تجديد التعليم الديني الأزمة والحلول الممكنة


فئة :  قراءات في كتب

تجديد التعليم الديني الأزمة والحلول الممكنة

تجديد التعليم الديني

الأزمة والحلول الممكنة([1])

قراءة في كتاب «التعليم الديني بين التجديد والتجميد»


مقدمة:

إن كتاب «التعليم الديني بين التجديد والتجميد» يجمع في نصه وطريقة تأليفه بين: سرد سيرة حياة أحد علماء الأمة الإسلامية المبرزين في العصر الحديث، وهو الدكتور طه جابر العلواني، وذكر لمحات عن تكوينه العلمي والفكري، ومسيرته المهنية ما بين أقطار العالم الإسلامي، وبلدان العالم الغربي؛ وبين الرؤى والإشارات العلمية، والتربوية، والمستقبلية للتعليم الديني في العالم الإسلامي، وإلى جانب ذلك كله يطرح رؤية واسعة شاملة لمستقبل التعليم الديني الإسلامي، وسبل التجديد فيه.

ومن ثم، فهو من جهة كلام نظري، يطرح تصوراً لقضية التعليم الشرعي في جامعاتنا ومعاهدنا على امتداد أقطار العالم الإسلامي، ومن جهة ثانية هو عصارة تجربة عملية قام بها المؤلف نفسه، وأراد عرضها في خلاصة عملية مباشرة للقارئ المسلم، كي يطلع على مزايا التعليم الديني في طرائقه التقليدية القديمة، والتي ظلت متوارثة في بقاع العالم الإسلامي على امتداد قرون، وبين السبل الحديثة التي نادى - ولا يزال ينادي - بها المتغربون والعلمانيون، ويتهمون العلوم الشرعية بأنها سبب كل جمود أصابنا، بل هي سبب لنكبتنا وتراجعنا الحضاري، ومن ثم ينادون بتنقيحها، وقد يشتطون فيطالبون بإلغائها إلا القليل منها.

ينبئنا الدكتور طه جابر العلواني في مقدمة الكتاب بجملة من الهموم التي شعر بها، وكانت دافعة له لتأليفه الكتاب، حيث يؤكد أن أمتنا لا حل لها إلا بالعودة إلى الإسلام: شريعة وهدى وتربية، فبه -وليس بغيره- سينصلح حالها حديثاً، مثلما بنت حضارتها وثقافتها عليه قديماً، مؤكداً أن النظام المعرفي الإسلامي به آليات التغيير، والتجديد، والمراجعة، والتدقيق، مثلما ظهر مع إنجازات أبي حامد الغزالي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وغيرهم في مؤلفاتهم التي واجهوا بها شطحات بعض الفلاسفة والمناطقة، وقدموا ردوداً كثيرة وعديدة على المستجدات في عصورهم، وأن المطالبات بالتجديد في هذا العصر (بعد 11 أيلول/سبتمبر)، تقف وراءها أجندة غربية، معلومةٌ أهدافها وأغراضها، وتسعى لفرض هيمنة، أو تصور على بنية العلوم الشرعية، وتأويلاتها[2].

صحيح أن زمن تأليف الكتاب يعود إلى سنوات، وتجربته تمتد إلى عقود ولت، ولكن يبدو أن الهموم التي كانت وراء تأليفه لا تزال تستعر في ساحتنا الثقافية، في وقتنا الحالي، بل ونفاجأ بأنها كانت جزءاً من الصراع الفكري منذ مطلع القرن العشرين، وهذا معناه أن المعركة قديمة جديدة، طروحاتها واحدة، وشعاراتها متشابهة، وآلياتها متجددة؛ لأنها، ببساطة، تتصل بعقيدة أمتنا، والمكون الأساس لهويتها، ألا وهو الإسلام.

