من الحياة في كوبنهاجن إلى الموت في صنعاء اليمن في عيون الرحالة والمغامرين


فئة :  مقالات

من الحياة في كوبنهاجن إلى الموت في صنعاء اليمن في عيون الرحالة والمغامرين

من الحياة في كوبنهاجن إلى الموت في صنعاء

اليمن في عيون الرحالة والمغامرين[1]

في كتابه "العربية السعيدة" -الذي ترجمه محمد الرعدي تحت عنوان "من كوبنهاجن إلى صنعاء"[2]- يروي توركيل هانسن بأسلوب روائي شيّق قصة بعثة علمية دنماركية مكونة من خمسة علماء، بعثهم ملك الدنمارك -في النصف الثاني من القرن الثامن عشر- إلى البلاد التي عُرفت في الأدبيات الأجنبية بالعربية السعيدة، لكن ما أن قاسوا ويلاتها حتى جردوها من صفة السعادة.

اليمن التعيس

يقول المؤلف: "وسماها المستر نيبور في مذكراته بالألمانية (العربية السعيدة)، لكنه حين وصل إليها لم يعد يطلق عليها إلا اسم (اليمن)... ربما كان هناك شيء ما وراء هذا التغير الفجائي للاسم".[3] السبب الذي دعا نيبور إلى الكف عن استعمال (السعيدة) صفةً لليمن، هي معاناة أعضاء البعثة فيها وما لاقوه من حكامها وبعض أهلها، معاناة انتهت بموت اثنين على أرضها، هما عالم اللغات الدنماركي فون هافن وعالم النبات السويدي فورسكال. في مدينة المخا سلبهم حاكمها المال ودمر عدة صناديق تحوي عينات للدراسة. وفي تعز، لاقوا المماطلة من حاكمها أملاً في حصوله على المال. أما في يريم وذمار، فقابلهم الناس بالحجارة ونبشوا قبر فورسكال ورموا جثته في العراء. المدينة الوحيدة التي امتدح أعضاء البعثة أهلها وحاكمها هي اللُّحَية التي قابلتهم بالكرم والطيبة المعهودة في سكانها حتى اليوم.

أهداف البعثة

يشكك الدكتور عبدالعزيز المقالح في مقدمته للكتاب بالهدف الحقيقي من البعثة، ويُلمح إلى وجود هدفين: "أحدهما علمي لا غبار عليه، والآخر سياسي عليه كل الغبار، ومن هنا فقد كانت تلك الرحلة المؤسسية الشجية عملة ذات وجهين: الأول له جمال العلم والشرف والتضحية، والآخر في قبح الاستعمار والعبودية والابتزاز".[4]

ما ذكره المقالح يوافق في جزئه العلمي ما جاء في جريدة "كوبنهاجن بوست" عن هدف البعثة: "من أجل غزو آفاق جديدة للمعرفة والتقدم العلمي وتحقيق مجد أكبر لشعبه"[5]. لكني أميل إلى ما ذكره المؤلف، وهو يتساءل عن "الدوافع التي جعلت ملك الدنمارك يوافق على المشروع بهذه السرعة"، يجيب:

"علينا أن نبحث عن هذه الدوافع في المناخ العام لذلك العصر، فقد كان من تقاليد ذلك العصر مساندة ودعم الفنون والعلوم، وكان فردريك الأكبر ملك بروسيا يقضي أوقات فراغه في مناقشات فلسفية مع فولتير وفي عزف الناي مع يوهان سيبستيان باخ، وهو بهذا قد ضرب المثل لفردريك ملك الدنمارك... ولهذا، فقد أولى هو ومستشاره (ملتك) أهمية كبرى للشعبية والتقدير اللذين سينالهما الملك لدى الشعب الدنماركي، من جراء الأخذ بسياسة تشجيع العلوم والفنون... وكسب الشهرة مستقبلاً. وفي ذلك العصر، لم يكن المستقبل يعني اليوم التالي للانتخابات كما هو في عصرنا هذا، بل كان يعني لديهم، كل المستقبل، القريب والبعيد، كما كان يعني أيضاً ما بعد الموت. فقد كانت الرغبة لديهم أصيلة في أن تعيش ذكراهم بعدهم بوقت طويل، لأن سذاجتهم كانت كافية لأن توجد لديهم بعض الإحساس نحو التاريخ والوقت، فعلّقوا أهمية كبرى في أن تكون ذكراهم عطرة لدى الآخرين، حتى لدى من عاش بعد وفاتهم بمائتي عام".[6]

