لباب العقول والكلام كجنس عند أحمد علمي حمدان

فئة :  مقالات

لباب العقول والكلام كجنس عند أحمد علمي حمدان

لباب العقول والكلام كجنس عند أحمد علمي حمدان

مقدمة

أحمد علمي حمدان، من مواليد مدينة فاس سنة 1950، حاصل على دكتوراه دولة في الفلسفة بأطروحة تحت عنوان: "استئناف وتجاوز النقد المشرقي للفلسفة"، ويشتغل أستاذا للفلسفة الإسلامية والسيميولوجيا، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس.

والدارس يلاحظ عليه أنه مقلٌّ في كتاباته، لكن بالرغم من ذلك صدرت له مجموعة من الأعمال الفردية والمشتركة، فمن أعماله الفردية: "البنية والحجاج"، عن منشورات إفريقيا الشرق، في طبعته الأولى سنة 1991م، والمكون من 95 صفحة، ومن أعماله مع غيره، التيارات الكلامية في الغرب الإسلامي، عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سنة 2005، وللباحث كذلك مشاركة علمية من خلال مراجعة كتاب "ارتياض في كتاب التحليل"، لابن باجه، الصادر عن مركز الدراسات الرشدية، سنة 2006.

إن المقصود بالذات من هذه القراءة، تناول الحديث بالمراجعة والنظر في مؤلفين من أهم مؤلفات مبحوثنا، ويتلعق الأمر بـ "كتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول"، و" الكلام كجنس"، ولنشرع في المطلوب وفق اللف والنشر المعكوس.

  •  »الكلام كجنس « 

هذا كتاب عبارة عن دراسة لذاتيات الكلام من زوايا مباحث متعددة، كما عنونه مؤلفه، وهو من منشورات ما بعد الحداثة، صدرت طبعته الأولى سنة 2007، ويقع الكتاب في 149 صفحة، يتضمن مقدمة ومباحث، وذيول وتعليقات في نهايته، خصص القسم الأول من الكتاب للحديث عن نظرية الأجناس والتعريفات، والقسم الثاني توجه فيه الكلام لتعريفات علم الكلام، ومراتبها.

  • لم نظرية الأجناس في تحديد الكلام؟

يطرح الباحث منذ البداية سؤالا لمّاحا، في صيغة استفهامية بسيطة، ما الكلام؟، فالباحث يستشكل تلك التراكمات التصورية لعلم الكلام، من حد ورسم، وأيها المعبر عن الحقيقة المشتركة؟ وإذ الدارس يطرح الاستعانة بنظرية الأجناس للخروج من هذا الإشكال التصوري، يميز بين ثلاثة مواقف من داخل هذه النظرية: موققف معياري، وموقف وصفي تحليلي، وموقف ماهوي، وفي رأيه هذه المواقف ترسم أقدارا متباينة للإجابة عن سؤال: ما الكلام؟[1]

فالموقف المعياري يكمن في الكيفية الملائمة للقول، والوسائل اللازم استخدامها لإنتاج الجنس.

أما الموقف الوصفي التحليلي، والذي نميزه عن الموقف الماهوي، فيحقق الجنس، في الدرجة الأولى، بالإقصاءات المتتالية، عبر تقابلات، ويميز الأجناس وفق الوسائل المستخدمة والمواضيع الممثلة وكيفيات التمثيل.

حقيقة الأجناس

بعد أن عرض الدارس نظرية الأجناس ضمن مواقفها، خلص إلى مطلوب مفادة لا ثبات في الأجناس، بل تولد وتموت، وهذا الكلام يحتاج للمراجعة، وإيراد الشكوك عليه، لأن تقوم الشيء بجنسه، وارتفاع الجنس يستلزم ارتفاع ذلك الشيء، وهذا بناء على قانون الهوية القاضي بامتناع سلب الشيء عن نفسه، ثم إن الدارس شبه الجنس بالولادة والموت، وهذا أمر عرضي على الجنس لا ذاتي له، بل إن ملاك المفاهيم الكلية هي تجردها عن التشخص، وعليه فهذه مغالطة من قبيل أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، والدارس إذ يقر بعدم ثبات الأجناس، يطرح ثباتا آخر بلحاظ التواصل؛ أي ثبوتية الجنس باعتبار التراكم والحوار، وهذا بناء على المذهب التطوري لدى هيجل.[2]

