تجربة الحاضر في عالم العيش


فئة :  مقالات

تجربة الحاضر في عالم العيش

تجربة الحاضر في عالم العيش*


يوجد العالم بالنسبة لهوسرل كعالم زماني، (مكاني ـ زماني)، يتوفر فيه كل شيء على امتداد جسمي وديمومة، كما يتوفر أيضاً على موقعه في الزمان الشامل وفي المكان. على هذا النحو نعيه دائماً في حياة الوعي اليقظة، على هذا النحو يتوفر على صلاحيته كأفق شامل. يتعلق الإدراك بالحاضر فقط، لكننا نعي مسبقاً أنّ وراء هذا الحاضر ماضياً من دون نهاية وأمامه مستقبل مفتوح. هكذا نرى مباشرة أننا نحتاج إلى تحليل قصدي لإعادة التذكر بصفته الكليّة الأصيلة لوعي الماضي، لكننا نرى أيضاً أنّ هذا التحليل يفترض مبدئياً تحليل الإدراك، ذلك أنّ التذكر يتضمن بكيفية عجيبة أنّ المتذكر قد سبق إدراكه. لو اعتبرنا الإدراك مجرداً لذاته لوجدنا أنّ إنجازه القصدي هو الإحضار. فالموضوع يعطي ذاته هنا أصلياً وفي حضوره. لكن في هذا الحضور كحضور لموضوع ممتد وله ديمومة تكمن سلسلة لما ما زال محل وعي، ولما ينمحي في انسياب، وما لم يبق بأي حال معطى بكيفية حدسية تكمن سلسلة من الاحتفاظات، وفي الاتجاه الآخر سلسلة من التطلعات.[1]

العالم وفق هذا المنظور يتأسس على الوعي اليقظ، فتجربة الوعي تصير الوجود المعيش زمانياً، (مكانياً زمانياً) أي تصيره عالماً ممتداً جسمانياً وديمومة، عالماً متموقعاً داخل الزمان والمكان، يتعلق الأمر إذن بالعالم مدركاً كحاضر. فالعالم هنا ليس سوى هذا الحاضر المعيش. إذن، فالعالم يتأسس في تجربة الحاضر باعتباره عالماً للعيش، ووجود عالم العيش وأشيائه هو وجود انطلاقاً منا، ووجود ـ في- وانطلاقاً من حياة وعينا في العالم التي تنساب في وحدة انطلاقاً من صلاحياتنا للوجود التي تندمج مع بعضها بعضاً في وحدة تتعلق بالمضمون التمثلي لعالم العيش. هذا الوجود يغتني انطلاقاً من كوننا ذواتاً أنوية في فعالية دائمة التجدد.[2]

بما أنّ العالم هو عالم مكاني ـ زماني، فإنّ مكانية زمانية حيّة تنتمي إلى المعنى الخاص لوجوده. ومن ثم يركز "هوسرل" على عالم الإدراك باعتباره يقدم بصدد العالم الكيفية الزمانية للحاضر فقط التي تحيل بدورها أفقياً إلى كيفيتي الحاضر والمستقبل. في تكوين معنى الماضي تقوم إعادة التذكر بالوظيفة القصدية، إذا غضضنا الطرف عن أنّ الإدراك ذاته كحاضر لا ينبني إلا لأنّ الواقف له أفق ذو جانبين، يندرجان ضمن عنوانين قصديين هما سلسلة الاحتفاظات والتطلعات. لكنّ هذين الشكلين الجينيين الأولين للتزمين والزمان يظلان في الخفاء.

