تخييل الذات وأسئلة الكتابة المغايرة قراءة في رواية "عندما يبكي الرجال" لوفاء مليح


فئة :  مقالات

تخييل الذات وأسئلة الكتابة المغايرة  قراءة في رواية "عندما يبكي الرجال" لوفاء مليح

تخييل الذات وأسئلة الكتابة المغايرة[1]

قراءة في رواية "عندما يبكي الرجال" لوفاء مليح

محمد أعزيز

إضاءة:

شهدت الرواية العربية تجديدا مسّ "كل عناصر المعمار الروائي وسجلات الكلام وطبيعة ووظيفة الكتابة، فقد أصبح النص الروائي خبرة جمالية ونسقا فنيا وإبداعيا ذا نكهة خاصة"[2]، "بانفتاحها على أشكال جديدة في الكتابة ترتبط بالتخييل الذاتي، أو بمزجها بين السرد السيرذاتي والسرد الروائي، مما ترتب عليه تداخل بين جنس السيرة الذاتية وجنس الرواية، هذه التجارب النصية والتداخلات الأجناسية في النص تفضي إلى خرق المعايير المألوفة في القراءة والتصنيف"[3]. "هذا التجريب أفرز خاصيات كتابية أهمها وجود ذاتين هما الذات الروائية والذات الرواية القائمة على التوحد بمعناه الصوفي"[4]. "هو في العمق انحراف وخرق للجنس ينتج عنه جنس مزدوج أو مختلط. إنه ضرب من المواجهة بين نسق الرواية ونسق السيرة الذاتية، سيفرض نفسه بوصفه معيارا يمكن أن نصطلح على تسميته بنسق (الرواية السيرة) وهو نسق جديد ينحرف عن نموذج الرواية"[5]. انحراف ارتكز على العودة إلى الذات ليتأملها تخييلا، لبناء عالم نصّي مربك للقارئ على اعتبار أن "التخييل الذاتي لا يقترح أي شكل من أشكال العقد القرائي، باستثناء التموقع التسويقي تحت عنوان الرواية الذي يزيد من تغميض الممارسة وتوريط المتلقي في مساءلة لا نهاية لها، فبعض النصوص من تلك الممارسة استقبلت بوصفها سيرا ذاتية أو شذرات من السيرة الذاتية وبعضها استقبل بوصفها نصوصا روائية".[6]

وفقا لذلك، فقد غدا الحديث عن قضية التجنيس والمرجعية في السرد المغربي الحداثي منفتحا، انطلاقا من الضيافة التي يدعونا إليها من أجل فتح نقاش بخصوص مرجعيته، وتبقى هذه القراءة طبعا، رهينة بمدى تماس القارئ مع المقروء، عن طريق المصاحبة المتأنية التي تفرض الولوج إلى عالم النص الداخلي دون الاطمئنان إلى المؤشر الخارجي، بما شكلته الحساسية الجديدة من خلخلة واعية لميثاق القراءة.

- "عند ما يبكي الرجال" أسئلة الذات، أسئلة الكتابة:

للوهلة الأولى ونحن نطالع العمل الذي بين أيدينا، يصادفنا مؤشر يسيج المقروء ضمن الرواية، فباعتماد هذا المؤشر يتعامل المتلقي مع "النص" باستحضار جملة من الاستعدادات الذهنية، فهو إزاء متن تخييلي للمبدعة وفاء مليح، لكن بمجرد قراءة بداية النص "... قصيدة كان دائما يردّدها في لقاءاتنا، ليتني جعلت المسافة بيني وبينه عصرا، بل عصورا، جعلت زمني في ذاكرة غابرة، ترى هل كان نزار قباني يعلم حينما كان يخط هذه الكلمات أنه يكتبني ويكتب زمني"[7]. وبعد التوجه إلى نهاية المتن "سلم لي صديقه المذكرات التي كتبها من مداد دمه...سألته...تجمدت في مكاني...أحسست بدوار...استجمعت قواي...سألته".[8]

يمكن أن نموقع حال الساردة، باعتبارها في الوقت نفسه البطلة. إذن فنحن إزاء وضعية التماهي المطلق بين الذات الساردة والذات المسرود عنها "تنفست بعمق لأزيل الغصة التي احتبست في جوفي، مسحت بأناملي دمعة ساخنة ذرفتها عيناي في يدي اليمنى المذكرات، ألقيت نظرة على غلافها، تسارعت دقات قلبي...أمتطي صهوة الغياب لألتحم بشيء من الذكرى".[9]