- مداخل قراءة الكتاب:

سيكون نهجنا في قراءة هذا الكتاب مختلفاً نوعاً ما عن نهج المراجعة المألوف، الذي يتضمن عرض أبرز الأفكار المطروحة، ومناقشة مدى إضافتها العلمية، وحاجتنا الفعلية لها، ومن ثم سبل تطبيقها، والاستفادة منها، أما رؤيتنا فإنها نابعة من طبيعة الكتاب ذاته، وبنيته، فالكتاب مكتوب بسرد حكائي ذاتي، ويتضمن الكثير من الرؤى، وانتهى بتقديم تصور لتعليم ديني عصري، يمكن تطبيقه، والاستفادة منه، جامع بين النظر والعمل، وبين الشخصي والعام، والكلي والجزئي، بالإضافة إلى استعراضه لحال التعليم في أقطار عديدة، بدأت بالكتاتيب، مروراً بالمساجد، وانتهاء بالجامعات.

لذا، فإننا سنقرأ هذا الكتاب وفق مداخل عديدة، سنتناولها في محاور.

- التكوين العلمي والمقارنة المباشرة:

يحدثنا المؤلف عن بداية تلقيه العلوم الشرعية في طفولته بمدينة الفلوجة بالعراق، من خلال حفظه القرآن الكريم، وتعلم أسس الشريعة ومبادئها في مدرسة بلدته، مقابل خمسين فلساً شهرياً، تعطى للشيخ المعلم، وقد تقدم الأسرة بعض الهدايا من المطعومات أو الفاكهة إلى الشيخ، فيقدر أن التكلفة الفعلية لمثل هذا النوع من التعليم لا تزيد عن (15) دولاراً في العام. وبعد مدة دخل إلى المدرسة الابتدائية، بعد الاختبار، وألحقوه بالصف الثاني الابتدائي ليستمر في التعليم، ودرس في هذه الفترة على يد الشيخ عبد العزيز السامرائي في مدرسة أو غرفة ملحقة بالمسجد في مدينة الفلوجة، حيث تطوع الشيخ، واختار أكثر الأبناء ذكاء، وحرصاً على التعليم من أبناء البلدة، وكان يقول لآبائهم: «سنأخذ واحداً من أبنائك للدين، ونترك الباقين للدنيا»، واتبع الشيخ معهم منهجاً تربوياً وتعليمياً، مدته ثلاث سنوات، يبدأ من صلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء؛ كل يوم يتعلم فيه الطالب العلوم الإسلامية بشكل مركز، والأهم أن هذا البرنامج كانت تقدمه وزارة الأوقاف في زمنهم لمدة اثني عشر عاماً، ولكن الشيخ السامرائي كان يعلمه في ثلاث فقط، مع التربية الصالحة: خلقاً وتهذيباً[3]. وقد تم تعيين العلواني إماماً وخطيباً في وزارة الأوقاف بعد اجتيازه اختبار الوزارة، نتيجة تفوقه، وتمكنه العلمي، وتتلمذه على يد الشيخ السامرائي.

ولما ذهب إلى بغداد ليواصل مشواره العلمي تتلمذ على أيدي أربعة من كبار علماء عصره، منهم: مفتي العراق الشيخ قاسم القيسي، والعلامة أمجد الزهاوي، شيخ العرب والأكراد المشهود له بالتبحر والفقه، والشيخ عبد القادر خطيب مسجد أبي حنيفة في بغداد[4]. ثم بعد ذلك التحق بكلية الشريعة في الأزهر الشريف بالقاهرة (1954م)، ليصادف مرحلة تحول الأزهر الشريف، عبر محاولات نظام عبد الناصر «أقلمة الأزهر» أي: جعله مؤسسة دينية مصرية، مبعداً عنها العلماء ذوي الأصول غير المصرية، مثل عميد كلية الشريعة وقتها الفلسطيني الأصل الشيخ عيسى منون، وشيخ الأزهر نفسه ذي الأصل التونسي: محمد الخضر حسين، الذي خطب باكياً في المتظاهرين ضده، بأنه لم يفرق طيلة حياته بين مسلم وآخر على أي أساس، فكيف يفرق بين الطلاب المصريين وغيرهم؟، ومن ثم جمع أوراقه، وغادر المشيخة مستقيلاً[5]، وقد استمر المؤلف في دراسته، في مرحلة الماجستير بعدما عاد إلى العراق، وعمل إماماً وخطيباً في إحدى المساجد، وبدأت نظرته تتسع، وفقهه يتعمق، لكنه بعد مدة وجيزة انتقل إلى التدريس في الجامعات السعودية[6].