البعثة لم تُثبت ذلك فحسب، بل وسجلت الفوارق بين حكامنا وحكام أوروبا، وشعبنا وشعوبهم. فقد كان حكامنا ولا زالوا يهتمون بجمع المال والرغبة في الاستحواذ على السلطة ولا يحسبون للتاريخ حسابا. ولعل استمرار هذا السلوك في الحكام انعكس على طبيعة المحكومين، ومن البديهي أن لا تتغير الأحوال.

ما يُرجح الهدف العلمي والبحث عن مجد تاريخي لملك الدنمارك، ويستبعد الدافع الاستعماري، هو أن التحضير للبعثة استمر خمس سنوات لاختيار العلماء وإعدادهم لغوياً وعلمياً. كما أن الدنمارك لم تستفد من البعثة سياسيا؛ فقد مات الملك في عام 1766، "وخلفه على العرش (كرستيان) في السابعة عشرة من عمره"[7]. وجود هدف استعماري من البعثة كان سيُحتم على (كرستيان) استكمال جهود الملك فردريك، وهذا لم يحدث. فقد "انغمس هذا الملك الصغير في شهوات الشباب..."، ولم يكن كسلفه الذي كان يعطي للمستقبل والتاريخ أهمية. ومما يدلل على هذا الفارق بين العهدين، أن الصحيفة التي احتفت بالبعثة في عهد الملك فردريك لم تكتب سوى خبرا قصيرا عن وصول نيبور في عهد الملك الشاب: "في الثامن عشر عاد الملازم نيبور من رحلته في الخارج".[8]

يرتبط الدافع الاستعماري بخطة دولة، لا بطموح ملك يرغب في تخليد اسمه وبلده بتشجيعه للعلوم والفنون. الهدف العلمي من البعثة لم يتحقق أيضاً على نحو ما كان مخططاً له، وقد أسهم في فشل أغلب أهداف البعثة العلمية عدة أمور، من بينها الصراع بين أعضائها خصوصاً بين عالم اللغات الدنماركي (فون هافن)، وعالم النبات السويدي فورسكال. صراع سببه تعالي العالمين واستصغار كل منهما لشأن الآخر، حتى وصل النزاع إلى حد التهديد بالقتل. إضافة إلى صراع آخر بين الطبيب الدنماركي (كرامر) الذي تعامل بغلظة مع عالم الفلك والرياضيات الألماني نيبور.

كان فون هافن كسولاً ومنشغلاً بمتعه الشخصية، ولم يقم بجهد يُذكر في البعثة، وقد بَيَّن توركفيل أن سبب اختياره في البعثة -على الرغم من تهربه ومماطلته، ثم استبقاؤه فيها، بعد كل الشكاوى ضده من قبل زملائه- يقف وراءه التعصب الوطني، فقد اعتقد المسؤولون في الدنمارك أن استبعاد فون هافن سيحرم الدنمارك من إنجازات البعثة. استبقاء هافن في البعثة شاهد يستبعد الشبهات الاستعمارية؛ فهافن كان يشكك في إمكانية تحقيق البعثة للأهداف العلمية المطلوبة منهم، ولو أن الهدف الاستعماري كان حاضراً لما استطاع أن يماطل ويتهرب.

