المفكر الفلسطيني وائل حلّاق نحو آفاق جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي


فئة :  مقالات

المفكر الفلسطيني وائل حلّاق نحو آفاق جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي

المفكر الفلسطيني وائل حلّاق

نحو آفاق جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي[1]

يُقدّم وائل بهجت حلّاق[2] اليوم، باعتباره أحد أهم المفكرين والباحثين العرب المتخصصين في الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية؛ وتحديدا الدراسات الفقهية، التي قدم فيها العديد من المؤلفات والأبحاث القيمة، التي يدور أغلبها حول الشريعة وتاريخها وفلسفتها، والنظرية السياسية الإسلامية، وتشكل النظام القضائي في الإسلام؛ حيث نشر: "مقدمة في القانون الإسلامي"، و"الشريعة: النظرية، التطبيق، والتحولات"، و"تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام: مقدمة في أصول الفقه السني"، و"نشأة الفقه الإسلامي وتطوره"، و"السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي"، مما جعل مساهماته هذه مرجعًا لدارسي الفقه والقانون الإسلاميين في الغرب على وجه الخصوص.

دشن وائل حلاق، الباحث الكندي من أصل فلسطيني، مساره الأكاديمي الـتأسيسي بمقالة، نشرها في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، رفض فيها الفكرة السائدة التي تدّعي أن "باب الاجتهاد قد أغلق"، وأكد أن تاريخ المسلمين يثبت غير ذلك، ثم واصل اجتهاداته الفقهية، وفتح آفاقا جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي، وقد وضعه المهتمون والمتتبعون ـ على قلتهم ـ مشروعه في سياق الرد على المشروع الاستشراقي، باعتباره جزءا من إرادة الهيمنة الغربية على الشرق، والذي يشتغل على الشق المخصص للسيطرة على النظام المعرفي الإسلامي، من خلال "خلق" تاريخ جديد للشريعة صفتها الأساسية هي الجمود، ومن ثم جاء مشروعه ليكشف عن الزيف والتخليط الذي يسم السرديات الاستشراقية، ولينبه إلى أن هذا المشروع يريد ـ في نهاية المطاف ـ أن يقنع الشرق بالحاجة الملحة إلى ضرورة ربط مستقبله ونهضته بالغرب وحضارته، كي ما ينهض من تخلفه.

1- السيرة الذاتية:

وائل بهجت حلّاق، مفكر عربيّ من مواليد مدينة حيفا في فلسطين سنة (1955م)، يعدّ، بلا منازع، أبرز مؤرّخ للفقه الإسلامي وأصوله في مجال الإسلاميات الأكاديميّة الغربيّة. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن سنة (1983م)، والماجستير من الجامعة نفسها في سنة (1979م). درّس وائل حلّاق في جامعات غربيّة وشرقيّة كثيرة، فقد كان أستاذ كرسي الدراسات الإسلاميّة في جامعات ماكجيل، ومونتريال، وتورنتو في كندا، ودرّس في جامعات عديدة، مثل: واشنطن، وسنغافورا، وإندونيسيا، وهو يعمل، منذ سنوات، أستاذاً للدراسات الإسلاميّة في جامعة كولومبيا المشهورة في الولايات المتحدة الأمريكيّة في قسم دراسات الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وإفريقية.

أشرف الأستاذ وائل حلّاق على عدد من الرسائل الجامعيّة في الجامعات الغربيّة، وتمثّل أطروحاته الكبرى محّطات مهمّة عاد إليها عدد من الباحثين الغربيين بالتوسّع والتحليل. وكتب الباحث، فضلاً عن ذلك، فصولاً ومداخل حول الشريعة الإسلاميّة، والقرآن، والفقه، في عدد من الموسوعات المتخصصة، مثل الموسوعة القرآنية (Encyclopeadia of the Quran)، ودائرة المعارف الإسلاميّة في نسختها الجديدة (the Encyclopaedia of Islam)، والموسوعة الإيرانيّة (Encyclopaedia Iranica)، وموسوعة الشرق الأوسط الحديث (Encyclopedia of the Modern Middle East)، وغيرها.

بدأت مقالات حلّاق تصدر منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي تتعلّق بالفقه الإسلامي نشأةً وتطوّراً، وبالاجتهاد وحدوده، وبالمذاهب الفقهيّة وحقيقة مؤسّسيها.

واهتم الباحث، أيضاً، بتشكّل النظام القضائي في الدولة الإسلامية، وشارك في تحرير موسوعات علميّة عن الإسلام، وتاريخه، وله فصول مهمّة في الموسوعات العلميّة، فضلاً عن أنّ وائل حلّاق قد ترجم (الردّ على المنطقيين) لابن تيميّة إلى الإنجليزيّة، وكتب مقدّمة تحليليّة ممتازة له.

وأشرف الباحث على عدد مهمّ من الأطروحات الجامعيّة؛ التي نوقشت في الجامعات الغربية خاصّة، بل أصبحت أعماله ذات بعد مرجعيّ في الكتابات الأكاديميّة لدى الباحثين الغربيّين المعاصرين، إلى درجة أنّك قلّما تجد عملاً جادّاً حول الفقه الإسلامي، وحول أصول الفقه الإسلامي، لا يحيل على أعمال وائل حلّاق، ولقد تُرجمت كتابات الباحث إلى ألسنة كثيرة، كالعربيّة، والفارسيّة، والتركيّة، والإيطاليّة، واليابانية، والعبريّة، وغيرها.

2- عرض لأهم مؤلفاته:

يمكن أن ننظر في مؤلفات الأستاذ وائل حلّاق من حيث ترتيبها تاريخياً؛ بداية بالمقالات؛ التي أصدرها منذ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم في المجلات العلميّة المتخصصة، لا سيما مجلة دراسات إسلاميّة (Studia Islamica)، والمجلة الدولية للدراسات حول الشرق الأوسط (I.J.M.E.S.)، ومجلة المجتمع الأمريكي والمشرقيّ (J.A.O.Sوغيرها، وصولاً إلى الكتب التي تتالى ظهورها منذ أكثر من عقدين من الزمن تقريباً.