لكن بفضل إعادة التذكر والانتظار يتم استحضار الماضي والمستقبل وفق كيفية الإحضار، فنتوفر على ماض- يسميه "هوسرل" بالحاضر الماضي- في حدسية أصيلة كموضوع. ككائن تتعدد كيفيات عطائه، في قدومه إلى العطاء الذاتي، ونتوفر كذلك على المستقبل الذي يسميه "هوسرل" الحاضر المقبل، بوصفه التكوين الأصلي للمعنى الذي ينبثق فيه وجود المقبل بما هو كذلك.[3]

إنّ الحاضر ـ كما يوضح "إسماعيل المصدق" مترجم أزمة العلوم الأوروبية ـ مجال له امتداد، في هذا الحاضر الممتد هناك دائماً نقطة تمثل ذروته الفعلية يسميها "هوسرل" الانطباع الأصلي، وحولها هناك هالة مما يهم بالمضي ومما يهم بالقدوم. إنّ ما يهم بالمضي يبقى حاضراً لوعيي مباشرة وهو ينزلق، إني أتوفر عليه وهو يغيب، وذلك بكيفية غير ثيميائية، أي دون أن يتجه انتباهي قصداً نحو الإمساك به وهو ينفلت. وهذه الكيفية يسميها "هوسرل" الاحتفاظ. وبموازاة ذلك فإنّ ما يهم بالقدوم يكون حاضراً مع "الآن"، وهذه الكيفية يطلق عليها "هوسرل": التطلع. بفضل الاحتفاظ والتطلع يكون لدينا لحن ما مثلاً من بدايته إلى نهايته، رغم أننا لا نتوفر في كل لحظة إلا على انطباع أصلي واحد. وهكذا فإنّ كيفيتي العطاء والاحتفاظ والتطلع اللتين تشتغلان بكيفية غير ثيميائية تسمحان بأن يكون وعي الحاضر ممتداً في ذاته. في الاحتفاظ تتكون القدرة على استحضار الماضي بكيفية صريحة. هذا الاستحضار للماضي يسميه "هوسرل" إعادة التذكر لكي يميزه بوضوح عن الشكل الأولي والمباشر للتذكر الذي هو الاحتفاظ.[4] إذن فالحاضر هو الأساس الذي يتوجّه نحوه الزمان، وعلى أساس الحاضر يغدو "التزمين" إنتاجاً للمعنى الذي يمنح الكائن كيفية خاصة تُعدّ بمثابة قاعدة لتجربة الحاضر المؤسسة في عالم العيش.

لا يستقل عالم العيش عن الحاضر الممتد بوصفه مساوقاً ليقظة الوعي والممارسة الفعلية والممكنة، فهذا العالم هو في استحضار بالنسبة للذوات التي تعيش فيه متيقظة، هو دائماً حاضر سلفاً وموجود سلفاً، وهو الأرضية والحقل الشامل للممارسة الفعلية والممكنة. فأن نعيش يعني دائماً حسب "هوسرل" أن نعيش في يقين من العالم. أن نعيش يقظين يعني أن نكون يقظين للعالم، أن نكون واعين دائماً وفعلياً بالعالم وبأنفسنا بصفتنا نعيش في العالم، أن نعيش بالفعل يقين وجود العالم، أن ننجزه بالفعل.[5]

فالحاضر هو القابل للعيش، وهو القابل للإنجاز الفعلي، فهو الذي يسمح بتنوع كيفية إنجاز العيش في العالم، ولهذا التنوع كيفيتان: الكيفية الأولى هي كيفية العيش المباشر في العالم إزاء موضوعات معطاة كلّ مرّة، أي العيش داخل أفق العالم، وذلك في استمرارية عادية غير منقطعة، في وحدة تأليفية تخترق كلّ الأفعال. والعالم المعطى مسبقاً بمثابة أفق يضم في انسيابه كلّ أهدافنا، وغاياتنا العابرة أو الدائمة، والمشمولة بوعي قصدي بهذا الأفق بطريقة ضمنية مسبقاً، فكلّ الموضوعات توجد في الوحدة العادية لأفق الحياة الذي هو العالم الذي تندرج داخله كل أفعالنا؛ أفعال التجربة والمعرفة والسلوك، والتي يرجع مصدرها إلى تأثيرات الموضوعات المعطاة في أفق العالم.

