تأويليات الحدثية مدخل أساسي إلى فكر هايدغر


فئة :  أبحاث محكمة

تأويليات الحدثية مدخل أساسي إلى فكر هايدغر

تأويليات الحدثية

مدخل أساسي إلى فكر هايدغر

«ليست الأسئلة ومضات خاطرة، لا ولا هي "مشكلات" اليوم المعتادة، تلك التي يحصّلها "المرء" مما يروى ومما يقرأ، ويخرجها للناس ملوحاً بالعمق وبعد الغور، بل تخرج الأسئلة من مناظرة "الأشياء". وإنما تكون الأشياء ثمة فقط حيث تكون الأعين».

مارتن هايدغر (الأنتولوجيا تأويليات الحدثية)

مقدمة

لما كان النشاط التأويلي يكشف عن غايات أعمق مما تبدو عليه الأشياء في الظاهر؛ إذ يتعلّق الأمر بتخطي مسافة، والتغلّب على تباعد ثقافي، ووضع القارئ في موقع يتساوى مع موقع النص الذي أصبح الآن غريباً[1]، فإن «صراع التأويلات»، انقلب سريعاً إلى «صراع ترجمات»، الأمر الذي رفع الترجمة لتكون «أنموذجاً إرشادياً» للهرمينوتيقا بوجه عام: «أن نفهم يعني أن نترجم»[2]، وهذا ما أكده ريكور مراراً ليجعل من الترجمة ضيافة لغوية لأفكار الآخر، ونموذجاً للالتقاء بما هو أجنبي وغريب.

ولا شك في أن ترجمة نصوص فلسفية بهذا القدر من العمق، سرعان ما تنقلب إلى عذاب ومحنة وتنافس محموم من أجل الفهم وزيادة الفهم، فأن «تفسر مزيداً، يعني أن تفهم أحسن»[3]. ولعل رهان هايدغر والفلسفة المعاصرة بشكل عام يتمثل في محاولة تغيير برادايم التفلسف بالانتقال من «عقل مركّز على الذات» إلى «عقل يجد موقعه في اللّغة»[4]. وعلى هذا النحو صارت الفكرة، مع هايدغر، «عبارة لغوية»، فالفيلسوف الكبير هو في الوقت نفسه كاتب كبير، يمتلك ناصية اللّغة ليجعل من نصوصه نصوصاً عظيمة، غريبة في فرادتها وفريدة في غرابتها، وهذا ما يزيد من جسامة أمر الترجمة وخطرها على تلك النصوص.

ولما كان «معنى النص يتجاوز صاحبه دائماً، فإن الفهم يصبح موقفاً لا يعيد إنتاجاً ما، بل يقوم بإنتاج أشياء أخرى»[5]؛ إذ «كلما فهمنا شيئاً ما فهمناه بشكل مغاير»[6]. وهنا وجه المغامرة ووجه التحدي الذي تعلن عنه كل ترجمة جادة تتحمل مسؤولية انتزاع النص من صاحبه في عملية أشبه بتملّكه والإقامة فيه. إننا في الفهم لا نتعرّف على حقيقة موضوعة أمامنا بشكل صريح، بل «علينا أن ننتزعها، فيما يشبه القرصنة، من 'الخفي' و'المتواري' من الأشياء»[7] على حد تعبير هايدغر. هكذا تتحول الترجمة من إقامة في لغة الآخر، إلى استقبال للآخر داخل عالمنا اللغوي؛ فنحن في نظر هايدغر لا نفهم اللغة، بل نفهم من خلالها عالماً. ولما كان الفهم لا يمكن أن يكون إلاّ من طبيعة لغوية، فإن «الترجمة تشكل في هذا المجال حالة مثلى لقياس حدود التفاهم والوصول إلى حقيقة مشتركة يتقاسمها كل المتحدثين»[8]. لقد صارت الترجمة تأويلاً وصار «التأويل هو العملية التي بواسطتها يعطي اكتشاف جهات وجود جديدة (...) يعطي الذات قدرة جديدة على معرفة نفسها بنفسها»[9]، غير أن السؤال الذي يطرح هنا يتعلق بحدود قدرة هذه «الحمولة اللغوية الجديدة»[10] على نقل هذه المعجمية الهايدغرية التي تجمع بين الغرابة والألفة على نحو يثير الفضول؛ إذ «الذي بيننا وبينه، اللغة التي نتكلمها نحن، قبل اللّغة التي يتكلمها هو، بل إنّ الذي بيننا وبينه ليس اختلاف اللغتين والمسافة التي تفصل بينهما كما تفصل بين كل لغتين مسافة. وإنما الذي بيننا أن تلك المسافة لا تطويها الترجمة، مهما أغلظنا "شرائط الترجمان"؛ لأنّ الأمر -لدى منتهاه- لا يتعلق بهذا اللسان أو ذاك، بل يتعلق بالقول عينه، عن أي موقف يصدر»[11]. إنها لغة الوجود الذي ينعطي للإنصات، وهذه مهمة تتطلب من جهد المفكر قدرات لا ننتظرها بالأحرى إلاّ من عند شاعر. علينا إذن، إذا أردنا أن نلج عالم الفكر الهايدغري، ووفق عبارة رشيقة لألكسندر شنال، «أن نلعب اللعبة (...) ينبغي أن نقوم بجهد الإنصات إلى لغة هذا الفيلسوف الألماني وأن نكون أوفياء لوضوح الأسلوب الهايدغري كما هو في اللّغة الألمانية»[12]. ولكن هل «لغة هايدغر» قابلة للترجمة أصلاً؟[13] وهل يمكن «إنطاق العربية بهايدغر»[14]؟