ولمّا كانت أعمال حلّاق، مقالاتٍ وكتباً وفصولاً، تدور جميعُها حول تاريخ الفقه الإسلاميّ، وتطوّره، وظهور مؤسّساته، فإنّه يمكننا الوقوف على أبرز كتاباته؛ التي تؤسّس لأطروحاته الكبرى؛ التي قام عليها مشروعه في قراءة تاريخ الشريعة الإسلاميّة؛ ولهذا فإنّنا رأينا أن نكتفي بالوقوف على الكتب المؤلفة دون عشرات المقالات، والمداخلات العلميّة المنشورة في المجلات المحكّمة على أساس وَفْرتها، وعلى أساس أنّها تمثل نواة لما يعود إليه الباحث في فصول كتبه بالتحليل المستفيض.

صدرت لحلاق كتب كثيرة، لعلّ أهمّها ثلاثة تُعدّ العمود الفقريّ لمشروعه في قراءة التراث الفقهي الإسلاميّ، وهي:

- A History of Islamic Legal theories: An Introduction to Sunni Usul al -Fiqh (Cambridge, 1997).

وقد نقل هذا الكتاب إلى العربيّة سنة (2007م) تحت عنوان (تاريخ النظريّات الفقهيّة في الإسلام، مقدّمة في أصول الفقه السنّي)[3] ولقد خصّص الباحث هذا الكتاب ليقف على النظريّة التشريعيّة الإسلاميّة، من حيث آلياتها ووظائفها، وأبرز الصلة الوثيقة بين ظهور علم أصول الفقه من جهة، وتطوّر الواقع التاريخي للمجتمع الإسلامي من جهة أخرى. وكان الكتاب فرصة حقيقيّة ليعود الباحث إلى بعض أفكاره المبثوثة في مقالات سابقة له بالتعميق والتدقيق، من قبيل تشكيكه في أن يكون الشافعيّ المؤسّس الحقيقي لعلم أصول الفقه، وهو ما وقف عليه بإمعان في مقاله: (هل الشافعي هو أول من أرسى علم التشريع الإسلامي)[4] (Was al-Shafii the Master Architect of Islamic Jurisprudence, (I.J.M.E.S), 4, 1993).

وقد سعى الباحث، في الفصل الأخير من كتابه هذا، إلى أن يقوّم المحاولات التجديديّة لعدد من الباحثين المسلمين المعاصرين؛ الذين قدّموا تصوّرات جديدة في إمكانات التعامل مع النظريّة التشريعيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة، وبدا لنا هذا التقويم متفاوت العمق والدقّة.

- أمّا الكتاب الثاني، فهو: (Authority, Continuity and Change in Islamic Law Cambridge 2001).

ونُقل الكتاب إلى العربيّة سنة (2007م)، تحت عنوان (السلطة المذهبيّة- التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي».[5] لقد سعى الكاتب، في هذا المصنّف، إلى أن يبرهن على أنّ الشريعة الإسلامية تحوي ما هو ثابت من المبادئ والمقدّمات، مثلما تضمّ ما هو متغيّر بتغيّر ظروف الزمان والمكان، لينتهي إلى أنّ الشريعة الإسلامية كانت مرنة على مرّ العصور، وهو ما مكّنها من الاستمرار، والانتشار، والتأقلم مع الظروف المتغيّرة.

وفي هذا الإطار العام، ناقش الباحث عدداً من المسلمات الرائجة، مثل القول بإغلاق باب الاجتهاد، فتوسّع في عدد من الأطروحات المهمّة؛ التي حلّلها في مقالاته المنشورة قبل ذلك، مثل مقاله (هل أغلق باب الاجتهاد؟) (Was the Gate of Ijtihad closed ?, (I.J.M.E.S.) 16, 1984)، ومثل مقاله: (حول أصول الجدل المتعلق بوجود المجتهدين وباب الاجتهاد) (On the Origins of the Controversy about the Existence of Mujtahids and the Gate of Ijtihad (S.I.) 63, (1986)).

وناقش الباحث، في هذا الكتاب، تطوّر الاجتهاد والإفتاء بالنظر إلى تطوّر الواقع التاريخي للمسلمين، وهي فكرة وقف عليها، أيضاً، في مقال مهمّ له هو (جريمة القتل بقرطبة = الاجتهاد والإفتاء وتطوّر أحكام فروع الفقه في الإسلام الوسيط) (Murder in Cordoba: Ijtihad, Ifta' and the Evolution of Substantive Law in Medieval Islam Acta Orientalia, 55 (1994)).

- أمّا الكتاب المهمّ الثالث الذي صدر للأستاذ وائل حلّاق؛ فهو: (The Origins and Evolution of Islamic Law Cambidge, 2005).

وقد نُقل الكتاب إلى العربيّة سنة (2007م)، تحت عنوان (نشأة الفقه الإسلامي وتطوّره)[6]، وخصّص الباحث هذا المصنّف ليعيد النظر في مسألة مهمّة توقّف عندها عدد كبير من المستشرقين، ونقصد بها مسألة تشكّل الفقه الإسلامي في محضن الدين الجديد، والطرائق التي تطوّر من خلالها، بالاستفادة من المواقع الجغرافيّة التي ظهر فيها الإسلام، وبالأراضي البعيدة المفتوحة. وعمد الباحث إلى مناقشة هذه القضايا بالبحث في نشأة مؤسسة القضاء، وتطوّرها عبر الزمن، وبمراجعة قضايا نشأة المذاهب الفقهيّة السنيّة، وغيرها.

وصدر لحلّاق، منذ سنوات قليلة، كتاب يحمل عنواناً لافتاً هو: (الشريعة بين النظريّة والممارسة والتحوّلات) (SHARIA, theory, practice, transformations (Cambridge 2009).

وعلى الرغم من أنّ الباحث عاد، في الأجزاء الأولى من كتابه، إلى القضايا التي نجدها مبثوثة في بحوثه السابقة، فإنّه وسّع مجال نظره في الأقسام الأخيرة من الكتاب؛ ليهتم بتطوّر الممارسات الفقهية لدى القضاة ورجال السلطة في عصر الدولة السلجوقية، ولاسيما في عصر السلطنة العثمانية ليقف، في النهاية، عند عدد من المحاولات المهمّة التي حاول أصحابها؛ مثل عبد الكريم سروش، أن يطوّروا منهجية التشريع الإسلامي، بعد أن اصطدمت الحضارة الإسلامية بالحداثة، وقيمها الجديدة.

أمّا كتابه الأخير؛ الذي صدر سنة (2013م)، فقد كان له وقع كبير في أوساط المثقفين العرب والمسلمين، ونقصد بذلك كتابه (الدولة المستحيلة - الإسلام/السّياسة/ ومأزق الحداثة الأخلاقي) الصادر عن منشورات جامعة كولومبيا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. (The Impossible State: Islam, Poletics, and Modernity's Moral Predicament, Columbia UP: 2013.).