الكيفية الثانية في كيفية عيش غير مباشرة تعتمد تغيير الوعي التيمائي بالعالم يكسر الحياة المباشرة العادية، فالموضوعات ليست معطاة مسبقاً لنا جميعاً، بل هي معطاة لوعينا في كيفيات ذاتية للظهور، أي في كيفيات للعطاء، ومن ثم يكون الاهتمام منصبّاً على الكيفية التي تحصل بها الموضوعات الواقعية الموجودة فعلياً التي وإن كنا نعي كلاً منها في خصوصيته على أنه موجود هكذا ببساطة، فإننا لا نعيه إلا في تغير تصوراته وكيفيات ظهوره، وصلاحياته النسبية. فاهتمامنا يتوجه إذن إلى التغير الذاتي لكيفيات العطاء وكيفيات الظهور، وكيفيات الصلاحية المتضمنة فيها، ذلك التغير الذي ينجز بجريانه الدائم وبربطه التأليفي الذي لا ينقطع خلال انسياب الوعي الموحد "بالوجود" البسيط للعالم.[6]

الكيفية الثانية في تعبير عن موقف انعكاسي متواصل متجه نحو كيفية العطاء الذاتية التي يسمح إنجازها بظهور الموضوعات لنا في عالم العيش، وللتمكن من توجيه الانتباه إلى كيفية العطاء يجب التوقف عن إنجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم، والتحول نحو الملاحظة التي يغدو من خلالها الفينومولوجي غير مهتم أو مشارك، وهذا التوقف عن اتخاذ الموقف هو حال الإيبوخي (Epoché) الذي يميز الموقف الفلسفي عن الطبيعي. فالموقف الفلسفي يندرج تحت الإنجاز (الإيبوخي) الشامل بكيفية مختلفة تماماً يتم خلالها تعطيل الإنجاز الكلي الذي يخترق كلّ الحياة الطبيعية في العالم وكلّ شبكات الصلاحية دفعة واحدة، أي تعطيل جذري لكل صلاحيات الوجود المنتمية للموقف الطبيعي دفعة واحدة، وبفضل ذلك يتم بلوغ تحول كامل في موقف الحياة بأسرها، أي بلوغ كيفية جديدة تماماً للحياة. فمع الإيبوخي Epoché يصبح نظر الفيلسوف متحرراً تماماً، خاصة من ذلك القيد الداخلي الأقوى والأشمل والأكثر خفاء، أي من قيد العطاء المسبق للعالم. ومع هذا التحرر وفيه يتم اكتشاف ذلك التعالق الشامل، المنغلق مطلقاً على ذاته والمستقبل مطلقاً بين العالم ذاته ووعي العالم بما هو وعي الذاتية التي تنجز صلاحية العالم، وبالتالي الذاتية التي تمتلك العالم وتعيد دوماً تشكيله من جديد بكيفية فعالة، كما يتم إبراز التعالق المطلق بين الكائن من كل نوع وكل معنى، والذاتية المطلقة باعتبار أنها تبني في هذه الكيفية الأشمل المعنى وصلاحية الوجود. وبفضل الإيبوخي ينفتح للمتفلسف نوع جديد من التجربة والتفكير والتنظير يكون فيه فوق وجوده الطبيعي وفوق العالم الطبيعي دون أن يفقد شيئاً من معناه وحقائقه الموضوعية.[7]

ربما في تأويلنا يغدو التفلسف من خلال إنجاز الإيبوخي هو كيفية من كيفيات استعادة الحاضر التي تسمح ببلوغ طريقة جديدة ومغايرة تماماً لفن العيش أي للحياة عموماً، يكتسب فيها التحرر من قيد العطاء المسبق للعالم معنى مغايراً، تصير فيه حياة وعي الذاتية بناء متجدداً للعالم بكيفية فعالة تمنحه معنى الحاضر بما هو ظاهرة. وينبغي أن نميز هنا بين حاضر العالم المعطى مسبقاً، وهو الحاضر الطبيعي، الذي يعين الكيفية الأولى الاعتيادية والمباشرة، وما بين الحاضر بما هو كيفية تمنح معنى مغايراً للحياة، معنى يغدو فيه العالم ليس صيغة معطاة مسبقاً، ولكنها صيغة مبتكرة متفتحة على نوع جديد من التجربة والتفكير، وهي صيغة ما فوق الحاضر الطبيعي، بل هي صيغة الوجود الابتكاري أي للحاضر الفعلي المنتسب لوعي الذاتية بما هو تخط للعالم المعطى، وإعادة تشكيل لهذا العالم.