نلاحظ، هنا، أن الشيخ قد تأسس علمياً وفق المنظومة التقليدية الموروثة منذ القدم في التعليم الشرعي، حيث جمع ما بين التلقي الشفاهي والحفظ للقرآن والمتون، في الخلوة/الكتاب، ثم العلوم المكثفة في مدرسة المسجد، جامعاً بين التربية والعلم، والتتلمذ اليومي على يدي عالم جليل. ومن هنا، ندرك أن المنظومة القديمة فيها أسس مهمة علينا الانتباه لها، وأهمها التلقي الشفاهي الصحيح، واستخدام آليات الحفظ والتربية، وتصحيح اللسان، وتجويد الكلام.

وطيلة صفحات الكتاب، نلمس مقارنة المؤلف بين التعليم الديني التقليدي والتعليم الديني التجديدي، فهو في ثنايا الكتاب يؤكد على حسن مخرجات التعليم التقليدي، على الرغم من بساطة تكلفته، عبر الكتاتيب أو الخلاوي التي هي أرخص مدرسة على وجه الأرض تحفّظ القرآن الكريم، وتعلّم مبادئ القراءة، والحساب، والفقه، والسيرة النبوية، وما شابهها، وكل مستلزماتها شيخ معلم زهيد الأجرة، أو دونها، يكون محتسباً عمله لله تعالى، ويمكنه أن يعلم الصغار في أي مكان: حلقة في مسجد، غرفة صغيرة، في الخلاء المفتوح، في الحقول أو الساحات وسط البيوت، فالعملية التعليمية كلها تقوم على جهد معلوم واحد[7]، أما المرحلة الثانية فتكون في مدارس المساجد، وفيها نظام تعليمي يعتمد على الشيخ، أيضاً، في حلقة من حلقات العلم، وضمن تراتبية ومناهج وكتب معلومة، والشيخ يعطي إجازة للطالب، تمكنه من مواصلة الدرس. وتطورت مدارس المساجد لتكون جامعات ومعاهد مثل: الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والمساجد والحوزات في العراق[8].

وكانت المرحلة الثالثة في حياة الشيخ، هي مشاركته الفاعلة في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن (1981م)، حيث يحدثنا عن نشأة وتكوين هذا المعهد، وصحبة ثلة من خيرة علماء الأمة (منهم إسماعيل الفاروقي، يوسف القرضاوي، جمال عطية، عبد الحليم أبو شقة...)، وقد تأسست فكرة المعهد على تأمل أسباب تراجع الأمة الإسلامية حضارياً، وأدرك الجميع أنه لابد من وجود فكر يعالج «أزمة الأمة»، والانتقال بالاجتهاد من دائرة الفقه إلى دائرة الحالة الفكرية والنفسية للأمة كلها، ودمج الإبداع فيها، ومناقشة قضية المنهج والمنهجية من منظور إسلامي، من أجل أن تتضافر جهود الفقهاء مع جهود العلماء لإخراج الأمة من نكبتها، وهذا يحتاج إلى التبحر في العلوم الاجتماعية والنفسية، وأيضاً العلوم الفلسفية والطبيعية، ومن ثم اتسعت دائرة العلماء المفروض مشاركتهم في المعهد، والممثلين له في مختلف البلدان المسلمة، ومن ثم اتسعت الأفكار، وتحددت مجالات الأزمة، ومنها، بالطبع، أزمة التعليم الديني[9]، التي كانت في قلب الفكر والعمل.