ولئن كان بعض الدارسين قد ذهبوا، في قراءة كتاب حلّاق المذكور، إلى أنّ الباحث اقتحم ميداناً جديداً بالنسبة إلى اختصاصه المتعلّق بالتأريخ للفقه والتشريع الإسلاميين، وهو ميدان (الإسلاميات السياسيّة)[7]، فإننا نقدّر أنّ هذا الكتاب هو الامتداد الطبيعي المنتظر لمشروع وائل حلّاق، فالباحث، بعد أن قضى أكثر من عقود ثلاثة يؤرّخ للفقه الإسلامي، منذ الإسلام المبكر إلى حدود القرنين التاسع عشر والعشرين، ها هو يصل إلى النظر بعين ناقدة في مشاريع المنظّرين للدولة المنشودة (الموسومة بالإسلامية)؛ ليؤكد هشاشة مقولات أصحابها، وليبرز تهافت أيّ تصوّر نظريّ لدولة توسم بالإسلامية، باعتباره تصوّراً «مناقضاً لذاته من حيث الجوهر»[8].

3- مظاهر التجديد في فكر حلّاق:

- التأريخ للفكر الإسلامي:

ليس موضوع هذا الفصل إذن، النظر في محاولة تسعى إلى التجديد في قراءة الفقه الإسلامي، وتأويل النصوص الدينية المقدسة، والنصوص الثواني، من خلال زاوية في النظر جديدة، ولا هي محاولة تسعى إلى رأب الصدع القائم بين عالم متحوّل في معارفه وفلسفاته من جهة، وموروث فقهي يبدو أقرب ما يكون إلى الجمود والتكلّس، إنّما الغاية من فصلنا هذا الوقوف على محاولة تنظيريّة لسنا نجد لها -في حدود اطلاعنا- نظيراً، ونقصد بذلك التجديد في التأريخ للفقه الإسلامي، من خلال ترتيب محطاته الكبرى على مسار الزمن، غير أنّ إعادة ترتيب بنية هذا العلم على خطّ التاريخ الإسلامي يقتضي، بالضرورة، مراجعة عدد من المقولات والمسلّمات المركزيّة في الخطابين العربي الإسلامي، والغربي حول الفقه الإسلامي، وما يجاوره من علوم شرعيّة.

- تفكيك التصور الغربي السائد عن الفقه الإسلامي:

إنّ من أهمّ وجوه تميّز الفكر؛ الذي يصدر عنه مشروع وائل حلّاق التجديدي، أنّه يحمل خطاباً موجّهاً، بالأساس، إلى القارئ الغربيّ عموماً، والقارئ الغربي المتخصص على وجه الخصوص، فالباحث يدرّس في الجامعات الغربيّة، ويشرف على الأطروحات الجامعيّة فيها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو لا يكتب -في حدود علمنا- إلّا باللسان الإنجليزي، فضلاً عن أنّ وائل حلاق يعلن صراحةً، في مقدّمات كتبه المترجمة إلى العربيّة، أنّ من أهمّ رهاناته في مشاريعه البحثيّة "مقاومة التشويه والهيمنة الغربيّة على التاريخ الإسلامي".

وهو، لذلك، يقرّ، في أكثر من موضع، بأنّ أعماله تمثّل محاولة جادّة "لزعزعة الفكر الاستشراقي من داخل معاقله"، فنحن، إذاً، إزاء محاولة لتفكيك التصوّر السائد في الفكر الغربي عن الفقه الإسلامي؛ فالمشروع أقرب ما يكون إلى قراءة في تقبّل الآخر للتشريع الإسلامي، ولا عجب في أنّنا سنجد في هذه القراءة بحثاً في الأهداف المعلنة الصريحة للخطاب الاستشراقي، وفي الغايات والرهانات المضمّنة والمسكوت عنها فيه أيضاً.

ولئن عبّر الخطاب الاستشراقي عموماً عن توجّه معيّن في قراءة تاريخ الفقه الإسلامي، نشأةً، وتطوّراً، ونضجاً، وجموداً، فإنّ «هناك، فيما يتصل بدراسات الفقه الإسلامي بالذات، خلال العقدين الأخيرين، استثناءين بارزين: هارلد موتسكي، ووائل حلّاق... أمّا وائل حلّاق... فسلك سبيل القراءة غير الإيديولوجيّة الموضوعيّة الموضعيّة منذ ثمانينيات القرن الماضي»[9]، لكنّ المهمّ، أيضاً، في أعمال حلّاق، أنّها من المحاولات القليلة التي يعبّر عنها باحث عربي الأصل، يردّ فيها على التوجّه السائد في الخطاب الاستشراقي من داخل الآفاق الأكاديميّة الغربيّة ذاتها، من حيث المنهج المعتمد، ومن حيث المعرفة الموظّفة.

إنّ مشروع حلّاق التجديدي في التأريخ للفقه الإسلامي قد قام على معارضة صريحة حيناً، وضمنيّة أحياناً، للخطّ الاستشراقي؛ الذي كان جوزف شاخت (Joseph Schacht) أحد أهمّ ممثليه، ثمّ امتدّ ذلك، على نحو إيديولوجي أوضح، مع جان وانسبرو (Jean Wansbrough)، وباتريسيا كرون (Patricia Crone)، وغيرهما؛ فلقد حاول شاخت، منذ عقود خلت، أن يبرهن على أنّ السنّة النبويّة، والقرآن أيضاً، لم يكن لهما تأثير كبير في نشأة الفقه الإسلامي، ولا في تطوّره في المراحل الأولى، وقد ركّز الباحث خاصّةً على أنّ الحديث النبوي، أو السنّة النبويّة لم تؤثر في الفقه الإسلامي المبكّر لسبب بسيط يتمثّل في أنّها لم تكن موجودة قبيل منتصف القرن الثاني للهجرة، وهي فكرة مهّد بها شاخت؛ ليبرهن على أنّ تكاثر الأحاديث في القرون المتأخرة، إنّما يدلّ على أنّها موضوعة ومنحولة، ولهذا ذهب المستشرق إلى أنّ الشافعي (150/204هـ)، هو الذي فرض السُّنّة النبويّة مصدراً للتشريع، متجاوزاً بذلك المعنى العرفي لها على مدى أكثر من قرن من الزمان؛ باعتبارها تقليداً حيّاً، وممارسة، أو سنّة حيّة، وهذه السُّنّة العملية لا تشتمل على أعمال الرسول فحسب، إنّما تضمّ، أيضاً، سنّة الصحابّة، والخلفاء، وأتباعهم.