أغلب إنجازات البعثة قام بها فورسكال ونيبور، لكن الإهمال الشديد الذي لاقته الصناديق، التي كان يرسلها فورسكال إلى الدنمارك، وإلى جامعات عالمية أخرى، استمر لعقود وأدّى إلى تلف معظم العينات. الإهمال أيضاً طال جهود نيبور لولا اهتمامه الشخصي بتدوين وتأليف مذكراته ورحلاته فيما بعد. وهناك سبب آخر أهم، وهو أن الدنمارك وقتها "كانت مهددة بالحروب الكثيرة وتواجه صعوبات مالية كبيرة"[9]، ولا أظن أن وضعاً كهذا يسمح لأية دولة بالتخطيط لاستعمار دول شرقية مرت بها البعثة منها مصر التي درستها البعثة كما درست اليمن.

تلك الظروف التي مرت بها الدنمارك جعلت المسؤولين يفكرون في وسيلة للترويح عن الشعب. ومن أجل هذا الهدف "فقد صمم المسؤولون المضي في تنفيذ برامج ثقافية عديدة، كان من أعظمها برنامج الرحلة إلى العربية السعيدة. ولم يكن الغرض من الرحلة القيام بعمل جديد، فريد من نوعه فحسب، بل كان هدفها إشباع تطلعات الناس للعلوم وحماسهم لمعرفة البلدان الأجنبية، بالأخص البلاد الشرقية التي تركت تأثيرها في أواخر القرن الثامن عشر".[10]

لم يكن لجهود البعثة أن تذهب سدى، لولا إهمال المسؤولين الدنماركيين والجامعات التي تلقت عينات فورسكال، وهذا يبين لنا أن اهتمام أوروبا بالعلم وقتها كان يغلب عليه الجانب الشكلي. وقد أسهم في ذلك الإهمال تولِّي ملك جديد شاب متهتك مقاليد السلطة في الدنمارك.

تشكيك المقالح في "الهدف الحقيقي من الرحلة" دون ذكر دليل يحمل نبرة يقين تشير إلى وجود أطماع استعمارية وابتزاز، وكأن اليمن كانت جنة الله على الأرض. وإن كانت كذلك، فإن العشرين صنفاً من العنب التي عددها نيبور في مذكراته لم يبقَ منها إلا القليل، والجنة التي تحدث عنها المقالح لم تتحول إلى جحيم بسبب الاستعمار، وإنما بأيادي حكامها الجشعين والطامعين في الاحتفاظ بالسلطة على حساب مصالح الشعب. لا أستبعد الهدف الاستعماري وراء البعثات الاستكشافية، فمن المعروف أن للمستشرقين دورا في التمهيد للاستعمار، لكن تحليلي يذهب إلى استبعاد هذا الهدف من البعثة الدنماركية للأسباب الواردة في هذا المقال.

ما ذكره المقالح ينم عن خوف قديم من الاستعمار دافعه في الظاهر الرغبة في الاستقلال، وقد كانت هذه هي حجة الأئمة، فلم يسمحوا بالتنقيب عن البترول والمعادن، وكانت النتيجة أن حظينا بالاستقلال والعزلة والظلام والتخلف ولم نحظ بالبترول!

الشك في أهداف البعثة الدنماركية لم يكن الأول. يقول الألماني هانز هولفريتز، الذي زار اليمن في خمسينيات القرن العشرين: "ومهما كانت حقيقتي، فقد كانت ثمة بعض المظاهر في عيون السلطة اليمنية التي تدعو إلى الشك، إذ تعذر عليها أن تصدق بأن رجلاً يتحمل على عاتقه كل هذه المخاطر والمتاعب لم يعبر الصحراء ليتسلل بصورة سرية إلى هذا الجزء النائي من بلادهم بدافع التعطش إلى المعرفة، أو الرغبة المجردة في المغامرة، وكانوا واثقين من وجود غرض خفي ولا شك وراء هذه الرحلة".[11]

آثار الاستعمار

تركت البعثة الدنماركية في اليمن عالِمين هما فون هافن وفورسكال؛ الأول مات ودُفن في المخا، والثاني مات ودفن في يريم، دون أن يُعرف قبرهما حتى الآن. هذا اللقاء الحضاري، بين البعثة العلمية وحكام اليمن، لم يُحدث أي أثر في السياسة اليمنية، والسبب هو الرغبة في العزلة؛ فاهتمام الأئمة بشؤون العلم من شأنه أن يُفتح عيون الناس ويجعلهم أكثر وعياً بحقوقهم، وهذا ما لم يُرده الأئمة ولا أغلب الرؤساء الذين تولوا الحكم بعد قيام الجمهورية في 1962.