وفي هذا السياق، كانت عين المؤلف تقارن بين سلوك وشخصيات علماء الشريعة من الأجيال القديمة، وأيضاً من الأجيال المتأثرة بروح العصر الحديث. وقد عرض شخصية شيخه الأول، وهو الشيخ عبد العزيز السامرائي؛ الذي رفض الغلو الصوفي أو السلفي، ولكنه كان يتشدد في بعض الآراء والفتاوى مثل: رفض ارتداء البذلة الإفرنجية، والإلزام بإطلاق اللحية فهو فرض في رأيه، ووجوب النقاب على النساء، وكانت له جهود مشكورة مع أهل بلدته في رفض المبالغة في المهور وإطلاق الرصاص في الأعراس، وعدم الإكثار من مجالس العزاء وما يصاحبها من تكلفة باهظة مادية، وما زال بأهل البلدة حتى أقلعوا عن مختلف البدع الشائعة وقتئذ[10].

أما مشايخه في بغداد فكانوا أكثر تفتحاً، غير رافضين للزي الإفرنجي، ويعللون ذلك بأن الملابس قضية شكلية، فالكردي يلبس البنطلون، مثلاً، لأنه يناسب الطبيعة الجبلية التي يعيش فيها[11].

- الوعي الناقد بالواقع وانعكاسه على الفتوى والتعليم الشرعي:

لقد كان المؤلف واعياً بانعكاس السياسة على تعليم العلوم الشرعية في المعاهد والجامعات التقليدية والحديثة، ومن ذلك إشارته إلى وجود ظواهر مشتركة بين مختلف الأديان والمذاهب والفلسفات في العالم، قديماً وحديثاً، وقدم مثالاً على ذلك من يتمسكون بظاهر النص والتفسير الحرفي له، ويقصرون فهمهم على ما تبوح به الألفاظ والعبارات فقط، غير عابئين بتأويل، أو واقع، أو رموز وإشارات، معتبرين ذلك هو الفهم السلفي الصحيح، فيخبرنا أن هؤلاء الظاهريين لهم مدرسة في الإسلام، وأيضاً تمثلهم مدرسة القرائيين لدى اليهود، ومثلهم لدى النصارى: الكاثوليك، والبروتستانت[12].

وقد ساعدت الحاسة النقدية اليقظة طه جابر العلواني على الانتباه لعدد من الأعطاب لم ينتبه إليها غيره، وقد أخذت هذه الحاسة في الظهور على صاحبها خلال دراسته في الأزهر الشريف، وهو يجد تيارات فكرية متصارعة، بجانب تأثره بعلماء آخرين من جيل الشباب المسلم وقتئذ، مثل: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق، فإذا عاد إلى بغداد التزم بمجالس شيخه أمجد الزهاوي الذي كان له أسلوب جميل في النقد والمراجعات على الآراء، والعلماء، والفتاوى، أساسه النقد الهادف، والتأدب، واحترام العلماء حيهم وميتهم، ونمت لديه الرغبة في الحصول على بدائل، ووضع أسس للنهضة والتجديد في التعليم الديني.

وهذه التيارات النقدية نفسها وجدها الشيخ طه خلال إقامته في الرياض، حيث كانت هناك شخصيات كثيرة من دول عربية مختلفة، تنتسب لأفكار واتجاهات متباينة، وكان يلتقيها في الندوات أو البيوت، حيث تدور نقاشات واسعة[13]، أسهمت في تشكيل رؤيته للواقع والمستقبل. وبدأ يتساءل عن أسباب دراسة علم الكلام وفرق بائدة الآن مثل المعتزلة، والبلاد الإسلامية تموج بتيارات علمانية مثل: الماركسية، والقومية، والمادية، والديمقراطية الليبرالية، وغيرها، وصعود تيارات إسلامية أخرى مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وحزب الدعوة الشيعي، وكتابات أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وغيرهم، وكان العلماء التقليديون يتعاملون بالتكفير والتفسيق مع كل فكر وافد، ويرفضون الحوار، أو بالأدق لا يتخذون الحوار نهجاً في الأساس[14]، ولكنه على المستوى الشخصي دخل في حوارات ومساجلات كثيرة مع هذه التيارات، وتعرف على دعواتها، وهو ما عمق لديه الحس النقدي، وأهله لاقتراح برامج تطوير التعليم الديني، وتطعيمه بالعلوم الحديثة، وتطوير طرق تقديمه[15].