ولمّا كان حلّاق معنيّاً بالتأريخ للبدايات الأولى للفقه الإسلامي، فإنّه فحص نشاط القضاة الأوائل، أولئك الذين أرسلهم الخلفاء الراشدون نحو الأمصار للحكم بين الناس، فوقف الدارس على الممارسات الفقهية الجنينية؛ التي ابتدأت من خلال اجتهادات هؤلاء القضاة، وهي اجتهادات موسومة بهامش كبير من الحرّية، ثم بدأ الطابع الديني يترسّخ في أحكام القضاة شيئاً فشيئاً، لا من خلال سنن الرسول فحسب، إنما، أيضاً، من خلال سنن الصحابة، والخلفاء؛ الذين كانوا يمثلون سلطة دينية علميّة؛ إذ كثيراً ما كان القضاة يستشيرونهم في النوازل المستعصية، قبل أن تظهر فئة من المفتين والمجتهدين من رحم حلقات الدرس، وهي مرحلة متطوّرة في تاريخ التشريع الإسلامي تحمل ميزتين، أو وظيفتين: أمّا الأولى؛ فهي بدء ظهور المؤسّسة الفقهيّة؛ التي تنفرد بالعمل الاجتهادي التشريعي، وأمّا الثانية فهي بروز الاختلاف بين الفقهاء بسبب تنوّع اجتهاد العلماء، واختلافهم في النظر إلى المسائل المطروحة، وليس بسبب اختلاف الأمصار في الأعراف فحسب، على نحو ما هو متعارف عليه في الدراسات التقليديّة.

لقد ركّز الخطاب الاستشراقي، بشكل غاب فيه التوازن، على علاقة علم أصول الفقه بعلم الكلام، وأصول الدين، جاعلاً من هذه العلاقة القاعدة المحض لفهم منطق أصول الفقه ووظائفه الفكريّة النظريّة، ومن نتائج تأسيس هذه العلاقة، وترسيخها، تهميش علاقة أخرى مهمّة كأقصى ما يكون، ألا وهي العلاقة بين أصول الفقه والفقه من جهة، والممارسات التشريعيّة في المجتمعات الإسلاميّة المختلفة عبر العصور من جهة أخرى.

وقد حاول حلّاق، في دراسته للعلاقة بين الكتابات في أصول الفقه، وواقع الإفتاء والتشريع؛ الذي يمارسه القضاة والفقهاء، أن يثبت وجود نقاط تماس تدلّ دلالة واضحة على أنّ المنظومة التشريعيّة الإسلاميّة ليست- كما يذهب إليه بعض الباحثين- مجرّد قوانين شكلّية تُسقط على الحالات والنوازل، إنّما هي، على الأصحّ، منظومة مرنة تتفاعل مع الواقع، وتتأثر به، وتطوّع النصوص الدينيّة، بحثاً عن التوازن الممكن بين الأصول النظرية الثابتة، وما يمكن أن يكون قابلاً للتغيّر والتحوّل.

ثمّ إنّ حلّاق حلّل، مثلاً، في عدد من مؤلفاته، أوّلية القرآن في أصول الفقه عند الشاطبي[10]، وفي تاريخ النظريات الفقهيّة مسألة الفكر المقاصدي؛ الذي يمثل الأصولي الأندلسي، أبو إسحاق الشاطبي (ت 790هـ)، أحد أهم محطاته في النظرية الأصوليّة.

والمهمّ - في نظرنا- أنّ حلّاق تفطّن إلى فكرة أصولية طريفة تتمثّل في اعتبار القرآن أصلاً مقدّماً على سائر الأصول والأدلة الفقهيّة الأخرى، ومثل هذه الدراسات الموضعيّة؛ التي تهتم بجزئية مخصوصة في النظرية، مهمّة للغاية؛ لأنّها تندرج في إطار مبحث أوسع لامسته أطروحات حلّاق، منها ما يتعلّق بمسألة التراتب بين أدلة الفقه، ومنها ما يتصل بعلاقة القرآن بالسنّة أصلاً من أصول التشريع، ومن ذلك، أيضاً، ما يرتبط بالمقاصد الشرعيّة وعلاقتها بمبدأ المصلحة.

ولعلّ الأهمّ ممّا سبق محاولة الباحث أن يربط بين تبلور فكرة المقاصد في قراءة النصّ الديني، ومبدأ المصلحة في التشريع من جهة، وما شهده الأفق الأندلسيّ في القرن الهجري الثامن للهجرة من تطوّر اجتماعي، واقتصادي، وثقافي، من جهة أخرى، وهو أمر مهمّ للغاية؛ لأنّه يؤكّد أطروحة مركزيّة في نظريّة حلاق تتمثّل في أنّ أصول الفقه، وطرق الاستنباط الفقهي - وإن كانت مضبوطة بحدود وأدلّة وشروط ثابتة- تأخذ بعين الاعتبار التغيّر الزماني، وتبدّل أحوال العمران البشريّ، وهي فكرة طريفة ليس حلّاق وحده من دافع عنها، لكنها فكرة مهمّة؛ لأنّها تقوم شاهداً على هشاشة مزاعم بعض المستشرقين؛ الذين يصفون الفقه الإسلامي بأنّه فقه غارق في التفاصيل الشكليّة، ويسقط أحكاماً جاهزة على الأوضاع التاريخية المتبدّلة.

ولقد حاول حلاق، في عدد مهمّ من بحوثه، أن يؤكّد الصلة الوثيقة بين تطوّر علم أصول الفقه وتبدّل الأحوال العمرانية التاريخيّة في المجتمعات الإسلاميّة، وبرهن على هذه المسألة الأساسية من خلال أمثلة عديدة، لعلّ أهمّها إلحاحه، مثلاً، على تشكّل الفكرة الأصوليّة في محضن الثقافة الأندلسيّة، التي عاصرها الشاطبيّ (ت 790)؛ الذي دعا إلى تخليص علم أصول الفقه من الجدل الكلامي والفلسفي؛ الذي لا علاقة له مباشرة بالأحكام الفقهية الفرعية؛ ولهذا فإنّ الأفق؛ الذي يندرج فيه مشروع حلّاق هو الأفق؛ الذي يَعُدُّ أنّ المنظومة التشريعيّة في الإسلام، أو علم أصول الفقه بالاصطلاح الأصولي الدقيق، ليس بناء مجرّداً جاهزاً معزولاً عن التاريخ، كما يذهب إليه أغلب المستشرقين، إنما هو علم متأثر بالواقع، ومؤثر فيه على نحو من الأنحاء، وهذا التوجه في النظر نادر في الفكر النقدي المعاصر الباحث في تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي.

