فلسفة السلام من أجل عالم جديد


فئة :  مقالات

فلسفة السلام من أجل عالم جديد

فلسفة السلام من أجل عالم جديد

 إن مفهوم السّلام المستدام هو مفهوم متقدم على التسامح؛ لأن التسامح قد يحمل مضامين سياسية ترتبط بالبحث عن آلية لتخفيف التناقض والتنافر بين طرفين، أو عدة أطراف والوصول إلى هدنة ثقافية أو أيديولوجية مؤقتة؛ أي إنه وسيلة لتسكين الاختلافات الإثنية والدينية، كما أنه يؤسس للصراع الصفري بوصفه الأصل في العلاقة بين البشر؛ بينما السلام مفهوم يرتبط بالأصل الإنساني المشترك، ويؤسّس لفكرة أن الصراع طارئ على العلاقات الإنسانية، حتى لو كان هو المهيمن على عالمنا اليوم، وأن البشر بإمكانهم العودة إلى الأصل الطبيعي للعلاقة بينهم والقائم على وحدة الهدف الأخلاقي، وإن تعددت المسالك الحضارية المتبعة للوصول إليه، أو تنوّعت القيم المعتمدة أو تباينت المفاهيم أو تضاربت المصالح ظاهرياً؛ بمعنى أن الصراع الإنساني التاريخي يمكن ترشيده وعقلنته وفق فلسفة السلام، ليتحوّل إلى صراع سلمي لا تقتصر سلميته على الأدوات المتبعة في إدارته، وإنما تتعمّق لتشمل جوهر الصراع نفسه، لتشكّل فلسفته وقيمه الحاكمة، ليكون صراعاً من أجل السلام يستهدي بقيم سلمية، ويسعى إلى تحقيق غايات سلمية.

  التسامح وسيلة لتسكين الاختلافات الإثنية والدينية، كما أنه يؤسس للصراع الصفري بوصفه الأصل في العلاقة بين البشر

لقد كانت الصراعات الدينية والمذهبية عبر التاريخ غطاءً لصراعات أخرى حول الموارد والثروات، والواقع أن أدلجة الصراع وإضفاء الطابع العقائدي عليه، إنما كان يراد بهما دائماً تبرير إدارة الصراع على أسس صفرية تسعى إلى زيادة أرباح ومكاسب طرف على حساب الطرف الثاني الذي يراد له أن لا يجني سوى الخسائر. ولذلك، فإن تخليص الصراعات من صبغتها الدينية من شأنه أن يعود بها إلى طبيعتها السياسية المرتبطة بالصراع على النفوذ والموارد الاقتصادية. إن الجدل حول الحرب والسلام، ينبغي أن ينطلق من أرضية عقلانية تناقش حجم الأرباح والمكاسب التي يمكن أن تعود على كل طرف من اعتماد أيّ من خياري الحرب أو السلام؛ لأن الهدف يجب أن يكون تفكيك الصراع وليس إدامته، والحرب خسارة صافية ليس لما تسببه من خسائر بشرية ومادية، ولكن لأن لها ثمنا أخلاقيا عابرا للأجيال، حيث تطيح بقيمة السلام وتعلي قيمة العنف والحرب والدم والخراب على حسابها، وفي ذلك تدمير للذات قبل تدمير الآخر.

كما أن اللجوء إلى النقاش العاطفي للقضايا واستدعاء حجة الحقوق المسلوبة، أو حجم المظلومية الواقعة على الطرف المغبون من شأنه أن يعقّد القضية ويؤبّد الصراع. لا يمكن إنهاء الظلم إلا بإحلال السلام، ولا يمكن التحرّر من المظلومية إلا بالتغلّب على هيمنتها الشعورية والثقافية والانتقال إلى الأخذ بزمام المبادرة الأخلاقية القادرة على تغيير الواقع، وإعادة هيكلة المواقف واستجلاب تأييد ودعم المراقبين والأطراف المحايدة. إن تغيير قواعد اللعبة الحضارية واعتماد فلسفة السلام بديلاً عن ثقافة الحرب هو تحوّل تاريخي يعطي للأمم المنخرطة فيه ميزة تنافسية على الصعيد الكوني.

