تقديم كتاب "الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي"


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب "الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي"

"الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي مقاربات منهجية" كتاب صدر حديثاً للأستاذ الجزائري لخضر بولطيف سنة 2014، وهو من منشورات مخبر البحث التاريخي، مصادر وتراجم. وهو مخبر تابع لجامعة وهران الجزائريّة.

وصاحب الكتاب سبق أن نشر كتاباً بعنوان "فقهاء المالكية والتجربة السياسية الموحدية في الغرب الإسلامي"، وهو كتاب صادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2009. كما سبق له أن حاز جائزة اللغة العربية سنة 2004عن بحث بعنوان "الفقيه والسياسة في الغرب الإسلامي مدخل إلى دراسة التجربة السياسية الموحدية"، وقد صدر هذا الكتاب سنة 2005 عن المجلس الأعلى لللّغة العربية بالجزائر.

يشتمل هذا الكتاب "الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي مقاربات منهجية" على 285 صفحة. ويحتوي على تصدير للأستاذ أبي القاسم سعد الله ومقدمة كتبها مدير المخبر الدكتور غازي الشمري، ومقدمة المؤلف وعشرة مباحث:

1-      معادلة الإنسان والمكان في الفتح الإسلامي لبلاد المغرب: 15-35

2-      مذهب الإمام الأوزاعي بين الشام والأندلس: 37-56

3-      جدل الفقه والتاريخ في تراث عبد الملك بن حبيب الأندلسي: 57-99

4-      الفقيه محمد بن سليمان اليفرني الكومي الندرومي: 101-129

5-      علم التوثيق في الغرب الإسلامي ودوره في الرقي بالنظم الثقافية: 131-151

6-      محنة المذهب المالكي بالغرب الإسلامي على عصر الموحدين: 153-177

7-      ملامح المنظومة القيمية للمجتمع القلعي الحمادي: 179-199

8-      معارف شامية بعيون أندلسية: 201-226

9-      الأبعاد المعرفية والمنهجية لبرامج تدريس التاريخ في الجامعة الجزائرية: 227-256

10- نحو مدرسية تاريخية جزائرية 257-284

تنهض قيمة هذا الكتاب ـ رغم تعدد مباحثه وتنوع مواضيعه - على خيط جامع يوحد بين مكوناته هو علاقة الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي. فالبحث في نقاط الالتقاء والاقتران بين هذين المجالين المعرفين المخصوصين من علامات التجديد في البحوث التاريخية والحضارية في العصر الحديث، ذلك أنّ القدامى كانوا يدرسون كلّ مجال دراسة مستقلة توهم أنّ الفقه مجرّد بحوث نظرية منفصلة عن الواقع الذي تفاعلت معه تأثيراً وتأثراً ونشأة وتطوراً.

يضمّ هذا الكتاب بين دفتيه عشر مقالات شارك فيها صاحبه في مؤتمرات علميّة عقدت بين سنتي 2006 و 2011. وهو يبرّر جمعها ونشرها في سفر واحد بقلّة الدراسات التاريخية في الجزائر من جهة وبالرغبة في توفيرها وتيسير الاطلاع عليها لطلبة الدراسات العليا من جهة أخرى، ذلك أنّها تقدّم نماذج تطبيقية لإعمال آليات المنهج التاريخي من رصد واستقراء ونقد وتمحيص ووصف ومقارنة وتحليل وتعليل.

ما يلفت الانتباه في المقالة الأولى من مقالات الكتاب الموسومة بـ"معادلة الإنسان والمكان في الفتح الإسلامي لبلاد المغرب من خلال مسيرة القائد عقبة بن نافع الفهري" أنّ صاحبه يحاول الانزياح منهجياً عن البحوث السائدة من ذلك، مثلاً أنّه يحذّر من انسياق تلك البحوث وراء ما سمّاه الصورة النمطية التي أسهمت كثير من الكتابات في تشكيلها على مستوى المتخيّل الشعبي عن شخصية الفاتح عقبة بن نافع لمّا جرى تقديمه على أنّه ذلك "الفارس المغوار الذي لا ينفكّ عن مقبض سيفه وصهوة جواده".