- التأريخ للشريعة الإسلامية:

ولئن كان الباحث قد ركّز في دراساته على القرون الإسلاميّة الأولى؛ باعتباره يؤرّخ لنشأة الفقه وتطوّره، فإنّه يطالعنا، في كتاباته الأخيرة، اهتمامه بالتأريخ للشريعة الإسلاميّة، ولتطوّر ممارسات القضاة والمفتين في القرون الوسطى، لا سيّما في عهد الدولتين السلجوقيّة والعثمانية، إلى حدود ظهور حركات الاحتلال الاستعماري في القرن التاسع عشر، وكأنّ حلّاق قد سعى، بذلك، إلى جعل قراءته لتاريخ الفقه الإسلامي تكون قراءة شاملة لا تقتصر على مرحلة البدايات الأولى، وإنّما تمتدّ إلى حدود الأزمنة الحديثة، مع بداية احتكاك المنظومة التشريعيّة الكلاسيكيّة بالقوانين الوضعية الغربيّة على نحو مباشر.

وما من شكّ في أنّ من أهمّ مظاهر التجديد في مشروع حلّاق، ذهابَه إلى أنّ أصول الفقه الإسلامي لم يَقُمْ علماً مكتملاً إلا مع نهاية القرن الثالث للهجرة/التاسع للميلاد، عندما ظهر ضرب من التوفيق بين أهل الحديث وأهل الرّأي، وهو توفيق لم يكن مقبولاً في عصر الشافعي (ت 204هـ)، الأمر الذي يُفسّر غياب الاهتمام برسالته طيلة القرن؛ الذي تلا موت صاحبها، فلم تصلنا مصنفات أصولية تعود إلى القرن الهجري الثالث تشرح الرّسالة، أو تعلّق عليها، وهذا ينهض دليلاً في نظريّة حلّاق على أنّ ما ذهب إليه الشافعي لم يَرُقْ لأهل الحديث من حنابلة، ومن أهل الظاهر خاصّة، ولم يستمل أهل الرّأي من الحنفية. وقد خصّص الباحث حيّزاً مهمّا في كتاباته، ليفنّد الزعم القائل بمركزيّة رسالة الشافعي في تأسيس علم أصول الفقه، لا تشكيكاً في أهميّة الرسالة وصاحبها، أو دورهما في تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي، بل لأنّ هذه المزاعم هي التي ترّسخ موقفاً استشراقياً جاء في ثنايا الخطاب الغربي المتصل بالتأريخ للفقه الإسلامي، وهو موقف من قبيل المسكوت عنه، يقول: إنّ الشريعة الإسلامية قد توقفت عن النموّ والعمل بعد القرنين الثاني، أو الثالث للهجرة، وقد تمّ التعبير عن ذلك بمقولة أخرى تنصّ على أنّ باب الاجتهاد قد أغلق إلى أبد الآبدين، وهذه مقدّمة أخرى -في نظر حلّاق- مهّد بها الفكر الغربي، ليزعم بأنّ المنظومة التشريعيّة الإسلاميّة قد جمدت منذ عصور طويلة، ولن تعرف انتعاشاً إلّا مع الغزو الاستعماري في القرن التاسع عشر.

وهكذا أدرج حلاق مشروعه في إطار العمل؛ الذي ينجزه المؤرّخ، لكنّه عمل يهتمّ بالنصوص وعلاقتها بالممارسة في التاريخ، وقد أسفر هذا الحفر التاريخي عن فهم جديد للتقليد؛ إذ إنّه عند الباحث يمثّل امتداداً طبيعيّاً للاجتهاد، وليس وجهاً مناقضاً له بالضرورة؛ فالتقليد لا يبدأ عند انتهاء الاجتهاد، وهذا لا ينتهي بابتداء التقليد، إنّما هما ممارستان تندمجان وتتسايران، في غالب الأحيان، في ذات الفقيه الواحد، والمفتي الواحد.

وبناء على ذلك، فالشريعة الإسلاميّة تقوم عند حلّاق، على تناغم بين الثابت والمتحوّل، أو بين المبادئ التشريعيّة من جهة، وفروع الفقه وأحكامه التي ينطق بها الفقهاء، حسب فهمهم للنصوص، وحسب ما يؤدّي بهم إليه اجتهادهم من جهة أخرى. فالشريعة الإسلاميّة، إذاً، شأنها شأن كلّ المنظومات القانونية، تضمّ ما هو ثابت، مثلما تضمّ ما هو متحوّل متغيّر بتحوّل ظروف الزمان، وتغيّرها.

ويبدو أنّ ما يؤكّد إيمان حلّاق بضرورة إعادة النظر في علم أصول الفقه الإسلامي الكلاسيكي، وفي إمكانات تجديد طرائق التشريع الإسلامي، في العهد الراهن، أنّه تعوّد على تخصيص فصول في مؤلفاته يهتمّ فيها بعرض أهمّ الاتجاهات الكبرى في العصرين الحديث والمعاصر؛ الرامية إلى تجديد منهجيّة التشريع. وجمع الباحث، في هذا السياق، محاولات متباينة من حيث المنهج، والمعرفة، والأفق انطلاقاً من المصلحين الأوائل للقرن العشرين، مثل محمد عبده، وصولاً إلى المفكّرين المعاصرين؛ مثل: فضل الرحمن، وعبد الكريم سروش، ومحمد شحرور، وحسن الترابي، وغيرهم.

- الدولة المستحيلة:

ويبدو لنا أنّ مشروع حلاق الفكري قد عرف مرحلة التتويج المنطقي في كتابه الأخير (الدولة المستحيلة...)، وهو يقصد، بطبيعة الحال، الدولة الإسلاميّة المستحيلة، ذلك أنّ الباحث قد استثمر، في تقديرنا، ما انتهى إليه من نتائج حول مرونة أحكام الشريعة، وقدرة الفقهاء، على امتداد تاريخ المسلمين، على تطويع اجتهاداتهم لفائدة المسلمين، وحول قيم الإسلام وأخلاقه من جهة، وبؤس وضعية الإنسان في الدولة الحديثة من جهة أخرى.