"أدرك أنني في هذه الفترة أعيش بلادة في الإحساس، لفحتني ريح الهزيمة واليتم، الخراب في نفسي كثيف منذ أن حصلت على شهادة الإجازة في القانون وأصبحت بعدها أطرق الأبواب بحثا عن العمل. يتحرش بي هذا ويطردني ذاك أبكي".[10]

يتضح لنا من خلال المقطعين السابقين أن الساردة /البطلة تتخذ البوح وسيلة لنقل مشاعرها إلى المتلقي، لتكشف وضعية اللاتوازن التي تمر بها فالبطالة معطى مادي اجتماعي مولدة للخراب، خراب يزداد حدة في ظل غياب موجع. من ثمة، فالمعاناة مزدوجة تدفع بالمبدعة إلى التعبير عن ذلك عبر الهمس به إلى المتلقي مبرزة أبعاد معاناتها لكي تقاوم ضعف العطالة والتيه.

وفقا لهذه المؤشرات، يمكننا أن نتساءل عن مدى حضور الأنا المبدعة ضمن هذا النص باعتباره حالة الوحدة والتطابق التي تتجسد بين الساردة والبطلة.

حضور لا يمكن وسمه بالكلي، بل نفترض فيه الاستثمار المنتج لبعض تفاصيل الأنا المبدعة، باعتبارها "محور العملية التخييلية ومادتها ومضمونها معا، تغذي السرد وتؤطر الحكاية وتستعيد التجربة الحياتية عن طريق الانتقاء والحذف والاختيار بغية تأسيس ملفوظ قادر على غواية القارئ بمختلف مستوياته واستدراجه إلى الانخراط في القراءة والتأويل".[11]

انخراط تكفله الرواية الجديدة وتقبله انطلاقا من هذا "اللامعنى...الذي جاءت به...فلم تبق أسماء الشخصيات على سبيل المثال حاملة للاسم الشخصي واللقب والانتماء إلى جهة ما، ولكنها عبارة عن حرف أو اسم مجرد، كما أن الأماكن التي كانت تعج بها الرواية الواقعية...صارت بلا أسماء ويمكن قول الشيء نفسه على الزمن. إنه لم يبق خطيا كما كان، ولكنه صار متداخلا مع الزمن النفسي والمتذكر والمتخيل...وحتى مفهوم البطل بالمعنى التقليدي لم يبق له وجود".[12]

- أسئلة الكتابة والتحول المجتمعي:

معلوم أن الرواية الكلاسيكية كانت محكومة بقواعد وضوابط تسيجها وقد تجسد ذلك عبر عنصر الإلهام الذي كانت تتغياه؛ فالروائي الكلاسيكي كان يعمد إلى إيهام القارئ بواقعية الشخصيات التي كان يوظفها، يحركها كما يحرك رقعة الشطرنج، وقد توسل في ذلك بآليات مختلفة، منها التركيز على الوصف والتدقيق في الملامح، وحضور التأثيث المصاحب للشخصية تكثيفا لإيحائيتها.

لكن حضور الشخصية في الرواية الجديدة عرف اختلافا كبيرا، حيث غابت معالمها وهذا ما نلمسه في العمل الذي بين أيدينا؛ فالمبدعة وفاء مليح لم تحدد ملامح شخصياتها إلا نادرا، فمعرفتنا عن البطلة/الساردة تقتصر على هذه المعاناة اللامتناهية التي تعيشها، وهي تسترجع آلامها، "ففاتن" الحاصلة على الإجازة في القانون تعتريها الآلام النفسية وتعصف بكيانها جراء البطالة التي تكتوي بها من جهة، وتجاه الغياب الذي خلفه الرحيل المؤلم لحبيبها من جهة ثانية، فلا تقاسيم وجهها حاضرة ولا صفاتها الحسية مذكورة بالتفاصيل التي عهدناها سابقا في الرواية الكلاسيكية، فهذه الأمور أصبحت متجاوزة في الرواية الجديدة، حيث عوضها التركيز على البعد النفسي للشخصيات كما بين ذلك هذا المقطع حين تكشف لنا الساردة عن نفسها مسلمة زمام ذلك لأحمد حين يقول: "ألتفت إليها أجدها صامتة وفي صمتها تقول شعرا يأسرني، غائبة وفي غيابها ترتل صلوات العشق حزينة وفي حزنها تثير الشهوة والرغبة في الامتلاك تجللها كآبة تزيدني هياما بها في وجودها يبدو الحزن جميلا...في ملامحها شموخ وأنفة وكبرياء وحنان وعنف وقسوة...".[13]

لقد صار الارتقاء بالجانب السيكولوجي همّا لدى الروائي الجديد فاستبدل ملامح الوجه الحسية بدلالات نفسية قوامها استبطان دواخل الشخصية معتمدا في ذلك تقنية المرايا، وذلك لتبيان التناقضات التي يتخبط فيها الفرد في هذا المجتمع الذي تتفاقم فيه الاختلالات الاجتماعية.

