تبعها من إشكاليات، وما يُدبر في الطقوس وصناعة الرمزية في الخطابات الدينية هو أشبه بمحاولة لا إرادية وغير واعية لاستكمال صناعة وتثبيت الدين الطقوسي الواجب تثبيته على يد الأنصار الذين لديهم ولاء مطلق للحسين، وأحياناً تطوير الطقوسية بطريقة مخلة بالقيم التي رسخها الحسين بدمائه، ومزعزعة لركائز وأصول الدين، وذلك تحت مظلة الطقوسية، المهم أن يبقى الدين الطقوسي حياً ومتغلباً وديناميكياً من خلال إنتاج خطابات رمزية مغذية للطقوسية، وهي الخطابات التي دفعت علي شريعتي للدفاع عن التشيع العلوي مقابل التشيع الصفوي بالقول "إن التشيع العلوي تشيع اقتداء والتشيع الصفوي تشيع مدح وثناء، والتشيع العلوي تشيع ثورة كربلاء بينما التشيع الصفوي تشيع مصيبة كربلاء، والتشيع العلوي تشيع الشهادة بينما التشيع الصفوي تشيع الموت، والتشيع العلوي تشيع الاختيار بينما والتشيع الصفوي تشيع الجبر، والتشيع العلوي تشيع نصرة الحسين بينما التشيع الصفوي تشيع ندب الحسين، والتشيع العلوي تشيع الإنسانية بينما التشيع الصفوي تشيع القومية"[27]. تعبر الطقوسيات الحسينية عن الهوية الشيعية، باعتبارها مستثناة باستثناء الحالة الدينية التي صنعها أتباع الطائفة الشيعية، وخاصة مع إتمام الحفاظ على الطقس وتوارثه بشكل منظم، وتداخله مع قضايا دينية جوهرية، بحيث دفعت خصوصية التجربة وتفاصيلها إلى أسطرة الهوية الشيعية إخراجها من أفكارها المعقولية المنسوبة إلى الحسين إلى الرمزية ثم إلى الطقوسية العابرة للحدود كما في العراق، حتى أن العائلة والقبيلة صارت عامل أساسي في تعزيز الطقس وتثبيته في الوعي الاجتماعي بغرض صناعة حالة طائفية طقوسية وصلت في كثير من الأحيان إلى حد الملهاة الدينية السياسية، وهو ما دفع إلى إلغاء فكرة نسف الهوية الطقوسية الشيعية بل تراكمها بشكل معنوي فارغ من القيم الدينية الأخلاقية ومن الحيوية الشرعية.

 

المراجع:

  1. إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999).
  2. أحمد الكاتب، التشيع السياسي، والتشيع الديني، ط1، (دار الشورى، 2009).
  3. حمزة الحسن، طقوس التشيع، والهوية السياسية، ط1 (لبنان: دار الانتشار العربي، 2014).
  4. الخطابة الحسينية من دون معلم، محمد الهنداوي، ط1، (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2007).
  5. علي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ط1، (بيروت: دار الأمير، 2002).
  6. علي شريعتي، ترجمة إبراهيم شتا، التشيع مسؤولية، ط2، (بيروت: دار الأمير، 2007).
  7. محسن الأمين الحسيني العاملي، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، ج‪1-‪2، ط‪5، (قم: منشورات الشريف الرضى، ‪1974).
  8. مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، ج2، ط3، (قم: المركز العالمي للدراسات الإسلامية، 1992).
  9. مصطفى اللباد، حدائق الأحزان إيران وولاية الفقيه، (دار الشروق، 2005).
  10. مهتدي الأبيض، اجتماعية التدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، ط1، (بيروت: دار الرافدين، 2017).
  11. ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، مقدمة ابن خلدون، ج1، ط1، (دمشق: دار يعرب، 2004).

[1] إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999)، ص16

[2] محسن الأمين الحسيني العاملي، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، ج‪1-‪2، ط‪5، (قم: منشورات الشريف الرضى، ‪1974)، ص92.

[3] المصدر السابق، ص88

[4] المصدر السابق، ص47

[5] إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999)، ص90

[6] محسن الأمين الحسيني العاملي، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، ج‪1-‪2، ط‪5، (قم: منشورات الشريف الرضى، ‪1974)، ص‪64.

[7] مهتدي الأبيض، اجتماعية التدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، ط1، (بيروت: دار الرافدين، 2017)، ص48

[8] ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، مقدمة ابن خلدون، ج1، ط1، (دمشق: دار يعرب، 2004)، ص398

[9] أحمد الكاتب، التشيع السياسي، والتشيع الديني، ط1، (دار الشورى، 2009)، ص ص235، 236

[10] مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، ج2، ط3، (قم: المركز العالمي للدراسات الإسلامية، 1992)، ص14

[11] إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999)، ص33

[12] ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، مقدمة ابن خلدون، ج1، ط1، (دمشق: دار يعرب، 2004)، ص289

[13] المصدر السابق، ص289

[14] إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999)، ص15

[15] ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، مقدمة ابن خلدون، ج1، ط1، (دمشق: دار يعرب، 2004)، ص289

[16] المصدر السابق، ص398

[17] مهتدي الأبيض، اجتماعية التدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، ط1، (بيروت: دار الرافدين، 2017)، ص113

[18] علي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ط1، (بيروت: دار الأمير، 2002)، ص63

[19] الخطابة الحسينية من دون معلم، محمد الهنداوي، ط1، (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2007)، ص13

[20] إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، ط1، (بيروت: دار الساقي، 1999)، ص18

[21] علي شريعتي، ترجمة إبراهيم شتا، التشيع مسؤولية، ط2، (بيروت: دار الأمير، 2007)، ص43

[22] مهتدي الأبيض، اجتماعية التدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، ط1، (بيروت: دار الرافدين، 2017)، ص69

[23] مصطفى اللباد، حدائق الأحزان إيران وولاية الفقيه، (دار الشروق، 2005)، ص31

[24] علي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ط1، (بيروت: دار الأمير، 2002)، ص142

[25] المصدر السابق، ص ص208، 209

[26] حمزة الحسن، طقوس التشيع، والهوية السياسية، ط1 (لبنان: دار الانتشار العربي، 2014)، ص116

[27] علي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ط1، (بيروت: دار الأمير، 2002)، ص312، 313