ترجمة النص الفكري بين فلسفة التأويل وتأويل الفلسفة


فئة :  مقالات

ترجمة النص الفكري بين فلسفة التأويل وتأويل الفلسفة

الترجمة الفكرية ترجمة تأصيلية

يتسنى للناظر أن يتفقه شأن ترجمة النص الفكري بما هو شأن مخصوص، يغاير في أوصافه وخصائصه مقتضيات العملية الترجمية بمفهومها العام. وبيان ذلك، أنه سعي لتخريج ترجمة تتدارك النص في كليته وفي تناصه الذي يربطه بنصوص أخرى تحدد مرتبة أنظاره كما تفيد في تبيين مستوى انفهامه. والنص الفكري إذ هو يستند إلى بنى منطقية وعقلية، فهو كذلك ينطبع بمباني المحيط اللغوي المادي لمصادره المنتجة له أصلا، ما ينزل منها المعاني منزلة هذه المباني؛ فالشكل لا ينفصل عن المضمون فصلا، وإنما يوصل به وصلا. وإذا لزم للأمر أن يكون كذلك، فالتحقيق أن هذا الاستلزام صح أن يكون معكوسا كذلك، إذ الفصل في ذلك أن اللغة المنقول إليها لها من الطقوس والشروط ما من شأنه أن يحمل على فعل التحويل، وهو تحويل للنص الأصلي، بل، للغة المنقول إليها ذاتها، إن توسعا في قضاياه وقضاياها، وإن تزيدا في معانيه ومعانيها. ما جعل لهذا التحويل مرتبة تشمل القراءة وتسري على فعل الكتابة، وما به تقرر فعل التأويل وتحصل، فمقتضاه أنه تأويل يكمن بين لغتين. ولما كانت اللغة نمطا من أنماط الوجود، فإن التجوز أحرى به أن يشير إلى أن الترجمة هي ممارسة تأويلية بين مسارين زمنيين منفصلين.

يتحصل لمترجم النصوص الفكرية ما مفاده أنها إذا انبنت فإنما على الأفكار، انبناء يلزم منه أن النص الفكري ينتظم مستوفيا لركنين أساسيين: أحدهما صح أن يكون الاستشكالات، والثاني جاز أن يكون الاستدلالات، "فكل نص فكري لا بد أن يكون استشكاليا - أي يثير جملة من الأسئلة - وأيضا استدلاليا - أي يتوسل بجملة من الأدلة"[1].

تأخذ كل من الاستشكالات والاستدلالات مأخذا على نحو المؤالفة التي تتوخى رفع المخالفة بين مستويات النص الفكري الثلاثة:

- المستوى المنطقي

- المستوى الدلالي

- المستوى التركيبي

على أن المستوى المنطقي للاستشكالات يتدبر الكيفية التي تصاغ بها المفاهيم، وهو صوغ لقضايا ترتبط بأسئلة مخصوصة. أما المستوى المنطقي للاستدلالات، فهو يعني فيما يعني، منوال النظر الذي يتأتى به صوغ القضايا بما يجعلها أدلة تعكس حقائق معينة. في حين يرتبط المستوى الدلالي بالمضمونات المعنوية، والتي هي إما مضمونات للأسئلة وإما مضمونات للأدلة، والمستوى الثالث، الذي هو المستوى التركيبي، يفيد الصيغ التركيبية، والتي هي إما تركيبية للأسثلة أو تركيبية للأدلة.

يتبين على سبيل هذا التدرج والتصنيف الذي يرسم لمستويات النص الفكري، بأن ترجمة النص الفكري تصبح هنا بمثابة عملية تحرير للطاقة العقلية أو البنى المنطقية تحريرا يعتزمه المترجم ويثبته بقدر تحرره من قيود النص الأصلي. هذه التي يلزم منها أنه يقع تحت نفوذها متى جعل ترجمته وقفا ورهنا بنقل مستويات النص الثلاثة: المنطقية والدلالية والتركيبية، تقصدا منه أن تتواقت في النقل كما تواقتت في الأصل.