"في داخلي رغبة في عتمة غابت مع غياب ومض نفسي، أتجاوز حزنا بداخلي تحول إلى اكتئاب رهيب سرقت لحظات نوم لم أذقه منذ أيام أفقت على صباح كئيب متجهم كنفسي التي تناثرت في الفراغ، أخذت حماما عسى أن يذهب عني السواد الذي يلون جبهتي".[14]

إنه السواد الذي لون حياة "جيل وجد نفسه محاطا بجدار الهزيمة والعجز"[15]، وبذلك فالتركيز على الجانب النفسي للشخصية، الهدف منه بيان هذه الوحدة التي تتسم بها الشخصية في ارتباطها بفئة من الشباب الذي كان يتطلع إلى وطن أرحب، فهذه الأوصاف تنسحب على طبقة تعاني آلام الفقر والبطالة والحرمان والكبت، إنها شخصية متعددة في وحدتها، يجمعها هذا العجز اللامتناهي الذي يعيق تطلعاتها في وطن ضاق فيه الأفق، وتكسرت على أعتاب الفاسدين فيه آمال التغيير، في ظل يأس عميم تسرب إلى كل من عاين حقبة الانتكاسة السياسية، التي غدا فيها العمل السياسي وسيلة للاغتناء بدل الدفاع عن قضايا الشعب "مفارقة غريبة أتأملها أمامي سيارات لنواب جاؤوا يناقشون قضايا من بينها، أهم قضية وهي العطالة ومعطلون يجلسون بمحاذاة هذه السيارات".[16]

إن أحمد حين يتحدث عبر مذكراته في هذا المقطع يمثل فئة المثقف الملتزم، باعتباره أستاذا جامعيا، حاملا لهم التغيير، يحاول أن يسهم في بلورة أفكاره النضالية من خلال جمعيته بعد انفصاله عن الحزب الذي غير مرجعيته النضالية، فهذه الشخصية تقدمها الساردة من خلال محكي التذكر فتفرز لها مساحة مهمة للبوح بصيغة المتكلم (المذكرات).

فنعرف معاناتها النفسية مع العجز الجنسي، لتواصل الساردة الغوص في نفسيات الشخوص مهملة الملامح الخارجية، "أي نعم هذا جسد رجل، لكن أين رجولته أمام عجزه[...] هذا الجسد الذي شرب المتعة حتى الثمالة ها هو الآن يقطن مدينة الهجر تضربه رياح العجز، سرعان ما تهب عليه ذكريات الألم فيدخل في دوامة الخدر الحزين".[17]

إن التركيز على البعد النفسي في هذا العجز الجنسي لشخصية "أحمد" واضح في مختلف أطوار الرواية، ولعله عجز يتماشى مع الإطار العام الذي تستند إليه الساردة في مقاربة عجز مجتمعي عام، فعجز أحمد عن فرض تصوره في الحزب، يتماشى مع عجز الساردة عن تغيير وضعها وعجز أحمد عن البوح بعجزه لأعز أصدقائه، يعززه عجزه عن إقناع الشعراء والمثقفين بالانضمام إلى جمعيته من أجل الإسهام في التغيير، وقد عبر عن تداخل هذا العجز في مجتمعه من خلال بوحه الآتي:

"لم أعد أرى جسدي في المرآة، أقرأه فكرة مجنونة تخترق ذاكرتي، أعاود رسمه كلما هزتني أوتار الرغبة ثم هل أصبحت أحسّ هذا الجسد في زمن الانكسارات الموغلة فينا، فلم يعد للشهوة متعتها".[18]

فالحاجة إلى جسد سليم في مجتمع عاجز تبقى قاصرة عن تحقيق اللذة الحقيقية.

وفقا لذلك، فهذا الارتقاء النفسي بالشخصيات مرده إلى حالة اللاتوازن التي توحدها تجاه الوطن، توحد جعل هذه الشخوص متسمة بالتفكك، فهي قابلة للتفتيت جراء ما تكابده من جراحات متواصلة "تتكسر أطراف جسده وهو يتفرج عليها تسقط طرفا تلو الآخر".