ولذلك، فإنّنا نجده يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم القيم في الدولة الحديثة؛ التي استلبت الإنسان، وأعدمت ذاته وإنسانيته لفائدة الدولة والسلطة، ثمّ إنّه يطالعنا بدعوة ملحّة تتواتر كثيراً في مصنّفاته على نحو ضمنيّ، وهي الدعوة إلى إعادة الاعتبار لقيم الشريعة الإسلاميّة، على نحو جديد إبداعي، عادّاً أنّها تضمّ من القيم الجوهريّة للإنسان ما لا تضمّه قيم الدولة الحديثة.

ولقد قدّم حلّاق بهاتين الدعوتين للنتيجة؛ التي صنف كتابه من أجلها، وهي استحالة الحديث عن دولة تحمل صفة (الإسلامية)؛ لأنّ مفهوم الدولة الحديثة مناقض تماماً لأخلاقيات الإسلام؛ بل إنّهما «منهجان مختلفان في جوهرهما»[11]، ويبدو مشروع حلّاق، في هذا المستوى، قريباً، من حيث آفاقه المعرفيّة، إلى المشروع الذي طفق يؤسّسه الحقل السياسيّ نقداً أخلاقياً.

إنّ مركز الثقل في أعمال حلّاق يتمثّل -في تقديرنا- في الإلحاح على أنّ المنظومة التشريعيّة الإسلامية ليست استثناء من المنظومات القانونية الراقية الأخرى؛ التي عرفتها البشرية، فهي، أوّلاً، ابن شرعي أصيل للديانة الإسلامية، وللثقافة العربية، وهي، ثانياً، قد عرفت نموّاً طبيعيّاً ونضجاً منتظراً بفعل تطوّر الممارسة الفقهية في الواقع، ونتيجة تغيّر أحوال العمران، دون أن ينفي ذلك تأثّر هذه المنظومة بما كان سائداً في الجزيرة العربيّة، وفي غيرها من المناطق التي وصلها الإسلام.

وقد اقتضى إثبات ما تقدّم من الباحث أن يعود إلى مرحلة بدايات الفقه الإسلامي، وأن يعمّق البحث في المراحل الموضوعيّة؛ التي عرفها قيام أصول الفقه علماً مستقلاً مكتملاً، واقتضى منه ذلك أن يسافر مع علم الفروع على مدار التاريخ الإسلامي؛ ليوكّد أنّ مسألة الاجتهاد لم تنقطع في أيّ عصر من العصور، وإن كانت الظاهرة توسم على الدوام بطابع العصر الذي يمارس فيه الاجتهاد، وهو أمر طبيعيّ منتظر.

4- قراءة نقدية:

ولئن كنّا نقرّ بأهميّة الحفر التاريخي؛ الذي أجراه الباحث بعناية كبيرة على المراحل الأولى من الإسلام، وتحديداً على ممارسات القضاة الأوائل، وببحثه الدقيق في تأثر أحكام القضاة بالسنن والأعراف الجاريتين في ذلك العهد، فإنّ أطروحته القائلة إنّ الشافعي لا يمثّل، بأيّ شكل من الأشكال، المؤسّس الحقيقيّ لعلم أصول الفقه، تبقى مثار جدل، على الرغم من أننا نتّفق معه على أنّ النظر في الرسالة ومقارنتها بالأعمال الأصولية؛ التي تعود إلى القرنين الرابع والخامس للهجرة، من حيث المصطلحات الموظّفة، والمنهج المعتمد، يؤكّد أنّها لا تمثّل نضج العلم، لاسيما عندما نرى قلّة اهتمام العلماء برسالة الشافعيّ، خلال كامل القرن الذي تلا موت صاحبها؛ إذ لم تصلنا أيّة شروح لها، مثلما لم تصلنا أيّة أعمال تنقدها تعود إلى القرن الثالث للهجرة.

غير أنّ نظريّة حلّاق المتميّزة، فيما يتعلّق بتأسيس علم أصول الفقه، تقوم - متى خلّصناها من السجال مع الخطاب الاستشراقي- على فرضيتين يعسر أن نطمئنّ إليهما الطمأنينة كلّها. أمّا الفرضيّة الأولى؛ فتتمثّل في جزم الباحث بخلوّ القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد من أعمال أصوليّة بالمعنى الدقيق للكلمة، وهو دليل -في تقدير الباحث- على أمرين؛ أولهما: أنّ الرسالة، إنما كانت أثراً يتيماً في زمانها، وثانيهما: أنّها لم تؤثّر في العلماء في عصرها، فلم تصلنا معارضات لها، مثلما لم تصلنا شروح تتعلّق بها، على نحو ما كان العرف يجري به في الثقافة الإسلامية. وقد استنتج الباحث أنّ هذا الأمر ينهض شاهداً على أنّ الرسالة لا تحمل خصائص الأثر التأسيسي؛ الذي يحدث وقعاً عميقاً على العلم في زمانه.

بَيْدَ أنّ المتمعّن في هذه الفرضيّة يدرك أنها صالحة وسديدة إلى حين، فعدم وصول آثار في علم أصول الفقه تعود إلى القرن الثالث، لا يعني بالضرورة عدم وجودها أصلاً، فبعض المصنفات الأصولية يمكن أن نعثر عليها في يوم من الأيام مخطوطةً في بعض المكتبات، أو لعلّها اندثرت بفعل الزمن، لاسيما إذا كان أصحابها ينتمون إلى تيارات كلاميّة معادية للتيار الرسمي؛ مثل أهل الاعتزال، وهي فكرة تقودنا إلى الفرضية الثانية. أمّا هذه الفرضية؛ فبناها حلّاق على عَدِّ رسالة الشافعي أوّل أثرٍ يمكن أن نَعدَّه نقطة انطلاق في التأريخ لعلم أصول الفقه، بمعنى أنّه بدأ في ترتيب قصّة نشأة علم الأدلة انطلاقاً من رسالة الشافعي، دون أن يتصوّر وجوداً لهذا العلم، أو لبعض إرهاصاته قبل نهاية القرن الثاني، وبداية القرن الثالث للهجرة، والحال أننا عثرنا على بعض الإحالات في المصنفات القديمة[12] تشير إلى بعض المتقدّمين من أهل الاعتزال، مثل واصل بن عطاء (ت 80هـ)؛ الذي قد ضبط حدّ علم أصول الفقه، وحدّد منهجه، ووظيفته، منذ نهاية القرن الأوّل، فيمكن بذلك أن نعُدّ أنّ هذه الأعمال -وإن لم تصلنا مكتملة- تمثّل لبنات أولى، أو إرهاصات، لعلّ الشافعيّ قد استفاد منها في كتابة رسالته، وفي التصنيف في علم الأصول.