وإذ المترجم يتدارك حمل ترجمته على ما اقتضته البنية المنطقية، فإنه آنذاك يهتدي إلى تخليص ترجمته وترشيدها إلى ما ينبغي أن تجتمع إليه. فالحال في البنية المنطقية أنها المحتوى الجوهري الذي ينبغي تجليته للمتلقي، والمحتوى الأخص في النص الفكري الذي ينبغي له أن يكون أحرى بالنقل من غيره تمييزا لمحتواه من الأسئلة والأدلة. والرابط في ذلك، أن النص الفكري هو حصيلة سند حجاجي وقضية برهان عقلي. وهي مراتب أساسية ينبغي إبانتها للمتلقي حتى يظفر بسبل النظر فيها، على ما اقتضاه حرص المؤلف في استنباطها وتخريجها. وإذ ذاك، جاز ربط النص المنقول بالمجال التداولي للمتلقي رغبة في ترسيخ أسباب الإبداع. هذه التي من شأنها أن تضاعف حظوظ المتلقي في النهوض بأسباب التفلسف المخصوص للخروج من التبعية المطلقة للمنقول.

تجدر الإشارة في هذا المقام من القول إلى أن هذا النمط من النظر يستند إلى ما اصطلح عليه المفكر طه عبد الرحمن: الترجمة الاستكشافية أو الترجمة التأصيلية. والتي وإن كانت تتقاطع أحيانا مع بعض المقولات في فلسفة التأويل عموما، فإنها تزيد عليها بضرب من النظر موصول إلى جذوراستدلالية منطقية. ذلك أن نظريات الترجمة المستندة إلى فلسفة التأويل انتهت في كثير منها إلى الخلط الذي استحال بالنص الفكري إلى كونه نصا مجازيا. وبالتالي، غض الطرف عن مبانيه المنطقية. وقد خصص طه عبد الرحمن للترجمة التأصيلية مقومات ثلاثة تنبني عليها. ألا وهي: النقل الاقلي والتوفيق الكلي والتوجه الفلسفي، وذلك من داخل ما اقتضته الصفة التحويلية للترجمة، وفق اعتبارات تؤدي إلى تنوع مظاهرهذا التحويل. وهكذا، "ينبغي أن لا يقوم التفلسف بما نحصله من المنقول تحصيلا، ولكن بما نحوله منه تحويلا، حيث تكون صحة النقل على حسب قدرته في استنهاض هممنا إلى هذا التحويل؛ وعليه، فإن المعيار الصحيح لتقويم الترجمة الفلسفية هو تحصيل القدرة على أن نتفلسف فيما ننقل"[2].

زمنية الفكر وزمنية الترجمة

يعد نقل مضمون اللفظ من لغة إلى أخرى، نقلا لجزء من مضمون اللفظ، وليس هو إحاطة كلية بمدلول اللفظ. فاللفظ يعتريه تاريخ كثيف في علاقته بالشيء الذي وضع له أصلا، دون أن يكون هذا التعدد الداخلي للفظ حاجبا لتعدد السياقي المتاح له، حيث تنضاف إلى مرادات اللفظ المعجمية قصود أخرى تعكسها قدرة اللغة المتجلية في تبليغ ما لم تدل عليه الألفاظ دلالة مباشرة. وهكذا، فمترجم النص الفكري لا يتقرر له أن يلزم في ترجمته ما تحصل من مقابلات الألفاظ في المعاجم، وإن كان يجوز له أن يقف عندها متى ما كان مضمونها قريبا من المراد الموضوع لها. ليتحقق بأثر من هذا، أن المترجم يتعامل مع الألفاظ "في انفتاحها على معان غير مقررة، فيبادر إلى كشفها للعقول وتجليتها للبصائر، ويولد منها أفكارا غير مسبوقة ويربط بين هذه الأفكار بعلاقات غير مألوفة حتى كأن المضامين المعجمية لهذه الألفاظ تتلاشى في سياق ما ينسجه فكره حولها من جليل الحقائق ودقيق المسائل"[3].