لو أن اليمن تعرضت لاستعمار أجنبي، لوقت طويل، لربما عاد بالنفع على اليمن وعلى أهلها. خلّف لنا الأتراك جنوداً حُمراً ما زالوا يحكموننا ويسوموننا العذاب حتى اليوم، لكنهم خلفوا أيضاَ منجزات مهمة كان يمكن البناء عليها. في كتابها (كنت طبيبة في اليمن) تصف الطبيبة الفرنسية كلودي فايان حي (بئر العزب) في صنعاء عام 1951 بأنه شبيه بحي (نويللي) في باريس قائلة:

"وبئر العزب في صنعاء شبيه بحي (نويللي) في باريس.. حياة أنيقة ممتعة، والشوارع هادئة وليس فيها دكاكين، وعلى جوانبها أشجار دائمة الاخضرار تزدان أغصانها في الربيع بالعناقيد المزهرة. أما دورها الشاهقة فمتباعدة، وتقوم كل منها وسط بساتين مليئة بأشجار الكروم والمشمش واللوز والخوخ والرمان ... وفوق هذه الدور تتمايل هنا وهناك أشجار السرو، وتبدو جنباً إلى جنب مع قمم الجبال المحيطة، ولا يقطع هدوء الحي إلا صرير الآبار...".[12]

السبب في أن حي بئر العزب شبيه بحي نويللي سنجده في كتاب فرانك مرميه (شيخ الليل – أسواق صنعاء ومجتمعها). يقول: "فحي بئر العزب السكني الواقع غرباً والذي بُني خلال العهد العثماني الأول كان جزءاً من بلاد السلطان..."[13]. لم يعد باقياً من هذا الحي إلا اسمه فقط، ولنا أن تتخيل يمن اليوم لو أن الأئمة حافظوا على ما سبقهم من إنجازات وأضافوا إليها، لكنهم قضوا على كل شيء جميل صنعه الاستعمار أو الطبيعة!

للعثمانيين بصمة دموية في كثير من البلدان، لكنهم في اليمن قاموا بإصلاحات كثيرة: "يتمثل التجديد الإداري الذي أتى به الحكم العثماني إلى صنعاء في تأسيس البلدية التي كان رؤساؤها من اليمنيين..."[14]، وقد "حاول بعض الولاة العثمانيين تحسين التجهيزات الصحية والتعليمية للبلاد التي ظلت بدائية جداً. فقد أسس الوالي العثماني حسين حلمي باشا في صنعاء داراً للمعلمين، حيث جرى تعيين علماء زيديين للتدريس وفق مذهبهم. كما أُسست مدرسة أُطلق عليها (مكتب الإعدادية) خُصصت لتعليم أبناء الأعيان، كذلك مركز للتعليم المهني هو (دار الصنايع)، حيث كانت تدرس مبادئ النجارة والخياطة والحدادة والحياكة، ثم أقيمت ورشة دباغة في شعوب ... وبني مستشفى للعلاج المجاني بتمويل من المدينة. لقد كان للوجود العثماني بعض الانعكاسات على مظهر السوق وعلى تشكيلة السلع المعروضة للبيع فيه. فأقام تجار يونانيون وأتراك في الشارع الذي يربط ساحة القلعة، قصر السلاح الذي أقيم في موضع قصر غمدان، بسوق الصاغة. وأطلق السكان على هذا السوق اسم (سوق النصارى) أو (الكازينو) وكان يضم مقاهي تقدم المشروبات الكحولية لزبائن من الجنود الأتراك خاصة... بعد خروج الأتراك تبنّى الإمام يحيي سياسة انعزالية...".[15]