تعريفات الكلام

بعد أن طرح مبحوثنا مقاربته لنظرية الأجناس، بمختلف تمثلاتها، شرع في الحديث عن علم الكلام، منطلقا من ألفاظ التسمية، وموردا لعدد منها كـ: الكلام، صناعة الكلام، التوحيد، أصول الدين، علم النظر والاستدلال، وغيرها.[3]

ثم خلص بعدها لتعليل هذه الألفاظ وتوزيعها تحت مجموعات، واصطلح على كل مجموعة اسما خاص، فانطلق من مجموعة الكلام[4] وضم إليها الألفاظ المتقاربة، والحدود المقولة فيها، ثم توجه بعدها لمجموعة النظر، وسلك مسلك المجموعة الأولى تصورا وتصديقا.

ونقف هنا مع الدارس موقف المستشكل بخصوص حديثه عن علل التسمية، وننطلق مما قرره المناطقة في سياق حديثهم عن أجزاء العلوم، فقد تكاد كلمتهم تجمع على أن الحاجة لمعرفة أسماء العلوم أكيدة، لكن الاحتياج إلى بيان وجه التسمية غير شديد، وهنا نجد أنفسنا أمام صناعة الوضع التي تقرر فيها بعدم وجود اطراد ووجه بين الاسم والمسمى، فأقصى ما هنالك دلالة الاتفاق، وعليه فكان لا ينبغي للدارس إطالة النفس في أمر غير شديد الجاجة إليه، مثل ما يقال في عدم جدوى معرفة الواضع في علم الطب مثلا.

والقسم الثاني من هذا الكتاب إلى نهايته خصص للتعريفات التي حُد ورُسم بها علم الكلام، وجلب الدارس مجموعة من التعاريف المشهورة عند المتخصصين، وقد استطاع الباحث الخوض في دقائق هذه التعريفات مصنفا إياها، تارة بالغرض، وتارة بالموضموع، وتارة بالوظيفة، وتارة أخرى بالأهمية والأفضلية[5].

وهذه التعريفات بما أنها ضمن الرسم، فلا شك أنها ستعرف اختلافا في المعنى والمبنى، لأن غرض الراسم من رسمه إن جاز الإطلاق هو التمييز في الواقع لا معرفة كنه ذلك الشيء المراد تمييزه، والرسوم يكفي فيها مطلق التمييز. أما حد الكلام في الحقيقة، فيبقى من الإشكالات الواجب طرقها، ولعلنا نفي ببعض ذلك في مراجعة الكتاب الثاني للدارس.

بقي أن نشير بالعرض إلى أن بعض التعريفات التي عُرف بها علم الكلام، تحكم فيها معيار التصنيف، وتوضيح ذلك أن من اقتصر في تصنيفه الكلامي على مباحث الإلهيات والنبوات والمسعيات، صور علم الكلام بما انتهى إليه غرض تصنيفه، إلا أن هذا الصنيع لا يقلب موضوع العلم، أقصى ما هنالك أن الإرادة تحركت نحو تخصيص معين في التصرف في ذلك العلم، وهذا الصنيع في الحقيقة موضع تساؤل؛ لأن الاقتصار على مطالب معينة من علم ما، وتعريفه بما تم الاقتصار عليه، مغالطة شنيعة، من قبيل أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، وإن عورض هذا بأن القصد من ذلك التعليم والتمثيل، سلمنا ذلك لكن يجب التخصيص والتنبيه.