- أبعاد أزمة التعليم الديني:

جاءت نظرة المؤلف للتعليم الديني وفق فهم واع، نابع من التراث ومن الواقع بسلبياته وآثاره، ومن ثم قام ببناء رؤية استشرافية للمستقبل، منطلقة من أهمية وجود أبعاد أخرى لدى العالم والفقيه، تَكُون روافد لرؤيته الشرعية وفتاويه، ومنها: البعد السياسي، والبعد الاجتماعي، وهو ما يسميه الإمام أبو حنيفة بالفقه الأكبر، ونسميه نحن، اليوم، علم اجتماع المعرفة، كما تعمق فهمه أكثر بفقه المقاصد الذي أسسه العلامة الشاطبي في كتابه (الموافقات) في أصول الفقه، وقد لخّصه الشيخ، ومن ثم درّسه لأطباء ومهندسين، جنباً إلى جنب مع طلابه في الجامعة، والدراسات العليا[16].

وخلال فترة عمله في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، انتقل طه جابر العلواني من النظرات الجزئية في العلوم الشرعية إلى الرؤية الشمولية، فبدأ البحث في الفكر المنهجي القرآني السليم، من أجل الوصول إلى منهجية قرآنية معرفية، مصداقاً لقوله تعالى:، لتكون قيم «التوحيد والتزكية والعمران» مقاصد عليا للقرآن والإنسان[17]، والتي ستفيد الأمة المسلمة، وستفيد البشرية جمعاء في تحولاتها من حتمية الحل العلمي، والحل التاريخي إلى النسبية والاحتمالية.

فالبشرية في حاجة لاكتشاف الإسلام، ومنهجيته[18]، ولن يتسنى ذلك إلا من خلال التعليم الديني، الذي يجب أن تعاد صياغته على أسس، أهمها:

- بناء شخصية إسلامية متوازنة نفسياً وعلمياً، تتحلى بالفاعلية والإيجابية، مدركة أنها صاحبة غاية ورسالة، ولم تخلق عبثاً.

- تخليص العقل المسلم من الثنائيات الفكرية الحادة، وأن الأديان المنزلة واحدة، هدفها صلاح البشر جميعاً، ليتجه الإنسان المستخلف بكليته وطاقاته، وكذلك الشعوب، نحو تحقيق غاية الحق في الخلق. ولم يغفل في هذا السياق الإشارة إلى أهمية انفتاح النسق المعرفي للمسلم على علوم طبيعية وإنسانية ونفسية واجتماعية، مع وعيه بنقطة الثبات المرجعية التي تعني الهدف، والغاية؛ والاتجاه[19].

- الربط بين العلم والقيم العليا (التوحيد، التزكية، العمران) ضد الاستبداد، والفساد، والمصالح الخاصة.

- إخراج العلوم الإسلامية الشرعية من الفكر السكوني التقليدي لترتبط بالحياة المتجددة المتغيرة، وإخراجها من دوائر القومية والجغرافية إلى العالمية والكونية؛ التي صارت مطلباً مهماً من أجل تكوين الأنساق الثقافية والحضارية وتكاملها، وتأسيس القواعد الحوارية بين الأديان على قيم سامية أساسها: الحق والعدل وقبول الآخر، ومن ثم عدم التقوقع في الثقافات المحلية، وبناء عقلية نقدية متفاعلة مع العلوم المعرفية، لا تقبل معرفة إلا بدليل، وترفض الأهواء، وترفض ادعاء أحد امتلاكه للحقيقة الكاملة، ليصبح للجميع شرعية الحوار والوجود والتعلم، ويتضاءل التحيز العرقي، والقومي، واللاهوتي، والطائفي[20].