وهذا الرأي وغيره يفسّره الباحث لخضر لطيف بتركيز بعض الدارسين على جانب واحد من صورة القائد الفاتح يهيمن على المصادر التاريخية. وعلى هذا الأساس يعتبر صاحب الكاتب أنّه من المهمّ تسليط الضوء على القسم المغيّب من حياة عقبة. وهذا التوجه المنهجي يستحقّ التنويه لأنّ البحث التاريخي الحديث أضحى يهتمّ بدراسة المهمّش والمغيّب إن في تحليل الأحداث التاريخيّة أو في بحث سير القادة السياسيين والعسكريين والدينيين وغيرهم.

بناء على هذا يحدّد الباحث نقطة مغيبة غامضة في حياة عقبة تمتدّ من أعقاب فتح برقة إلى تعيينه والياً على إفريقية. وفضلاً عن هذا فإنّ هذه المرحلة تضطرب فيها الروايات التاريخية وتمتزج بجملة من الأساطير الشعبية التي تسهم في تشابك الوقائع والأحداث تشابكاً يحجب الحقيقة عن الدارس. ولا يقف الباحث مسلّماً بهذه الأخبار وإنّما يكلّف نفسه بمهمّة نقدية مزدوجة تتمثّل على الصعيد الأوّل في جمع الأخبار المشتتة في المصادر، ثم فحصها على الصعيد الثاني، والبغية هي إعادة الالتئام إلى النسق التاريخي أو إعادة تشكيل الصورة تشكيلاً ينزّلها في التاريخ من جديد حتّى تتضح مسيرة ربع قرن من حياة عقبة.

بناء على هذا حاول لخضر بولطيف في هذه المقالة الأولى إعادة النظر في معادلة الإنسان والمكان في الفتح الإسلامي لبلاد المغرب عبر تسليط الأضواء على مرحلة معتمة من حياة القائد الفاتح عقبة بن نافع الفهري. وهي مرحلة الرباط التي استغرقت نحو ربع قرن من حياته، والتي كان لها بالغ الأثر على مستقبل الإسلام في شمال إفريقيا"1.

وفي المقالة الثانية "مذهب الإمام الأوزاعي بين الشام والأندلس خصوصيات المكان ومتغيّرات الزمان"، حاول الباحث مساءلة المعطيات المتوفرة في المصادر التاريخية حول الحضور المبكّر لمذهب الإمام الأوزاعي مشرقاً ومغرباً، ثمّ انكفائه وتراجعه أمام مذاهب منافسة له. وهي في رأي الكاتب من المنعطفات التي كان لخصوصيات المكان ومتغيّرات الزمان القول الفصل في رسم خطوطها. ولعلّ الأمر الجدير بالمزيد من العناية والبحث بعد الاطلاع على هذه المقالة ضرورة الانكباب على صلة علماء الدين المسلمين بالسلطة السياسية في العهود الإسلامية المبكّرة عامة وصلة الأوزاعي بهذه السلطة خاصة، بالإضافة إلى ضرورة التركيز على دراسة الخصائص التي تميّز مذهب الأوزاعي عن غيره من المذاهب وأسباب اندثار مذهبه بخلاف مذاهب أخرى صمدت في وجه الزمن.

وفي المقالة الثالثة "جدل الفقه والتاريخ في تراث عبد الملك بن حبيب الأندلسي الفقيه المؤرخ أم المؤرخ الفقيه" حاول الباحث لخضر بولطيف أن يفحص "الأثر المحتمل للفقيه في نتاج المؤرخ والأثر المحتمل للمؤرّخ في نتاج الفقيه في سياق نمط من المعرفة الموسوعية التي اتسم بها عطاء علمائنا في العصر الوسيط" (ص12).

ما يلفت النظر في هذه المقالة ـ مبحث وسمه الكاتب بـ"عبد الملك بن حبيب التاريخ والأسطورة". وقد توقف فيه عند كتاب "التاريخ" لابن حبيب الذي أثار جدلاً بين الباحثين خاصة أنّه في "استفتاح الأندلس" ساق أخبار الفتح مشوبة بمشاهد خيالية وروايات أسطورية عن مدن نحاسية وقلاع مسحورة وعن حصار الفاتحين لحصون يعمرها الجن والشياطين، وما إلى ذلك من حكايات الكنوز المرصودة والذخائر المنيفة والطرائف النادرة. ومن الضروري للباحث المعاصر أن يتوقف عند هذه المرويات لتفكيك آليات العقل الأسطوري الذي كان يحكم المؤرخ القديم.