يتسنى للمتأمل أن يستكنه أن القول بالدلالة هو على التحقيق قول بالتجربة غير اللغوية المحايثة للدلالة. هذه التي تتولج باللفظ إلى حوار مع عالم الأشياء، تولجا يلزم منه انبناء الفكر بالقدر الذي تجتمع فيه الذات وتنفك عن لزوم مقتضيات "الهنا" و"الآن". والأمر إن هو أفاد، فإنه يفيد أن اللفظ لا يكفي ليحدد مجمل عناصر الموضوع الخارجي لكونه أشمل وأعم، إن لم نقل أنه لا يومئ إليه إلا وهو مؤكد أنه لا يحيط بغزارته، أو قل: بكثافته. فما يتأتى له هو الإشارة إليه بضرب من "اللطافة"، أي بشكل من التعيين مخصوص. ذلك أن موضوع اللفظ لا ينتظم إلا اجتماعا بلفظ آخر، دون أن يتجوز للفظ أن يكون موضوعا لنفسه، فهو تعرف على موضوعه من خلال بعض مبانيه ومعالمه. على أن أثر اللفظ يتماهى مع ممكنات الدلالة، وهي كمونات تتفاعل فيها الذات المدركة تقصدا لرفع إرغامات العالم الخارجي لتنزيله منزلة قوانين، على النحو الذي تنتظم فيه التجربة الإنسانية أنطلوجيا أو تجريديا، وهنا "يجب التعامل مع كل عادة باعتبارها سلوكا بمضمون زمني، حولته الممارسة الإنسانية إلى صيغة مجردة. 'إن التخلص من الزمنية عبر التجريد لا يكون إلا بهدف التحكم في كل المضامين الزمنية'"[4].

يبقى التزيد بمعطى الزمنية تدبرا لما ينطوي عليه، رهانا فلسفيا وإبستمولوجيا متداخلة أبعاده. هذا ما نتبينه في كتاب: "الزمن وما بعد الحداثة"[5] لطيب بلغازي الذي يؤكد فيه على أن التزمن لا ينفك عن بعد المكان المشكل لبنية مضيه ولمقادير تسارعها. فكان بذلك أن أنظار ما بعد الحداثة هي في جوهرها أنظار زمنية، لا مفكر فيها من قبل هذه الأنظار ذاتها. وعليه، فالقول: "ليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة "ترميزية" هي التي قادت الإنسان إلى التخلص من الأشياء والتجارب والزمان والفضاء"[6]، لن يكون إلا إلماعا بأن هذا التخلص لن يكون إلا من خلال وجدان آخر، تحت سطوة ونفوذ زمكانية وتجارب وأشياء أخرى، جاز أن تكون خطاب الحداثة أو ما بعد الحداثة. ذلك أن طبيعة الممارسة الإنسانية التي تحققت بالتواطؤ والتآزر مع مرحلة تاريخية ما، تعكس تلقائيا رؤية الإنسان للعالم، لتحدد طبيعة تواجده فيه من خلال تدبير وتوجيه طبيعة علاقته بالأشياء زمكانيا: بالمعنى الذي يصبح فيه المكان باعثا على تحديد بنية الزمن تحديدا علائقيا. ومتى كان الأمر كذلك، فإن هذه العلائقية هي ذاتها المنوال في انتزاع المفاهيم وتنظيمها على نحو يجعلها نمطا للوعي أو ميدانا للفكر.

جرى الاعتقاد بين المتقدمين من أهل النظر، بأن الفكر لا تعلق له باللفظ، وإنما قصارى اللفظ أن يبلغ حقائق الفكر، والتي هي حقائق استدلالية تقف منها اللغة موقف الأواني التي تملأ بالمعاني. "فبقي خطاب الفلسفة من حيث هو نص مصنوع، خارجا عن تفكير الفيلسوف، حتى بعد أن ارتقى وعيه مرتبة، فجعل يفكر في الفكر ذاته"[7]. ومرد ذلك إلى نسيان الخاصية الخطابية للفكر. ولئن تجوز للناظر أن يقول بالنسيان، فالتحقيق فيه أنه نسيان للغة باعتبارها التخارج الذي ينتظم به وفيه الفكر. دون أن يتنزل منها هذا الأخير منزلة تملك قبلي ولا بعدي، إلا بالقدر الذي تتيحه محاصرة الخاصية القصدية للغة ذاتها. وإذ الفكر يتجلى هنا بتجلي الكينونة، فالأحرى أنه تبدي للغة وفي اللغة. ما نفى عن الفكر صفة الخصوصية المتعالية وأنزله مرتبة الوشيجة التداولية. هذه التي أحالت إلى تنسيب المجال الذي تحرك فيه الفكر من حيث هوكذلك، لتنزع عنه صفة التفرد بالخصيصة وتلبسه لبوس التعلق باللغة. "فنحن لا يمكننا التفكير إلا داخل أفق اللغة، ولكننا بالمقابل لا يمكننا أن نفكر اللغة ذاتها إلا في أفقها هي"[8].