  الحرب خسارة صافية ليس لما تسببه من خسائر بشرية ومادية، ولكن لأن لها ثمنا أخلاقيا عابرا للأجيال، حيث تطيح بقيمة السلام وتعلي قيمة العنف والحرب والدم والخراب على حسابها

هناك جدلية ترتبط بمفهوم السلام، وهي أيهما يؤدي إلى الآخر: هل يؤدي السلام إلى تحقيق العدالة والحرية والرخاء؟! أم ينبغي تحقيق كل هذه الأشياء أولاً كي يتحقق السلام؟! الواقع أن السلام هو فلسفة ينبغي أن يتم اعتمادها من كل الباحثين عن العدالة والحرية والخير الإنساني، ولكن المشكلة هنا أن الافتقاد للعدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي والحقوق والحريات العامة والخاصة، يجعل المجتمعات فريسة لثقافة العنف، ولكن ثقافة العنف هذه نفسها لا يمكن تفكيكها من دون أدوات سلمية تتبعها الدولة؛ لأن العنف من شأنه أن يولّد العنف، وبالتالي فإن القول بأن تحقيق العدالة والحرية مقدم على تحقيق السلام هو منطق سليم، لكن علينا أن ندرك أن تحقيق العدالة والحرية نفسه يحتاج إلى فلسفة سلمية؛ بمعنى أن السلام مفهوم مهيمن على كل الحلول المنطقية للأزمات، ولا ينبغي أن نحيد عنه مهما حصل إذا كنا ممتلكين لإرادتنا.

إن سياسة تعتمد بناء جسور الثقة وإثبات حسن النيّة، واعتماد خطاب تصالحي - مصالحي يتقمّص مصالح الطرف الآخر، ولا يهدرها أو يستخف بها، من شأنه أن يؤسس لمناخ مؤاتٍ للتعايش والتعاون والانسجام، ويمنع تجدّد الحروب والصراعات. كما أن فلسفة السلام تتصل بفلسفة أخرى هي فلسفة الأنسنة؛ أي إدراك الجوهر الإنساني للأفراد والجماعات وعدم نزع الإنسانية عنهم مهما تعاظمت الخلافات معهم، وتشمل هذه الفلسفة أيضاً، إضفاء الطابع الإنساني على المنطلقات والأساليب والأهداف التي تتعلّق بعملية إدارة الصراع وفق هدف معلوم ومحدد ولا رجعة عنه، وهو تفكيك الصراع عبر اعتماد منطق اللاعنف والسعي الدؤوب والمنهجي لإحلال السلام.

وبالتالي، فإن العقلية العنصرية ومنطق الفوقية الإثنية والتعصب الديني كلها عناصر لا تنسجم مع فلسفة السلام، ولا تتواءم مع قيمها ومفاهيمها. كما أن عملية تكريس فلسفة السلام كفلسفة إنسانية يدار على أساسها عالمنا المعاصر، ينبغي أن تتضافر وتتوازى مع إصلاحات بنيوية في العقل البشري تطال حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والفكر والثقافة والقيم والأخلاق. والواقع أن استقراء الصيرورة التاريخية للفلسفات والأفكار والسياسات، يكشف أن البشرية كانت دائماً تتجه نحو الإقرار بأن فلسفة السلام هي الملاذ الآمن لكل أبناء الأسرة الإنسانية، حتى وإن كانت القوى المهيمنة والنخب المتنفذة ما زالت تعتمد الحروب كوسيلة لمعالجة الصراعات وتصفية الحسابات بين الأمم، فهيمنة فكرة أو ثقافة أو سياسة معينة، لا يعني صحتها، والمراجعة التصحيحية والإصلاحية هي فكرة أخلاقية بحد ذاتها، مهما أطلق رافضو التغيير والتجديد من مزاعم أخلاقية لمقاومة التغيير وعرقلته.