في كتابه "اليمن- رحلة إلى صنعاء" يقول رينزو مانزوني: "كان (بهرام باشا) حاكماً عادلاً وماهراً جداً، فأمر بشق طرقات كبيرة في جميع أرجاء اليمن، وببناء جسور فوق الأنهر الرئيسية وسدود لتطويق السيول المنهمرة. وأراح الشعب العربي من الكثير من الضرائب الثقيلة.."[16]. كما كانت إدارة أحمد مختار باشا حكيمة وإنسانية، "فشيد المستشفى العسكري في صنعاء، وثكنات المدفعية والجنود في (العرضي) والحديدة وتعز وزبيد ومناخة وإب وذمار وأبها وكوكبان وصعدة، وربط صنعاء بالحديدة عن طريق خط التلغراف، الذي مده منها بعد ذلك جنوباً إلى زبيد وحيس وإب وتعز، وشمالاً إلى أبها عاصمة عسير"[17]. ليست هذه حالة مثالية دائماً "إذ تمتص الحكومة المركزية دمه من دون أن يعود ذلك بمنفعة عليه، فيبقى دم تلك الشعوب رهينة جشع الحكام الأتراك الخبثاء".[18] ويبقى الفارق بين الحاكم الأجنبي والمحلي أن الأجنبي ترك آثاراً إيجابية تدل عليه فيما لم يترك الحكام المحليين إلا الدمار بمن فيهم حكام بعد الثورة الذين ظللوا يتسولون المعونات من الدول الأجنبية والمجاورة، تلك المعونات التي كان يذهب أغلبها لجيوب الحاكم!

طبيعة شاقة وقلوب قاسية

اللافت أن مذكرات أعضاء البعثة الدنماركية حول طبيعة سكان اليمن لا تختلف كثيراً عما هو سائد اليوم، الفارق أن أهل ذمار استبدلوا الحجارة بأسلحة أكثر تقدماً! أما أهل تهامة، فما زالوا معروفين بطيبتهم ولطفهم حتى اليوم. وما فعله اليمنيون بأعضاء البعثة قديماً، يحدث اليوم بأشكال مختلفة مع السياح الأجانب من خطف وقتل وتهديد، والتعامل الطارد للمستكشفين قديماً ما زال يطرد المستثمرين إلى اليوم. يقول مانزوني: "بغض النظر عن العناصر البديهية لمرور الحقب، فإن طباع اليمنيين ونمط حياتهم بقيا على حالهما"[19]. يؤكد هذه القاعدة بقوله: "ويعتبر العرب والقبيليون الآخرون سكان تلك البلاد (من ذمار إلى صنعاء) ذوي سمعة سيئة، ويصفونهم بالمحتالين والسارقين؛ وحتى أنا نلت نصيبي من خبثهم".[20] ولا ينسى مانزوني ذكر الاستثناءات بقوله: "والطريقة اللطيفة التي عوملت بها من قبل قائمي مقام ذمار وقعطبة، ومن رئيس الجمارك، والعديد من الضباط..".[21]

وتقول كلودي فايان في كتابها (كنتُ طبيبة في اليمن): "لقد تخيلتها بلداً ساحراً جذاباً... وقد علمت بعدئذ آسفة أنني بإزاء بلد جبلي في جنوب الجزيرة العربية مقفل الحدود يحكمه ملك..."[22]. وعن هذا الملك وسلطاته تقول: "تميل هذه السلطات أحياناً إلى معاملة الأطباء كما كانوا في أوروبا يعاملون الحلاقين في القرن الخامس عشر. وقد مات أحد أعضاء البعثة الطبية الفرنسية، وعاد الآخرون إلى فرنسا ساخطين بعد حوادث مزعجة خطيرة"[23]. وتصف رأي التاجر الفرنسي (انطونين بس) في اليمنيين -بعد أن قضى في عدن خمسون عاماً- بقولها: "إن اليمنيين ليسوا في نظره إلا مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق"[24]، وهو رأي أغلب المستثمرين الذين حاولوا الاستثمار في اليمن لكنهم اصطدموا بسياسة النهب والرشوة السائدة في مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الرئيس والوزراء.

