لقاء حواري مع د. يوسف أشلحي حول كتابه "الذات والنسق: مسائل البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيغل"

فئة :  حوارات

لقاء حواري مع د. يوسف أشلحي حول كتابه "الذات والنسق: مسائل البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيغل"

لقاء حواري مع د. يوسف أشلحي

حول كتابه "الذات والنسق: مسائل البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيغل"

الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود

وحول مجمل فكره وأعماله عمومًا

" من يريد قراءة هيجل، عليه أن يستحضر الفلاسفة الذين سبقوه كذلك؛ إذ لا يمكن مقاربة هيغل دون استحضار من مهدوا الطريق أمامه"

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير للجميع، وأهلًا بكم في لقاء جديد من سلسلة لقاءات "مؤمنون بلا حدود"، ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب في الرباط. يسعدنا اليوم أن نستضيف الدكتور يوسف أشلحي، لمناقشة كتابه "الذات والنسق: مسائل البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيغل". ولن يقتصر هذا اللقاء على مضمون الكتاب فحسب، بل سيتناول أيضًا ما سبقه وما تلاه، علمًا أن الكتاب قد صدر سنة 2019 عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود".

بدايةً، مساء الخير دكتور يوسف، وشكرًا جزيلًا لك على تلبية الدعوة. وأهلًا وسهلًا بك معنا.

د. يوسف أشلحي:

مساء الخير أستاذ حسام الدين، وسعدتُ بهذا اللقاء الحواري معك حول موضوع الكتاب وقضايا أخرى تتقاطع مع الهموم والانشغالات الفلسفية، سواء تعلق الأمر بتأليف الكتب، أو البحث الأكاديمي، أو الترجمة، أو حتى التدريس، بصفتي أستاذًا للفلسفة الحديثة والمعاصرة، وخاصة في مجال تخصص الفلسفة.

د. حسام الدين درويش:

إذن أنت الآن أستاذ لمادة الفلسفة؛ في أيّ جامعة، وأيّ مدينة؟

د. يوسف أشلحي:

أُدَرِّسُ مادة الفلسفة الحديثة والمعاصرة بشعبة الفلسفة، في كلية متعددة التخصصات بالناظور، التابعة لجامعة محمد الأول.

د. حسام الدين درويش:

مرحبًا بك، عادةً في مثل هذه اللقاءات الحوارية، أبدأ بسؤالٍ تقليديٍّ عن قصة الكتاب، ومضمونه، وأطروحته الأساسية. لكن سأبدأ قبل ذلك بسؤال آخر. يُنسب إلى دوستويفسكي القول إن جميع الأدباء الروس خرجوا من معطف غوغول. وثمة من يرى أن جميع الفلاسفة المعاصرين قد خرجوا من معطف هيغل، مع أن هناك من يرى أنه لا مفر للفيلسوف من البقاء في هذا المعطف؛ أي لا يمكنه أن يكون خارجه، بصرف النظر عن كونه مؤيّدًا أو معارضًا أو ناقدًا له. ضمن هذا السياق، كيف دخلت في هذا المعطف أو الموضوع؟ ولماذا اخترته؟ أو كيف قررت الخوض فيه؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، سأنطلق من شهادتك الأخيرة، وهي في الحقيقة ما قاله أيضًا بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل إبولي، وميشيل فوكو، حين قالوا صراحة: "أن تكون مع هيغل أو ضدّه، فلا يمكنك أن تفكر دونه"، وهي عبارة تعبّر بوضوح عن منزلة هذا الفيلسوف، وعن إسهامه وتأثيره، سواء في سياق عصره أو في ما تلاه، خصوصًا بالنسبة إلى الهيغلية الجديدة؛ فقد كان شأنه في ذلك شأن كانط وكبار الفلاسفة المثاليين عمومًا.

وإن اختياري للاشتغال على هيغل، وفي موضوع حصري محدّد، له دوافعه وبواعثه التي سأبيّنها على وجه التحديد؛ ذلك أن، من يريد قراءة هيغل، لا بد له من استحضار الفلاسفة الذين سبقوه كذلك؛ إذ لا يمكن مقاربة هيغل دون الالتفات إلى من مهّدوا الطريق أمامه، سواء أولئك الذين مهَّدوا بتأسيس الأنساق الفلسفية الكبرى، أو من أسسوا لها، ومنهم كريستيان فولف، لكن الأهم هم الفلاسفة النسقيون الكبار، وعلى وجه الخصوص "كانط"، و"فيخته" في نظرية العلم، ثم شلينغ. فهؤلاء جميعهم، لا بد من استحضارهم عند الاشتغال على هيغل أو قراءته؛ لأن نسقه الفلسفي بُني في حوار وتفاعل فلسفي مع أفكارهم وتصوراتهم.

د. حسام الدين درويش:

أذكر في مسألة قراءة هيغل، قولًا لإمام عبد الفتاح إمام - وقد كان كما تعلم من أبرز المهتمين والمختصين ﺑهيغل، ومن الذين ترجموا له وأولوه عناية كبيرة - في مقدمة المعجم الفلسفي، حيث تحدث عن تجربته مع قراءة هيجل، وقال إنه أمضى عامين في قراءته دون أن يفهمه، ثم تبيّن له أنه كان يقرأ هيغل من خلال مفاهيم أرسطية أو برؤية أرسطية، دون أن يدرك الاختلاف أو التمايز بين مفاهيم هيغل ومفاهيم أرسطو. فمثلًا، هناك فرق كبير بين مفهوم "المجرد" عند هيغل ومفهوم "المجرد" عند أرسطو، رغم تشابه التسمية. بهذا المعنى، كيف كانت تجربتك في قراءة هيغل؟ هل مررت بتجربة مماثلة أو بما يشبهها، أم إنك كنت ملمًّا منذ البداية بالأدوات المنهجية والمفاهيمية والقراءات الأولية التي مكنتك من سلوك طريق الفهم بثقة أكبر؟

د. يوسف أشلحي:

بالنسبة إلى هيغل، لا يمكن لأحد أن يستهين أو يستسهل متنه أو قراءته. شأنه في ذلك شأن كبار الفلاسفة المثاليين الألمان، كما تعلم، مثل "فيخته" وشلينغ. وقد قلتُ سابقًا إن الأمر ليس ميسّرًا؛ لأن ثمة صعوبة حقيقية تستوجب المرور بتجربة فكرية عسيرة لفكّ شفرات أفكار هيجل، التي تتسم بالترابط والعمق الكبير. لذلك، أؤكد ضرورة العودة إلى من سبقوه؛ فلا يمكن قراءة هيغل بمعزل عن ذلك؛ إذ إن الحوار الذي يُجريه مع تاريخ الفلسفة، وخاصة مع الفلاسفة المثاليين، قد يُسهم في تذليل بعض الصعوبات، ويكشف صورة أولية قد تُعين على فهم أفكاره والإلمام بها. أما بالنسبة إلى فيلهلم فريدريش هيغل، فسنتحدث عنه لاحقًا؛ إذ إن موضوعي في هذا الكتاب يتناول ما سبق أن طرحتُه، وسأبيّن أهميته في ما سيأتي.

د. حسام الدين درويش:

أودّ منك أن تشرح لنا قصة هذا الكتاب؛ كيف بدأ منذ بدايته وحتى نشره عبر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود». من جهة أخرى، تؤكد أهمية قراءة هيغل في ضوء، أو انطلاقًا من، معرفة مسبقة بقراءات لفلاسفة أو مفكرين سابقين. فماذا عن القراءات اللاحقة؟ أنت تعلم أن هناك العديد من القراءات ﻟهيغل، يمينية ويسارية ومختلفة؛ فما أهمية أن تكون مطَّلعًا على هذه القراءات اللاحقة، مثل قراءة ماركس وكيركغورد ونيتشه وهايدغر ... إلخ؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، وكذلك أولئك الذين حاوروا هيغل وتفاعلوا معه نقديًّا في سياق عصره، مثل "كارل ماركس"، إضافة إلى ممثلي اليمين الهيغلي أو اليسار الهيغلي، من برونو إلى شوبنهاور وشتاينر، فهؤلاء يعدّون من أعلام الفلسفة، ولا يقتصر الأمر على المدرسة الهيغلية الجديدة، خاصة في امتداداتها اللاحقة في ألمانيا وفرنسا، مع أسماء بارزة مثل إبوليت، وألكسندر كوجيف، وإريك فايل، وغيرهم من أعلام الفلسفة المعاصرة. كل ذلك يشكل مدخلًا مضيئًا ومهمًّا، ولا سيما ما كتبه ألكسندر كوجيف. وأنت تعلم أيضًا أن اهتمام الفلاسفة الجدد في ألمانيا ﺑهيغل اليوم لا يقتصر على تفسيره، بل يتعدّاه إلى عودة إبداعية واستئنافية تُسهم في بلورة مفاهيم فلسفية جديدة.