 الافتقاد للعدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي والحقوق والحريات العامة والخاصة، يجعل المجتمعات فريسة لثقافة العنف

لم يكن العنف عبر تاريخه حلاً ناجعاً لتفكيك أيّ صراع، وهذا المنطق صحيح في كل أنواع الصراعات من السياسة إلى الاقتصاد إلى الحياة الاجتماعية والأسرية واليومية. ويبدو واضحاً أن التطورات العلمية والتكنولوجية التي يمرّ بها العالم كلها تعمل لصالح فلسفة السلام؛ فهناك اليوم فرص هائلة لتجنّب الحرب واعتماد الآليات السلمية في حلّ الصراعات، كما أن التحوّلات الرقمية تسهم في تطوير الفلسفة الإنسانية من جانب وتعزيز أوضاع ورصيد فلسفة السلام من جانب ثانٍ، فهناك اليوم مفاهيم فلسفية جديدة بدأت تظهر وتفرض حضورها في السياسة الدولية مثل مفهوم "القوة الناعمة"؛ بمعنى أن الدول والمنظمات والجماعات بات بإمكانها أن تحمي نفسها، وتحدّ من التهديدات الموجهة ضدها عبر اعتماد أساليب سلمية ولاعنفية، لا بل معزّزة للسلام الفعّال والمستدام، تندرج ضمن إطار مفهوم القوة الناعمة التي هي في نتائجها أكثر كفاءة وجدوى من القوة العسكرية الخشنة والخيارات الحربية العدمية التدميرية.

تقوم فلسفة السلام المستدام على فكرة المصالح المتداخلة بين بني البشر، كما أنها تعي أنماط التداخل الأخرى على الصعيد الثقافي والاقتصادي؛ فنحن نعيش اليوم في عالم بات قرية صغيرة، ومن يمارس فيه العدوانية والعنف هو في الحقيقة يضرّ نفسه، بالإضافة إلى الضرر الذي يسببه للآخرين. ومن المفارقات أن السياسات القائمة على فلسفة السلام، على الرغم من وصمها بالضعف والتخاذل والخيانة، فإنها تبقى أداة ناجعة لردّ العدوان وردع التهديدات، فأنت من خلال معاهدات السلام التي تتم ترجمتها إلى اتفاقيات شراكة وتعاون وتكامل تستطيع محاصرة خصومك المفترضين سياسياً وأخلاقياً، وتحميلهم المسؤولية أمام المجتمع الدولي، وتتمكن من خلال التزام السلام الاضطلاع بالدور الأخلاقي اللازم لتعظيم رأسمالك السياسي في المواجهة.

ومن قواعد فلسفة السلام، أن تكون سلمياً حتى حين تضطر لممارسة فعل مناقض للسلام، وهو الحرب. ولذلك رأى إيمانويل كانط في تنظيره لفلسفة السلام أن الحرب صراع عسكري بين دولتين لا ينبغي أن يتضمن القيام بأعمال عدوانية قائمة على الكراهية والتطرف في الخصومة؛ كالاغتيال، وخرق شروط الاستسلام، والتحريض على الخيانة؛ لأن من شأن هكذا أفعال فقدان الثقة بين الطرفين بما يعيق استعادة السلام بينهما بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهذا يعني التعامل مع الصراع العسكري، باعتباره حالة طارئة وعدم السماح بتحويله إلى وضع دائم وجعل السلام حالة استثنائية، والحرص على عدم الانزلاق إلى عسكرة العلاقات الإنسانية أو الدولية أو جعل الصراع هو الأصل في العلاقة بين الجماعات الإنسانية؛ بمعنى أنك مطالب في إدارتك لصراعاتك أن تكسب ثقة عدوك، وأن تثبت له أن شريكا موثوقا في أي جنوح مرتقب للسلام قبل أن تكون خصماً عنيداً أو مقاتلاً شرساً في الحرب.

البشرية كانت دائماً تتجه نحو الإقرار بأن فلسفة السلام هي الملاذ الآمن لكل أبناء الأسرة الإنسانية، حتى وإن كانت القوى المهيمنة والنخب المتنفذة ما زالت تعتمد الحروب كوسيلة لمعالجة الصراعات وتصفية الحسابات بين الأمم

إن السلام هو كلمة السر في الانتقال من التوحّش إلى التحضّر، فالصراع على الموارد طبع جينات وسلوكيات البشر عبر التاريخ، وكلما تطوّرت البشرية، وتقدمت في دروب الحضارة المادية، فإنها تنحرف أكثر باتجاه الحرب وسفك الدماء واستخدام العنف السياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي لتحقيق الأهداف وإذلال الخصوم والانتقام من الأعداء الافتراضيين، ولكن العالم اليوم اكتوى بما يكفي من تجارب الحرب والخراب والظلم، وصارت الشعوب قبل النخب أكثر إدراكاً لأهمية اعتناق فلسفة السلام الشامل. كما أن دخول العالم في عصر جديد هو عصر اقتصاد المعرفة، جعل التحوّل إلى سياسات سلمية تعتمد المنطق العلمي في حل الأزمات وتحويلها إلى فرص للتكامل الإنساني، فريضة حضارية على المجتمعات المعاصرة النهوض بمسؤولياتها تجاهها.