هي صورة كافكاوية مأساوية في واقع مزر يدفع إلى الجنون كما هو حال مصطفى الذي جن بعد صراع مرير مع البطالة، وهو الذي تحصل على الدكتوراه في الفيزياء. إن هذا الوضع يضفي على الساردة "غلالة من ضباب تغلف النفس وتنهك الأعصاب والجسد، تجعله مفكك المفاصل، مجهد الأعماق".[19]

تفكك يولد الرغبة في الموت كلما تعمق الوعي باستحالة دفع العجز وهذا ما تعبر عنه شخصية أحمد حين يقول: "ازداد إحساسي بالوحدة مات في كل شيء فقدت كل حواسي أصبحت خاليا من كل الأحاسيس التي تثير في متعتي بالحياة مساحة غير محددة من الظلام تنتشر في أجواء نفسي".[20]

إنها الرغبة في الموت الناتجة عن جرح الوطن "جرحي ليس عجزي على الفراش جرحي أعمق وأوجع، جرحي فشل معلق على جدران الانتكاسات صاحب نضالي مدى الحياة...بين جسدي والوطن ميثاق كتب من حبر نفس واحدة، ليس جسدي إلا وطنا شكلت خريطته من نضال فتحت بابه على مصراعيه لأطارد الريح...تركتني أرضا جرداء لا تطرح نباتا".[21]

فضلا عما سبق ذكره عن هذه الشخصيات من حيث السمات، وجب أن نشير إلى وشيجة تجمع حضورها [الشخصيات] في هذا العمل ألا وهي الحضور في اللازمان واللامكان.

فوفاء مليح وعلى غرار الروائيين الجدد لا تعير أهمية لعنصري الزمان والمكان، باعتبارهما فضائي تأثيث، بل يأخذان في عملها أبعادا نفسية تتماشى والغرض العام الموجه لفعل الحكي.

من ذلك قول الساردة: "تذكرت أني أعتكف في الغرفة منذ أيام لم أشعر بمرور الوقت، الليالي كالنهارات، ونافذة مشرعة على المجهول، الغد آت، والأمس ولى، ...أمضي ولا أسأل إلى أين ومتى أسرج الخيل لأنطلق في كل العوالم، ساهمة عما حولي".[22]

فالزمان حاضر بهلاميته لأداء وظيفة البوح بالحالة المأزومة التي تعيشها الشخصية في ظل واقع الجمود الذي عطل الإحساس بالوقت، جمود متولد عن هذه البطالة كواقع اجتماعي مؤلم يتعزز بالتوتر العاطفي في ظل ذكرى حبيب تقلب المواجع وتزيد من حدة الآلام.

إن بناء الفضاء نفسيا يمكن عده سمة بارزة في هذا العمل من ذلك قول الساردة: "أهيم على وجهي في غياهب الذكريات والتذكر تقودني قدماي عبر شوارع هذه المدينة أجول في الفضاءات أحس بحرارة ودفء كما الجنين في رحم أمه هي ذي مدينتي إذن مدينة البحر والحب والحزن والأحلام المنكسرة...أعجز عن ضبط مشاعري، تتبعثر الأفكار وتتداخل الأزمنة".[23]

إن الساردة وفاء مليح باشتغالها على الشخصيات على هذا النحو، إنما تعمد إلى البوح والشهادة باعتبار انتمائها إلى زمن الخيبة المجتمعية لجيل كان حالما بالتغيير، فاصطدم بواقع المرارة والانتكاسة في ظل انحسار دور المثقف وانحراف السياسي. ومن ثمة، فالساردة تشتغل "بالذاكرة في أبعادها الفردية والجماعية وبمضامينها الذاتية والسياسية والاجتماعية مع ما يصاحب هذا الاهتمام من ضروب المشاركة المتحررة في مفاوضة الذاكرة الوطنية بوصفها شكلا لإدراك الناس لقوتهم الجماعية وتخلصهم من الخوف الذي أبقاهم في أمكنتهم".[24]

- التعدد اللغوي أفقا للكتابة:

"تلتقط الرواية جدلية اللغات كأفق لتشخيص أدبي، يكرس وعيا[...] باللغة وقدراتها على تكسير أحادية التنميط اللغوي الكلاسيكي، إن اللغة من هذا المنظور تشكل مدخلا آخر لممارسة المفهوم المتجدد لمكون الصراع داخل الممارسة الروائية".[25]

صراع يأخذ أبعادا مختلفة في النص الذي بين أيدينا، إذ تحضر مستويات مختلفة للغة تتداخل فيما بينها لتعكس تناقضا مثيرا، إنه تناقض بحجم المرارة التي تعيشها الشخصيات، فاللغة تضطلع عبر مستوياتها المختلفة بمهمة الكشف عن تناقضات المجتمع من خلال فئاته المختلفة وتبعا لذلك يمكن أن نجسد هذه المستويات اللغوية المتباينة من خلال ما يلي:

  • لغة البوح والهمس:

فالساردة عبر تمكنها من تطويع آلية السرد (اللغة) قد أبدعت في جعل لغتها بوحية مشحونة بالتعابير النفسية المحاصَرة بضمير المتكلم، الذي أضفى على اللغة سمة الهمس "أجل تهدأ نفسي وأدخل في علاقة جميلة مع الله أحسني أمارس رياضة روحية تملأ وجداني، كياني"[26] ويزداد هذا البوح رقة حين تكشف الساردة عن علاقتها بمحبوبها حين تقول: "رغم خمسينيته أشعر نحوه بشعور الأم تجاه طفلها، أفرح عند فرحه، أقلق عند قلقه وأكون له الحضن الذي يستكين إليه".[27]

فالبوح يبلغ منتهاه على اعتبار أن الساردة تبوح بما تكتمه عن محيطها للقارئ ليشاركها أحاسيسها، فهي تستأمن القارئ هامسة إليه بمشاعرها التي يكبتها مجتمعها، هذا الكبت هو الذي يعزز من آلامها التي تبثها في استخدامها للغة التنديد والصراخ.

  • لغة التنديد والصراخ:

وظفت هذه اللغة لانتقاد واقع الحال المزري الذي تتخبط فيه الساردة وبقية الحالمين من شباب جيلها، ونجد ذلك في قولها "سأتعفر بتراب بلدي وأصرخ، حتى وإن كان صراخي تسمعه فقط جثث المقابر وصداه لا يتجاوز جدرانها، فهنا جذوري، هنا روحي، هنا لغتي سأكتفي بحروف ثائرة".[28]

يشكل الحرف/الكتابة وسيلة الساردة من أجل الصراخ والتنديد بالواقع المؤلم الذي تصطدم به، إذ لا سبيل لمواجهته إلا بفعل الكتابة، فهي الخلاص الذي تحتمي به في ظل مجتمع يكبل حريتها ويقيدها وبذلك تتستر المبدعة بلسان الساردة لكي تعلن انتصارها للأطروحة النسوية في إبداعها، لكونها "تنطلق من المرأة، باعتبارها ذاتا وموضوعا للكتابة"[29]، فنجدها تترافع بلغتها هذه ضد الرجل الذي "لا يعرف...أن المرأة كائن ذو رهافة إحساس".[30]

كما نجدها تستنكر بقوة استغلال الفتيات في هذا المجتمع الموبوء الذي تنتمي إليه وذلك في قولها: "ماذا تنتظر من أمة أصابها الوهن لم تعد قادرة إلا على قول الشعر وزرع التطرف الديني وتأثيث مواخير العهارة بفتيات يستقبلن الحياة فيها بحثا عن لقمة العيش".[31]

إن احتجاج الساردة لا يقتصر على هذه الفئة من النساء، بل يتسم بالشمولية، وذلك نستشفه من خلال التنديد الوارد على لسان فاطمة الممثلة لنموذج المرأة المثقفة الحاملة لشهادة عليا والمكتوبة بنار البطالة، حيث ورد على قولها في حوار معين ما يلي:

"لكن الأمر لا يزداد إلا سوءا وبقدر ما تتقدم السنوات تتزايد نسبة البطالة، هذا لا يشعرنا إلا بالإحباط، ورغم ذلك نقف ونحتج".[32]

إن هذا الاحتجاج الذي احتفت به لغة الساردة مردّه إلى تلك التقاليد البالية التي أثقلت كاهلها، فأحست معها باستلاب إنسانيتها وقد عبرت عن ذلك في قولها: "أنا إنسان حر قبل أن أكون امرأة، لن أقدم فروض الولاء والطاعة للتقاليد المريضة التي تكبلني، وتحرمني من حقي في ممارسة حياة كائن إنساني مستقل سأتجاوزها وأفتح ذراعي للحياة".[33]

إنه نزوع نحو الاستقلالية عن كل ما من شأنه أن يعطل إرادة الحياة بالنسبة إلى المرأة المغربية، فالساردة/البطلة تعلن تمردها على وضعها من أجل التأسيس لحياة أفضل، تمرد انطلق عبر فعل الكتابة للصراخ في وجه المجتمع وتقاليده البالية، تمرد مرده إلى الوعي بالذات المتحصل لدى الساردة في زمنها، فهذا "الوعي الذاتي المستقل هو أساس الكينونة الحرة التي تحوز إرادتها الخاصة عبر استعادتها للحرية، وعبر جعل هذه الاستعادة موضع اعتراف، فاستعادة الحرية التي تم فصلها عن الكينونة، إنما تتم على قاعدة الآخرية".[34]