الحاضر وفق تأويلنا لهذا المفهوم يمنح الذات والعالم كيفية جديدة تستعيد من خلالها الذات جرأتها على التحرر من حاضر العالم المعطى مسبقاً بشكل مباشر، وهي جرأة التحرر من أسر العالم بما هي انقلاب على الموقف الطبيعي، كما يستعيد من خلالها العالم معناه الذي تمنحه إياه الذاتية التي تصير العالم أرضية للإنجاز الخلاق، لفكر يبتكر العالم، الذي يغدو فضاء زمانياً- مكانياً للتأسيس، أي لتاريخية جديدة للوجود البيإنساني، والمقصود التاريخية الداخلية لكلّ الأفراد، ولهؤلاء كأشخاص فرديين في تاريخيتهم الداخلية المجتمعة مع تاريخية الأشخاص الآخرين. أي "أن نأخذ بعين الاعتبار ذوات التاريخية، الأشخاص الذين ينجزون التكوين الثقافي مشتغلين بكيفية كلية: الإنسانية الشخصية المنجزة".[8]

ففي الحياة المشتركة يمكن لأي واحد أن يشارك في حياة الآخرين. وهكذا فإنّ العالم عموماً ليس موجوداً بالنسبة للبشر كأفراد فقط بل بالنسبة للجماعة البشرية، وذلك حتى من خلال اجتماع ما يعطى في الإدراك البسيط.[9]

يتأسس داخل هذه الحياة المشتركة تفاهم متبادل تدخل فيه تجارب الذات ومكتسباتها في علاقة مع تجارب الآخرين، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الانسجام بين الذوات في صلاحياتهم، وبالتالي تحقيق الوحدة بين الذوات، ورغم تعددية الصلاحيات وما هو فيها موضع صلاحية، فإنه يتم الحصول على اتفاق بتجاوز التنافرات. وبفضل ذلك أي بفضل الوعي الجماعي بين الذوات يكتسب العالم الواحد ذاته كعالم معطى جزئياً سلفاً في التجربة، وجزئياً كأفق مفتوح لتجارب ممكنة للجميع صلاحية دائمة يحافظ عليها باستمرار، أي بوصفه عالماً هو بمثابة الأفق الشامل للأشياء الموجودة والمشترك بين جميع الناس، فالذوات التي تشارك في هذه التجربة تعرف أنها تعيش في أفق البشر المتعايشين معاً، والذين بإمكان كلّ واحد منهم أن يدخل معهم في علاقة فعلية أحياناً أو في علاقة ممكنة أحياناً أخرى، وهم منتمون إلى نسق كلي للعالم يستوعب التعدديات، التي يعيها كل فرد لذاته في التجربة الفعلية للشيء نفسه بصفتها هي دائماً كأفق للتجربة الممكنة لهذا الشيء.[10]

فالشيء نفسه يمكن إدراكه من طرفنا من جانب أو منظور معين كما يوضح "إسماعيل المصدق"، أي أنّ كلامنا ينجز فعلياً كيفية لعطاء الشيء نفسه تختلف عن الكيفية التي ينجزها الآخر فعلياً، لكن الكيفية التي أنجزها الآن فعلياً تحيل إلى تعددية من الكيفيات التي بإمكاني إنجازها، والتي ينجز الآخر فعلياً إحداها.

إنّ أفق تجربتي الفعلية يحتوي الكيفية التي ينجزها الآخر بالفعل، إنني أكون على وعي بأنّ كيفية العطاء التي ينجزها الآخر فعلياً قائمة رهن إشارتي رغم أني لا أنجزها الآن فعلياً.[11]

الشيء ذاته وحدة للتعددية المفتوحة اللانهائية لتجربة الذات وأشياء تجربتها المتغيرة وكذلك لتجارب الآخرين وأشياء تجربتهم المتغيرة، كلّ تجربة عينية فعلية تنفذ مساراً منسجماً مع كيفيات العطاء المنتمية لهذه التعددية الكلية يملأ باستمرار قصدية مجربة، لكن هذه التعددية تنتمي هي ذاتها كأفق لمسارات يمكننا تنفيذها في مقابل المسارات الفعلية، إلى كلّ تجربة، وبالنتيجة إلى القصد الذي يسري مفعوله فيها، هذا القصد هو بالنسبة لكل ذات الأنا أفكر (cogito) الذي يكون مفكره (cogitatum) من حيث ماهيته وكيفيته هو كيفيات العطاء.[12]

إذن تكون لدينا بتعبير ديكارت ثلاثة عناوين: الأنا ـ فعل التفكير ـ المفكر.