ضمن هذا السياق، تقف هذه المحاولة عند أحد النصوص الأساسية والمبكرة لمارتن هايدغر (أنتولوجيا تأويليات الحدثية)، والذي أقدم على ترجمته مؤخراً الأستاذ محمد محجوب، باعتباره من أوفق المداخل إلى فكر فيلسوف الغابة السوداء، ويمثل الدرس الفرايبورغي الأخير لهايدغر صيف 1923. وإذ نعود إلى هذا الدرس، فإنما بغرض العثور داخله على دلالة بكر للتأويل تجعل منه تحيّراً حدثياً يحتاج أن نكابده قدر الإمكان وتيقظاً جذرياً يفتحنا على بدايات أخرى.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1]- P. Ricœur, Le conflit des interprétations, Paris, Seuil, 1969, p. 8

[2]- P. Ricœur, « Le paradigme de la traduction », in: Sur la traduction, Paris, Bayard, 2004, p. 23

قدم ريكور هذا النص في الدرس الافتتاحي لكلية اللاّهوت البروتستاني بباريس في تشرين الأول/أكتوبر 1998، ونشر فيما بعد في: Esprit n.°853 (juin 1999. p.813.

[3]- بول ريكور، مقالات ومحاضرات في التأويلية، ترجمة محمد محجوب، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2013، ص 17 والطريف في هذه المحاولة التي قدمها الأستاذ محمد محجوب ليُسكن ريكور المسكن العربي، أنها تقدم لنا مقترحات جديدة لبعض المصطلحات الهايدغرية مثل «المعرف»، و«الأنترادنيوية» Intra-mondaine (اُنظر: ص 93) وعبارة «الكيانية»Existential، ويحيلنا في ذلك على المعجم الثري والمتنوع لشارل مالك، في كتابه: المقدمة، سيرة ذاتية (اُنظر هـ 91) وهي اقتراحات سنعود لاحقاً للاستفادة منها ومقارعتها بترجمات أخرى.

[4]- فتحي المسكيني، نقد العقل التأويلي أو فلسفة الإله الأخير، مركز الإنماء القومي، بيروت 2005، ص 11

[5]- Gadamer, Vérité et méthode, Paris, Seuil, 1996, p.318

[6]- Ibid.

[7]- Gadamer, L’art de comprendre II, Paris, Aubier, 1991, p.42

[8]- سعيد بنكراد، سيرورات التأويل: من الهرموسية إلى السميائيات، منشورات الاختلاف، 2012، ص51

[9]- ريكور، مقالات ومحاضرات في التأويلية، ص ص 81-82

[10]- بنكراد، سيرورات التأويل، ص51

[11]- محجوب، محمد، هايدغر ومشكل الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر، تونس 1995 ص23. يعرض لنا المؤلف في هامش هذه الصفحة وبأسلوب طريف، جملة الصعوبات التي تواجه أي قارئ لهايدغر تجمعه بهذا المفكر معاصرة بغير تزامن.

[12]- A. Schnell, De l’existence ouverte au monde fini 1925-1930, Paris, Vrin, 2005, p.9

يشير المؤلف في مقدمة هذا الكتاب إلى صعوبة أساسية تعترض مترجم هايدغر، مفادها أن هناك فرادة لغوية هايدغرية تفلت منا عند محاولة ترجمتها إلى الفرنسية. وهذا بيّن في أكثر من مناسبة، وهو ما يجعله يطلب من القارئ الصبر والحلم.

[13]- إنّه شعور، كان قد انتاب غرانال من خلال قوله «لغة هايدغر قد صارت لغة داخل اللّغة الألمانية» نفسها. انظر:

G. Granel, Introduction à: M. Heidegger, Qu’appelle-t-on penser?, Paris, PUF, 1959, p. 15

نقلاً عن: فتحي المسكيني، الكينونة والزمان، مقدمة الترجمة العربية، ص 14

[14]- مارتن هايدغر، الأنتولوجيا تأويليات الحدثية، ترجمة وتقديم وتعليق محمد أبو هاشم محجوب، بيروت، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019، ص16. وهي ترجمة عربية للدرس الفرايبورغي الأخير لهايدغر في صيف 1923، والذي يعتبر من أهم المداخل الأساسية لفهم فكره. ونحن مدينون للأستاذ محمد محجوب بهذا الجهد الاستثنائي من أجل نقل هذا العمل إلى العربية. ولا غرابة أن يشهد له بذلك كبير الباحثين الهايدغريين والمساعد الشخصي لهايدغر فريدريش فيلهلم فون هرمان وقد رأى في هذه الترجمة فتحاً لطريق فهم مصنف الوجود والزمان أمام دارسيه وقرائه الناطقين باللسان العربي.