ختم الباحث كتابه بذيل ضمنه بعض أوجه نقد القول الصوفي[6] للفلسفة، في شخص ابن سبعين (ت. 667هـ)، والنصوص التي أوردها الدارس على لسان ابن سبعين تصرح بالتشكيك في المتن الفلسفي والمنطقي كمصدر للمعرفة، واستبدال ذلك بالمنهج الصوفي، فلم أورد الباحث هذه الرؤية الناقمة من العلوم العقلية؟ فهل سكوته عن نقوله هي من مقوله؟، لكن سرعان ما تزول هذه الشكوك، فبتقليب الصفحات نجد دارسنا أورد في مقابل نصوص ابن سبعين، نصا للإمام الأشعري المعنون "باستحسان الخوض في علم الكلام"[7]، من نشرة الأب اليوسوعي يوسف مكارثي، المطبوعة مع كتاب "اللمع"، سنة 1953م.

وعليه، يمكن اعتبار هذا رد صامت من الدارس على كلام ابن سبعين، وبطريقة برهان الخلف تضمنا، أو إن شئت قل هو تفكير ضمني كما تقرر في علم النفس الفلسفي.

إن الدارس في إيراده لنص عرفاني في مقابل نص كلامي، يفتح لنا باب استدعاء تلك المحاورات التي دارت بين الفلاسفة والصوفية، بل إن الصوفي أحيانا يستغيث بالفيلسوف لحل أزمة أسئلته النظرية التي تؤرقه، فهذا صدر الدين القونوي، وبالرغم من المرتبة التي وصل إليها في العرفان، استنجد بنصر الدين الطوسي، ووجه إليه أسولة في مباحث المعرفة، وكيفية حصولها، ومراتب الناس فيها.[8]

كثيرا ما تحارب العلوم العقلية من بعض العرفاء، بحجة أنها تفسد القلب، لكن "قلما يخلو علم، بل ولا موجود ما، عن مفسدة مبثوثة في مصلحته، فلو توقيت المفاسد بطل كثير من المصالح، وكأنك أيها الغافل لم تر ما بيدك من علم الكلام مشحونا بأقوال المبتدعة"[9]، ثم وإن سلم لهم محاربة هذه العلوم، ففي الظاهر فقط، وإلا فكيف انتخبوا القلب مصدرا للمعرفة؟

 »لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول « 

لباب العقول، من أهم كتب الباحث أحمد علمي حمدان، صدر بتعاون من جامعة سيدي محمد بن عبد الله – فاس، عن مطبعة آنفو برانت، في طبعته الأولى سنة 2012، ويقع الكتاب في 534 صفحة، ويتضمن دراسة وتوطئة للنص المحقق، (1 – 49)، ونص كتاب اللباب، (67 – 532)، وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب قد طبع من طرف الباحثة فوقية حسين محمود، عن دار الأنصار بالقاهرة، سنة 1977م، وهذا يفتح أفاقا للمتخصص في التراث المكلاتي، قصد المقارنة والموازنة بين الطبعتيتن، للخروج بنتائج علمية تثمر تجويد نص اللباب.

سنكتفي في هذه المراجعة بالقسم الأول من الكتاب، المتضمن للتوطئة. أما القسم الخاص بالنص المحقق، فهذه الدراسة لا تكفي لمعالجته، وبما أن مقدمة الكتاب كمقدمة الجيش، فإننا سنحاول دراسة معالم الدارس من خلال مقدمته.

صاغ الباحث أحمد علمي حمدان، في بداية الكتاب، ترجمة وافية لشخص المكلاتي[10]، ثم انتقل للحديث عن تاريخ تأليف اللباب، وبعد قرائن عدة أوردها الدارس بهذا الخصوص، خلص إلى أن لباب العقول كتب قبل 614هـ أو حواليها.[11]

في قصد اللباب وبنائه

ينطلق الباحث من فرضية مركبة، مفادها أن المكلاتي في رده على الفلاسفة، لم يقصد لما قصد الغزالي وحسب، ولا أن يجاريه كما ذهبت إلى ذلك فوقية حسين[12]، فالغزالي قصد إبطال مذاهب الفلاسفة أو حجاجهم في الإلهيات، وجزء من الطبيعيات، وقصد، إلى جانب ذلك، حكاية مذاهب الفلاسفة على وجهها. أما المكلاتي، فإلى جانب قصده لنقد الفلسفة، يقصد، أحيانا نقد النقد الذي تراكم ضد الفلسفة، وبهذا، انفصل عن الغزالي فيما قصد إليه، حين عمل على الرد، ولم يعمل صراحة على الإثبات[13].