إن لغة الصراخ والتنديد هذه أضفتها الساردة على ملفوظ شخصيات أخرى من بينها شخصية أحمد الذي تنكر له حزبه، فعبر صارخا "أنا لست إنسانا، هذا ما أشعر به في حالتي هذه أنا ديناميت قنبلة قد تفجر نفسها في أي زمن وفي أي مكان".[35]

  • لغة العجز والاستسلام:

تتماشى هذه اللغة مع المناخ العام الذي ينتهي إليه مصير أحمد الذي حاول أن يغير من الواقع الشخصي المجتمعي والسياسي، لذلك فالملفوظ المنسوب إليه في عديد المناسبات شكل حالة يأس، باعتبار وضعه الجسدي الفاقد لفحولته "لكني عجزت عن الجواب على أنقاض الأيام أحاول خلق إنسان بدون عورة...لكني حين أنظر في المرآة تبرز صورة رجل ذابل كأوراق خريف يتيم".[36]

هذا على المستوى الشخصي؛ أما في خطابه تجاه الوضع المجتمعي، فيتجلى خطاب العجز في قوله: "حدثته عن تاريخي في النضال، وعن السنوات التي أمضيتها في البحث عن معادل موضوعي لهدفي في الحياة والشعور الذي وصلت إليه هو العبث واللاجدوى من حياتي كلها".[37]

إن خطاب العجز هذا لم يقتصر على شخصية أحمد، بل نجده أيضا في خطاب الشاعر عبد الله الذي استسلم لواقع الأمر يائسا من كل تغيير "بل أنا واقعي ولا أرى العالم إلا كما أجده وأعيشه، قل لي أنت الذي لست عدميا، هل استطعت أن تخلق الفعل وتخلق لغة تتواصل بها من أجل نفخ روح التغيير في جسد الشعب؟".[38]

يتضح لنا من خلال ما سلف، أن الرواية تغيرت بتعددها اللغوي وبذلك كانت فضاء رحبا للتعبير عما يخالج المبدعة تجاه مجتمعها عبر هذا التهجين اللغوي الذي "أمن للرواية بلوغ تلك الحوارية التي تجمع بين الشيء ونقيضه، إذ الشخصيات تترجم التنوع المجتمعي والثقافي في المجتمع التقليدي وتعري بنيات السلطة والمقاومة فيه وبهذا تكتسب اللغة السردية وفكرها دورا محوريا في هذه الرواية".[39]

- السرد عبر النوعي شكلا في الكتابة:

يعد السرد عبر النوعي مكونا من مكونات الكتابة السردية الجديدة، باعتبار الانفتاح الذي ميز النص الجديد، إذ غدا قابلا لكل الأنواع الكتابية الأخرى نظرا للاستيعاب الذي تدعو إليه رواية الحساسية الجديدة، "وهذا ما يضفي على الكتابة ضروبا من التمازج والتداخل بين العناصر النوعية المتمايزة"[40]. وبهذا "تشكل نموذجا حيا للكتابة المركبة والمنفتحة على آفاق التنويع والتعدد فهي فسيفساء من القوالب والنصوص والزخارف الفنية المتداخلة والمتحاورة"[41]. بهذا التنويع الخلاق تشكل وفاء مليح عملها الإبداعي وفق استراتيجية تجريبية، عمدت فيها إلى الاحتفاء بالتداخل الأجناسي في روايتها التي استوعبت أشكالا كتابية متعددة نذكر منها:

● المذكرات:

تستند الروائية وفاء مليح في نسج عملها الإبداعي على أدب المذكرات، باعتباره شكلا كتابيا محوريا يسهم في خلق حوارية بين عمليتي السرد بصيغة الأنا الساردة، مع إفساح المجال لعملية الحكي المقروء الموازي للعملية الأولى، ويتجلى ذلك في دعوتها السلسة للمتلقي إلى الاطلاع على ما خلفه "أحمد" من مذكرات سلمت إليها وحدها بعد أن أقدم على الانتحار حين استفحل به العجز المؤلم، وأدى به إلى كآبة شديدة. تقول الساردة "ارتكنت إلى فراشي وفتحت دفتي المذكرات وانصهرت أقرأ: {ابتدأ يومي بنزيف داخلي، احترقت فيه أعصبي... نمتح منه هموم البؤس في العلاقات الإنسانية... علاقة الحزب يشوبها الخراب}".[42]

لقد أدارت الساردة دفة الحكي بمهارة عالية استطاعت من خلالها استيعاب شكل المذكرات في عملية السرد باعتماد تقنية السرد الموازي، إذ إن القارئ يتعقب في هذا النص سيرة الساردة لاسترجاع سيرة حبيبها الذي استسلم إلى مأساته، إنه تواز سردي بين شكلين، فالسرد الاسترجاعي للساردة البطلة يستوعب شكل المذكرات، باعتباره خطابا متَضَمَّنًا في لعبة تداخلية مشوقة لا تنكشف أبعادها إلا بعد انتهاء فعل القراءة.

