قراءة في كتاب: "جسد مقيم في سرير: حكاية عن الحب والأمومة والنجاة" للدكتورة ميادة كيالي
فئة : قراءات في كتب
"جسد مقيم في سرير: حكاية عن الحب والأمومة والنجاة"
للدكتورة ميادة كيالي
على سبيل التقديم
يمثل الانتقال من الإنجاب إلى الكتابة رحلةً وجودية عميقة، تتخطى حدود الجسد لتفتح للمرأة آفاق الفكر واللغة. فالمرأة التي تختبر تجربة الولادة لا تكتفي بمنح الحياة، بل تكتشف في زلزلة المخاض طاقةً خَلّاقة تدفعها إلى إعادة صياغة ذاتها في الكلمات؛ فيغدو الألم معنى، والدم حبرًا، والمخاض مخيلة تبحث عن لغةٍ تحتضن دهشة الميلاد وتحوّلها إلى وعيٍ جديد. هكذا تصير الكتابة امتدادًا للفعل الأمومي، ولادةً ثانية لكن هذه المرّة لذاتٍ متحررة، تدوّن أثر الجسد وتحمل خبرة الأمومة إلى فضاء الفكر والحياة.
في هذا السياق، يتجلّى كتاب «جسد مقيم في سرير: حكاية عن الحب والأمومة والنجاة» للدكتورة ميادة كيالي، الصادر عن دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع سنة 2025، بوصفه تجربةً فكرية وأدبية استثنائية تتقاطع فيها السيرة الذاتية مع التأمل الفلسفي والبحث الوجودي. فمن خلال نصٍّ ينطلق من تجربة شخصية حميمة، تنجح الكاتبة في تخطي حدود الاعتراف الفردي لتثير أسئلة كبرى حول معنى الأمومة، ومكانة الجسد، ودور الكتابة في مواجهة الفناء واستعادة الحياة. إنه نصّ متعدد الطبقات، يستدرج القارئ إلى تأمل العلاقة بين الألم والخلق، وبين الخاص والعام، وبين المرأة والمجتمع.
تعود المؤلفة في هذا العمل إلى مخطوط كتبته عقب ولادة توأمها سنة 1999، لتعيد إحياءه بعد ربع قرن بعين أكثر نضجًا وتجربة. غير أن هذه العودة ليست مجرد استرجاع لذكريات ماضية، بل فعل تفكير وإعادة قراءة يربط الماضي بالحاضر، ويجعل من الكتابة أداةً لحفظ الذاكرة ومقاومة النسيان. ومن خلال هذا الحوار مع الزمن، يتحول النص من سيرة أمٍّ إلى شهادة إنسانية مشرعة على الصراع مع الألم.
قصة إنجاب في مختبر الحياة
يأخذنا الكتاب إلى تجربة أمومة استثنائية، تبدأ من لحظة القرار وتستمر عبر مسار طبي شاق. ليست قصة إنجاب عادية، بل رحلة محفوفة بالمخاطر والأمل، حيث يصبح المختبر بديلاً عن الطبيعة، وطبق زجاجي صغير مسرحًا للحلم. فالتخصيب المخبري، بما يحمله من تدخلات طبية دقيقة وحقن هرمونية وانتظار مضنٍ، يحوّل فعل الولادة إلى مغامرة وجودية، تتقاطع فيها التقنية مع أعمق رغبات الإنسان. في هذا السياق، لا ينحصر الحلم في حمل الجنين، بل يمتد إلى إعادة اكتشاف الذات: امرأة تُنجب نفسها من جديد وهي تخوض معركة الصبر والخوف والرجاء.