د. حسام الدين درويش:

لا تكون الفلسفة إلا استئنافًا؛ فهي عودة، ولكنها عودة تقدمية، عودة بنائية، لا تكرارية.

د. يوسف أشلحي:

نعم، وخاصة في ما يتعلق بالمرحلة الحاسمة، وهي المرحلة التي خُصَّ بها هذا الكتاب من حيث النظر، والبحث، والإجلاء. إنها المرحلة التي تُمثّل طورًا من أطوار القول الفلسفي الأساسي، وهو الطور الذي لم أشتغل فيه على الأطوار الناضجة الأخرى بعد. ولعلّ هذا ما يميز هذه المساهمة الفلسفية عن غيرها من المساهمات العديدة في العالم العربي والإسلامي. فكثيرون سبق لهم أن اشتغلوا على هذا المتن، نذكر منهم على سبيل المثال عبد الفتاح إمام، الذي قام بترجمات عديدة، كما اهتمّ آخرون بالبحث في المتن الهيغلي، أمثال ناجي العونلي في تونس، والأستاذ فتحي المسكيني، وغيرهم. ويمكن أن نذكر أيضًا عبد السلام بنعبد العالي، الذي له انشغالات سابقة بهذا الفكر، وكذلك محمد الشيخ، خصوصا في ما يتعلق بفكرة الحداثة.

د. حسام الدين درويش:

كيف ومتى بدأتُ العمل على هذا الكتاب؟ وكيف تطوّر المشروع حتى أنجزتَ كتابًا متكاملًا؟

د. يوسف أشلحي:

في الحقيقة، سأتحدث معك الآن عن المرحلة التي شهدت بداية اهتمامي الجادّ بالمتن الهيغلي. كان هذا الانشغال في الأصل مشروعًا أكاديميًّا، تمثل في أطروحة دكتوراه أنجزتها حول فكر هيغل تحديدًا. صحيح أن الفكرة الأولى لم تكن ناضجة أو مكتملة، ولم أكن قد بلورتُ تصورًا واضحًا للدخول إلى عالم هيغل، ولم أتوجّه إليه بدافع شرح أو تكرار ما قيل فيه، بل كانت هناك حيرة وتساؤل عمّا إذا كان هذا المشروع محمودًا من حيث المبدأ، خاصة في بداياته، حيث كان الطريق غير واضح المعالم.

لقد تساءلت كثيرًا: كيف يمكنني مقاربة هذا المنجز الفلسفي الضخم؟ وهل سيكون إقدامي على خوض غمار فكر هيغل مجرد اجتياز عابر، أشبه بزيارة طارئة؟ أم إن الأمر يتطلب موقفًا فلسفيًّا؟ ما الذي ينبغي لي تقديمه بالضبط؟ وكيف يمكنني تقديم هيغل، ليس بتكرار ما قيل عنه، بل من خلال تحليلات وقراءات خاصة لمتنه، وفي ما كُتب عنه أيضًا؟

ومن خلال هذه القراءات، بدأت ألحظ أهمية بعض الدراسات، ومن بينها دراسة أظن أنها كانت أطروحة دكتوراه للأستاذ ناجي العونلي، التي تناول فيها الفترة المبكرة من فكر هيغل، وتحديدًا قبل طور يينا؛ أعني أطوار برن وتوبينغن وفرانكفورت ما بين عامي 1792 و1800؛ أي قبيل المرحلة الحاسمة. أما أنا، فقد اخترت أن أشتغل على طور يينا؛ أي المرحلة الممتدة تقريبًا من عام 1801 حتى عام 1807.

د. حسام الدين درويش:

لماذا هذا الاختيار تحديدًا، وما علاقته بالموضوع؟

د. يوسف أشلحي:

لأنني وجدت هذه المسألة، مسألة الثورة، وهذه الفترة المبكرة، فترة حاسمة في تأسيس نسق هيغل. فقد كنتُ أرغب في توضيح ما عُهد عن هيغل من النسق الفلسفي الذي بناه بشكله الواضح، المتكامل الأضلاع والأسس، في المراحل اللاحقة، خاصة في طور برلين، بدءًا من سنة 1817 أثناء إقامته وتدريسه في جامعة برلين وحتى 1831. كان في الحقيقة نسقًا جاهزًا وناجزًا، كما وُطّد في موسوعة العلوم الفلسفية، كما تعلم. ويُقال إن هذا النسق يبدأ، أو يمكن تأريخه، مع صدور كتابه المهم "فينومينولوجيا الروح" سنة 1807.

د. حسام الدين درويش:

لكن هذا الكتاب - "فينومينولوجيا الروح" - هو الكتاب العمدة، بمعنى ما؟

د. يوسف أشلحي:

كان رهاني هو أن أفنّد هذا الأمر أو أُعاكسه، وأعتبر أن كتاب "فينومينولوجيا الروح" هو النضج، نوعًا ما، بل تتويج لبناء النسق الذي بدأ حثيثًا، حين حلّ معيدًا ومحاضرًا في جامعة يينا، التي كانت آنذاك معقل الفلسفة في ألمانيا، ومعقل الرومانسيين كذلك. زامل فيها شلينغ وشليغل، وحتى "فيشته" كان في تلك الجامعة قبل أن يغادرها، وهي الجامعة التي نالت هذه الأهمية في أواخر القرن التاسع عشر.

قلتُ إن هذا النسق بدأ ينضج في هذه الفترة، حيث بدأه مبكرًا بكتاباته الأولى، خصوصًا "الإيمان والمعرفة" (Glauben und Wissen)، ثم كتاب لاحق حول "الفرق بين نسقي "فيشته" و"شلينغ" في الفلسفة"؛ إذ بدأ مشروعه الفلسفي أو مسيرته الفلسفية بمناظرة راهِن الفلسفة المثالية الألمانية آنذاك. لهذا، لا يمكن فهم بعض أفكار هيغل النسقية، أو نسقه الفلسفي، إلا في ضوء استحضار أنه كان، منذ البداية، يخوض مناظرات مع هؤلاء الأقطاب الكبار من الفلاسفة المثاليين، مع شعور من التهيّب أو التحاشي أحيانًا، خصوصًا في فترة كان فيها معجبًا بالفيلسوف شلينغ، الذي كان صديقًا له ويعدّه قمة في التفلسف.

في تلك المرحلة، تهيّب من أن يخوض معه نقدًا مباشرًا أو حوارًا فلسفيًّا نقديًّا، ووجّه نقده بشكل خاص إلى نسق فيشته وما يُعرف بالمثالية الذاتية (subjektiver Idealismus)، التي تتدرج نحو المثالية الموضوعية، والتي كان شلينغ يمثلها تحديدًا.

إذن، قلت إن مشروع نسقه الفلسفي سيبدأ بهكذا حوار نقدي. يباشر حوارًا نقديًّا حتى حدود سنة 1803. وبعد النقد يطرح تصوّره أو مشروعه الخاص، في ما يعرف بمخطوطات يينا النسقية (Jenaer Systementwürfe)، التي نُشرت في مجلة نقدية، وقد كنتُ سابقًا أعتمد على النشرة العادية المنشورة عن دار زوركامب، ضمن عشرين جزءًا. ولهذا، قلت إن هناك تقاطعات أعانتني على إنجاز هذا التصور واكتماله، ومنها إقامتي في جامعة كاسل في ألمانيا.