وطبعاً، ليس من المنطقي أن تظلّ فلسفة السلام مجرد تنظيرات مثالية محلّقة في الفضاء، بل لا بدّ من بنية مؤسسية تحتضنها على الأرض، وهنا تبرز ضرورة بناء "دولة المؤسسات" الحديثة؛ لأن شيوع فلسفة الحرب وفكر العنف أدخل المنطقة في عصر اللادولة وزمن التنظيمات القتالية المتطرفة والفصائل العقائدية المسلحة والعنف المقدس الذي تعيشه اليوم بعد عقود طويلة من العسكرة والتعبئة الأيديولوجية، وترويج خطاب الكراهية وتكريس ثقافة العنف والاستغراق في تطبيقاتها الحسية والمعنوية واللفظية، حيث صار العنف بمثابة قيمة يتم التفاخر بها، ويتم اعتبارها عنواناً للكرامة والشجاعة، في حين أن الخيارات العنيفة في حل المشاكل والصراعات لطالما كانت سبباً في هدر كرامة البشر، وتعميق جراحات الشعوب المظلومة.

ويحتاج التحوّل الحضاري نحو فلسفة السلام إلى تحوّل سياسي باتجاه الدولة المدنية التي تمارس السياسة على أسس علمية عالمية وإنسانية بعيداً عن التمييز الديني والقومي والمذهبي؛ لأن كل أنواع التمييز هي نوع من العنف السياسي تجاه المجتمع ومكوناته الإثنية والثقافية، وتتسبب في تقويض الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ لأنها تتناقض مع فلسفة السلام. كما يتطلب الأمر تحوّلاً اجتماعياً – ثقافياً باتجاه قيم التمدّن والتقدّم؛ فالعالم من حولنا تشكّل عبر العصور على ثقافة الحرب والصراع الأمر الذي انعكس على البنية الإدراكية للإنسان؛ بمعنى أن الانتقال إلى فلسفة السلام وتحويلها من ترف فكري تتداوله نخب معزولة إلى ثقافة سياسية واجتماعية يتطلب ثورة معرفية تؤسس لترجمة فلسفة السلام إلى منظومات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومؤسسية ومنظومة قيم وتشريعات وسياسات تعيد تشكيل حياتنا وعقولنا وعاطفتنا الجمعية واقتصادياتنا على أسس سلمية. تحتاج فلسفة السلام إلى إعادة تعريف كل شيء: الهوية والوطن والوطنية والمواطنة والانتماء والثقافة والنضال والأخلاق والخير والشر والعلاقة بين الذات والآخر؛ بمعنى أنها تحتاج إلى أن يستخدم الإنسان خياله وقدراته الابتكارية والنقدية والتحليلية إلى أبعد حد وبأقصى طاقة.