المدينة التي قابلتْ أعضاء البعثة الدنماركية بالحجارة في أواخر القرن الثامن عشر، لم تتغير كثيراً في نظر فايان في منتصف القرن العشرين، ولم تتغير إلى اليوم على الرغم من وجود كثير من الكُتاب من أبناء هذه المدينة. تقول عنها: "وتعيش ذمار ومدينة يريم المجاورة لها في عزلة تامة بعيدتين عن الشريان التجاري الرئيس، وقد عُرف سكانهما بعدم ترحيبهم بالأجانب".[25]

ولا يختلف هذا الوصف عما ذكره المغامر هولفريتز في كتابه (اليمن من الباب الخلفي)، بقوله: "إن الغزو والسلب هما العمل الرئيس الذي يقوم به السكان"[26]. وبعد صعود الإمام أحمد استمر الوضع على ما هو عليه: "ولم يحدث كبير تبدل في عهد الإمام الجديد (أحمد) إذ ما زالت اليمن بلاداً محرمة، كما كانت في عهد نيبور".[27]

تأملات في البعثة الدنماركية – عندما يضحك القدر

في طريق عودة بقية أعضاء البعثة إلى أوطانهم مات اثنان على الباخرة ورميت جثتيهما في المحيط الهندي، وهما رسام البعثة بورنهانيد وخادم أعضاء البعثة. ثم لحق بهما كرامر بوفاته في الهند.

بذل فون هافن محاولات عديدة للتهرب من البعثة، وكأنه كان يفر من قدره الذي ينتظره. اشترى هافن مادة الزرنيخ بكميات كبيرة، فخشي أعضاء البعثة على حياتهم من نواياه. كان يلهو مع الموت لكن الموت انتصر في الأخير، وكأن الموت يخاطب هافن: ما حاجتك للسم، فالبيئة القاسية والطقس المتقلب والملاريا ستتكفل بكم! هافن الذي هدد فورسكال بالقتل وتنبأ بموت أعضاء البعثة، سخر منه القدر فكان أول من مات. وأرى أن تكاسله وميله للراحة والدعة أسهم في عدم تحمله للملاريا. ولحق به فورسكال بعد أقل من شهر تقريباً، على الرغم من أنه بدا أقواهم وأنشطهم.

لم ينجُ سوى نيبور الذي استكمل رحلاته لدراسة دول أخرى هي سوريا والعراق وإيران. تعرّض نيبور للملاريا، لكنه نجا منها. أظن أن العامل الأهم في نجاته هو خلفيته الفلاحية والبيئة القاسية التي عاش فيها. كان نيبور من أسرة فقيرة وقد ساعدته الظروف الصعبة التي عاشها في طفولته على الصمود أمام المخاطر والأمراض والبيئات القاتلة التي مر بها في اليمن، وغيرها من البلدان.

موت فورسكال المبكر، وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، لم يَحُل دون وضع اسمه في المحافل العلمية، ولولا الإهمال الذي طال جهوده لكان له شأن أعظم. القدر الذي طوى صفحة هافن سريعاً، دون أن يكتب فيها شيئاً يُذكر، ابتسم لنيبور فمنحه الشهرة، وهو لم يكن محباً للظهور والألقاب، ومنحه المال على الرغم من أن "الرغبة في جمع المال لم تكن من طباعه"[28]. أما الطبيب كرامر، الذي كان يتعالى على نيبور، ويطلب منه أن يناديه "السيد الدكتور"، فلم يُخلِّف أثراً علمياً يدل على وجوده في البعثة!

كان من بين أهداف البعثة الإجابة عن مئة سؤال في شتى التخصصات. تلك الأسئلة، التي استغرقت سنوات وحصدت حياة علماء بارزين، لم تعد مهمة اليوم، ويمكن تحقيقها، من خلال الإنترنت ومراكز الدراسات المحلية والمنظمات الدولية، ولعل أكثر الأسئلة لا تستغرق الإجابة عنها اليوم سوى ساعات محدودة.