د. حسام الدين درويش:

كم أقمت هناك؟

د. يوسف أشلحي:

في نهاية سنة 2014، حصلتُ على منحة هومبولت برفقة الأستاذ عز العرب الحكيم بناني، واستثمرتُ إقامتي في الجامعة نفسها في العمل على المشروع، حيث استفدت من المنحة وعُدت إلى النشرة النقدية التي ساعدتني كثيرًا في تدقيق عملي وانشغالي. وبالعودة إلى هذه المنشورات، التي تفتقر إليها النسخة العادية، وخصوصًا نسخة زوركامب، نجد في المخطوطة النسقية، بأجزائها الثلاثة أو الأربعة، عرضًا أوليًّا وجنينيًّا قد يكون كافيًا لرصد ملامح نسقه الفلسفي، الذي سيتبلور لاحقًا في كتاب "فينومينولوجيا الروح"، ثم في "موسوعة العلوم الفلسفية"، وبشكل خاص في فلسفة الروح، وفلسفة الطبيعة، والمنطق، بما في ذلك الروح الذاتية والروح الموضوعية.

د. حسام الدين درويش:

طيب، لنقل إن إحدى الأطروحات، أو الأطروحة الرئيسة، هي أن كتابات مرحلة يينا شكّلت لحظةً مركزية في تأسيس النسق الهيغلي. وهذه مسألة خلافية؛ والشائع هو أن كتاب "فينومينولوجيا الروح" يعدّ المرحلة المركزية.

د. يوسف أشلحي:

نعم، ما أوضحتُه هو أن هذه الخطوات تتضمن الأفكار نفسها، ويمكن النظر إليها كخلاصة لما امتد من 1803 إلى حدود 1807؛ إذ بدأ في عام 1806 تحرير كتاب "فينومينولوجيا الروح"، الذي مثّل تتويجًا لتلك الدراسات الأساسية التي بَنى عليها.

د. حسام الدين درويش:

إذا أردنا أن نتحدث عن الأطروحة انطلاقًا من العنوان، كيف يمكن أن نفهمها؟ نحن هنا نتحدث عن كتاب تجاوز 500 صفحة تقريبًا. ومع ذلك، إذا أردنا أن نتحدث عن الأطروحة الأساسية، فما الذي أردت قوله في الكتاب من خلال شرح العنوان: ما الذات، ما النسق؟ ويمكن أيضًا التطرق إلى العنوان الفرعي.

د. يوسف أشلحي:

ربما، قبل ذلك، يمكن القول إن هناك فكرة أساسية قامت عليها الأطروحة، تلتها أخرى اكتشفت في قراءات موازية داخل نسق هيغل. قلت إن هذه مسألة خلافية، نعم، بل أكثر من ذلك، ذهبت - وهذا أمر بيّنته في الخلاصة العامة للكتاب - إلى القول ببناء نسخة فلسفية، تتمثل في فلسفة الروح، المكونة من هذه الأفكار الأساسية أو أركانها الثلاثة المعهودة في نسقه الفلسفي.

كيف ذلك؟ لأن هاجس هيغل كان يتمثل في تجاوز عثرات أو نقائص التصورات الفلسفية التي كانت مطروحة آنذاك، لا سيما المثالية الذاتية، التي ركّزت على نظرية الوعي ضمن منظور استنباطي تسويغي، لكنها بقيت منفصلة عن الواقع. والرهان هو أن يقدم تصورًا فلسفيًّا جامعًا يراهن على المفهوم الكلي، وهو الحق أو الحقيقة، يقول: الحق (Die Wahre) الكل. هذا هو المنظور الذي يتجاوز نقائص الفلسفة أو نقائص الفلسفة المثالية الذاتية، عن طريق نهج تصور فلسفي يسميه الفلسفة التفكرية بالذات، من خلال مناظرة الأنظمة الفلسفية التي كانت سائدة، وخصوصًا نظرية الوعي.

وتطرح نظرية الوعي مفهوم الوعي المجرد، الذي كان يراهن على المصالحة بين العقل والواقع، أو التاريخ والواقع، أو العقل والوجود. تمتاز النظريّة الذاتية، في سياق المثالية أو المثاليين، بأنها ترسخ هذا الشرخ أو هذه البينونة، أو، بالتعبير الهايدغري المعاصر، هذا البون الأنطولوجي بين الذات والعالم. وكان رهان فلسفة هيغل أن يصالح بينهما.

د. حسام الدين درويش:

في هذا تتجلّى - كما تعلم- روحُ فلسفة هيجل: هذا التركيب، وهذا السلب؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، قلت بالتباين كذلك، وأنا أضع هذا الجديد، هذا المستجد، في فلسفة "هيغل". لكنني، وأنا أقرأ حتى لبعض المعاصرين الرومانسيين، وعلى رأسهم الفيلسوف شليغل - الذي يبدو مغمورًا نوعًا ما - الذي تولّيتُ ترجمة كتابٍ له، فتنبّهتُ إلى صلته ﺑهيغل. الأمر الذي لم يُلتفت إليه حتى من قِبل بعض الباحثين الألمان المشتغلين حول المتن الفلسفي الهيغلي: وهذا ما اكتشفته في محاورة مع مختصّ، يُدعى ديرك شتيدروث (Dirk Stederoth) الذي أنجز أطروحة مهمة حول نظرية المعرفة عند هيغل، وكان يدرس في الجامعة نفسها. فقد أقرَّ بأنه "ليس على علم بهذا، وبالتحديد، مسألة تأثّر هيغل بالرومانسيين". هذا أمر معروف، ولكنني قصدتُ هذا الفيلسوف بالذات: شليغل، وفي هذا الكتاب بالذات الذي يحمل عنوان "الفلسفة المتعالية" (Transzendentalphilosophie)

كان هذا الكتاب، في الحقيقة، محاضرة أُلقيت في جامعة يينا، ومن اللافت أن شليغل كان يُحاضر هناك سنة 1801، وفي الوقت نفسه، التحق هيغل بالجامعة نفسها، بل وفي بعض المراسلات والنصوص، أقرّ بأنه دخل إلى محاضرات شليغل وأنصت إليها؛ أي إنه كان يستمع إليه. هذه المحاضرة أُلقيت في جامعته، ثم وُضعت جانبًا ونُشرت، فتولّيتُ نقلها إلى العربية. وهو الكتاب المعنون ﺑ "الفلسفة المتعالية"، الذي صدر عن منشورات المتوسط - إن شئتَ، يمكننا الحديث عنه- لكنني سأبيّن الآن صلته ﺑ "هيغل". فأنا، أثناء قراءتي ﻟ شليغل، لاحظت أنه قَدّم نسقًا فلسفيًّا؛ أي إنه يقدم نفسه كصاحب نسق فلسفي، وليس مجرد "ناقد رومانسي"، كما يُروَّج، بل هو فيلسوف له مشروع ونسق واضح، ويعرض لنا في آخر الكتاب مبحثًا يُقدّم فيه الخطوط العريضة لنسقه، ويعرض فيه فكرة العقل في ذاته، والعقل حين يخرج من ذاته ويعود إليها، وهي الصيغة نفسها التي طوّرها هيغل لاحقًا.

هذه الصيغة طرحها شليغل مبكرًا، سنة 1801. لهذا، قلت إن فكر هيغل، أو مشروعه، لا يمكن اعتباره اكتشافًا حصريًّا أو سحريًّا له وحده، بل أرى، من خلال هذا الكتاب، أنه صدى لأفكار كانت مطروحة لدى فلاسفة عصره، وبالذات في كتابات شليغل. صحيح أنها كانت في شكلٍ جنيني، لم تنضج بعد، لكن هيغل تلقّف هذا الصدى الفلسفي الكبير، الذي كان رائجًا وشائعًا في تلك المرحلة، ثم طوّعه وطوّره وعمّقه. ولذلك، لا يمكن التسليم بأن نسق "هيغل" كان اكتشافًا هيغليًّا خالصًا، وكأنّه انبثق من العدم.