ويستدعي الانتقال إلى فلسفة السلام على الصعيد الاقتصادي إقرار فلسفة اقتصادية تعتمد التنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وتحقيق المساواة بين المواطنين في بناء قدراتهم المعرفية وتطوير مهاراتهم المهنية، لتكون لهم مشاركة حقيقية في النمو الاقتصادي والأنشطة الإنتاجية. فالسلام كان دائماً وعبر التاريخ منتجاً للازدهار الاجتماعي والرخاء المعيشي. إن الوصول إلى مجتمع السلام واقتصاد السلام يتطلب إشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع بشكل شامل؛ لأن عدم إشباع هذه الحاجات يتركهم أسرى لها، وبالتالي لن يستطيعوا تحقيق السلام فيما بينهم، بل سيسود الصراع المحتدم والتنازع على الموارد من أجل تلبية حاجات البقاء والأمن. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن تحقيق الأمن لا يعني تحقيق السلام، فالسلام فلسفة أعمق ومفهوم أشمل يتطلب تحقيقهما الانتقال إلى مراحل متقدمة من تلبية حاجات النماء المعنوي والمعرفي للإنسان والارتقاء الاجتماعي والمهني، وهذه الحاجات نفسها لا يخلو السعي إليها من صراع صريح أو تنافس مضمر بين بني البشر، لا بل ربما يكون الصراع هنا أكثر ضراوة وشراسة، ولكن المجتمعات البشرية تبدأ بالاقتراب من فلسفة السلام، كلما ازداد انكبابها على تلبية الحاجة العليا للإنسان، وهي الحاجة للقيم الجمالية والأخلاقية السامية؛ فالفنون بأنواعها والأعمال الإبداعية والخلق الأدبي والجمالي والأنشطة الرياضية والأعمال الإنتاجية وروح الإنجاز وتنشيط الخيال الإنساني، كلها تؤدي إلى التسامي العقلي والعاطفي والروحي للإنسان، ليكون أكثر استيعاباً لفلسفة السلام وأكثر انسجاماً معها واستعداداً لاستلهام قيمها والتماهي مع مفاهيمها على أرض الواقع. ولكن تبقى الحاجة للانتماء هي الحاجة التي تقف حجر عثرة أمام إقرار فلسفة السلام، عندما يؤدي عدم إشباعها إلى "أزمة هوية"، وهنا يكون الالتفاف حول القيم الكونية العابرة للانتماءات والهويات والثقافات عاملاً مهمّاً وحيوياً في خلق انتماء إنساني عالمي يحشد بني البشر حول السلام كقيمة جامعة.

الوصول إلى مجتمع السلام واقتصاد السلام يتطلب إشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع بشكل شامل؛ لأن عدم إشباع هذه الحاجات يتركهم أسرى لها، وبالتالي لن يستطيعوا تحقيق السلام فيما بينهم

إن فلسفة السلام هي فلسفة النهضة وفلسفة التنمية وفلسفة الإصلاح وفلسفة العدالة. إنها فلسفة لخير الشعوب والإنسانية جمعاء. لقد بنينا في عالمنا العربي والإسلامي دولاً كتبنا في دساتيرها عبارة "الإسلام دين الدولة الرسمي"، ولكن هذا النص كان دائماً يساء استخدامه لصالح الاستبداد وقد تغيّر العالم اليوم، ولم يعد الواقع يتقبّل هذه التصنيفات الدينية والعقائدية ذات الطبيعة الانعزالية للدول والشعوب، ويبدو منطقياً أن يتم التوجّه للانسجام مع روح الإسلام ولغة الحضارة ومنطق العصر عبر تجديد الفكر الدستوري العربي والتحرّر من النزعات الأصولية غير المجدية حضارياً من خلال الاتجاه لبناء دساتيرنا وسياساتنا على أساس مبدأ قانوني وأخلاقي قوامه أن "إحلال السلام بكل أشكاله هو التوجّه الرسمي للدولة"، فلا تناقض بين الإسلام والسلام؛ لأن إحلال السلام هو الغاية العليا للدين، وثمّة نصوص دينية عديدة تؤكد هذا التأويل.

في عام 1948، تم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي العام نفسه تم تأسيس دولة إسرائيل، وخلال العقود الماضية كان العرب مشغولين بمحاولة إلقاء إسرائيل في البحر، لكنهم كانوا في الوقت نفسه يحكمون بلدانهم بأساليب تتناقض بشكل صارخ مع مبادئ حقوق الإنسان، وكانت الانتهاكات الفظيعة لكرامة البشر والإبادات الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وإفقار المجتمعات هي السمات التي طبعت سلوك أنظمة عربية عديدة في القرن العشرين وبداية هذا القرن، على الرغم من أنها كانت ترفع شعار تحرير فلسطين، ولو أن العرب انشغلوا خلال كل تلك العقود بتطبيق حقوق الإنسان وبناء دولة الرفاه والمواطنة والعدالة، لكان ذلك أفضل وأكثر كفاءة على صعيد تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني وردّ اعتباره بين الشعوب؛ لأن احترام حقوق الإنسان هو المدخل الجوهري لبناء فلسفة السلام التي حين تسود داخل دولة ما تجعل نظامها السياسي أكثر قدرة على إرساء السلام على المستوى الإقليمي والمساعدة في صنع الأمن والسلم الدوليين والاضطلاع بمسؤولياته تجاه تفكيك صراعات المنطقة وإنصاف الشعوب المظلومة فيها.