إن الشطر الأول من هذه الفرضية القاضي باختلاف المنهج بين الغزالي والمكلاتي، له وجه من الصحة، لكن الذي يستعقبه النظر هو الشطر الثاني، الذي قرر فيه الباحث أن مقصد الغزالي من ردوده الإبطال، ومقصد المكلاتي الإثبات، وهذه الأطروحة لقيت متابعة من بعض الباحثين[14]، لكن السؤال المطروح هو هل يوجد إبطال بلا إثبات؟، فما معنى أبطل ولم يثبت؟، فأنت إذا نفيت حدوث العالم فقد أثبت قدمه، وهذا مبدأ برهان الخلف في المنطق.

إن إيراد الدارس للمنطلقات المنهجية للغرالي في نقده للفلسفة المشائية، يفتح أمامنا باب البحث عن المحاولات التي سبقت الغزالي في المعارضة للتراث اليوناني، ومن خلال ما هو حاصل من الشواهد العلمية يمكن القول "أن الغزالي أول من وقف وقفة نقدية للفلسفة، وما قبله محاولات لم تستند على أصول عامة، ودراسة عميقة"[15]، لكن بالرغم من ذلك فإن محاولة الغزالي من خلال المنهج الذي رسمه لنفسه، بالانطلاق من هدم أصول الفلاسفة، والرد عليهم بجلب مذاهب الإسلاميين، لهي محاولة أفقدته شيئا من الصرامة المنهجية، و"لم يكن نقده من منطلق فلسفي خالص"[16].

بعد فترة وجيزة، عثرنا على عمل ذي نقد فلسفي محض، قام به أبو البركات البغدادي (ت.560هـ)، وركز في عمله هذا على نقد تراث ابن سينا، كما يلوح بذلك كتابه 'المعتبر في الحكمة والمنطق'، وتطالعنا الباحثة فوقية حسن بنص مجمله تعرض المكلاتي في اللباب لابن سينا والفارابي[17]، فهل يكون المكلاتي (ت. 626هـ)، اطلع على عمل أبي البركات البغدادي؟، في رأيي للتوصل لإجابة مركزة يتعين طرح عمل كل من الغزالي، والمكلاتي، والبغدادي، في بساط البحث، وتقليب النظر في مدى تعالق وحوارية النصوص.

بعد الفصل الذي أقامه الباحث بين صنيع الغزالي والمكلاتي، في ردودهم على الفلاسفة، وجه عنايته نحو منهج المكلاتي في اللباب، والدارس يصرح غير ما مرة أن المكلاتي يعرض مذاهب الفلاسفة وحجاجهم، وهو فيما يرد من ردود غيره على مذاهب الفلاسفة، يعتمد الردود الرشدية على الغزالي وغيره من المتكلمين، ويعتمد أدوات ابن رشد التي ميزت قوله في تهافت التهافت، فجاء عدد من مسائله ظفائر يتناوب فيها طرفا من الخصومة، الغزالي وابن رشد، لا فعل للمكلاتي فيها سوى الجمع الترتيب والتركيب والإفساد والتصحيح، فهل يا ترى المكلاتي يحاكم بين ابن رشد والغزالي؟.

غير خفي أن الدارس جاء في مرحلة توسع فيها القول حول ابن رشد والغزالي، وهذا التوسع يكاد يكون سمة غالبة على الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، ولا شك أن هذا الانغلاق معلول لعلل عدة أبرزها:

