تحقيقُ طِرْسِ صَنعاء


فئة :  ترجمات

تحقيقُ طِرْسِ صَنعاء

تحقيقُ طِرْسِ صَنعاء[1]

إليونور سيلار[2]

 ترجمة: الساسي بن محمّد ضيفاوي[3]

الملخّص

إنّ المتأمّل في هذا النصّ، يتبيّن له أنّ الباحثة إليونور سيلار Eléonore Cellard قد عالجت إشكالية تدوين القرآن وما حفّ به من ملابسات وسياقات اجتماعية وثقافية ودينيّة وسياسية، واعتبرت أنّ القرآن وَفق تحقيق مصحف صنعاء تحوّل من مخطوط قبطي إلى مخطوط قرآني، فقد تمّ محو الأوّل وتدوين نصّ القرآن بدله، فقد وقفت على آثار لكتابة قبطية ممحوة من الرقوق يُعتقد أنّها من أحد أـسفار العهد القديم، مما يدلّ على إعادة استعمال مخطوط قبطي لنسخ نصّ قرآني فوقه، وهو ما يفسّر الانتقال الخطي لمخطوطات القرآن ورحلة النصوص بشكل عام داخل ثقافة الكتاب في الشرق في العصور المتأخّرة، ولعلّ هذا ما يترجم التلاقح الثقافي والحضاري والديني في مصر في القرن الثاني الهجري، وكأنّها في سياق هذا البحث تتساءل عن مدى ارتباط القرآن بالثقافات القبليّة؟ وكيف نقل هذا التراث الثقافي والمادي إلى كتبة القرآن؟ وكيف يمكن أن نميز ونفصل بين القبلي والبعدي؟

النصّ

أدّى اكتشاف أحد أقدم المصاحف في العالم في اليمن إلى تغيير معرفتنا بنقل النّصّ المقدّس للإسلام. ففي عام 1973 وبمناسبة أعمال الترميم في المسجد الكبير بصنعاء، أحد أقدم المساجد في العالم الإسلاميّ، عثر عماّل على مخطوطات مخزونة في الفراغ الموجود بين السّقف والرّافدة، تُركت هذه الكُتب هنا، في حالة سيئة للغاية، بلا شكّ بعد إعادة تنظيم مكتبة المسجد المرجّح حديثا بحُكم وجود المطبوعات. ومن بين هذه الآلاف من أجزاء الرّق، توصّل الباحثون الألمان المسؤولون عن ترميمها، ثمّ تصنيفها إلى اكتشاف مذهل يتمثّل في وجود طِرس[4]؛ أي نصّ يُغطي كلّ سطر فيه سطرا آخر أقدم منه.

والطِّرْسُ تقنية شائعة في العديد من الثّقافات الماديّة تسمح بإعادة استخدام الوسيلة المكتوب عليها أكثر من مرّة. وهنا، يظلّ النّصّ المحذوف مرئيًّا. والأكثر إثارة للدّهشة أنّ النّصّين المتطابقين هما عبارة عن مقاطع من النّصّ نفسه، من القرآن. ومع ذلك، فقد تمّ نسخهما واحدا تلو الآخر، بفارق بضعة عقود من الزّمن. على أنّ المشهور الإسلاميّ، الذي يحافظ على كلمة الله التي أنزلها وأملاها على محمّد، يمكن قد تمّ تثبيته نهائيًّا في منتصف القرن السّابع. فلماذا إذن تمّ حذف النّصّ الأصليّ بالكامل لصالح نصّ مطابق؟

متغيّرات مجهولة:

قبل محاولة الإجابة عن هذا السّؤال، دعونا نُلقي نظرة على الخصائص الماديّة لهذه المخطوطة. إنّه كتاب قرآن لا شكّ فيه، يشبه الأحجام الكبيرة الموجودة في المساجد (ولا يُشبِه ملاحظات التّدريس المكتوبة على أوراق منفصلة). تُعادل الـثّمانون ورقة التي تمكنّا من جمعها اليوم، حواليْ نصف المخطوط كاملا. وفق نمط الكتابة وأسلوب النّاسخيْن اللّذيْن ساهما في كتابته، يبدو أنّ هذا المخطوط قد كُتب خلال النّصف الثّاني من القرن السّابع. أمّا البيانات الحاصلة بفضل تقنية الكربون14، فإنّها تشير إلى النّصف الأوّل من القرن نفسه، لكنّ مع كثير من التحفّظات التي تبقى حافة حول تأويل هذه النّتائج التي توافق أكثر تاريخ ذبح الخرفان الذين وفّرت جلودهم المخطوط.