قد يقول قائل إن الحديث عن فلسفة السلام هو حديث مثالي. نعم، هذا صحيح، ولكن الإرادة السياسية العازمة هي التي تميّز بين المثالي والواقعي، وهي التي تحوّل المثال إلى الواقع. وكل أصحاب السلطات السياسية والرمزية والاجتماعية والروحية ينبغي أن يكثفوا ويكرسوا جهودهم لإحلال فلسفة وثقافة السلام على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.

وتشمل فلسفة السلام الانتقال من نزعة التقوقع القومي والديني إلى الأنسنة، ومن النزعة الماضوية إلى العصرنة، ومن سياسات الهوية والعنف والصراع إلى سياسات المواطنة واللاعنف والسلام. وهذه الفلسفة أيضاً، هي حوار تفاعلي مع معنى الأشياء وروح المبادئ وجوهر القيم. وكما أن العنف لا يولّد إلا العنف؛ فإن السلام ينتج المزيد من السلام والرخاء والازدهار، فكل فلسفة لها قيمها ولها واقعها الذي تُنشئه ثم يُنشئها. ويبدو الثمن الباهظ الذي دفعته البشرية للحروب وآثارها الكارثية على البيئة والسكان وتسببها في استنزاف الثروات دافعاً أساسياً للإيمان بأن فلسفة السلام هي البديل المعوّل عليه في الانتقال إلى سياسات حوكمة رشيدة وعلاقات دولية صديقة للإنسان والبيئة والطفولة، والتي يمكن أن تصنع عالماً جديداً لا تتزايد فيها أعداد القتلى والأيتام والأرامل والمعاقين بسبب الحروب العبثية التي يتم إسباغ الشعارات الأخلاقية الزائفة عليها لشرعنتها.

 وتشمل فلسفة السلام الانتقال من نزعة التقوقع القومي والديني إلى الأنسنة، ومن النزعة الماضوية إلى العصرنة، ومن سياسات الهوية والعنف والصراع إلى سياسات المواطنة واللاعنف والسلام

إن منع الحروب مرهون باجتثاث ثقافة الحرب من المجتمع عبر إحلال ثقافة السلام بدلاً عنها، فحين تكون فكرة الحرب غير مقبولة بين الناس تصبح قدرة الساسة على تأجيجها محدودة. ولا سبيل لتحقيق السلام إلا بالانخراط في الفكر والممارسة السلميين؛ ذلك أن فلسفة السلام تتحقق بالتنفيذ المباشر، وأن يتحمّل صنّاع السلام مسؤولية إحلاله بصورة أكثر التزاماً وأخلاقية من الطريقة التي يتحمّل بها قادة الحروب مسؤولية حروبهم. وكما قال غاندي: "لا يوجد طريق للسلام، فالسلام هو الطريق". علينا أن نتخيّل عالماً يسوده السلام، ونسعى إلى جعله حقيقة ماثلة أمامنا، فقدرتنا على استشراف مستقبل قوامه السلام واللاعنف والتسامح هو الأسلوب الأمثل لتفكيك واقع الاحتراب والاقتتال والصراع وتاريخ الألم والفواجع. وكما كانت الإرادة الأخلاقية قادرة على وضع حد لنظام العبودية الذي استمر لقرون طويلة من عمر البشرية، فإن هذه الإرادة نفسها قادرة على إحلال السلام وإنهاء تاريخ من الصراعات الدموية التي أنهكت المجتمع الإنساني وأعاقت سيرورته الحضارية. تحتاج الأعمال الأخلاقية العظيمة إلى وسائل أخلاقية لتحويلها إلى واقع، والتمرّد على فكرة وثقافة الحرب بشكل مباشر وصريح هو الوسيلة الأخلاقية الأنجع لتحقيق غاية أخلاقية عليا هي بناء وتكريس السلام على هذا الكوكب.