  • الانتقائية في التعامل مع التراث الفلسفي المغربي، والاهتمام ببعض الفلاسفة فقط[18]، فلم الاقتصار على ترديد بعض الأعلام فقط؟، فأين هو السيد البطليوسي مثلا في بحوث مفكرينا في المغرب؟، وأين هو ابن البناء العددي المراكشي، وأين هو ابن تومرت وأسبيقته لابن رشد في التوفيق بين الشريعة والحكمة كما ذهب إليه أحد الباحثين[19]، وأين هو الحسن بن مسعود اليوسي، ودفاعه عن المنطق والفلسفة.
  • وجود عوائق فكرية حاجزة من البحث في التراث الفلسفي عموما، والمغربي على وجه الخصوص، من قبيل عدم وجود فلسفة مغربية أصيلة، وأن الفكر الفلسفي المغربي هو ترديد للفكر اليوناني، وفي الحقيقة هؤلاء تعودوا أن يقرؤوا عنها - الفلسفة – لا أن يقرؤوها[20]وهذه هي أكبر مشكلة في الدرس الفلسفي المعاصر؛ لأن عدم التخلص منها مع الإقدام على البحث في أسئلة الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، يودي بنا إلى نتائج مجانبة للصواب، فهذا أحد الباحثين يصرح بعدم عثوره في الانتاج النظري الفلسفي المغربي على نصوص شارحة أو مترجمة للمؤلفات الفلسفية الأساس[21]، وفي الحقيقة عدم العثور لا يستلزم عدم الوجود، فالسيد البطليوسي في رسالته "الحدائق العالية في المطالب الفلسفية"، نجد فيها شرحا وافيا لبعض نصوص الحكماء، وفكا لمعانيها، بل الرجل يصحح استدلال الحكماء ويتأوله حتى يلائم مذهبهم[22].

إن توسع القول الفلسفي بين ابن رشد والغزالي من لدن الدارسين، هو في ما أزعم معول لعلة واحدة، وهي مسألة السبيبة، حتى كاد كتاب "تهافت التهافت"، يطلق عليه "إنكار الغزالي للعلل"، لكن الانصاف يستوجب القول أن الغزالي أنكر العلل العادية والربط الجعلي بين الموجودات، ولم ينكر العلة العقلية اطلاقا، بل كيف ينكرها وهو بصدد كتابة "تهافت الفلاسفة" وإلا ناقض نفسه وينقلب الأمر إلى "تهافت الفلاسفة / لا تهافت الفلاسفة"، و"الأمر يقتضي أن نقول: إن موقف الغزالي من نظرية السببية موقف متعدد بتعدد المصادر التي تعرضت لهذه النظرية"[23].

تلبيس القول في اللباب

ينطلق الدارس في هذا المطلب من دعوى ملخصها، عدم تمييز المكلاتي بين من هم 'فلاسفة'، ومن هم 'متكلمين'، ولعله قصد التلبيس؛ لأنه يعمل بأدوات (= مفاهيم، مسالك دليل)، الفيلسوف والمتكلم في نسيج واحد. فلا يشعر القارئ في جل قوله عن الفلسفة، بهم الفصل أو التبري، فصل ما هو دلالة أو دعم فلسفي عما هو من دلالات ودعم المتكلمين[24]، وفي نفس الصقحة أورد الدارس على سبيل الحكاية كيفية تعامل المكلاتي مع علم الكلام من إعطائه رتبة العلم الكلي، وفي نظرنا هذا هو التعليل الأقرب للصواب، فما أورده الباحث مسبقا هو من قبيل العلة العرضية، وهذا يجرنا إلى طرح إشكال عويص هو أن تلك التمييزات التي يميز بها عادة بين علم الكلام والفلسفة، أراها مجرد تحديدات وفصولا مدرسية، لا ذاتية، فالكلام والفلسفة من جنس واحد، والاختلاف هو بحسب مدارس البحث، "فالتفلسف ليس مجرد لقب بل روحا تسري لدى الفيلسوف كما لدى المتكلم"[25]، وحتى الذين يعرضون عن إدارج مباحث الطبيعيات من المتكلمين، فإن ذلك لا ينفي عدم وجودها ضمنا وإلا فكيف تستدل على تغير العالم، وما ذكرناه سابقا من أن بعض العلماء اقتصروا في تواليفهم الكلامية على بعض المباحث دون بعض، لا يستلزم من ذلك أن المباحث الخارجة ليست من ذلك العلم، وهذا راجع لأغراض تعليمية لا حاجة لنا بها الآن.