ولقد اجتهد الباحث في إبراز هشاشة الأسطورة القائلة بإغلاق باب الاجتهاد؛ ليؤكد أنّ المنظومة الفقهية الإسلامية قد استطاعت الانتشار في آفاق بعيدة من الأرض، ونجحت في الصمود أمام المنظومات القانونية الأخرى؛ لينتهي إلى أنّ الشريعة الإسلامية، شأنها شأن كلّ المنظومات الكبرى، تحمل ما هو ثابت، وتحمل، أيضاً، ما هو متحوّل، لكن حلّاق اكتفى - في تقديرنا- بالتشخيص، وهو ضرب من الوقوف وسط الطريق، دون أن يقدّم اقتراحات دقيقة، فما هو الإلهي الثابت في الشريعة؛ أي: ذاك الذي لا يمكن الاجتهاد فيه، وما هو الإنساني المتغير الخاضع لعقل الإنسان، وأوضاع المعرفة في زمانه؟ أو بعبارة أخرى: أين تقف الشريعة، ويبدأ فقه الشريعة؟ ثمّ أليست النصوص المقدّسة محكومة في قراءتنا لها بوضعياتنا التأويلية، وبثقافة القارئ، أو المؤوّل؟ ألسنا كثيراً ما نُسقط على النصوص أفهاماً يقتضيها عصرنا، وتفرضها حاجتنا العمرانية، فنجعل النصوص، على هذا النحو، تقول: ما نريد نحن أن نقول؟

إنّ مشروع حلاق لا يضع الإجابة عن مثل هذه الأسئلة في المحلّ الأوّل، على الرغم من وعيه الصريح بأهميّتها؛ لأنه - في تقديرنا- منشغل بمناقشة الخطاب الغربي المتّصل بالفقه وبالثقافة الإسلاميين، ولأنه، أيضاً، مؤرّخ للأفكار يكتفي -على ما يبدو- برصد الظواهر والبحث في مراحل تطورها، دون أن يكون معنياً مباشرة بقراءات تأويلية شاملة للنصوص التأسيسية، شأن غيره من المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين.

ولئن كان حلّاق يضع مشروعه في إطار «إبطال المنظومة المعرفية الغربيّة» القائلة بانحدار وتهافت التاريخ الإسلامي والإسلام جميعاً، وأن هذه المنظومة إنّما تمثل مقدّمة لمقالة أخرى هي حاجة الإسلام إلى الغرب، وقيمه، وفلسفته، وقانونه، وديمقراطيته، فإنّ هذا ما دفعه إلى إعادة قراءة تاريخ الفقه الإسلامي منذ بداياته الأولى إلى حدود نضجه، لكن السؤال؛ الذي ينبغي إيجاد جـواب دقيـق له هو الآتي: هل المنظومــة الفقهيــة التقليديـة - مهما برهنّا اليوم على تماسكها- قادرة حقّاً على مجابهته النوازل الجديدة، في إطار قيم كونية زادت الحداثة في تدعيمها، مثل المساواة بين الرجل والمرأة، ومثل حرية المعتقد والضمير، وغيرهما؟

وعلى الرغم من أن أعمال حلّاق قد سعت إلى البرهنة على مرونة الشريعة الإسلامية، وعلى قدرتها تاريخياً على الاستمرار والتأقلم مع المتغيرات المعاصرة، وعلى الرغم من أنّ مشروعه جاء لإحراج التصوّرات المستقرة عند المستشرقين، ما يدعو - في نظر الباحث- إلى الكف عن استهلاك الخطاب المعرفي الغربي، فإنّ حلّاق قد بالغ، أحياناً، في محاسبة النوايا؛ التي عبّر عنها الخطاب الغربي، أكثر من محاسبة الخطاب في حدّ ذاته.

ثم إنّ المتابع لمشروعه يقف على أمرين جليين: أمّا أولهما؛ فاحتفاؤه الكبير بالتراث الفقهي الإسلامي، وكأنه يعدُّ المنظومة الفقهية الإسلامية كياناً مغلقاً في غير حاجة إلى الآخر اليوم، مثلما لم يكن في حاجة إليه في الماضي، وهو ما قد يُضيّع على الثقافة الإسلامية فرصة تأسيس حوار حقيقي بنّاء مع المختلف ديناً وثقافةً وتاريخاً.

أمّا الأمر اللافت الثاني في مشروع حلّاق؛ فمبالغته، أحياناً، في اتهام الخطاب الغربي، أو الاستشراقي، وتسرّعه، في بعض المواطن، في تعميم المواقف منه، فيصطبغ خطابه بطابع دفاعي تبريري أقرب ما يكون إلى الخطب الإنشائية الرافضة للمؤامرة الإمبريالية، «فالاستشراق مازال وجهاً من وجوه الاحتلال الاستيطاني، ومازال هذا الوجه يتمحور ليعضد الهيمنة الغربيّة؛ حتى صار كالسرطان المعرفي الخبيث»[13].

والمطالع لأعمال حلّاق، يلاحظ أنّ هذه النزعة تزداد، على نحو واضح، في مقدمات الكتب المترجمة إلى العربية، بينما نجدها مضمّنة في ثنايا الأعمال المكتوبة باللسان الإنجليزي الموجهة إلى القارئ الغربي أساساً. والعجب من خطاب حلّاق التعميمي، وهو أعلم الناس بأنّ الأعمال الغربية، أو الاستشراقية، المتصلة بالشريعة الإسلامية متعددة، وفيها أصوات، واتجاهات، ومدارس، ولا يمكن الحكم عليها حكماً معيارياً واحداً، دون أن يتحوّل الخطاب إلى موقف إيديولوجي، ينأى عن الموضوعية، ولعلّ ما يفسر هذا السجال مع الآخر هو أنّ حلّاق يعيش، منذ عقود، في أوساط أكاديمية غربية ساد فيها خطاب معيّن حول الفقه الإسلامي، وحول الثقافة الإسلامية، ولم يكن بوسع الباحث إلّا أن يبرز تهافت هذا الخطاب كلّما سنحت الفرصة. والرأي، عندنا، أنّ أعمال وائل حلّاق في التأريخ للفقه الإسلامي، وفي متابعة تطوّر مؤسسات القضاء، والإفتاء، والتشريع، تُعَدّ -لا شك- أعمالاً مرجعية تؤسّس نظرية متماسكة من حيث المنهج، ومن حيث العمق المعرفي؛ لأنها تعيد مساءلة عدد من المسلمات الرائجة في الخطابين العربي والغربي المعاصرين، من قبيل مسائل تأسيس المذاهب الفقهية، وإرساء علم أصول الفقه، وتوقّف الاجتهاد وإغلاق بابه، وغيرها.