يعود الباحث لخضر بولطيف إلى بعض التفسيرات الممكنة لهذه المرويات الخيالية منها تفسير المستشرق بويكا في كتابه "المصادر التاريخية العربيّة في الأندلس"، إذ ربط هذه الظاهرة بواقع الأندلس، فعرب الجنوب القحطانيين الذين استقرت أعداد مهمة منهم في الأندلس وكانت لهم مشاركة بارزة في أحداث الفتح كانوا ولوعين بما يزخر به تراثهم القديم من حكايات ملحمية تاريخية شبه أسطورية. فليس مستغرباً إذا ما تناقلوا روايات الفتح وأضفوا عليها الكثير من أصداء تلك الملاحم. ولعلّ الاستنتاج الأخير للباحث على قدر من الوجاهة كبير عندما اعتبر أنّ معضلة ابن حبيب أنّه تعاطى مع التاريخ بمنطق المحدّث لا منطق الفقيه أي أنّه لم يفسح لملكة النظر لديه أن تسائل الروايات المسندة إنّما تعاهد نقلها على علاتها كما نميت إليه، ص 83. هل كان هذا أمراً لافكاك منه؟ هل إنّ تصوّراً غير الذي وقع من قبيل اللامفكر فيه؟ نميل إلى الجواب بالإيجاب لأنّ المكون الميثي كان جزءاً لا يتجزأ من عقلية أبناء العهود الإسلامية المبكرة، بل لعلها عقلية الانسان عامة في تلك الأزمنة.

آثر الباحث في المقالة الرابعة "الفقيه محمد بن سليمان اليفرني الكومي الندرومي (ت 625هـ) صورة من واقع المشهد الثقافي في حاضرة تلمسان" أنّ يبرز جانباً من المشهد الثقافي في مدينة تلمسان الجزائرية ممثلاً في شخصية الفقيه محمد بن سليمان اليفرني الندرومي للوقوف على ما كان لها من أثر في مجتمعها وما قدمته من إضافة إلى رصيد المعرفة الإسلامية في عصرها.

وما يجدر التوقف عنده في هذا البحث ما انتهى إليه الباحث من استنتاجات وهو يتتبع شخصية هذا الفقيه. وهي استنتاجات تتجاوز الحدود الضيقة لهذه الشخصية لتتسع لعموم المشهد الثقافي في مجتمع الغرب الإسلامي عموماً ومجتمع تلمسان وأحوازها خصوصاً، ومنها:

- ثراء المشهد الثقافي في الحقبة الموحدية وهو ما يستخلص من خلال تنوع العلوم والمعارف وتأصل الطرائق والمناهج ورواج الكتابة والتأليف.

- كثافة الحركة الثقافية بمدينة تلمسان التي أضحت منذ القرن 5 هـ/ 11 م قبلة للعلماء والمحدثين وحملة الرأي على مذهب مالك.

- التلاقح بين الثقافتين المشرقية والمغربية بلغ مستوى من الإيجابية والفاعلية يعكسه ما تزخر به كتب البرامج والفهارس من أسماء الشيوخ والأساتيذ.

- توسط الفقهاء في مجتمع الغرب الإسلامي بين السلطة والرعية، ممّا أتاح لهم التأثير في القرار السياسي من جهة والسعي في مصالح الرعية من جهة ثانية.

عمد الباحث في المقالة الخامسة "علم التوثيق في الغرب الإسلامي ودوره في الرقي بالنظم القضائية" إلى النظر في خطة التوثيق التي اعتبرها إحدى مناطق النفوذ المالكي المتاخمة لخطة القضاء، مبيناً أنّها بلغت شأواً بعيداً أهّلها للاضطلاع بدور كبير في تطور المؤسسة القضائية، فقد ساعدت القضاء في ضبط شؤون العلاقات الأسرية وفي تنظيم سير الممارسات الاجتماعية.

إنّ ما يلفت الانتباه في هذا المقالة القيمة الوثائقية التاريخية الكبيرة التي تكتسيها المصنفات في الوثائق، فهي تعكس جوانب متنوعة من المجتمعات الإسلامية القديمة قد لا تتوفر في كثير من الأحيان في كتب التاريخ الرسمي، لأنّها تسجل في الغالب تفاصيل الحياة اليومية للمسلمين من زواج وطلاق وكراء دار وشركة ودين وغيرها من وجوه حياة المسلم قديماً.