ثمّ، نحن نعرف أنّ النّصّ الممسوح، والذي وقع اليوم فكّ شفرات جزء كبير منه، يكشف عن متغيّرات نصيّة للقرآن لم تكن معروفة حتى الآن. والعشرات من المخطوطات الأخرى المعروفة للقرآن، والتي تعود إلى حقبة الطِّرس نفسه، أو حتى إلى فترة أقدم إلى حدّ ما، والمُكتشَفَة في مساجد أخرى في العالم الإسلامي، تتقيّد جميعها وبصرامة في نقل النصّ القرآنيّ حرفيّا، ما عدا بعض الاختلافات الإملائيّة. ولكنّ التغييرات هنا أخطر، حيث نكتشف استعمال المرادفات لمصطلحات معيّنة وحذف أخرى وإضافة أو تبديل كلمات أو مجموعات من الكلمات داخل الآية نفسها، ويحدث أيضًا أن تكون السّور مرتّبة بطريقة أخرى غير القرآن الشّرعيّ، دون مخالفة مبدإ تنظيمها من الأطول إلى الأقصر.

والحاصل، لئن كان هذا النّصّ قريبًا جدًّا من نسخة القرآن التي نعرفها اليوم، ولئن كانت صيغه المختلفة لا تتعارض مع المعنى المقبول، فإنّها مع ذلك، تترك إمكانيّة احتمال أن يكون نقل القرآن عمليّة تحترم المعنى أكثر ممّا تحترم النّصّ حرفيّا. وهذه هي النّقطة الأكثر أصالة وإثارة للجدل في هذه الوثيقة الّتي أثارت، علاوة على ذلك، مناقشات هائلة بين الأخصائيين؛ لأنها حتّى الآن، الشّاهد الوحيد على هذا النوع من النّقل.

من المؤكّد أنّه قد تمّ حذف النّصّ السّابق للطِّرس واستبداله بالنّصّ الأساسيّ لجعل النّاس ينسون عمليّات النّقل الأوليّة هذه، وهو ما يقودنا إلى التّفكير في طبيعة هذا النّصّ الممحو. تُراه يشهد على نسخة سابقة للنّصّ القرآنيّ تمّ إنتاجها في محيط النبيّ؟ أم إنّها مخطوطة باقية من تقليد نَسخ موازي للنّصّ القرآنيّ يتجرأ على نقل الكلمة المنزّلة - عن قصد أو عن غير قصد - بطريقة أكثر حريّة؟

يجب أن يمتدّ هذا التفكير إلى المجموعة الحاليّة بأكملها، فهل تمثّل المخطوطاتُ المحفوظة تاريخَ القرآن بأكمله أم جزءا منه فقط؟ وهل كانت توجد مصاحف أخرى غير شرعيّة قد تمّت تنقيتها بعناية من قبل أجيال من القرّاء؟ مهما يكن، فإنّ طِرس صنعاء، إذا كان قد وصل إلينا فلأنّه كان مخفيّا، ليس في السّقف المعلّق للمسجد، ولكن حقيقة تحت النّصّ القرآنيّ.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________

[1]- Eléonore Cellard, Enquete sur le palimpseste de Sanaa, L’histoire, Coran la fabrique d’un livre, N: 472, Paris, Juin, 2020, PP 42-45

[2]- إليونور سيلار، باحثة بالمعهد الفرنسي، باريس، متخصّصة في المخطوطات القرآنية القديمة، متحصّلة على أطروحة دكتوراه سنة 2015 بعنوان "تدوين القرآن: دراسة مجموعة مخطوطات من القرن 2هـ/ 8 م"، من أبحاثها المنشورة عن دار بريل (Brill) 2017 (Codex Amrensis 1) "المخطوط القرآني الأوّل"، وهو عبارة عن دراسة لمصحف على الرقّ من القرن الثاني الهجري.

[3]- أستاذ مساعد، جامعة القيروان، كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، نشر عديد الأبحاث والدراسات في المجلاّت العلميّة المحكّمة، صدر له عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود "ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام" 2014 و"التراسل بين النبيّ محمّد ومُعاصريه" 2018، وعن مخبر تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات، جامعة القيروان "إشكالية تحريف التوراة والإنجيل" 2019

[4]- طرسَ الكتابَ أي كتَبَه، وطرّسَه كتبه أو أعاد الكتابة على المكتوب الممحُوّ، وطرس الخطوط محاها، والطِرْس الصحيفة والكتاب الذي مُحِيَ ثمّ كُتب، والجمع أطراس وطروس. ابن منظور (أبو الفضل جمال الدّين) لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمّد أحمد حسب الله، وهاشم محمّد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، مصر [ د.ت] مج4، ج29، ص ص2655-2656، جذر (ط.ر.س).