إنها تجربة تنقل الأمومة من معناها البيولوجي المباشر إلى اختبار أخلاقي ووجودي، حيث تتعلم المرأة معنى الاحتمال، والقدرة على الحلم رغم الانكسار. وحين يتحقق الحمل أخيرًا، لا يكون الفرح مجرد استجابة بيولوجية، بل ولادة متجددة لهوية جديدة، تتخللها ذاكرة الألم ووعيٌ متنامٍ بقدرة الجسد على المقاومة والخلق. تقول الكاتبة: "كان كلّ شيء من حولي باردًا، موحشًا على نحوٍ لم أكن أتخيّله. غرفة الولادة التي كنت أظنّها مقدّمة الحياة، بدت لي في لحظتها كأنها غرفة عبور إلى المجهول، كانت الوجوه كثيرة، متشابهة، غائمة. لم أستطع تمييز أيّ منها، سوى وجه الطبيب. تعلّقت عيناي به من شدّة الخوف، كأنني أخشى أن يبتعد، فأضيع معه في هذا العالم الأخضر الذي انزلقت إليه، وأنا على سريرٍ جلديٍّ طويل، أرتجف مع كل صرير تصدره العجلات على البلاط البارد. من الإضاءة القاسية المتدلّية في منتصف السقف، أدركت أنني وصلت غرفة العمليات. كل شيء كان يحدث بسرعة، غرفة يغمرها اللون الأخضر، ويبتلعها. الأرض، الجدران، الثياب، القبعات، الأدوات، كل شيء اندمج في لونٍ واحد، حتى إنّي لم أعد أفرّق بين الممرضات، كأنَّ الملامح ذابت واختلطت في لوحة واحدة مصبوغة بالخوف والرجاء والأخضر. أحسست بالغربة، وببرودة لا تشبه الطقس، بل تشبه الوحدة. دقائق من اللاوعي مرّت كدهر... حتى استيقظت على يد الطبيب تمسك بيدي المرتجفة، تشدّ عليها برفق. كانت تلك اليد الحانية دفئي الوحيد، وربما صلاتي الضئيلة في تلك اللحظة".
الأمومة كنجاة وولادة للذات
تقدّم الأمومة في تجربة ميادة كيالي بوصفها حدثًا وجوديًا مضاعفًا؛ فهي مواجهة مع أقصى حدود الألم، وفي الوقت ذاته احتفاء بولادة كبرى للذات. فحين تمنح المرأة الحياة، تجد نفسها مدفوعة إلى إعادة اكتشاف أعماقها، وكأن المخاض لا يقتصر على خروج كائن إلى العالم، بل يفتح في داخلها أفقًا جديدًا للوجود. في هذه اللحظة القصوى من الهشاشة يتجلّى معنى النجاة: نجاة الجسد من المحنة، ونجاة الروح من العدم، وولادة وعي جديد يربط بين الحياة والموت في حركة دائمة.
لا تنظر كيالي إلى الأمومة كواقعة بيولوجية فحسب، بل كرحلة تحوّل داخلي تعيد للمرأة قدرتها على خلق المعنى. فهي نجاة مزدوجة: نجاة من العدم الذي يتهدد المرأة في مجتمع يربط قيمتها بالإنجاب، ونجاة من وهم أن الولادة مجرد فعل جسدي. في نصّها، يصبح الألم طاقة خلاقة، لا عائقًا، يفتح أمام الأم إمكانات للنمو والخلق، تمامًا كما يولد الطفل ويولد النص في لحظة واحدة. فكما تلد الأم جسدًا جديدًا، تنجب الكاتبة كتابةً تقاوم النسيان وتحوّل المعاناة إلى حبر يمدّ التجربة النسوية والفكرية بدم الحياة.
تقول الكاتبة واصفةً هذا العبور: «اكتشفت أن الخوف لا يُهزم بالشجاعة وحدها، بل بالحب، وأن الجسد حين يخضع قد تنكسر فيه العظام، لكنّ الروح تشبّ، تكبر، وتتسع كأنها تتهيأ لاحتضان اثنين بدلًا من واحد، ليفرح النهر. الولادة، كما فهمتها، ليست جهدًا جسديًا فحسب، بل انتقال روحي؛ هي الباب الذي تعبر منه المرأة لتصير شيئًا لم تكنه من قبل. لا تعود كما كانت، ولا تنظر إلى العالم بالطريقة نفسها. لقد علّمتني تلك اللحظة أن الألم ليس العدو، بل المعبر، وأن أكثر لحظات الضعف قد تخفي بدايات القوة التي تغيّرنا إلى الأبد».