وبالحديث عن أفق اللغة، يتبين أنه موسوم بخاصية التجلي قدر حفظه لخاصية الكمون أو الخفاء، فالإنسان لا يتحدث اللغة، بقدر ما تتحدث اللغة عبر الإنسان، فارضة عليه الإنصات لما تقول، دون أن يفهم مجمل ما تقول. ذلك أنها لا تعد مجرد وسيلة يبلغ بها اللافظ عن أقواله، حتى تكون مجرد دلائل، بل، إنها الكيفية التي يتبدى بها الوجود وينعدم في الوقت ذاته. وهذا لا يمنع من التذكير بأن "الكائن لا يمكن فهمه إلا بما هو كائن يبحث عن التمفصل عبر لغة معينة"[9].

إذا ثبت أن المفكر استطاع أن يتدارك في نظره أن للغة فعل في الفكر، وإذا تمهد لمترجم النص الفكري كذلك بأن للغة فعل في النقل، فقد جاز استدلاليا القول بأن توسط اللغة هنا هو ارتياد لمواطن التأويل. والسبب في هذا الربط يرد بالتدقيق إلى سببين أو جهتين: الأولى "أن عقلانية الفلسفة لا يمكن أن تكون عقلانية خالصة، لأن هذا من نصيب العلم النظري الصرف، وإنما هي عقلانية تداولية تصل الفلسفة بأفق المعرفة الطبيعية وخطاب الجمهور؛ وأما الجهة الثانية، فلا مجال لإنكار أن الترجمة - كما سيأتي بيانه - هي، على الحقيقة، عمل تأويلي تكون ثمرته تجديد النظر إلى الأصل، بناء على القراءة الخاصة للمترجم"[10].

بناء على ما تقدم، استوجب النظر أن يأخذ فن التأويل في حد كل من الترجمة والفكر، إذ التأويل ينبري للخط الفاصل بين اللغة والفكر، بالقدر الذي ينبثق فيه خطه بين اللغة والترجمة، بل إن وجوده القبلي اقتضى أن يتمفصل بين اللغة واللغة ذاتها. وبيان ذلك من الوجوه الآتية:

- أن فن التأويل يبحث في شروط عملية الفهم من خلال استئنافه للعلاقة الممكنة أو الكائنة بين الفكر والوجود، حيث تثبيته لهذا الوجود لغويا: زمنيا وكتابة. تقصدا لرصد حركة الدلالة فيه، وهو تثبيت لخطاب أعم بخطاب أخص، عبر تفكيك ترميزية الرمز الناظم للعلاقة بين الفكر والواقع. فيكون المرام هنا تخليص الأشياء من نفوذ التأويلات أحادية الجانب بغية عزل ذلك الشيء الذي يبقى بعد كل التأويلات. وبذلك فهو تفكير في سمات الحقيقة المفترضة: أي الحقيقة كإمكانية.

- أن فن التأويل ينحو إلى الرجوع إلى مقتضى الأصل، ألا وهو اللغة ذاتها، من خلال البحث في أسباب الفهم واللافهم: فالفهم لغوي واللافهم كذلك، لغوي. وإذا كان اللافهم يحيل إلى لا مقدرة اللغة على الإفصاح، فإن الفهم لا يحيل إلى أن اللغة "يمكنها أن تقول ما ينبغي قوله أو كل مايمكن قوله. ثم إن ذلك يعني الافتراض بأن اللغة تبقى العنصر الأساس لكل فهم ممكن إن لم نقل لكل لا فهم محتمل، إذ لايمكننا الحديث عن لا مقدرة معينة للغة إلا باسم لغة ممكنة في حدها الأدنى حتى وإن لم تكن متجسدة فعلا"[11].