قد توصف الفلسفة باليونانية أو الإسلامية، فالمقصود منها مجموعة النظريات الفلسفية للحكماء اليونانيين أو للإسلاميين، وهذه مدارس بلحاظ المنهج. أما الفلسفة العقلية، فهي فلسفة واحدة تبحث عن الموجود بالبرهان العقلي، والذي أريد أن أفضي إليه هو كون العلوم الإسلامية "ومنذ وقت باكر، لم يقنصر مداها على العلوم الشرعية والعلوم اللغوية، بل شملت وبالقدر ذاته من الدقة والعمق وأصالة التفكير، علوم الفلسفة والحكمة والمنطق...وأن بواكير الفكر العقلي عُرفت لدى كثير من علماء الإسلام وأئمتهم، ربما قبل عصر الترجمة"[26]، وهذا يجعلنا نقلب النظر في ما تقرر في تاريخ العلوم من أن اختلاط الكلام بالفلسفة حديث عهد بين فترة الجويني والرازي وما بعده، فهل كلام المتقدمين خالي من الفلسفة؟ أو بالأحرى فليس بفلسفة؟

لقد سبق الإلماح إلى ضرورة الدراسة الجادة للتراث الفلسفي المغربي؛ وذلك بالبعد عن المعرفة الشائعة التي كثيرا ما تختلط بالمعرفة الحقة، فتنتج لنا أنظار متباينة، نفتقد للشمولية، مع الانزواء على نمادج معرفية معدودة، ومحاكمة التراث بها، وهو الذي ينتج لنا ذلكم الحوار العقيم، المترجم في ألفاظ لا صلة لها بالعلم من قبيل هذا جدلي، وهذا تنويري، وهذا برهاني، والعيب ليس في هذه الألفاظ، بل العيب ضرب ما يصدق عليه اللفظ.

إننا إذ نجلب الدارس أحمد علمي حمدان، للمراجعة والقراءة، لقصد تحقيق التراكم في الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، ولأجل التنويه به، وبعث الآمل بأمثاله، لإحياء الدرس الفلسفي في المغرب، الذي لطالما كان ضاربا في التاريخ، ومنذ عقد قريب عرف الدرس الفلسفي عملا جريئا تقدمه مجموعة من الباحثين، من أمثال: محمد وقيدي، وسالم يفوت، وعبد السلام بنعبد العالي، ومحمد المصباحي، وغيرهم، ولن نتردد في وسم هذه الحقبة بـ بفلسفة المعرفة، وبحوث الابستيمولوجيا المعاصرة، ونرجو توسيع الأفق أكثر، وطرق الأقسام الفلسفية الأخرى التي لها صلة بعلم الأخلاق، وبحث ذلك من نظر فلسفي؛ لأن بتر الأخلاق من سياقها الفلسفي يستلزم فقدان الوعي في اللحظة الحاضرة، وإيمانا منا بأن أبرز التحديات التي يمر بها العالم، راجعة لمعتقدات كامنة، ومقدمات فلسفية مستبطنة، الأمر الذي يجعل سؤال الفكر الفلسفي المغربي المعاصر في تحد، ولابد من الاستجابة للرهان الحالي، وتحقيق هذا متوقف على إزالة المانع الفكري الذي نبهت عليه سابقا، وإعادة النظر بشأن تعاملنا مع التراث الفلسفي، فالمشتغل بالفلسفة لا يهمه لا زيد ولا بكر، بل المهم عنده ثبوث الشيء في نفس الأمر فقط وفقط.