الكتابة كفعل ولادة
تغدو الكتابة في تجربة ميادة كيالي فعلَ ولادة ثانية، انفجارًا داخليًا يتجاوز حدود الحبر واللغة، لتصير مخاضًا آخر تُنجب فيه المرأة ذاتها ومعناها. فإذا كانت الولادة الجسدية تهب الحياة لطفل، فإن الولادة عبر الكلمات تهب الحياة للفكر والذاكرة، وتفتح في الروح منفذًا للنجاة من الصمت والفناء. كل جملةٍ هنا صرخة أولى، وكل فقرةٍ نفسٌ عميق يعلن قدوم وجود آخر إلى العالم. في هذا المخاض الإبداعي يتحوّل الألم إلى مادة للخلق، والجراح إلى مساحات للنور، فيولد النص كجسد حي ينبض بدم التجربة، حاملاً أثر الألم ومتعة الاكتشاف. وهكذا تغدو الكتابة أكثر من مجرد وسيلة للتعبير؛ إنها إنجاب متواصل يحرّر المرأة من قيودها، ويمكّنها من ابتداع حياة ثانية، حيث يولد الكاتب والقارئ معًا في كل قراءة جديدة.
تقول ميادة كيالي: «الكتابة إعادة خلق قوامها الكلمات؛ والكلمات حروف منثورة في الطريق. حين تلتقطها المرأة الكاتبة وتنفخ فيها من روحها، تعيد إحياءها بعد أن تكسوها بالصلصال الأبدي الذي يجعلها خالدة، حارة، وجارحة؛ لأنها تخدش الزمن، وتثير المفارقات، وتهزأ بالمستحيل».
ينطلق نص «جسد مقيم في سرير» من رسالة حميمية كتبتها المؤلفة لطفليها فارس وكريم، تستعيد فيها تفاصيل الحمل والولادة بما حفّهما من قلق وفرح وألم. ومع مرور السنوات، تحوّلت تلك الرسالة من توثيق شخصي إلى شهادة إنسانية مفتوحة على أسئلة كبرى: ما الذي يبقى من التجربة حين تتحول إلى ذكرى؟ وكيف تستطيع الكلمات أن تحفظ ما ينفلت من قبضة الزمن؟ تعترف المؤلفة بعجز اللغة عن احتواء التجربة بكليتها، لكنها ترى في الكتابة ضرورة وجودية، محاولة دؤوبة للإمساك بما يتفلّت، وجسرًا للتواصل مع الآخر. فالكتابة، شأنها شأن الولادة، تحتاج إلى صبر وصمت كي تكتمل، وتتيح للكاتبة أن تكتشف ما كان مستترًا عنها أثناء المعايشة.
بهذا المعنى، يمزج الكتاب بين الحميمي والفلسفي، فيقدّم شهادة شخصية تتجاوز إطارها الفردي لتغدو مرآة لتجارب النساء عمومًا، وجسرًا للحوار مع الرجال أيضًا. إنه نصّ عن الجسد وهو يعبر الألم ليخلق، وعن اللغة وهي تحاول القبض على ما يتفلّت منها، وعن الإنسان وهو يواجه الحياة والموت بشجاعة الكلمة. تقول الكاتبة: «كم يبدو الجسد في لحظات كهذه صفحة مفتوحة للأطباء، وخزانة مغلقة بالنسبة لنا، يقرؤون تقلصاته ونبضاته ويرصدون احتمالاته، بينما لا نملك نحن إلا الإحساس والانتظار والتضرع الصامت…».
يذكّرنا كتاب «جسد مقيم في سرير» بأن الولادة ليست حدثًا بيولوجيًا فحسب، بل فعل متكرر في الحياة والفكر، وأن الكتابة نفسها شكلٌ من أشكال الأمومة: ولادة للمعنى، للذاكرة، وللذات المتجددة.
خلاصة
إن كتاب «جسد مقيم في سرير» ليس مجرد حكاية عن الأمومة، بل هو نصّ عن الإنسان في أعمق حالاته، عن هشاشة الجسد وقوته، عن الألم الذي يتحول إلى طاقة حياة، وعن الكتابة التي تصبح وسيلة للنجاة. بقوة لغته وتماهيه بين السيرة والتأمل، يفتح الكتاب أفقًا رحبًا لإعادة التفكير في العلاقة بين المرأة وجسدها، وبين التجربة الفردية والأسئلة الوجودية الكبرى. إنه عمل أدبي وفلسفي يثبت أن الولادة، سواء كانت بيولوجية أو لغوية، تظل فعلًا متجددًا يعيد للإنسان قدرته على البدء من جديد.