توازيها كيفيات مختلفة للقصدية كعنوان عام: الاتجاه نحو شيء ما، تجلي شيء ما، وشيء ما له طابع موضوعي يمثل في تجلياته وحدة، وما يتجه نحوه، عبر هذه الأخيرة، القصد المنبعث من القطب الأنوي. في المقام الأول هناك عالم العيش المعطى ببساطة في البداية، والمعطى في الإدراك بصفته عادياً موجوداً بكيفية بسيطة في يقين محض من الوجود دون انقطاع، لكنّ عالم العيش يصبح العنوان القصدي الأول بالنسبة "لهوسرل" بفضل اهتمامه الجديد، أي بفضل الأيبوخي الصارم، حيث يغدو عالم العيش مؤشراً خيطاً موجهاً للتساؤل الارتدادي عن تعدديات كيفيات الظهور وبنياتها القصدية، هذا الاتجاه الجديد يقود في الدرجة الانعكاسية الثانية إلى القطب الأنوي وما يخصّ هويته.[13]

هنا يشير "هوسرل" فقط إلى التزمين الخاص بالقطب الأنوي، كأنّ له ديمومة يبني ذاته في كيفياته الزمانية الأنا نفسه، الحاضر الآن بكيفية فعلية هو في كلّ ماض ينتمي له آخر بكيفية ما، أي أنه بالذات ما كان وما ليس هو الآن، ومع ذلك فهو في استمرارية زمنه الأنا الواحد ذاته، الذي يكون وكان الذي له مستقبل أمامه، فيستطيع أن يتواصل هذا الأنا الحالي مع أناه الماضي الذي ليس هو بالذات الأنا الحالي، وأن يدخل في حوار معه، وأن يوجه له نقداً كما يوجهه للآخرين.[14]

يدخل "هوسرل" شرطاً أساسياً هو الذاتية المشتركة التي بدونها يتعذر على أن تكون الذاتية هي ما هي، كما يتعذر عليها أن تلعب دور البناء، فالذاتية المشتركة هيئة اجتماعية إنسانية، مكانية لكلّ الذوات الأنوية.

إنّ الأنا يبني أفقه للآخرين الترنسندنتاليين كذوات شريكة للذاتية المشتركة الترنسندالية البانية للعالم. وهذه الأنا هي المنجزة للإيبوخي الذي بموجبه تندرج حياة الناس الآخرين وأفعالهم في ظاهرة العالم التي هي ظاهرة الأنا. فالإيبوخي ينجز عزلة فلسفية، لكنّ الأنا في هذه العزلة ليس فرداً منعزلاً، فهو مازال يعتبر نفسه منتمياً للجماعة البشرية، "أنا" لست واحداً، مازال يتوفر "أنت" ـ المنتمي إليه، ـ ونحن ـ المنتمين إليه ـ، ومجتمع الجماعة الكلية للذوات المتعايشة معه على صلاحية طبيعية بالنسبة له.[15]

إنّ الأنا الممارس للإيبوخي هو ذاته أنا الكوجيتو الديكارتي بعد إعادة تأويله نقدياً، أنا يسائل العالم الذي له صلاحية بالنسبة له في وجوده وكيفية وجوده مع كلّ البشر الذين يضمهم العالم الذي يتيقن منه الأنا ويسائله كظاهرة.