وجب أن تكون البينية هنا مدارا أنطولوجيا بين الفهم والمعنى. على أن حلقة الوصل هنا تستنبط باستنباط مقادير الوصل وأقداره بين هذا المدار والأشياء الخارجية. وعليه، تعمد الهرمينوطيقا إلى تزويد الفهم بقاعدة أنطولوجية تقعد لمسار الحقيقة المفترضة في إطار شروط تاريخيتها: أي من خلال اعتبارها انبناء خطابيا. على أن الفهم هنا يعتبر وجودا يتداخل مع وجود الدازاين ذاته. هذا الذي يتأتى له أن يكون موجودا "هنا" متى انبجست له مقتضيات وجوده ككائن هنا، لتصير بذلك مهمة الهرمينوطيقا باعثة على إنهاضه إلى التيقظ وتجنب التيه من خلال جعله يتفطن إلى وجوده ككائن "هناك" على نحو يخلصه من المعقوليات السائدة، والتي تتسلل إلى وعيه دون علمه ودون إذنه؛ "من هنا فإن التمسك بهرمينوطيقا الدازاين يعني على وجه التحديد إعادة تزويد الدازاين بالوسائل التي تمكنه من شحد انتباهه إلى وضعيته الخاصة ككائن-هناك"[12].

يتحدد بذلك مطلب الفهم ومقتضى المعنى بشكل محايث للتجربة غير اللغوية. فالفهم لا يتحدد بتحدد اللفظ في موضوع معطى، ولكنه ينبني بالاستحضار الضمني لتاريخه المؤثر أو بالنظر إلى طبيعة وجود ما يفهم. على أن ما يظهر بشكل بارز في هذه اللغة الضمنية أو الباطنية والذي "سيصبح بمثابة المعطى الأول للفينومينولوجيا ولمنعرجها الهرمينوطيقي، هو ذلك الحوار الباطني للتناهي مع ذاته الباحثة عن المعنى المتعلق بتجربتها داخل سيرورة الزمان"[13].

على أن الصلة التي تتمفصل بها الهرمينوطيقا عن الفينومينولوجيا تكمن على مستوى تذكير الناظر بما مؤداه أن تحصيل الأشياء لا يكون تحصيلا لها كما هي في ذاتها، وإنما مبلغ الأمر أن يراد بالرجوع إلى الشيء، الرجوع إلى المقصودات التي تشكل معنى هذا الشيء أو معانيه، وهو تذكير عن به للمتأمل ما موجبه أن القضايا الفكرية تتنشأ تفكيريا وتتخلق تأويليا. لترتسم بذلك حدود المهمة الهرمينوطيقية في المسافة الفاصلة بين المعنى المقصود والمعنى كما هو في حد ذاته.

ينبغي الابتدار هنا إلى التأكيد بأن مهمة الهرمينوطيقا هذه ليست مهمة منهجية، لا ولاينبغي لها أن تكون كذلك. وبيان ذلك، أن المسوغات الحجاجية للهرمينوطيقا تقتضي منطقا يصرف ضرورة الالتزام بحدود المناهج. فهي ليست منهجا يتوخى أو يدعي بلوغ الحقيقة، بقدر ماهي محاولة لاستنطاق الخصائص المشكلة لسمات الحقيقة المفترضة، أي: أنها رغبة في استكناه ما في الحقيقة من داخل اعتبارما يؤطرها مقاميا في فهم تجربتنا في العالم وللعالم. وهذا ما حقق للناظر مفهومية مفادها أن إرغام الموضوع على المجئ منهجيا لا يبعث على مجيئه، أي: لا يكون ضرورة لتجليه، بقدر ما يكون صارفا له وحاجبا الذات عن التعرف عليه. ولما صير بالمنهج ليتماهى مع الغاية المعرفية في حد ذاتها، فقد أصبح "في مقام أول، تعبير عن تدخل الذات الإنسانية العارفة. المنهج من حيث هو تنظيم لطريقة المعرفة، هو بنفس الوقت، تحايل على الكائن وتدخل في طريقة وكيفية حضوره ومثوله أمام الذات البشرية. المنهج لا يترك الشيء يقدم نفسه بتلقائية وحرية... المنهج لا يترك (الشيء) الحاضر يحضر في تلقائية حضوره بل يوجه ويكيف الحضور نفسه."[14].