- برنامج مقترح لتجديد التعليم الديني:

عَرَض المؤلف برنامجاً تطبيقياً للمقررات الإسلامية في المستويات العليا الجامعية لمدة اثني عشر عاماً[21]، يتخرج بعدها الطالب بعد استكمال المنظومة المعرفية الإسلامية، وقد تم تطبيق هذا البرنامج في جامعة العلوم الإسلامية، وجامعة قرطبة في فيرجينيا، ويتكون من اثنين وعشرين مقرراً، منها ستة مشتركة بين التخصصات المختلفة، وتشتمل على علوم القرآن، والفقه وأصوله، أما باقي المقررات فهي شاملة للُّغة، والأدب، والبلاغة، والعلوم الإنسانية، وذلك من أجل تكوين عقلية منهجية مسلمة، تحقق الفلسفة المرتجاة من النظام التعليمي الإسلامي الجديد. ومن المهم في هذا المقام عرض المقررات المشتركة الأساسية اللازمة لكل طالب في مرحلة الجامعة، أما المقررات الفرعية أو المتخصصة، فهي مبنية في تكوينها، وتلقيها، وفهمها على الأطر، والقواعد، والمفاهيم التي تترسخ في الأساسية.

جاء المقرر الأول متناولاً نظرية المعرفة الإسلامية، ومدى اتساقها مع تطور المسلمات في الإسلام، وصولاً إلى أن التوحيد يقدم نسقاً منفتحاً أمام الأنساق المغلقة، ومن المهم تهيئة العقل لنقد الأنساق الحالية، وتفكيكها، ومن ثم إعادة تكوينها وفق المنهجية الإسلامية. وتشتمل الدراسة فيه على محاور أبرزها: الله، الإنسان، الوحي، الكون، مصفوفة القيم، كما تناقش أبعاداً قرآنية أربعة: الحرية، الآخر، الموت، الاغتراب[22]. أما المقرر الثاني فيتناول مناهج البحث العلمي المتعددة، وأبرز المفاهيم المرتبطة بها مثل: الاستقراء والاستنباط، والجديد فيها مثل: البنيوية، والسيميولوجيا، والتناص، والتفكيك، ودراسة أساليب الخطاب والاتصال. في حين يتناول المقرر الثالث: الحوار والتفاعل المعرفي من منظور حضاري إسلامي، ويدرس السياقات المختلفة: التاريخي، الثقافي، الإيديولوجي، والهوية الحضارية، والتركيز على أن دور الحضارة مهم في التكامل السياقي مع الحضارات المختلفة، ولابد من النظر إلى الحضارات بوصفها خطاباً متعدد الأصوات عن رؤيا العالم، وكلها تسعى إلى رفاهية البشر، والنهوض بهم[23]. وجاء المقرر الرابع عن التاريخ ومساره بين حركات الإصلاح، وفقه الاجتهاد والتجديد، مؤكداً على الخطوط الفاصلة بين الثوابت والمتغيرات في الرؤية الإسلامية، مركزاً على أولية الاجتهاد بوصفه فريضة إسلامية، وأهمية وجود دافعية الإصلاح، وفقه التجديد، والعودة إلى الأصول، وأنه مسؤولية الأمة كافة في مختلف المستويات، وأن حركات الإصلاح الإسلامية المختلفة كانت وفق رؤى اجتهادية، ومن المهم قراءة التاريخ الإسلامي من هذا البعد. أما المقرر الخامس فقد تناول العالم الإسلامي في النظام الدولي، وسبل الاستفادة من إمكانياته، وموارده الهائلة، وبناء علاقات متوازنة مع سائر الأمم والشعوب، وحل مشكلات المسلمين السياسية مثل: فلسطين، وكشمير، وغيرها، وكل العلوم والمعارف التي تغذي معرفتنا بعالمنا الإسلامي[24]، أما المقرر السادس فيتناول علاقة الدين بالحضارة، على اعتبار أن الدين منظومة قيم تؤسس لحضارات كثيرة مثل: الفرعونية، والمسيحية، واليهودية، وغيرها، وعلينا أن ننظر بهذا البعد إلى الحضارات عامة، والإسلامية خاصة، حتى ندرك أساسها من القيم العليا العقدية، والأخلاقية الشاملة للحياة، والوجود كله[25].