تصدت المقالة السادسة "المذهب المالكي بالغرب الإسلامي على عصر الموحدين إعادة قراءة لحادثة إحراق كتب الرأي المالكية على ضوء معطيات جديدة" لمراجعة هذه الحادثة فلئن كان من شبه المسلّم به لدى البعض قديماً وحديثاً أنّ الموحدين استهدفوا مصادر المرجعية المالكية لصالح مرجعية بديلة هي الظاهرية فقد سمحت معطيات جديدة للباحث بإنجاز قراءة مختلفة لحادثة إحراق كتب الرأي المالكية.

أوضح الباحث في هذه المقالة أنّ رواية كتاب "المعجب" لعبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) ظلت المستند الرئيس لكثير من الدارسين الراغبين في دراسة المذهب المالكي خلال العصر الموحدي، ومن ذلك حادثة إحراق كتب الفقه المالكي بأمر المنصور الموحدي. ويستنتجون من تلك أنّ هذا الصدام قد زعزع الوجود المالكي وضيق على القائمين عليه، إلاّ أن الباحث عثر على مصادر جديدة مكّنته من مراجعة تلك المسلمّة والتوصل إلى نتائج يدّعي أنّ لها قدراً من الجدة والطرافة.

وصفوة ما توصل إليه الباحث بعد عملية تنقيب واسعة في المصادر غير المعهودة وغير الرسمية تخالف ما ذهبت إليه رواية "المعجب" من انقطاع علم الفروع في عهد المنصور، ذلك أنّ عدداً كبيراً من كتب الفقه المالكي كان يجري تداولها على نطاق واسع إبّان عصر الموحّدين. وقد أيّد الباحث استنتاجه بما وجده في كتب البرامج والفهارس من مقروءات ومسموعات "لم تخل يوماً من أمهات المصنفات الفقهية الفروعية" (ص170).

وقد عكست المقالة السابعة الموسومة بـ"ملامح المنظومة القيمية للمجتمع القلعي الحمادي- منطلقات الفكر وأنماط السلوك" اهتماماً خاصاً ـ وإن بصورة مختزلة - بحقل تاريخ الأفكار والذهنيات من خلال محاولة رصد ملامح المنظومة القيمية للمجتمع القلعي الحمّادي على مستوى منطلقات الفكر وأنماط السلوك لكن وفق مقاربة نأت بنفسها عن إسار الرؤية المادية الضيقة إلى رحاب الرؤية المعيارية الفسيحة، ص 13.

وقد اعتبر الباحث أنّ البحث في المنظومة القيمية للمجتمعات الوسيطة يعدّ من الأبحاث المستجدة في مجال التاريخ الإسلامي في عصرنا الحاضر ويأتي نظيراً للأبحاث القائمة على المنهج المادي التي طالما اختزلت النشاط البشري في زاوية ضيقة لا تكاد تخرج عن تحصيل لقمة العيش.

بحث الكاتب في المقالة الثامنة المعنونة بـ"معارف شامية بعيون أندلسية" صلة الأندلسيين بالثقافة المشرقية الشامية عبر أطوار متعاقبة أبانت بطلان دعوى القطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب، كما وقفت على مدى تداخل الحدود بين عالمية الثقافة وقطرية الانتماء. وهو يعتبر أنّ حضور الثقافة الشامية في الأندلس حالة فريدة من نوعها كانت فيها الآصرة المعرفية بين الشام والأندلس على درجة من الحميمية والخصوصية إلى حدّ أضحت معه الثقافة الأندلسية الوجه الآخر للثقافة الشامية.

بيّن لخضر بولطيف أنّ صلة الشام بالأندلس موغلة في الزمن تعود إلى بوادر الفتح الإسلامي، وأنّ الشبه بينهما يقوم من جملة ما يقوم عليه على الشبه الجغرافي، فقد وصفت الأندلس بأنها شامية في طيب أرضها ومياهها. وهذه الصلة امتدت إلى المستويين العلمي والتعليمي، فكثير من علماء الأندلس اتّصلوا بعلماء الشام وتتلمذوا عليهم مدة من الزمن، لكن بعد مرحلة التتلمذ جاء دور مرحلة الاستقلالية التي بدأت منذ أواسط القرن الخامس، فمنذ ذلك التاريخ أضحى بالإمكان الوقوف في تراجم عدد من الرحالة الأندلسيين على تصدرهم للإقراء أو التحديث في عدد من حواضر البلاد الشامية.