يتبدى أن دليل القول في ذلك يستند إلى الخلط الذي أراد أن يطوع المنهج كما هو في المادية العلمية، حيث حكم الواسطة كحكم الموسوط، لخدمة القيمية الفكرية، حيث حكم الوسيلة كحكم المقصد، لكن اعتباريا أو قيميا. وبناء على مقتضيات هذا الالتباس فإن "القائلين بلا مادية بعض المعارف العلمية خلطوا بين هذين الوجهين لعلاقة المنهج الإجرائي المسلوك بالمضمون المعرفي المطلوب، وهما الوجه الشيئي أو التوسطي والوجه القيمي أو التوسلي"[15].

تتمكن الهرمينوطيقا من التقعيد لمنطلقاتها المعرفية تزامنا مع تشديدها على أهمية مجاوزة الانسداد المعرفي الذي دلت عليه حدود الإوالية المنهجية. فمهمة الهرمينوطيقا ترتبط بتبين الكيفية التي يتجلى بها الوجود في اللغة، تقصدا للنظر في الأنطولوجيا التي تنشأ بها رمزية الإنسان وأنظاره داخل عوالم اللغة، إن استدرارا لكمونات هذه الرمزية، وإن بسطا للتأمل في عوالم الذات وممكناتها الوجودية. ليجوز بذلك لهذه الذات أن تنتقل الانتقال إلى مواجهة ذاتها على نحو ينزع إلى تخليصها مما هي عليه، ليرشيدها إلى "لطافة" ممكنات ما ليست عليه.

الترجمة والفكر بين القصدية والتجريدية

يبدو أن القول برابط التأويل الذي ما انفك هو عن الفكر، ولا عن مفهوم الترجمة، لا ينبغي أن يفضي بالضرورة إلى الانزياح الكلي عن النصوص في جوانبها الماثلة أمامنا. وإنما مبلغ الأمر الإلماع إلى حظ اللغة في صوغ الفكر وإلى فعلها في الترجمة. والمستفاد من هذا، أنه لا يتجوز حمل مجمل النص الفكري على كونه انبناء مجازيا. ففيه بنية منطقية وجب تخليصها قدر الإمكان من قيود النص الدلالية والتركيبية. وهنا الرجوع إلى استئناف تدبر العلاقة بين اللفظ والفكر. ذلك أن الاحتجاج بالقول إن وحدة اللفظ لا تستلزم وحدة المعنى، أو إن وحدة المعنى لا تمنع تعدد اللفظ، يبقى قولا إجرائيا يخص تناظر المعنى باللفظ ولا يلزم المقابلة بين اللفظ والفكر، متى صح للفكر أن يحيل على العقل، حيث "أن اللفظ لا يسد مسد اللغة متى كان العقل هو الطرف الذي يقابلها، ذلك لأن الذات لا تقابلها إلا الذات. فيلزم أن تكون اللغة ذاتا أو جوهرا مثل العقل؛ ثم إن ذات العقل جعل لها أصل في عالم لا تدركه حواسنا ولا تصله أدواتنا، وحينئذ لا يكفي أن تكون اللغة نسقا من الألفاظ، بل يتعين أن يكون لها أساس ميتافيزيقي مثل الأساس الذي ينبني عليه العقل بموجب وضعها كنظير له في العلاقة التي تجمع بينهما"[16].