يمكن للتأويل الذاتي للإيبوخي أن يظهر كيف يبنى الأنا الوحيد دائماً في حياته الأصلية البانية التي تجري فيه دائرة أولية للموضوعات، وكيف يقوم بإنجاز بنائي يأخذ بفعله تعديل قصدي له ولأوليته صلاحية الوجود تحت عنوان "إدراك الآخر" أنا الآخر، هو بالنسبة لذاته أنا مثلي، أنا ذاتي.[16]

يتخطى الأنا دائرته الأولية نحو الآخر، بتحفيز الإدراك الذي يجعل الأنا يتمثل الآخر الذي يشاركه في الحضور، وهي خطوة أساسية لبناء الذاتية المشتركة.

يغدو الحاضر في هذا التأويل نسقاً مبنياً يبني داخله الأنا الحالي كيفيات الحضور، في الحاضر يتحدد شكل الأنا الحالي الذي يبني الآخر أيضاً باعتباره يقاسمه المعيش المشترك الحاضر.

فانطلاقاً من التأويل الترنسندالي لإعادة التذكر، تفهم أنّ المتذكر من جديد أي الماضي، ينتمي إليه أيضاً أنا ماض هو أنا ذلك الحاضر، في حين أنّ الأنا الفعلي الأصلي هو أنا الحاضر الحالي الذي تنتمي له، إضافة إلى ما يظهر كدائرة للأشياء الحاضرة، أيضاً إعادة التذكر كمعيش حاضر، إنّ الأنا الحالي يقوم إذن بإنجاز ينبني فيه شكل تعديلي له هو ذاته كموجود (في كيفية الماضي). ومن هنا يمكن أن نتابع كيف يبنى الأنا الحالي، الحاضر على الدوام في انسيابه ذاته، في تزمين ذاتي بصفة يدوم عبر مواضيه. وبالمثل فإنّ الأنا الحالي أنا الدائم سلفاً في الدائرة الأولية الدائمة يبني في ذاته آخر كآخر. إنّ التزمين الذاتي عن طريق نزع الحضور يماثله اغترابي...هكذا يتخذ أنا آخر فيّ أنا صلاحية الوجود كمشارك في الحضور مع كيفيات إثباته البداهي التي تختلف تماماً كما هو واضح عن كيفيات الإدراك الحسي.[17]

يمكن أن نؤول الأنا هنا بوصفه منبعاً للحاضر، الحاضر الدائم في انسيابه، الذي يغدو من خلال التزمين الذاتي كيفية من كيفيات الحضور التي من خلالها يمتلك الأنا وعيه بمعيشه الحاضر الحالي، ووعيه بالمعيش الماضي من خلال إعادة التذكر، وبالمثل فإنه يستحضر في ذاته الآخر باعتباره مشاركاً له في الحضور فلا يمكن الفصل بين الوعي بالذات والوعي بالآخر. وهذا التأويل يُعدّ أساسياً في بناء الذاتية المشتركة التي هي حاضر البشرية وحاضر العالم، "إنني أوجد واقعياً في حاضر هو حاضر البشر المتواجدين معي وفي أفق مفتوح للبشرية، وإنني أعرف ذاتي واقعياً في سياق الأجيال، في تاريخية تمثل تياراً موحداً يكون فيه هذا الحاضر هو حاضر البشرية وحاضر العالم الذي نعيه، الحاضر التاريخي المرتبط بماض تاريخي وبمستقبل تاريخي. إنني أستطيع وهمياً وفي حرية أن أعدل وعي العالم، لكن هذه الصورة لتعاقب الأجيال وللتاريخية لا يمكن أن تنمحي، وكذلك الأمر بالنسبة للصورة المنتمية لي كأنا فردي، صورة حاضري الإدراكي الأصلي كحاضر مرتبط بماض يمكن تذكره وبمستقبل يمكن ترقبه.[18]

يتأسس معنى الحاضر في الوجود المشترك أو الوجود مع الذي يحيل إلى عالم بيإنساني interhumain تكون قطبه الأنا، باعتبارها أنا الفرد الذي يعي كل الفرديات الأخرى باعتبارها أنات أخرى، فلدى كلّ أنا كما لدى أنا أخرى انطلاقاً من ذاتيهما عالم من منظور معين يفترض آخرين، بحيث إنّ كلاً منهم يتوفر انطلاقاً من ذاته على آخرين يتوفرون بدورهم على آخرين، فكلّ ذات لها عالم عيشها الذي تعتقد أنّه عالم الجميع. وكل فرد يتوفر عليه بمعنى قطب موحد لعوالم تقصد بكيفية ذاتية نسبية، تصبح في تبادل التصحيح مجرد تجليات للعالم، لعالم عيش الجميع، للوحدة القصدية التي تبقى دائماً قائمة، والتي هي ذاتها مملكة للفرديات للأشياء.[19]