د. حسام الدين درويش:

إذا عدنا إلى ثنائية الذات والنسق، كما يطرح في العلوم الاجتماعية من حديث عن "الذات (الفاعلة) مقابل البنية، فإن السؤال الذي يطرح هو: إلى أي حدّ يمكن أن تكون الذات الفاعلة ضمن شروط موضوعية؟ تعرف الجدلية الماركسية بين الشروط الموضوعية والذات: هل يمكن للذات أن تفعل؟ كيف يمكن للذات، عند هيغل، أن توجد، وأن تكون لها فاعلية وحرية؟ ليس على طريقة "حجر سبينوزا"؛ بمعنى أن تكون مُسَيّرة أو موجَّهة، وأن الوعي لا يعي ذاته، ولا يعي كونه موجَّهًا او مسيَّرًا.

في ظلّ هذا النسق الهيغلي المنظَّم الرهيب، الذي يبدو كآلة، حيث كل شيء في مكانه، ولا يمكن أن يتغير أو يُغيَّر، يُطرح هذا السؤال فقط للتعمق في مسألة العلاقة بين الذات والنسق عند هيغل.

د. يوسف أشلحي:

نعم، إذا قلتُ استقراري على مفهوم الذات، فإنك تعلم أن في إصلاح هذا المفهوم، وفي إعطائه بُعدًا كليًّا يحتوي على معقولية.

د. حسام الدين درويش:

سنُحيل هذه النقطة إلى مسألة المعقولية؛ لأنها تمثل المحور في العنوان الفرعي.

د. يوسف أشلحي:

هذه المسألة مرتبطةٌ، كما قلتُ، بالصورة الناضجة. فأنت تعلم أن هيغل سليل الفلسفة الحديثة، بل يمثل ذروتها. واستمرار هذا المفهوم، الذي بدأ يفرض نفسه في سياق الفلسفة الحديثة عمومًا، يعود إلى "أب الفلسفة الحديثة" كما صرّح عنه هيغل نفسه، حين أرّخ للفلاسفة في تاريخ الفلسفة، وقال: "ديكارت هو أب الفلسفة الحديثة". أما مسألة "المعقولية" أو "المعقول"؛ أي التصوّر المعقول والمكتمل لمفهوم الذات، فقد فرض هذا المفهوم نفسه في سياق الفلسفة الحديثة، من ديكارت إلى سبينوزا، وصولًا إلى كانط، حيث حضرت الذات في نظرية المعرفة، ثم في نظرية العلم، من خلال مفهوم "الاستباق" أو "التسبيق".

وقد قلتُ إن هيغل انتقد هذا المنظور؛ لأنه منظور متعالٍ، مجرّد، تسويغي؛ يُسوّغ للذات دون أن يمنحها معنًى أو صلاحية كلية. فتبدو كأداة منفصلة عنّا، وذات مفصولة عن الموضوع. لقد انشغلت الفلسفة الحديثة كثيرًا بمفهوم الوعي، وتحديدًا ﺑ "الوعي المجرّد". أما هيغل، فتجاوز هذا المفهوم، وطرح بدلًا منه "الوعي المجرَّب"، أو ما يُسمى Erfahrung des Buwußtseins؛ أي التجربة: الذات المجربة، التي تأخذ خبرة بالواقع، وتربط هذه الخبرة بثنائية الذات والعالم، والعقل والوجود، وكذلك بالتاريخ.

هذا الهمّ الترابطي سيحضر بقوة، ومن خلاله سيدخل هيغل في نقد التصوّرات السابقة، خصوصًا تصوّر كانط، ولهذا ستكون هناك عودة نقدية إليه.

د. حسام الدين درويش:

رأيتُ عودة قوية إلى كانط، بمعنى من المعاني، وتمّ عرض ذلك، لكن ربما بدرجة أقل إلى ديكارت، مع أنه هو مَن ابتدأ بالكوجيتو.

د. يوسف أشلحي:

لقد عدتُ إلى كانط، ثم إلى "فشته" في نظرية العلم، خصوصًا ما يُسمى بمفهوم الوعي الذاتي (Selbstbewusstsein)، أو علاقة الذات بذاتها، إلى غير ذلك. كما عدتُ إلى هذا المفهوم في فلسفة "فشته"، من منظور هيغل؛ لأنني بيّنتُ حدوده؛ إذ سيبني عليه تصوره الكلّي؛ أي مفهوم الكلي عنده، من خلال نقل مفهوم الذات؛ أي انفصال الذات عن العالم، أو الوعي عن العالم، كما طُرح في نظرية المعرفة الفلسفية التأملية، سواء لدى كانط أو لدى فشته في نظرية العلم، ونظرية الحدس العقلي المباشر. وكان ذلك مدخله لإصلاح شأن الذات، حتى يتفادى فصلها عن العالم، عن الوجود، وعن التاريخ بالذات. وهنا سيكون منظورًا تصوريًّا ناضجًا يراهن على الكلّي.

د. حسام الدين درويش:

تطرح مسألة الذات مسألتين؛ كلتاهما على قدر كبير من الأهمية: الأولى هي ما يُسمى بعلاقة الذات بالموضوع، ومدى وجود جدلية بينهما، ومعنى هذه الجدلية وكيفيتها. أما المسألة الثانية والمركزية، فربما تكون علاقة الذات بذاتها.

د. يوسف أشلحي:

نعم، هذا ما قلتُه: كان رهانه يتمثل في تخليص نظرية الذات من المنظور المعرفي أو الابستيمولوجي، ونقلها من طور ابستمولوجي إلى طورٍ أرحب. وهنا، نُشير إلى "أوغن فينك" Eugen Fink، وهو باحث فينومينولوجي معاصر معروف، له كتاب يُعدّ من أبرز الكتب المعاصرة التي رجعت إلى متن هيغل، في "فينومينولوجيا الروح"، وأظنه من تلامذة مارتن هايدغر، وقد عاد إلى هيغل ورأى أنه يطرح منظورًا أنطولوجيًّا أرحب، تنفتح حيث الذات على مفهوم الكينونة، الكينونة التي تتبدّى في مسار السيرورة تحديدًا.

لقد كان لها هذا البُعد. وقلتُ إنه أراد أن يحررها من الحصر أو التقييد الذي فُرض عليها ضمن نطاق نظريات المعرفة، ومن عزلها عن العالم. وكان رهان هيغل الأوّلي، في كتاباته النسقية أو في نسقه الفلسفي، هو هذا بالتحديد، وقد طوّره لاحقًا إلى أبعاد الذات الكبرى: أي الذات في ذاتها، والذات الموضوعية، أو البعد الذاتي في صورتها المطلقة.

د. حسام الدين درويش:

استخدمها سارتر وهايدغر كثيرًا. لكن إذا عدنا إلى الذات ذاتها، كما تعلم، فإن غاية الفلسفة أو بدايتها، في بعض الأحيان، هي معرفة الذات؛ أي "اعرف نفسك"؛ إذ أصبحت معرفة الذات مهمة الفلسفة أو غايتها الرئيسة. وقد تبين لسقراط أن كل ما نعرفه هو أننا لا نعرف شيئًا، وبين نيتشه أنه على العكس مما يظن تبدو معرفة الذات صعبة للسبب ذاته الذي نظن على أساسه ان تلك المعرفة سهلة المنال: وهو إننا قريبون جدًّا من ذواتنا. وقد بدأ الحديث عن معرفة الذات المباشرة، أو شفافية الذات لذاتها، مع الفلسفة الحديثة، مع ديكارت والكوجيتو. وتكاثرت لاحقًا الانتقادات الموجهة إلى تلك الشفافية وذاك الكوجيتو الديكارتي. ورأى كثيرون، مثل دلتاي وريكور؛ أن معرفة الذات تمر عبر معرفة الآخر وتموضعاته بالضرورة؛ ويتصل ذلك بنظرية أو فلسفة الاعتراف. ولهيغل مكانة مركزية في تلك الفلسفة.. وإذا قارنّا رؤية هيغل مع الرؤى المتعددة لمسألة علاقة الذات بذاتها، أو لمسألة معرفة الذات من حيث شفافيتها على الطريقة الديكارتية، أو عتمتها على طريقة أخرى، فثمة اختلافات في فهم هذه العلاقة؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، سؤال وجيه، د. حسام، بخصوص مفهوم الذات وعلاقة الذات بذاتها؛ بمعنى أن هذا المفهوم طُرح في الفلسفة الحديثة منذ ديكارت، ولاحقًا كانط وفلاسفة آخرين؛ أي الخروج عن حدود معينة. فقد كان المفهوم محصورًا دائمًا في جانب معين؛ إذ عُرف أن الإنسان لا يخرج عن الذات، وأن أيّ تصور فلسفي يحاول تجاوزه لم يُتحقق إلا جزئيًّا مع الفلسفة المعاصرة؛ بمعنى أننا انتقلنا من فلسفة الذات إلى فلسفة التذاوت والتفاعل الموضوعي، بدءًا من الفينومينولوجيا التأويلية، إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية، ثم النظرية النقدية ومدرسة فرانكفورت، حيث ظل هذا المنظور محصورًا، ولم يتجرأ فلاسفة قبل هؤلاء المعاصرين على التخلص منه.