ثمّ إنّ المهمّ -في رأينا- أنّ الباحث قد عمّق النظر في كتاباته الأخيرة، ولا سيما في كتابه (الدولة المستحيلة...) في أزمة القيم؛ التي تعيشها الحداثة السياسيّة، من خلال نموذج الدولة القوميّة. ولعلّ المتسرّع في القراءة يذهب به الظنّ خطأً إلى أنّ حلّاق غادر مجال اختصاصه، ونقصد بذلك التأريخ للفقه الإسلامي، وللثقافة الإسلاميّة، غير أنّ المتمعّن في مصنّفات الرجل، يدرك أنّه، إزاء الحلقة الأخيرة الناظمة للسلسلة، أو للمشروع، حيث يدعو - بعد نقده المركزية الغربيّة في التعامل مع الإسلام وتاريخه- إلى ضرورة المرور نحو حوار واسع بين الثقافات؛ لتجاوز الانطواء على الذات الثقافية والعرقية، ولإبطال مزاعم المركزيّة الغربيّة؛ من أجل هدف مشترك هو النقد الأخلاقي للحداثة، ولنموذجها السياسي؛ من أجل تحقيق إنسانية الإنسان؛ التي كانت -في تقدير حلّاق- أوضح في بعض النماذج السياسيّة السابقة لعصر الحداثة.

وما من شك في أنّ أعمال حلّاق كان لها - ومازال- وقع عميق في الإسلاميات الأكاديميّة الغربيّة؛ لأنّ الباحث راجعَ، على نحو رصين، أهمَّ التصوّرات؛ التي أرساها الاستشراق الكلاسيكي؛ الذي وجد تتويجه في مؤلفات جوزف شاخت، فضلاً عن مناقشة الباحث للتصوّرات الاستشراقية الراهنة؛ التي تمثلها كتابات باتريسيا كرون، ومن لفّ لفّها. وليس أدلّ على ما نذهب إليه من قيمةٍ مرجعيّة لأعمال وائل حلّاق في التأريخ للفقه الإسلامي ممّا نجده في الأطروحات، والكتب، والدراسات، وفصول الموسوعات العلمية، من إحالات على أفكاره، فضلاً عن ترجمة أعماله إلى أهّم الألسنة العالمية.

ثمّ إنّ صدور كتبه ومقالاته كثيراً ما يقترن بمتابعات تحليليّة مشرقاً ومغرباً، فالأستاذ رضوان السيّد، على سبيل المثال، يعدّ أعمال حلّاق في الفقه الإسلامي مع كتابات هارالد موتسكي، استثناء في الدراسات الغربيّة منهجاً ومعرفة، ونجد، إلى جانب هذه الدراسات القصيرة، أعمالاً أكثر عمقاً نذكر منها نموذجين: (Melchert Christopher, Notes and documents, Goerge Makdisi and Wael.b. hallaq», in Arabica, TVLIV, 1997).

والدراسة مهمّة من حيث مناقشتها لنقطة جوهريّة في أطروحات حلّاق، ونقصد بها تأسيس علم أصول الفقه، ونشأة المذاهب الفقهيّة السنيّة، وعلى الرغم من أنّ مَالْكَرْت ينسّب بعض نتائج حلّاق، فإنّه يقرّ له بالفضل في مراجعة الكثير من المسلّمات الرائجة حول الفقه الإسلامي.

وقد عاد الأستاذ عبد المجيد التركي إلى نقطة جوهريّة أخرى في مشروع وائل حلّاق؛ تتعلّق بأسطورة إغلاق باب الاجتهاد، وأشاد الباحث بالنتائج التي انتهى إليها حلّاق، وقد خصّص الأستاذ عبد المجيد التركي مقاله الموسوم بـــ: ("Aggiornamento juridique: Continuité et créativité ou fiction de la fermeture de la porte de l'Ijtihad", in studia Islamica, 94 (2002))؛ ليؤكد أهميّة الطرح؛ الذي يقترحه حلّاق في الأوساط الأكاديمية الغربية والعربيّة؛ لأنه يفتح آفاقاً جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي.

[1]- مجلة ذوات العدد48

[2] نشرت المادة ضمن مشروع "تجديد الفكر الإسلامي - مقاربة نقديّة 1: أعلام تجديد الفكر الديني"، إشراف وتقديم بسام الجمل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث، ديسمبر/ أيلول 2014

[3]- صدرت الترجمة عن دار المدار الإسلامي، بيروت، سنة 2007، وصاحب الترجمة هو الأستاذ أحمد موصللي، وراجعها د. فهد الحمّودي.

[4]- نُقل هذا المقال إلى العربيّة تحت عنوان: هل الشافعي هو أوّل من أرسى علم التشريع الإسلامي؟، ترجمة رياض الميلادي، حوليات الجامعة التونسية، العدد 53/2007

[5]- صدرت الترجمة عن دار المدار الإسلامي، بيروت، سنة 2007، وصاحب الترجمة هو الأستاذ عباس عباس، وراجعها د. فهد الحمّودي.

[6]- صدرت الترجمة عن دار المدار الإسلامي، بيروت، سنة 2007م، وصاحب الترجمة هو الأستاذ رياض الميلادي، وراجعها د. فهد الحمّودي.

[7]- السيد ولد أباه، الفقه الإسلامي والدولة المستحيلة، وجهات نظر، 22/06/2013

[8]- راجع وائل حلّاق:

The Impossible State ... (op. cit) pp. 6-9

[9]- رضوان السيّد، بدايات الفقه الإسلامي، وتطوراته، دار الحياة اللبنانيّة (20-8-2005م)، على الموقع: .www.daralhyet.net/actions/print

[10]- عنوان المقالة في الأصل الإنجليزي:

The primacy of the Qur'an in shatibi's Legal theory

[11]- وائل حلّاق:

The Impossible State, (op, cit), p.75

[12]- راجع رياض الميلادي، الكتاب أصلاً من أصول الفقه إلى حدود القرن الثامن للهجرة، أطروحة دكتوراه مرقونة في الجامعة التونسية، 2011م، إشراف الأستاذ توفيق بن عامر، الباب الأوّل، الفصل الثاني.

[13]- وائل حلاق، السلطة المذهبية - التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، ترجمة عباس عباس، بيروت، 2007م، دار المدار الإسلامي، ص ص 9-10