استمر هانسن في طرح السؤال: لماذا سُمِّيت باليمن السعيد؟! وفي الفصول الأخيرة يكتشف أن التسمية ناتجة عن خطأ في الترجمة، يقول:

"إن الغموض في سبب التسمية قائم على سوء الفهم. إن تسمية البلاد بـ (العربية السعيدة) كانت غلطة في الترجمة. إن الكلمة الصغيرة (يمن) هي الاسم الآخر لهذه البلاد، في عصرنا هذا. وهذا الاسم الآخر هو المتسبب الحقيقي، ففي اللغة العربية، عنت كلمة (يمن) في الأصل: اليد اليمنى. ولكن حين يريد العرب تحديد زوايا الأرض الأربع، فقد واجهوا دائماً الشرق، مثلنا تماماً حين نجد في أوروبا أن من الطبيعي أن يواجهنا الشمال، ونتيجة لذلك فإن كلمة: يمن، التي كانت تعني أصلاً (يمين) أصبحت تعني أيضاً (جنوب). ومن المعروف أن العرب ينظرون إلى الجانب الأيمن على أنه مركز أعلى من الجانب الأيسر، حتى إن الأخير يقال عنه اليوم، إنه قذر، ويُنظر إليه نظرة واطية، بينما كلمة (يمين) أو (يمن) أصبحت تعني: محظوظ، أو مفيد، فأصبحت (العربية اليمن Arabia Yemen) تدعى في اللغة اللاتينية، مع تحريف في الترجمة (Arabia Felix) أي العربية السعيدة، كذلك في اللغة اليونانية والفرنسية والألمانية. وفي الحقيقة، هذه الكلمات تعني: جنوب الجزيرة العربية".[29]

لكن رغم هذا الاكتشاف الذي يؤيده الواقع المرير، ما يزال اليمن سعيداً في كل مرة يرد ذكره، لكن لنشرات الأخبار شأن آخر يربطه بالتعاسة والحروب، فما بُني على باطل فهو باطل.

[1] - مجلة ذوات العدد47

[2]- توركيل هانسن: من كوبنهاجن إلى صنعاء, ترجمة: محمد أحمد الرعدي, 1968, مركز الدراسات والبحوث اليمني, صنعاء, ودار العودة بيروت 1983

[3]- السابق، ص ص 73-74

[4]- السابق، المقدمة

[5]- السابق، ص 22

[6]- السابق، ص ص 28-29

[7]- السابق، ص 361

[8]- السابق، ص 361

[9]- السابق، ص 30

[10]- السابق، ص 30

[11]- هانز هولفريتز: اليمن من الباب الخلفي, ترجمة: خيري حماد, منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع 1961

[12]- كلودي فايان: كنت طبيبة في اليمن, تعريب: محسن أحمد العيني, منشورات المدينة, بيروت لبنان، ص 122

[13]- فرانك مرميه: شيخ الليل – أسواق صنعاء ومجتمعها, ترجمة: محمد السبيطلي ورندة بعث، قدمش، دمشق.

[14]- السابق، ص60

[15]- السابق ص ص 62-63

[16]- رينزو مانزوني: اليمن – رحلة إلى صنعاء 1877 – 1878, ترجمة: ماسيمو خير الله, وحدة التراث الثقافي, الصندوق الاجتماعي للتنمية, صنعاء 2011, ص 234

[17]- السابق، ص 243

[18]- السابق، ص 115

[19]- السابق، ص 13

[20]- السابق، ص 156

[21]- السابق، ص 172

[22]- كنت طبيبة في اليمن ص 26

[23]- السابق، ص 28

[24]- السابق، ص 36

[25]- السابق، ص 204

[26]- اليمن من الباب الخلفي، ص ص 31-32

[27]- السابق، ص ص 156-157

[28]- من كوبنهاجن إلى صنعاء، ص 68

[29]- السابق، ص 323