وكانت لديَّ قناعة بأن "هيغل" تنبّه إلى نواقص هذا الأمر وحاول معالجته؛ أي مفهوم التفاوت الحاضر في فلسفته منذ كتاباته المبكرة، خاصة من خلال مفهوم المصالحة في الفينومينولوجيا، والفكر التذاوتي الذي طرحه في مفهوم الجدل بين العبد والسيد تحديدًا. فحتى الفلاسفة المعاصرون الذين يعملون على البعد التذاوتي Intersubjektivität، والخروج على الذات، في نظرية التواصل عند هابرماس، والاعتراف عند أكسل هونيت، لم يغفلوا أثر هيغل؛ إذ كان يُعدّ من أقطاب الفلسفة الحديثة. ومن ثم، يمكن القول إن هيغل، وضع قدمه في بحر الفلسفة الحديثة، وأخرى في الفلسفة المعاصرة، حيث يتقاطع الأمران في فكره.

د. حسام الدين درويش:

في الواقع، ربما لا يوجد فيلسوف احتلّ المكانة التي احتلّها هيغل، ولا يزال يحتلّها. صحيح أننا نقول أحيانًا إن كانط فيلسوف بالغ الأهمية، بل إنني أعدّ نفسي، إلى حدٍّ ما، كانطيًّا، وهايدغر جرّب بدوره الاقتراب من هذه المكانة. لكن، فعليًّا، لا يوجد فيلسوف يماثل هيغل في الحضور والتأثير. ودائمًا ما نجد هيغليين شبابًا يظهرون في كلّ جيل، فهناك دائمًا تجدّد.

د. يوسف أشلحي:

هذا ما يشهد به الحضور اللافت ﻟ هيغل في سياق الفلسفة القارية والأنجلوسكسونية، بوصفه من بين موجات التفلسف الأساسية التي فرضت نفسها في سياق التفكير الفلسفي المعاصر؛ تحليليًّا وتأويليًّا وأنطولوجيًّا وتفكيكيًّا، فضلًا عن الارتكاز إليه في سياق النظرية النقدية، والفلسفة الاجتماعية والسياسية.

د. حسام الدين درويش:

حتى هيغل تجاوز هذا الانقسام الواقعي والحقيقي القائم اليوم في الفلسفة الغربية عمومًا بين هذين النسقين أو التيارين أو المدرستين؛ أعني: المدرسة التحليلية أو الأنجلوسكسونية، والمدرسة الهيرمينوطيقية أو الفينومينولوجية أو القارية. وقد تجاوزه لأنه حاضر في الاثنتين، رغم أن التحليليين يبدون كأنهم بعيدون عنه، إلا أن حضوره في العقود القليلة الماضية، ازداد قوة حتى في أوساط المدرسة التحليلية.

د. يوسف أشلحي:

نعم، إذا استحضرنا على سبيل المثال، تشارلز تايلور، فهو من أوائل الفلاسفة الذين التفتوا إلى هيغل في الفلسفة الأنجلوسكسونية، وهو، كما تعلم، فيلسوف كندي، وكذلك فلاسفة أمريكيون، وعلى رأسهم ريتشارد رورتي، الذين نظروا إلى هيغل من الزاوية الأنطولوجية الاجتماعية بالنسبة إلى الأول، والبراغماتية بالنسبة إلى الثاني؛ أي إنهم بحثوا عن رواسب الفلسفة التحليلية ـ إن شئنا أن نقول ـ أو إنهم استضافوا هيغل في سياق الفلسفة التحليلية، ضمن بعدها وفي مجالها الأنجلوسكسوني.

د. حسام الدين درويش:

البارحة كنّا في ندوة، وحدث تمييز بين "الخروج من الدين" و"الخروج عن الدين". طبعًا، أنا أضفتُ أن هناك "خروجًا على الدين"؛ فـ"الخروج من" يعني الانفصال عن شيء دون أن تكون بالضرورة علاقة سلبية. أما "الخروج عن"، فيحمل دلالة أعمق، كأنك أصبحت شيئًا آخر أو طرفًا آخر. في حين أن "الخروج على" يتضمّن شيئًا من التمرّد، من الثورة، ومن الرفض. فهل خرجتَ من عباءة هيغل بهذا المعنى؟ هل خرجتَ عنها؟ هل خرجتَ عليها، إذا آمنا بأنك هيغلي مهما فعلت؟ ما هي علاقتك ﺑ "هيجل"، بعد ست سنوات؟

د. يوسف أشلحي:

قلتُ إنني اشتغلتُ على هيغل، واستفدتُ منه كما يستفيد أيّ شخص يشتغل على فيلسوف؛ إذ من خلاله نفتح لأنفسنا مسارات، وتيارات، وطرائق، ودروبًا - بلغة هايدغر - قد نُخالفها لكن لا نفارقها. ومن خلاله أيضًا، إن شئنا القول، نُخالف، لكنه يُضيء لنا الطريق. وفي اشتغالي عليه، قلتُ إنني التفتُّ إلى شليغل، الذي كانت له أهمية من هذا الباب، فبادرت إلى ترجمة كتابه إلى اللغة العربية، بوصفه مدخلًا إلى "هيغل"؛ إذ التفتَ إليه ضمن سياقه، وكان ﻟشليغل نفسه حضور هناك. ولهذا، عملنا على ترجمته إلى اللغة العربية، لأهميته؛ لأنه فيلسوف مغمور، لا مكان له ولا حضور في الأوساط الفكرية لدينا، وأردت أن أُبيِّن أيضًا أهميته كفيلسوف قادر، في الحقيقة، على تغيير الكثير من الرؤية السائدة لدينا.

د. حسام الدين درويش:

شليغل اسم معروف، على الأغلب، لدى معظم دارسي الفلسفة، الذين إذا ذكرت لهم شليغل، سيعرفونه بصفته مرتبطًا ﺑهيغل في مرحلة ما، أو قريبًا من التيار المثالي الألماني أو الفلسفة الألمانية عمومًا. لكن إذا سألتهم عن مضمون فلسفته، فالأمر يختلف.