ستنبري إذن هذه المحاولة لاستقصاء العلاقة الأنطولوجية بين الفكر واللغة، والتي وإن صدق عليها بناء على ما تقدم، أن تقوم استمدادا لبعض مقولات فن التأويل، أي: تدنو من فن التأويل بالمواتاة النظرية، فإنها بالمقابل تأكيدانية على وجود محاذير تمتنع فيها عن فن التأويل بالمباعدة. وبيان ذلك، أن النص الفكري يصطبع بخصائص المعنوية التجريدية فيما تذهب إليه مسوغات فن التأويل. أما جهة الابتعاد عن هذه الأخيرة، فيكون لصالح تكريس التحري عن خصائص المعنوية القصدية. على أن المعنوية التجريدية تتأتى بوجوه ثلاثة، جاز أن يكون فيها المجرد منه: "الموضوع الخارجي" (أشياءا وأفرادا)، و"الإدراك الحسي" و"الوجود المادي". ويقتضي الوجه الثالث منها الانقطاع عن الصورة اللغوية ذاتها، أي: عن اللفظ ذاته، وكذلك عن اللافظ. وبالتالي، فالترجمة هنا بما هي لفظية لا يتسنى لها أن تنهض استيفاء بنقل مضمون هذه المعنوية التجريدية، المنقطعة أصلا عنها، مادامت منقطعة عن اللفظ واللافظ. "ولما كان الفيلسوف يتوسل في التعبير عن مقصوده المجرد بوجه يريد له أن يطابق وجه تعبيره عن المقصود المشخص، فإنه يصير إلى الحكم على هذا المجرد بما يصح في المشخص، نحو الحكم بأن تكون قضاياه حقيقية تحتمل الصدق والكذب احتمالا موضوعيا؛ وواضح أن ما يصح في المشخص لا يكون إلا ماديا، فيلزم من ذلك أنه ينقل إلى المجردات أسلوب التحقيق الخاص بالمحسوسات".[17]

أما المعنوية القصدية، فهي تلتجأ بروية نحو الاستواء على قصدية تصوغ تصورا بديلا لهذه القصدية يرعى صلة:

- الفهم بالمادة

- صلة الفهم بالإنفهام

- صلة الفهم بالسياق

تحيل هذه المنطلقات إلى ضرورة رفع صفة المعنوية التجريدية وصرفها متى تصدرت وتحججت لوجوب رفع المادة، وهي أمر لازم مخصوص للمعنى. ما يقتضي أن المعنى يرتبط بالقصدية ارتباطا وثيقا، سواء كان الاتفاق فيه متعلقا بالمقام الجماعي أو مرتهنا بالوضع الفردي. وهذا ما يبرهن على أن للقصدية اختلاف في الإمكانيات ولكن من داخل تحديد السياقات. وعليه، يتبين للناظر أن الحقيقة الفكرية هي حقيقة مادية، لجهة أنها لغوية تتطلب وجوب اللفظ في تخريجها. وهي مادية كذلك، لجهة بحثها عن حقيقتها المفارقة للمجاز.

تضفي التجريدية القصدية على اللفظ معنى يعكس وجود اللافظ، وجودا يؤصل لارتباط الدلالة الوضعية بالدلالة الاستعمالية. ولما كان الأمر كذلك، فقد حق للمعنوية القصدية أن تؤلف بين كنه المعنى وكنه الفهم. فالفهم يلزم تسييج السياق على نحو يوجب الاشتراك في دلالة الاستعمال. وهنا تظهر الكيفية التي تناغم بها المعنوية القصدية العلاقة بين الفكر واللغة، حيث الفهم لايفارق الألفاظ، والفكر كذلك.

ينبغي التذكير هنا بأن التجريدية القصدية، وإن كانت لا تنكر مادية اللفظ واللافظ، فإن معللاتها التجريدية تنبني بالمقابل على وجوب رفع مادية المقاصد، متى حق لهذه المادية أن تساوق بالتماهي وجود الأفراد بالعالم الخارجي. فإسناد صفة العدل لشخص ما، لا تعني أنه استنفذ مفهوم العدل ليتطابق مع سلوكه وفهمه، وإنما تشير إلى ضرب من ضروب تحققه في منوال النظر وفي طبيعة السلوك. وهنا فإن المعنوية القصدية استطاعت أن تحفظ للفكر تجريديته، على تقدير أن الفكر تجريدي. "فيكون الآخذ بالقصدية كالآخذ باللفظية، وحيث إن معنوية الفلسفة هي معنوية قصدية، فهي أيضا معنوية لفظية، وبذلك تقوم بالمقتضى الذي يجعلها توافق الترجمة، فكلاهما إذن لفظي، بحيث لا تعارض بين الترجمة والفلسفة التي تأخذ بأسباب المعنوية القصدية"[18].