فمعنى العالم ينبني داخل سياق التداخل القصدي وليس خارجه، فلا وجود أبداً بالنسبة للذوات في ماهيتها الخاصة، لفصل قائم على التخارج، كما يتبين في الإيبوخي الشامل الذي يفهم ذاته حقيقة. هكذا يتحول العالم الموجود ببساطة وتتحول فيه الطبيعة الموجودة إلى ظاهرة مشتركة عامة هي العالم. "العالم بالنسبة لكلّ الذوات الفعلية والممكنة، التي لا يمكن لأحدها أن ينفلت من التضمن القصدي الذي ينتمي بمقتضاه مسبقاً إلى أفق كلّ ذات.[20] أي أنّ كلّ الذوات تشكل وحدة واحدة للقصدية في تضمن متبادل لتيارات حياة كلّ ذوات فردية، فالآخرون يتحولون من بشر موجودين بالنسبة للأنا الذاتي إلى أنات أخرى موجودة يتخذ وجودها معنى متضمنات قصدية لحياة الأنا القصدية الأصلية.

والعكس صحيح، فالأنا الذاتي متضمن في الآخرين مع كلّ حياته الأصلية، وهم كذلك متضمنون في بعضهم البعض، ومن ثمة فإنّ السيكولوجيا الخالصة تتعلق بالتداخل القصدي للذوات، ولحياتها الترنسندنتالية ويتحقق في الشكل المتوجه حوالي، فلا يمكن أن أبلغ البنيات الماهوية للحياة الأصلية إلا إذا حصرت في التمعن الذاتي الأيجولوجي egologie دائرتي الأصلية وكشفت في نسيجها تأليفات ومتضمنات قصدية في درجاتها للتعديل القصدي، وفي الوقت نفسه إذا عطلت بكيفية منهجية، في نوع من الإيبوخي داخل الإيبوخي، كلّ استشعاراتي ولم أحتفظ بها إلا بصفتها معيشاتي، عندما أعطي الصلاحية للاستشعار تصبح تلك البنيات ماهوية لكلّ أنا ـ آخر يمكن تصوره، وهكذا تبرز مشاكل الجماعة الكليّة التي تمّ إنتاجها بفضل الاستشعار وأشكالها الخاصة الماهوية... أي كبنيات ماهوية للتاريخية البشرية التي تعطي بنيات جماعة ترنسندنتدالية من الذوات التي تعيش اجتماعياً قصدياً في هذه الأشكال العامة والخاصة، وتحمل في ذاتها العالم كمعالق قصدي للصلاحية، وتستمر دائماً في إنتاجه في أشكال ودرجات العالم الثقافي المتجدد دوماً.[21]

العالم من هذا المنظور هو عالم مشترك يتوفر بالضرورة على صلاحية الوجود، وبما أنّ الوجود الإنساني بالنسبة "لهوسرل" هو وجود في أفق الإنسانية الواحدة، وبما أنّ هذا الوجود يعي هذا الأفق بكيفية حيّة بوصفه أفقاً للزمان متضمناً في أفق الحاضر، فإنّ معنى ذلك ليس سوى أنّ الوجود الإنساني هو الوجود في الأفق التاريخي، ومن ثمة وجب الأخذ بعين الاعتبار الذوات التاريخية، أي الأشخاص الذين ينجزون التكوين الثقافي والمشتغلين بكيفية كليّة: الإنسانية الشخصية المنجزة.[22]

أمّا الحاضر بالنسبة "لهوسرل" فهو الأول في ذاته تاريخياً، هناك سلفاً معرفة بالعالم الحاضر الذي تعيشه الإنسانية في أفق مفتوح موجود مسبقاً وهو قابل للتأويل، كما أنّه يحفز على معرفة المجهول، فكلّ جهل يتعلق بعالم مجهول موجود سلفاً بالنسبة لنا كونه عالماً، كونه أفقاً لكلّ أسئلة الحاضر وبالنتيجة أيضاً لكلّ الأسئلة التاريخية النوعية، إنّها أسئلة تتعلق بالناس من حيث إنهم في اجتماعهم مع بعضهم بعضاً في العالم يفعلون ويبدعون ويغيرون دائماً من جديد الوجه الثقافي الدائم للعالم.