الجزء الثاني من المقررات، اشتمل على علوم القرآن: تعريفاً، وتفسيراً، ومدارس التفسير القديمة والحديثة، ونظرية التأويل، وعلاقة القرآن بالإيمان، وعلم الاجتماع الديني، ومشكلات العالم المعاصر، وقضايا السياسة ومبادئها كما تتجلى في القرآن[26]، كذلك دراسة علوم الفقه وأصوله، فالأصول تقدم طرائق منهجية، والفقه تطبيق لهذه الطرائق، وتاريخ أصول الفقه، وعلاقتها بمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، وكيف نما العلم، وكيفية الاستفادة منه عصرياً، وكذلك دراسة الفقه المقارن، وأهميتها في نزع التعصب المذهبي، وأبرز المذاهب السائدة الآن، وكيف يمكن إشاعة الثقافة التوافقية من خلال قبول تعدد الفتاوى، كما تطرق إلى القوانين الوضعية وعلاقتها بالأحكام الشرعية: موازنة ومقارنة معها، وكذلك مقاصد الشريعة، وأنواع أخرى من الفقه مثل فقه الواقع، والأولويات، والموازنات، وغيرها[27]، ويأتي آخر هذه المقررات وهو المراجعات، ومناهج التفكير، وفقه الحجاج، ليشتمل على مهارات التفكير النقدي، وكيف يتقن المسلم فن الحجة والبرهان والمراجعة العلمية البناءة. ثم تأتي خاتمة الكتاب مؤكدة على النهج القرآني: انطلاقاً، ومنهجاً، وتفسيراً، ورؤية[28].

- ملاحظات ختامية:

يمكن الجزم بأن المؤلف قدّم رؤية نظرية، مصحوبة بنموذج عملي تطبيقي، في أحد معاهد الدراسات العليا في الولايات المتحدة، وأن الرؤية، بلا شك، رائعة ومكتملة بشكل كبير، ولكن ثمة أمور لابد أن نضعها في الحسبان في ضوء ما تقدم:

- إنها رؤية تركز على مرحلة الدراسة الجامعية وما بعدها، أي: أن الطالب في تكوينه بصفته باحثاً شرعياً، ولم تتطرق إلى المراحل السابقة في تعليمه.

- غفلت رؤية المؤلف عن تكوين طالب العلم نفسه، فهل يمكن أن يقوم طالب تكوّن في مدارس وجامعات مدنية/علمانية بالولوج إلى هذه المنظومة الإسلامية وهو مفتقد لأسس العلوم الإسلامية: التجويد، السنة المطهرة، تفاصيل التاريخ، ونماذج من التفاسير، ومدارس فقهية؟. وربما يعود هذا المنظور إلى وجود المعهد في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدم توافر مدارس إسلامية في مراحلها المختلفة.

- ارتباطاً بالنقطة السابقة، فإن الرؤية المطروحة تحتاج طالباً تكوّن شرعياً أساساً، ومن ثم عليه أن يدرس المناهج المقدمة إليه؛ لأنها تمثل مستوى فكرياً متقدماً لطالب العلم.

- لم تتطرق الرؤية المقدمة إلى الباحثين في تخصصات أخرى مثل: الطبيعيات، والإنسانيات، والفلسفات، والأفكار، وغيرها، على الرغم من أنها تمتاح من هذه العلوم كثيراً، فهي تتوجه إلى الباحث الشرعي، وهذا مطلوب قطعاً، ولكن ماذا عن إسلامية المعرفة مع المهندس، والطبيب، والفيزيائي، والكيميائي، والجغرافي... إلخ؟.