 

لائحة المصادر والمراجع

  1. علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ما بعد الحداثة، المغرب، ط 1، 2007م.
  2. علمي حمدان، أحمد. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، مطبعة آنفو برانت، المغرب، ط 1، 2012م.
  3. بدوي، ماجدة. أثر فلسفة ابن رشد في الكلام المغربي الأشعري، دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي، الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، فيلوسموس (مارس 2024): 26 https://philosmus.org/archives/3858
  4. هويدي، يحي. تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د. ط، 1965م.
  5. الآلوسي، حسام الدين. حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، مطبعة الزهراء، بغداد، د. ط، 1967م.
  6. كمال، عبد اللطيف. أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 1، 2003م.
  7. البطليوسي، محمد ابن السيد. الحدائق في المطالب العالية الفلسفية، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط 1، 2004م.
  8. دنيا، سليمان. التفكير الفلسفي الإسلامي، دار المنهاج، جدة، ط 1، 2024م.
  9. الطوسي، نصر الدين. أجوبة المسائل النصيرية، تحقيق: عبد الله نوراني، مركز تحققيقات علوم إسلامي، طهران، ط 1، 1964م
  10. اليوسي، الحسن بن مسعود. القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، تحقيق: حميد حماني، مطبعة شالة الرباط، ط 1، 1998م
  11. محمود، فوقية حسين. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، دار الأنصار، القاهرة، د. ط، 1977م
  12. الطيب، أحمد. موقف أبي البركات البغدادي من الفلسفة المشائية، مجلس حكماء المسلمين، الإمارات، ط 2، 2019م
  13. الطيب، أحمد.حديث في العلل والمقاصد، مجلس حكماء المسلمين، الإمارات، ط 3، 2019م

[1] علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ما بعد الحداثة، المغرب، ط 1، 2007م، ص 7

[2] علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ص 10

[3] المرجع نفسه، ص 18

[4] المرجع نفسه، ص 19

[5] علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ص 22

[6] علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ص 115

[7] علمي حمدان، أحمد. الكلام كجنس، ص 132

[8] ينظر: الطوسي، نصر الدين. أجوبة المسائل النصيرية، تحقيق: عبد الله نوراني، مركز تحققيقات علوم إسلامي، طهران، ط 1، 1964م، ص 185

[9] اليوسي، الحسن بن مسعود. القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، تحقيق: حميد حماني، مطبعة شالة الرباط، ط 1، 1998م، ص 296

[10] علمي حمدان، أحمد.لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، مطبعة آنفو برانت، المغرب، ط 1، 2012م، ص 5

[11] علمي حمدان، أحمد. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، ص 18

[12] محمود، فوقية حسين. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، دار الأنصار، القاهرة، د. ط، 1977م، ص 70

[13] علمي حمدان، أحمد. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، ص27

[14] بدوي، ماجدة. أثر فلسفة ابن رشد في الكلام المغربي الأشعري، دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي، الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، فيلوسموس (مارس 2024): 26https: //philosmus.org/archives/3858

[15] الطيب، أحمد. موقف أبي البركات البغدادي من الفلسفة المشائية، مجلس حكماء المسلمين، الإمارات، ط 2، 2019م، ص 97

[16] الطيب، أحمد. موقف أبي البركات البغدادي من الفلسفة المشائية، ص 104

[17] محمود، فوقية حسين. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، ص 68

[18] هويدي، يحي. تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د. ط، 1965م، ص 4

[19] هويدي، يحي. تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية، ص 270

[20] الآلوسي، حسام الدين. حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، مطبعة الزهراء، بغداد، د. ط، 1967م، ص 5

[21] كمال، عبد اللطيف. أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 1، 2003م، ص 27

[22] البطليوسي، محمد ابن السيد. الحدائق في المطالب العالية الفلسفية، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط 1، 2004م، ص 47

[23] الطيب، أحمد.حديث في العلل والمقاصد، مجلس حكماء المسلمين، الإمارات، ط 3، 2019م، ص 30

[24] علمي حمدان، أحمد. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، ص 44

[25] الصادقي، محمد. قراءة في كتاب العقل الحجاجي بين الغزالي وابن رشد لصاحبه محمد أيت حمو، مركز روافد للدراسات والأبحاث، (دجنبر 2019م): 21https://rawafedcenter.org/media/183.

[26] دنيا، سليمان.التفكير الفلسفي الإسلامي، دار المنهاج، جدة، ط 1، 2024م، ص ص 9 – 10