د. يوسف أشلحي:

أعدت له اعتباره، على الأقل ترجميًّا، بوصفه فيلسوفًا صاحب نسق وتصور فلسفي متكامل، كما يفصح عنه كتابه المبكر "الفلسفة الترنسندنتالية"، وأعماله المتأخرة حول فلسفة التاريخ واللغة والحياة، وليس مجرد نافلة فلسفية نحشره دائمًا ضمن زمرة الرومانسيين مع نوڤاليس وهولدرلن. وقد ترجمتُ وبيّنتُ ذلك ليأخذ الباحثون والمهتمون هذا الجانب بعين الاعتبار. لهذا، أقول إن له أهمية بالغة، حتى في الجانب التدريسي وجانب البحث، وحتى عندما نقرأ الفلسفة في تراكمها التاريخي، فهي نوع من القراءة الموضوعية، قراءة التي لا تغيب عنها الحلقات المهمة في مسارات تطور تاريخ الفكر الفلسفي، كما هو الحال في تاريخ تطور الأفكار عمومًا. فهذه القراءة تضيء لنا الطريق، وإلا فسنحجب كثيرًا من الحقائق ونجعلها طيّ الغفلة والكتمان. ولهذا، قلت إنه بفضل هيغل انفتحت على فلاسفة عصره، وكذلك على الفلسفة المعاصرة، من خلال الفلاسفة الذين يشتغلون على متن هيغل وتأويله، خصوصًا، وربما تتقاطع معي في هذا الاهتمام، خاصة في اشتغالك على فلسفة الاعتراف بالذات مع أكسل هونيت، من بين أقطاب الفلسفة النظرية النقدية المعاصرة، مثل هارتمورت روزا، أكسل هونيت، وأندرياس ريكفيتس.

لكن أعتقد أنه لا يجوز، كباحثين، أن نكون مجرد توابع؛ بمعنى أن نتفتح لكن بروح نقدية، نضع فيها مسافة، ونفتح لأنفسنا مسارات خاصة بنا. ونعلم أن تاريخ الإنسانية هو تاريخ متعاقب متراكم، وثمّة هموم فكرية تخصّنا، معاصرة، في عالمٍ تُطرح فيه إشكالات تخصّه، ولا يمكن أن نحلّ أقفاله بالعُدّة نفسها، بالنظرة نفسها، وبنفس الإشكاليات. هذه هي أهمية الفكر والفلسفة: هي نوع، بلغة هيغل من المصالحة: كيف نصالح أنفسنا مع عصرنا، مع وجودنا، مع حياتنا، مع المشاكل أو الأزمات المطروحة في أفقنا، معرفيًّا، حياتيًّا، وجوديًّا، بالمسألة نفسها، وبالإشكال نفسه؛ وهذا لا يمكن تحققه. ثم إن هناك اهتمامات فلسفية علينا مقاربتها بروح العزم والإرادة الراهنة.

د. حسام الدين درويش:

في هذا السياق، أستحضر قولًا يتعلق بمسألة مدى أهمية أو عدم أهمية هيغل، أو تلك الكتابات الفلسفية الخالصة؛ أعني تلك النصوص التي تبدو نظريةً بحتة، والتي قد لا تهمّ، بشكل مباشر، سوى قلّة من الأكاديميين والمتخصصين. هذا قول لأحد الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، أحمد برقاوي الذي كان يقول: "بإمكاني، بل لديّ رغبة، في أن أكتب كتابًا عن هيغل" - وكان يستخدم اسم هيغل هنا كرمز فلسفي - "ولكن الواقع يتطلب منّي الآن أن أشتغل بأوضاعنا، وأن أكتب كتابًا آخر يعالج قضاياه الراهنة". وكان يعبر عن فكرة مفادها: "لا أستطيع، أو لا أريد، أن أكتب في ذلك الآن؛ لأنني مشغول بأمور أخرى أكثر راهنية، أكثر مباشرة، وأكثر صلة بالشأن السياسي." والسؤال الذي يُطرح هنا: إلى أيّ حد يمكن التوفيق بين الأمرين؟ أم إن علينا الاختيار بينهما؟

د. يوسف أشلحي:

في الحقيقة، هناك أمران ينبغي أن يكونا متساوقين، حاضرين، لا أن نُغيّب أحدهما؛ فنحن موجودون في لحظة زمنية معينة، في زمان معين، لكن علينا ديْنٌ تاريخي يتعيّن علينا كشفه؛ بمعنى أن هناك ضرورة الاستعادة، نستعيد هيغل كما نستعيد فلاسفة آخرين في السياق الإسلامي قديمًا أو وسيطًا، أو حتى الإغريق. واستعادتنا هذه ليست استعـادة حرفية بالضرورة، وإن كانت كذلك أحيانًا في البعد الأكاديمي وتوجيه المعرفة، كما في الكراسات التعليمية التي تُعرّف بالأفكار.

وهناك نوع آخر من الاستعادة، وهي الاستعادة النقدية التي تضع المسافة، وتُقيم حوارًا ذاتيًّا، نبصم فيه على أنفسنا، ولكن، في الحقيقة، نعبّر من خلاله عن نوع من العرفان؛ أي إننا نستحضر هؤلاء الفلاسفة استحضارًا لا يُغيّبنا نحن في الأساس. وهذه هي الإشكالية التي تظهر في العلاقة بين التراث والحداثة: كيف نحاور الماضي دون أن نُقصي ذواتنا، ودون أن ندفن أنفسنا بأيدينا؟ هذا إشكال، حين نُديم الأموات فينا دون مساءلة.

وهنا تكمن أهمية محاولة محاورة "الأموات" محاورةً نافعة، لهم ولنا، ولمجالنا وسياقنا، ولمواجهة الحصار المعرفي. وهذا ما يُمارَس في الغرب أيضًا، حين يُعاد الحديث عن مفاهيم، مثل "الاعتراف" أو "الاعتراف المتبادل" في إطار نظريات معاصرة، تُطرح ضمن إشكالات أنطولوجية أو أنطولوجيا اجتماعية، في سياق الفلسفة العملية، فيُستحضَر هيغل، ولكن يُستحضَر أيضًا مع تصوّرات فلاسفة معاصرين. وأعتقد أن المسارين يجب أن يكونا حاضرين، متقاطعين في آنٍ واحد.

د. حسام الدين درويش:

اليوم، لديّ لقاء آخر حول موضوع أو كتاب يتناول نقد العقل السلفي. والمقصود بـ"السلفي" هنا هو هذه العودة إلى الوراء، إلى من نسمّيهم "الأموات"، أو من يُنظر إليهم كذلك. لكن العودة إلى الماضي، في هذا السياق، هي عودة تقدمية أكثر منها تراجعية؛ فهي خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، لا لأن الماضي هو "العصر الذهبي" الذي نرغب في الرجوع إليه. من هذا المنظور، لا يوجد تناقض، أو على الأقل لا يوجد جدل سلبي - بالمعنى الذي يقصده أدورنو - بين العودة إلى الماضي والتقدم نحو المستقبل، بل على العكس، العلاقة بينهما تكاملية.

د. يوسف أشلحي:

أعتقد أن هذا هو الإشكال المطروح، خصوصًا في سياقنا. ونحن، في الحقيقة، قد عايشنا هذا الأمر في كتابات متراكمة تناولت هذا الإشكال منذ عصر النهضة إلى حدود العتاق: كيف نُحرِّر أنفسنا؟ كيف نُحرِّر إشكالية التقدُّم، وإثبات الذات، والإرادة، وغير ذلك؟

لكن المنظور السلفي غالبًا ما يُطرح من خلال العودة؛ بمعنى أن علينا أن نسحب أنفسنا إلى الوراء. وهذا أمر قد يكون ممكن منطقيًّا وعقليًّا، لكن بمنطق العصر لا بمنطق النسخ الحرفي و"العود الأبدي"، غير أن الإشكالية يكمن في أن العودة إلى الماضي غالبًا ما تكون ناقصة، وهذا أمر معلوم، كما نراه في تجارب الغرب أو غيرهم، حيث تُمارس العودة بمنطق خاص. وقد ثبتت مسألة مهمّة، وهي أن العودة لا يصحّ أن تكون خاصة أو مغلقة، بل علينا أن نُؤسس لعلاقة حرّة ومفتوحة مع التاريخ والزمن. لا يجب أن تكون العودة بمعنى الرجوع إلى "ما يخصني"، إلى "حضارتي"، أو إلى "ثقافتي التي أنتمي إليها"، أو إلى "بيتي". أنا أتحفّظ على هذه المسألة.