يتقرر للناظر بناء على ما تقدم، أن الابتدار إلى القول بترجمة النص الفكري، هو في كنهه تحري في الماهية أو الجوهر الذي يمكن أن يتحد به الفكر والترجمة، على ما يقتضيه توسط اللغة في الربط بينهما. فلا يلغي البيان بعد النص المنطقي، كما لا يلغي البعد المنطقي منزلة البيان فيه، حيث الوقوف على مقتضى القصدية وصرف القول بمطلق الاستعارة. ولما كان لمدار الموضوع ارتباطا بفلسفة التأويل، فقد آثرنا النظر في علاقة الفكر بفلسفة التأويل من جهة أولى، وعلاقة الترجمة بفلسفة التأويل من جهة ثانية. على أن الرابط هنا هو الرجوع إلى قضية النص الفكري، بما هي لغوية ومنطقية. الشأن الذي استدعى الوقوف على الحوار الفلسفي بين الهرمنيوطيقي والفينومينولوجي. كما استدعى محاولة ملامسة الحوار بين التأويليات فيما يمكن أن يكون بينها من اشتراك في النظر أو اختلاف فيه، وهو ما نتبينه من خلال فلسفة الترجمة التأصيلية لطه عبد الرحمن، والتي يتقرر بها أن ترجمة النص الفكري ينبغي أن تكون ترجمة مأصولة، تأخذ بزمام ربط المنقول لجعله يتوافق مع المجال التداولي للمتلقي، في أفق الإبداع في إخراج هذا المنقول ذاته، والابتكار في مدلولاته. وهو نظر في الترجمة والفكر معا، على نحو يهدف إلى تأطير طبيعة الزمنية الممكنة بينهما، حيث تدبر أنطولوجيا اللغة، والمرتبة اللفظية للترجمة وطبيعة التجريد في الفكر. فيكون صوغ الفكر وتشكيل المعنى، من داخل ما استوجبته خاصية القصدية التجريدية. هذه التي أحالت إلى أن الترجمة لا تنفك عن مادية اللغة، بالقدر الذي لاينفك فيه عنها الفكر كذلك، فكلاهما لفظي بالتخارج. ويزيد الفكر بأن ماديته تنحو إلى إكسابه مادية الحقيقة التي يسعى إلى تحصيلها وهي مدار له، ما نفى عنه أن يكون مطلبه كل المطلب الانبناء على خاصية المجاز، إن في اللفظ، وإن في المفهوم.

مسرد المصادر والمراجع

-   بنكراد سعيد، "المؤول والعلامة والتأويل" مجلة فكر ونقد، السنة الثانية - العدد 16 - فبراير 1999، دار النشر المغربية، الدار البيضاء.

-   سبيلا محمد، في الشرط الفلسفي المعاص، إفريقيا الشرق، المغرب، 2007

-   طه عبد الرحمن، روح الحداثة - المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الثانية، 2009

-  طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، المركزالثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الثانية، 2000

-  غراندان جان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2007

-       BELGHAZI TAIEB, TIME AND POSTMODERNISM, NAJAH EL JADIDA, CASABLANCA, Firrst Edition, 2012.


[1] طه عبد الرحمن، روح الحداثة - المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2009، ص 162

[2] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الثانية، 2000، ص 468

[3] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1 الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 469

[4] سعيد بنكراد، المؤول والعلامة والتأويل، مجلة فكر ونقد، العدد16 - فبراير 1999، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ص ص 47-62

[5] BELGHAZI TAIEB, Time And Postmodernism, Najah El Jadida, Casablanca, First Edition, 2012

[6] سعيد بنكراد، نفس المرجع، ص 53

[7] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 74

[8] جان غراندان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم، عمرمهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2007، ص 31

[9] جان غراندان، نفس المرجع، ص ص 30-31

[10] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 82

[11] جان غراندان، نفس المرجع، ص 33

[12] جان غراندان، نفس المرجع، ص 96

[13] نفس المرجع، ص 32

[14] محمد سبيلا، في الشرط الفلسفي المعاصر، إفريقيا الشرق، المغرب، 2007، ص 51

[15] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 159

[16] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 154

[17] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص ص 167-168

[18] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1- الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص 172