يغدو الحاضر وفق هذا الأفق المفتوح أرضية لابتكار جديد للحياة، الابتكار الذي يدخل التغيير في طلب كلّ فعل إبداعي يمنح شكلاً متجدداً للعالم بما هو ابتكار للحاضر التاريخي.

إنّ هذا الحاضر وما يتضمنه من زمان تاريخي ينتمي لإنسانية موحدة-واحدة تاريخياً، موحدة بفضل ترابطها أي في اجتماعها المتبادل الذي تشترك فيه الذوات. فالبشرية الإنسانية تعنى عموماً أن نكون بشراً في أشكال بشرية مترابطة من خلال الأجيال والعلاقات الاجتماعية، وإذا كان الإنسان حيواناً عاقلاً، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا كانت إنسانيته كلها عاقلة، سواء كانت متوجهة نحو العقل أو نحو الكمال الذي يتجلى لذاته، وأصبح موجهاً بكيفية واعية للصيرورة البشرية.[23]

تجلي العقل لذاته يمنح الحاضر البشري أفقاً شاملاً للمعنى، للكائن في ذاته بوصفه ابتكاراً فلسفياً يرفع الإنسان إلى درجة جديدة، في تاريخية جديدة للحياة الإنسانية التي يتمثل كمالها الأول في هذه الفكرة الجديدة والممارسة الفلسفية التي تشرع في فهم ذاتي عميق للأنا المتفلسف الحامل للعقل المطلق المتجلي لذاته، وتكتشف في الآن ذاته الذاتية المشتركة المطلقة وكيفية وجودها العيني في حياة ترنسندالية تبني العالم باستمرار، وهو ما يعني فهم الإنسان أخيراً بصفته مسؤولاً عن وجوده البشري الخاص.[24] ذلك لأنّ هذا الوجود هو وجود غائي بحسب ما يقتضيه الواجب، وهو ما يعني أنّ الغائية تسود في كل فعل ومشروع أنوي.

يقتضي الأمر هنا إرجاع العقل إلى الإنسان، بما هو تأسيس لوجود إنساني مشترك تغدو فيه المسؤولية بناء للحاضر داخل الحياة اليقظة.


* يندرج هذا المقال ضمن مشروع كتاب حول الفلسفة والحاضر في تجربة التفلسف.

[1]- إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومونولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 251

[2]ـ أزمة العلوم...، ص 454

[3]ـ نفسه، ص 264

[4]ـ المرجع نفسه، هامش الصفحة 252

[5]ـ المرجع ذاته، ص 229

[6]ـ المرجع ذاته، ص 233

[7]ـ المرجع ذاته، ص 241

[8]ـ المرجع ذاته، ص 434

[9]ـ المرجع نفسه، ص 256

[10]ـ المرجع نفسه، ص 257

[11]ـ المرجع نفسه: إشارة المترجم، ص 258

[12]ـ المرجع نفسه، ص 262

[13]ـ المرجع ذاته، ص 268

[14]ـ المرجع ذاته، ص 269

[15]ـ المرجع ذاته، ص 284

[16]ـ المرجع ذاته، ص 286

[17]ـ المرجع ذاته، ص 287

[18]ـ المرجع ذاته، ص 370

[19]ـ المرجع ذاته، ص 372

[20]ـ المرجع ذاته، ص 373

[21]ـ المرجع ذاته، ص 377

[22]ـ المرجع ذاته، ص 434

[23]ـ المرجع ذاته، ص 57

[24]ـ المرجع ذاته، ص 393