وهذا ليس دعوة إلى التخلّي عن الثقافة الخاصة، لكنني أرى أن الإنسان سليل الثقافة والفكرة، والفكرة لا وطن لها. إسهامات العقل الإنساني والبشرية لا موطن لها، ولا تنتمي إلى ثقافة بعينها، بل هي تعبير عن تشريع مطلق للفكر والفعل الإنساني. ومن ثم، علينا أن نُؤسس أنفسنا على أساس علاقة حرّة ومفتوحة مع التاريخ والزمن والوجود، لا أن نختزل أو نقزّم هذه العودة في ثقافة خاصة تُقيّدنا، بل أن نتحرر في ما ينفعنا، وفي الفكرة أو الفعل الذي يمكن أن نستثمره ونستفيد منه في تأسيس ذواتنا في الحاضر، بوصفنا جزءًا من الإنسانية جمعاء.

د. حسام الدين درويش:

كلام جميل، ولكن - إن سمحت لي - سأقول إنني لا أدري إلى أيّ مدى سيكون هذا السؤال مناسبًا، لنأخذ مثالًا من فلسفة هيغل، كما ذكرتَ؛ أي "نظرية الاعتراف"، التي أسّست لمنظور فلسفي يبدو جذّابًا جدًّا، رغم أنها استُحضرت بطرائق مختلفة وأفضت إلى نتائج متباينة؛ فقد استُخدمت، كما نعلم، لتبرير فكرة "نهاية التاريخ"، كما فعل فوكوياما، بينما استحضرها "كوجيف" في سياق مختلف. إذا ما أردنا أن نأخذ هذا الموضوع على محمل الجدّ؛ كيف يمكن توظيفه أو قراءته من خلال الواقع؟ كيف يمكن أن نبني انطلاقًا منه رؤية نظرية تُفضي إلى ممارسة عملية للواقع؟ إلى أيّ حدّ يمكن بالفعل أن تُوظّف هذه النظرية في فهم الواقع الراهن؟

وليس المقصود هنا الفهم الشامل أو العام، وإنما المقصود هو الواقع الملموس: واقعك في الجامعة، واقعك في المدينة، واقعك في المغرب، واقعك في العالم العربي؛ أي الواقع بمستوياته المتعددة، وأبعاده المختلفة. إلى أيّ مدى يمكن أن نقرأ من خلال هذه النظرية واقع الإنسان كفرد، وواقعه كجماعة، وواقعه كمجتمع، أو كدولة، إلى آخره؟ وهل من الممكن، إذا قرأناها بعمق، أن تقدّم لنا هذه النظرية فهمًا جديدًا، أو أدوات فلسفية، أو رؤية فكرية يمكن أن نستثمرها كما فعلنا، مثلاً، مع نظرية الاعتراف وغيرها من الأفكار؟

د. يوسف أشلحي:

الحقيقة أن الدافع إلى التعمق في مضمون هذا الكتاب كان نابعًا من ذواتنا. لن أدّعي أن هناك هاجسًا عمليًّا كان مطروحًا، بل كان الهاجس فكريًّا وفلسفيًّا بالدرجة الأولى. ومع ذلك، فهذا لا يعني أنه منقطع عن الواقع، بل تمثل الهاجس في كيفية استحضار "هيغل" ضمن إشكالية محددة، وتناول مسألة قد تسهم في بناء إضافة في مسار دراسة الهيغلية على وجه الخصوص. فلم يكن الهدف إعادة إنتاج ما كُتب، بل كان السعي إلى التحقق والتحرّي حول مسألة دقيقة بعينها. وأعتقد أن استحضار هذه المسألة في سياق توطين المعرفة الفلسفية داخل جامعاتنا وأفقنا الثقافي، هو أمر بالغ الأهمية، خاصة إذا كانت الكتابة لا تكتفي بشرح "هيغل"، بل تتجاوزه إلى كتابة نقدية تُضيء نصه، أو تتحاور معه.

وهذا يدخل في إطار التحاور الفلسفي النقدي الذي يجب أن نؤسّسه كتقليد داخل جامعاتنا وفي أبحاثنا، حيث لا نظلّ مجرد عالة على هؤلاء الأقطاب الفلسفية، سواء من الفلسفة الحديثة أو غيرها. فالمطلوب هو علاقة حرّة وتأسيسية، تُراهن على بناء تقليد أكاديمي وفلسفي متين. وإذا حصرنا هذا الجهد في سياق الجماعة العلمية والمعرفية، فقد تكون لنا أيضًا اهتمامات عملية أخرى تُطرح في سياق كتاباتنا الأخرى.

د. حسام الدين درويش:

دعني أوضح رؤيتي أو أعرض رؤية أخرى لهذه المسألة: أنا لست من الذين يرون أنه يجب النظر إلى الفلسفة أو إلى المعرفة من منظور أداتي أو نفعي مباشر فقط؛ لأن ذلك يعدّ استخفافًا بالفلسفة أو بالمعرفة وبقيمتها. نعم، قد تكون النتائج غير مباشرة، لكن عندما كنت مدرّسًا في المدارس الثانوية في حلب في سوريا، كان السؤال الذي يُطرح دائمًا- وهو سؤال ليس سهلاً -: ما الفائدة من الفلسفة؟ لماذا ندرس الفلسفة؟

في رأيي، هذا السؤال قد لا يكون فلسفيًّا بحتًا، لكنه في النهاية إشكالية تستحق التفكير. ومع ذلك، لستُ من أنصار أن تكون المعرفة معزولة عن النتائج العملية، بل على العكس، من المهمّ أن نسعى إلى تحقيق أعلى درجات المعرفة، مع عدم إغفال النتائج العملية؛ لأن ذلك ضروري للمعرفة ذاتها.

د. يوسف أشلحي:

أعتقد أنه حتى إذا عدنا إلى "هيغل" وغيره في مسائل راهنة وعملية، فهناك مجال لهذه العودة وأبوابها. فما رأيك مثلاً في كتاب "فلسفة أصول فلسفة الحق"؟ العودة فيه إلى مفهوم المجتمع، ماذا يعني المجتمع؟ هناك أفكار قد تفيدنا في علاقة تأويلية واستحضارية متقاطعة مع الهموم العملية، إن شئنا القول. فإذا كانت هذه الأفكار موجودة في مقالات أو كتب تتناول مسائل عملية، فثمة جانب نستحضره من هذا الفيلسوف أو ذاك، مثل ما يتعلق بالمجتمع، أو بالمؤسسات، أو بالجوانب اليومية والمعيشية، أو بفلسفة الحياة. ونحن بذلك نستحضر هذا الفيلسوف أو ذاك لحاجة قائمة في أفقنا.

د. حسام الدين درويش:

حسب ما تحدثنا عنه في السابق، هل يمكنك الحديث عن الكتاب الذي تم تقديمه لدار النشر؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، بالضبط، هو كتابٌ قدّمته إلى دار نشر "مؤمنون بلا حدود"، بعنوان "نقد الفلسفة الأولى"، ويضم نصوصًا في الفلسفة المعاصرة، خصوصًا الفلسفة الألمانية المعاصرة. ويتناول الكتاب نصوصًا حول النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، والتأسيس الأنطوفينومينولوجي للحاضر مع هوسرل وهايدغر؛ بمعنى امتدادات الفلسفة الألمانية المعاصرة وانشغالاتها.

د. حسام الدين درويش:

من هم الأعلام الذين تم ذكرهم؟ أدورنو وهوركهايمر أم الأعلام الذين جاءوا بعدهم؟

د. يوسف أشلحي:

هو كشف عن الدروب التي من خلالها سوّغ التفكير الفلسفي المعاصر معقوليته وراهنيته وإحداثيته الخاصة أنطولوجيًّا ومعرفيًّا (هوسرل، هايدغر)، وكذلك عمليًّا وحفريًّا في شكل من الفيزياء العملية التي تنازل المعطى اليومي (النظرية النقدية من الجيل الأول إلى من يضعون مجتمعات الحداثة المتأخرة على المحك).