● الشعر:

إن أول ما يصادفه القارئ حين يفتح الرواية هو تلك القصيدة المنتسبة لصاحبها نزار قباني نذكر منها المقطع الآتي:

اكبري عشرين عاما...ثم عودي

إن هذا الحبّ لا يرضي ضميري

حاجز العمر خطير... وأنا

أتحاشى حاجز العمر الخطير...

نحن عصران فلا تستعجلي.

بعد هذا المقطع، تستهل الساردة فعل السرد بتعليقها الآتي "قصيدة كان دائما يرددها في لقاءاتنا ليتني جعلت المسافة بيني وبينه عصرا".[43]

تعليق لن يدرك القارئ عمقه إلا بعد الانتهاء من قراءة العمل الروائي، ليستخلص أن فعل البوح المعلن عنه بعد المقطع الشعري يتشكل مداره في هذه العلاقة اللامتكافئة من حيث انتماء أطرافها العمري؛ فالساردة شابة في مقتبل العمر بينما العاشق كهل خمسيني، لذلك فالرواية نسج حكائي لقصيدة تعكس هذه الاستحالة المؤلمة على مستوى تحقق العلاقة واكتمالها.

إن حضور الشعري في هذا السردي لا يقتصر على جانبه الفصيح، بل يتغذى بالزجل، باعتباره مكونا فنيا مغربيا، وذلك عبر استحضار الساردة لمقاطع من أزجال ناس الغيوان الشهيرة، بما يتماشى والبعد السياسي الملتزم الذي مثلته شخصيات البطلة في النص، من ذلك نجد:

"أترك لنفسي فسحة من التأمل وأعبر العالم مع دندنة أغنية ناس الغيوان - الصينية -

فين اللّي يجمعوا عليك أهل النية

وووواهيا الصينية

دوك اللي ونسوك ...[44]

● البيان الجمعوي/ الحزبي

إن التداخل على مستوى النصوص في هذا العمل الذي نحن بصدده لا يقتصر على ما هو أدبي، بل إنه في انفتاحه استوعب خطابات أخرى كالبيان الذي ضمنته المبدعة في روايتها لإغناء النص وإثرائه بحثا عن ذلك التمازج الفعال، مع مراعاة السياقات التوظيفية، وقد برعت في ذلك إلى حد بعيد، حيث استطاعت الرواية امتصاص هذه النصوص إذ كان الاستيعاب مرنا وهذا ما نلمسه بخصوص البيان الذي تمت صياغته على لسان "أحمد" في شكل مقترحات ضمن اجتماع الجمعية، وهذا ما يبرزه هذا المقطع:

"غياب الديمقراطية داخل الأحزاب يشكل حاجزا يحول دون تمكين الشباب من تحقيق ذاته داخل بنيات حزبية تعاني من عدة أعطاب. لهذا أقترح ما يلي:

- منظومة تعليمية ديمقراطية تستحضر البعد الديمقراطي التشاركي إعدادا وتنفيذا.

- إحداث تنظيم ديمقراطي جماهيري وقوة شبابية فاعلة قادرة على تحريك الشباب والتعبير عن مطالبه، وذلك من أجل:

* تقوية الفعل الوحدوي الشبابي

* إيجاد أرضية مطلبية مشتركة.

تبني خطاب وتواصل حداثي يقوم على المدونة ويحقق الجاذبية، ويتيح إمكانيات التفاف أوسع للشباب...".[45]

تلك بعض الخطابات التي تتداخل في رواية "عندما يبكي الرجال" لصاحبتها وفاء مليح، تداخل لا يقتصر على ما تم التنبيه إليه، إذ نجد هناك خطابات أخرى كالقصة أو الحكاية، إضافة إلى ما تحيل إليه عديد التعالقات النصية، بذلك فقد شكلت الأنواع السابقة مجرد نماذج تمثيل لهذا الشكل الذي تغيت الساردة الكتابة وفقه باعتباره نمطا كتابيا مغايرا، يعزز انتماء نصها إلى الرواية الجديدة "لما تجنح صوب المزج بين الفنون والأجناس التعبيرية المتباينة".[46]

 

المراجع المعتمدة:

مصدر الدراسة

وفاء مليح، عندما يبكي الرجال، أفريقيا الشرق، الطبعة الثانية 2011

الكتب:

-          إدريس الخضراوي، سرديات الأمة، أفريقيا الشرق 2017

-          جمال بوطيب، الرواية العربية الحديثة، المرجع والدلالة عالم الكتب الحديث ط 1، 2013

-          حسن لشكر، أنساق التخييل الذاتي والمذكرات والسيرة الذاتية في الرواية العربية الجديدة، المطبعة السريعة القنيطرة الطبعة الأولى 2010

-          سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، دار الأمان، الطبعة الأولى 2012

-          محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب في الرواية المغربية المعاصرة، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الأولى 2006

المجلات:

-          سعيد يقطين، التجريب وما بعد التجريب أية صيرورة، البلاغة والنقد الأدبي، العدد السادس، ربيع/صيف 2016

-          عبد العزيز بومسهولي، فكر ونقد، السنة السابعة عدد 67 مارس 2005

-          عبد الله شطاح، تسريد الذات بين الرواية والسيرة الروائية، المرجع والمتخيل، عالم الفكر عدد 171، (يناير/مارس) 2017

-          محمد بوعزة، أثر المؤلف تجاذبات الواقع والتخييل، مجلة البلاغة والنقد الأدبي العدد السادس، ربيع / صيف 2006

[1]- مجلة ذوات العدد 48

[2]- حسن لشكر، أنساق التخييل الذاتي والمذكرات والسيرة الذاتية في الرواية العربية الجديدة، المطبعة السريعة القنيطرة الطبعة الأولى 2010، ص14

[3]- محمد بوعزة، أثر المؤلف تجاذبات الواقع والتخييل، مجلة البلاغة والنقد الأدبي العدد السادس، ربيع / صيف 2006

[4]- جمال بوطيب، الرواية العربية الحديثة، المرجع والدلالة عالم الكتب الحديث ط 1 2013، ص 159

[5]- محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب في الرواية المغربية المعاصرة، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الأولى 2006، ص 24

[6]- عبد الله شطاح، تسريد الذات بين الرواية والسيرة الروائية، المرجع والمتخيل، عالم الفكر عدد 171، (يناير-مارس) 2017 ص 20

[7]- وفاء مليح، عندما يبكي الرجال، أفريقيا الشرق، الطبعة الثانية 2011، ص5

[8]- عندما يبكي الرجال، ص 175

[9]- عندما يبكي الرجال، ص 6

[10]- الرواية نفسها ص 13

[11]- عبد الله شطاح تسريد الذات بين الرواية والسيرة الرواية، ص 15

[12]- سعيد يقطين، التجريب وما بعد التجريب أية صيرورة، البلاغة والنقد الأدبي، العدد السادس، ربيع/صيف 2016، ص 107

[13]- عندما يبكي الرجال، ص 51

[14]- عندما يبكي الرجال، ص 74

[15]- الرواية نفسها، ص 68

[16]- الرواية نفسها، ص 88

[17]- عندما يبكي الرجال، ص ص 82-83

[18]- الرواية نفسها، ص 96

[19]- الرواية نفسها، ص 32

[20]- عندما يبكي الرجال، ص 160

[21]- الرواية نفسها، ص 172

[22]- الرواية نفسها، ص 74

[23]- عندما يبكي الرجال، ص ص 14/15

[24]- إدريس الخضراوي، سرديات الأمة، أفريقيا الشرق 2017، ص 95

[25]- محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب الروائي...ص 110

[26]- عندما يبكي الرجال، ص 61

[27]- عندما يبكي الرجال، ص 64

[28]- الرواية نفسها، ص 14

[29]- سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، دار الأمان، الطبعة الأولى 2012، ص208

[30]- الرواية نفسها، ص 63

[31]- الرواية نفسها، ص 112

[32]- عندما يبكي الرجال، ص 115

[33]- الرواية نفسها، ص 78

[34]- عبد العزيز بومسهولي، فكر ونقد، السنة السابعة عدد 67 مارس 2005، ص 38

[35]- الرواية نفسها، ص 24

[36]- عندما يبكي الرجال، ص 126

[37]- الرواية نفسها، ص 126

[38]- الرواية نفسها، ص 110

[39]- إدريس الخضراوي، سرديات الأمة م س، ص 276

[40]- محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب ...، مرجع سابق، ص 136

[41]- نفسه، ص 145

[42]- عندما يبكي الرجال، ص 23

[43]- عندما يبكي الرجال، ص 5

[44]- الرواية نفسها، ص 69

[45]- عندما يبكي الرجال، ص ص 35/ 36

[46]- محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب، ص 136