حاول الباحث في المقالة التاسعة "الأبعاد المعرفية والمنهجية لبرامج تدريس التاريخ في الجامعة الجزائرية" أن يشخص واقع تدريس مادة التاريخ في الجامعة التي ينتمي إليها وأن يناقش بعض البدائل.

استفاد الباحث في هذا البحث من خبرته في تدريس كثير من المواد التاريخية وخاصة منها مادة "منهجية البحث التاريخي"، وقد أفضت رؤيته النقدية لبرامج التاريخ في جامعته إلى بعض الاستنتاجات منها إغفال تاريخ قارة آسيا وعدم تدريس تاريخ القضية الفلسطينية ضمن مادة مستقلة وكثافة المواد التي تؤدي إلى تقليص زمن المناقشة والتعبير عن الرأي المفترض تخصيصه للطلبة، واقتصار تدريس مادة مناهج البحث التاريخي ومدارسه على السنة الأولى على الرغم من أهمية هذه المادة وضرورة تعميمها على السنوات الأخرى في الدراسة الجامعية حتى تساعد الطالب على استكمال أدواته المنهجية ورؤاه الفكرية.

وقد استخلص الكاتب عندما توقف على الخلفية المعرفية الثاوية وراء برامج تدريس التاريخ في الجامعة الجزائرية أنّ حرص واضعي هذه البرامج على تحصيل الطالب لأكبر قدر ممكن من المعرفة التاريخية الضرورية لم يواكبه حرص مماثل على تأطير هذه المعرفة برؤى وتصورات تتجاوز مجرد رد الفعل على المنظومات الاستعمارية إلى تتطلع للاستمداد من معين المنظومة الإسلامية. ويبتغي صاحب الكتاب من خلال هذا الرأي نقد التوجه الوطني القطري المنغلق الذي هيمن على دراسة التاريخ وعلى تدريسه إثر حقبة الاستعمار، ويسعى إلى أن يكون التوجه البديل له الاستفادة من المنظومة الإسلامية.

وهذا الموقف محترم، ذلك أنه من الطبيعي أن يساهم التعليم في كل بلد في غرس الهويّة الوطنية والدينية في عقول المتعلمين لكن دون أن يعني ذلك - في نظرنا - تكرار المعارف والمناهج العلمية القديمة دون نظرة نقدية، فالمنظومة الإسلامية في بعدها المتعلق بما أنتج ضمن العلوم الإسلامية التقليدية تحتاج إلى مراجعات كثيرة وعميقة تنأى عن التمجيد الذي لم يعد يفيد بقدر ما يضر.

إنّ الدعوة إلى التشبث بأصالتنا وهويتنا أمر مشروع حتى يشعر طالب العلم بأنه ينتمي إلى أرض ذات جذور عريقة وذات هوية مخصوصة تنهض على رسالة روحية سامية، لكن طالب التاريخ مدعو فضلاً عن ذلك إلى الانفتاح على تاريخ كل الحضارات، فلا مجال في عصرنا للمركزيات لأنّ علم الأنتروبولوجيا يعلمنا احترام كلّ الشعوب والحضارات مهما كانت درجة إسهامها في الحضارة البشرية. وهو مدعو أيضاً إلى الاستفادة من أحدث الدراسات الغربية عن علم التاريخ وعن خصائص الكتابة التاريخية وفلسفة التاريخ ومناهجه وتقنياته ورهاناته الحديثة التي يتميز بها عن علم التاريخ القديم.

ولا نخال الأستاذ بولطيف إلا واعياً بهذه الرهانات الحديثة وهو المطلع على أحدث ما يكتب من دراسات في مناهج الكتابة التاريخية، غير أنّ غيرته الدينية والقومية حملته على الدعوة إلى خصوصية في الدراسة التاريخية في السياق العربي الإسلامي، تأخذ بعين الاعتبار عامل العقيدة والإيمان باعتباره عاملاً أساسياً من عوامل صنع الحدث التاريخي وتفسيره.


1ـ لخضر بولطيف، الفقه والتاريخ في الغرب الإسلامي، ص 12