د. حسام الدين درويش:

بما أنك ذكرت هابرماس، ما رأيك في الضجة التي أُثيرت حوله، حيث بدا، لكثيرين، كأنه يمثل، على الأقل، الفلسفة الألمانية، إن لم يكن الفلسفة الغربية، أو حتى الفلسفة برمّتها؟ وكيف نعود هنا إلى مسألة التنظير الفلسفي أو الرؤية الفلسفية النظرية، لكن إلى أيّ حد قد يبدو أحيانًا بعيدًا عمليًّا عن ذلك؛ أي ليس فلسفيًّا على الإطلاق، أحاديًّا وضئيلًا؟ لا أعرف إذا كنت مهتمًّا أو اطلعت أو تابعت هذه المسألة؟

د. يوسف أشلحي

حالة مأسوف عليها، لا تعبر عن فصامة المثقف الحقيقي، وخصوصًا من الفيلسوف الذي هو سليل الفكرة الكلية والذات الرفيعة بمعزل عن جذرها؛ ذلك الفيلسوف الذي تقوم نظريته التواصلية على دعوى الكونية والتفاهم والمعقولية، حيث قدم موقفًا يعكس انحدارًا فكريًّا فظيعًا عن جرأة الموقف الفلسفي.

فما معنى أن تكون جريئًا ومنصفًا في الوقت نفسه؟ هو أن تضع المسافة، بمعنى أن لا تتلبَّسك اللحظة، ولا تغرقك الموجة؛ فالحدث ليس كشفًا فجائيًّا من عدم، وإنما له روابط قبلية ومتآنية وبعدية. لذلك، يجب أن نضعه على الأقل ضمن العدة الفلسفية المشاعة: البدء، العلة، الحق، القوة، التعايش، الأيديولوجيا، الهيمنة... إلخ.

ومن هنا، لا يُحجب عنا صوت فلسفي مؤتم يدافع عن الحق، مثل ما نجد لدى الفيلسوف سلافوي جيجيك والفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، وغيرهم ماضيًا وحاضرًا. فعلى الفيلسوف أن يأخذ مسافة من الحدث، ويضع الحقائق على المحك؛ فهو من دعاة العقلانية وحليف الحق ومفهوم الحقيقة، ومناصر القضايا والقيم النبيلة والكونية، وعلى رأسها العدالة والحياة.

على أيّ نحو نقيم في العالم؟ كيف ننتمي إلى العالم، إلى الحياة، إلى الإنسانية؟ الإنسانية التي وصفناها على خلاف أيديولوجياتنا وثقافتنا، لكننا نحن بشر في نهاية المطاف نشترك في الأرضية ذاتها، ونتقاسم ذات المصير المشترك، وهو الحياة. فما معنى أن نحيا؟ وكيف لنا أن نكون أحياء؟ علينا البحث عن منابع الحياة، لا منابع العدمية. ومن الضروري الفيلسوف أن يكون نقيض العدمية؛ بمعنى ينتقد كل مصادرها، ويضع مسافة منها، لا أن ينصرها أو يساوقها؛ ولا يجب أن تكون الأمور ارتجالية أو استعجالية.

دائمًا يجب أن نأخذ المسافة، وعندما يحدث الحدث، وهو الحدث الأساس في الفلسفة الواقعية عند هيغل، وإن كان موضوعًا آخر عند هايدغر، نضع مسافة بيننا وبين الحدث هذه المسافة، ونجتهد في العبور به نحو وجود صحي وأرفع.

د. حسام الدين درويش:

تقتضي أحيانًا المعرفة أو الفلسفة امتلاك الأمر معرفيًّا، وليس الانغماس فيه؟

د. يوسف أشلحي:

علينا ألا نكون ضحية نزوة أو أهواء عابرة؛ إذ إن هذا الأمر ظرفي وقد يقذفنا في متاهات معينة، خصوصًا حين نناصر أفكارًا مهمة، وندافع عن مفهوم العقل ومفهوم التواصل والتعايش، فلا يمكن لهوية خالصة أن تسود. وفي الوقت ذاته، كنت أقرأ لهابرماس ربما حوارًا أو شيئًا مشابهًا عن أحداث 11 سبتمبر، حيث تبين أنه كان يتحدث عن التواصل، وأقرَّ بنفسه أن نظرية التواصل تعيش مأزق التواصل في عصر التطرف.

د. حسام الدين درويش:

بعد هذا الكتاب، هناك كتاب آخر طُبع وتًرجم، وهناك أيضًا كتاب، كما يقولون، يطبخ الآن على نار هادئة؟

د. يوسف أشلحي:

نعم، هناك كتاب مترجم للفيلسوف الفرنسي أندري كونت سبونفيل بعنوان "الحياة الإنسانية"، صدر عن منشورات صفحة سبعة، بالإضافة إلى مؤلف سابق له بعنوان: "جدل الإنسان والطبيعة، أو في مآل الأرض واستنهاض ضمير العالم" صدر عن منشورات دار الروافد الثقافية في لبنان ودار ابن النديم.

د. حسام الدين درويش:

حتى لا نكون سلفيين كثيرًا، ونتحدث عن الماضي فقط، بمَ تنشغل حاليًّا؟

د. يوسف أشلحي:

لي كتاب قيد الصدور عن منشورات المتوسط بعنوان «الوجود والمعنى، مساءلة أنطولوجية الحياة». وعمل في الترجمة، يتعلق الأمر بنصوص حول الجامعة والفلسفة منقولة من المجلد السادس عشر ﻟ مارتن هايدغر، ومن المتوقع أن يرى النور قريبًا. وحاليًّا، أنا بصدد إتمام كتاب في موضوع بناء الانسان فلسفيًّا، بعنوان: «الفيلسوف مربِّيًّا أو في تنوير الإنسان»؛ أي النظر في ضروب انهمام الفيلسوف في تحصين لحمة مجتمعه، وكيف ينصت إلى حاضره دائمًا، ويبذل جهدًا في رفع مهمَّة الإنسان ومكانته، وإصلاح شأنه في الحاضر. هذا همٌّ عملي واجتماعي رافق الفلاسفة منذ القديم ولا يزال قائمًا، وأنا على مشارف الانتهاء منه.

د. حسام الدين درويش:

اسمح لي أولاً، أن أهنئك تهنئة متأخرة على هذا الكتاب: "الذات والنسق: مسائل البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيغل". إنه بالفعل كتاب رصين بكل ما تحمل كلمة "رصانة" من معنى إيجابي، ويقدم معرفة مهمة. على الأقل، أقول ذلك من موقعنا في الحقل الفلسفي، وفي المجال الأكاديمي، وفي صفوف المختصين، فهذا الكتاب لا غنى عنه في هذا المجال. وأهنئك تهنئة مسبقة على الكتب التي ستصدر قريبًا.

د. يوسف أشلحي:

ثمة مشاريع في فلسفة الأخلاق العملية، أعمل عليها حاليًا، تتناول نصوصًا قيد الإنجاز حول ما يُسمى بإتيقا العيش المشترك، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة. لقد تناولت في هذا العمل مسائل التعايش والكرامة ومفهوم المختلف، فهذه الهموم ضرورية وتحتاج إلى عناية والتفات؛ إذ هي إشكالات مطروحة ومهمة.

د. حسام الدين درويش:

رائع! هذا يعني أن الأمور تسير على نحو ممتاز. أنا في حالة انتظار، وإن شاء الله، ستكون لنا لقاءات أخرى قريبًا. شكرًا جزيلًا لك.

د. يوسف أشلحي:

شكرًا جزيلًا على هذه الاستضافة الكريمة، وعلى هذا الحوار الشائق، خاصةً أنه جاء من دكتور ومفكّر ضليع، ينتمي إلى المجال الفلسفي والفكري. وهذا ما منح الحوار بُعدًا أعمق؛ إذ لم يكن مجرد حديث من شخص يطلّ علينا من خارج الشرفة، بل كان حوارًا مع "ابن الدار"، ولذلك كان ممتعًا ومفيدًا، وقد استفدنا منه كثيرًا. نحن نأمل في أفق واعد، وربما نتبادل الأدوار يومًا ما، فنكون نحن من يحاورك. شكرًا لك مرة أخرى على هذا اللقاء الممتع والمثمر.

د. حسام الدين درويش:

بالتأكيد، ستكون لنا لقاءات أخرى وقد نتبادل الأدوار فيها.