- عرض المؤلف في الجزء الأول من كتابه الكثير عن تكوينه العلمي، وعن سبل التعليم الديني التقليدي، ولكنه لم يشر، من قريب أو بعيد، إلى كيفية الاستفادة من طرائق التعليم القديمة، مثل: آليات الحفظ الشفاهي، والضبط اللغوي، وكيف يمكن تطوير نظام الكتاتيب لنشر القرآن ومكافحة الأمية، وأيضاً الاستفادة منه في مرحلة ما قبل المدرسة، لمكافحة هجر القرآن، وندرة الحفاظ، وفساد اللسان، وفشو اللحن اللغوي.

- كيف يمكن لمثل تلك الرؤية أن تطور مؤسسات التعليم الديني التقليدية في العالم الإسلامي؟ وقد تعلم وعلّم المؤلف فيها، ثم تركها ليؤسس جديداً، أي: أننا نحتاج إلى رؤية تطويرية للمؤسسات الحالية، ومناهجها، ومراحلها المختلفة. صحيح أننا يمكن الاستفادة مما تقدم، ولكننا نحتاج إلى برنامج تفصيلي، يطور الموجود، ويكافح الجمود، وخاصة في المراحل الجامعية.

- أخيراً، ماذا عن مراحل التعليم الديني قبل الجامعة في معاهدنا، ومدارسنا؟.

لا شك في أن هذا الكتاب فيه الكثير مما يمكن الاستفادة منه في بحث قضايا التعليم الديني، وأهمها العودة إلى القرآن الكريم، وجعله مصدراً للدين، والمعرفة، والمنهجية، والرؤية، والطموح، والحضارة، بعيداً عن تفسيرات، تراكمت عبر عصور وقرون، ربما حجبت عنا جوهر القرآن، وجعلتنا نقرؤه من خلالها، ولا نغوص في إعجازه وهديه بعقولنا، وأفئدتنا.


1 نشر في كتاب "تجديد التعليم الديني: سؤال الرؤية والمنهاج"، إشراف وتنسيق محمد جبرون، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث، شتنبر 2016

[2]- المصدر نفسه، ص ص 2- 3.

[3]- المصدر نفسه، ص 9-11.

[4]- المصدر نفسه، ص 13.

[5]- المصدر نفسه، ص 16.

[6]- المصدر نفسه، ص 24.

[7]- المصدر نفسه، ص ص 5-6.

[8]- المصدر نفسه، ص ص 6-7.

[9]- المصدر نفسه، ص 25-28.

[10]- المصدر نفسه، ص 12-14.

[11]- المصدر نفسه، ص ص 13-14.

[12]- المصدر نفسه، ص 9.

[13]- المصدر نفسه، ص 24.

[14]- المصدر نفسه، ص 19.

[15]- المصدر نفسه، ص 23.

[16]- المصدر نفسه، ص ص 23-24.

[17]- المصدر نفسه، ص 31-35.

[18]- المصدر نفسه، ص 37.

[19]- المصدر نفسه، ص ص 40-41.

[20]- المصدر نفسه، ص 41-43.

[21]- ربما تأثر المؤلف بمنهج شيخه عبد العزيز السامرائي؛ الذي طبق برنامجاً للعلوم الشرعية مدته اثنا عشر عاماً أيضاً، وإن كان الشيخ السامرائي قد طبقه في ثلاثة فقط.

[22]- المصدر نفسه، ص 48-50.

[23]- المصدر نفسه، ص 51-54.

[24]- المصدر نفسه، ص 55-58.

[25]- المصدر نفسه، ص 59-62.

[26]- المصدر نفسه، ص 66-75.

[27]- المصدر نفسه، ص 83-95.

[28]- المصدر نفسه، ص 99-104.