توماس باور وإشكالية التعدد في الحضارة الإسلامية


فئة :  قراءات في كتب

توماس باور وإشكالية التعدد في الحضارة الإسلامية

توماس باور وإشكالية التعدد في الحضارة الإسلامية

من دون شك أن مدرسة فرانكفورت كان لها صدى كبير عند الدارسين للتراث الإسلامي، سواء من ذلك الذي ينتمون إليه، أو من الدارسين له من غير انتمائهم إليه؛ وذلك لأن هذه المدرسة لا تقصي مساهمات الحضارات الأخرى فيما سمي بالحداثة، وبل ويرى كثير منهم أنه ربما يوجد في هذه الحضارات ما لم يوجد في عصر الأنوار حتى، من هنا تبنّى بعض المفكرين المناصرين للحضارة الإسلامية أفكار هذه المدرسة، سواء من كان منهم مناصرا للحضارة الإسلامية التي يرى أنها ظلمت من قبل الدارسين في القرن التاسع عشر، أو أولئك الناقمين على الحضارة الغربية، والذين يرون أنها أخطأت البوصلة، وقادت الإنسان إلى متاهات لم يستطع بعد أن يجد طريقه فيها، وهذا هو الذي يفسر لنا رواج الكثير من أفكار مفكري هذه المدرسة في الأوساط الثقافية، وخاصة بين المناصرين للإرث الديني، وإن كان هؤلاء يقومون بمغالطة هنا، حيث إن نقد الحداثة لا يعني بالضرورة الانتصار للدين، كما يفعل ذلك طه عبد الرحمن، حيث إن نقد هؤلاء الرواد للحداثة جاء من وفائهم للمبادئ التي نادت بها، ويرون أنها حادت عن الصواب، لكن المتعاطفين من المسلمين مع أفكار هذه المدرسة لا يرون فيها إلا الشق الذي ينتقد الحداثة الغربية، وبذلك فإنهم يبررون تشبثهم بالتراث أو التقليد من غير حتى تمحيص ما بين الغث والسمين فيه، ما يهم هنا، هو وجود مفكرين ألمان استطاعوا اللجوء إلى التراث الإسلامي لتبرير موقف فلاسفتهم؛ أي إن هناك تجارب تجسد أفضل تجسيد أفكار النهضة، أفضل من التجربة الأوروبية، غير أنه للمفارقة أن هذه التجارب وجدت حتى قبل عصر النهضة؛ أي إبان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وفي اعتقادي هذا الأمر هو ما يحاول القيام به المفكر الألماني المختص في الدراسات الإسلامية توماس باور، وخاصة في كتابه المترجم إلى العربية، تحت عنوان، ثقافة الالتباس، نحو تاريخ آخر للإسلام، والصادر عن منشورات الجمل، بترجمة رضا قطب.

التعدد الحضاري

تكوين باور هو اللغة وهو من المناصرين للتحليل اللغوي، وهذا ما يميز أيضا الكثير من المفكرين الذين ينتمون لهذه المدرسة، والذين يولون اهتماما أكثر للثقافة والفن والأدب؛ وذلك خلافا للمناهج العلمية التي قلصت طرق الوصول للحقيقة، وبذلك فإن فكرة التعدد كادت تنعدم مع رواد المدرسة الوضعية، خلافا للمناصرين لتعدد طرق للوصول إلى الحقيقة، والذين يرون أنها قد تكون في الفن، كما في العلوم الحقة. يبدو من خلال تركيز الأستاذ باور على فكرة التعدد في الفصل الأول من كتابه أنه متأثر بهذه المدرسة، وبذلك فهو سينطلق من أطروحة أساسية عنده، وهي أنه ليس هناك طريق واحد للوصول للحقيقة بل عدة طرق، وهذا ما سيسعي طوال الصفحات التي قاربت الخمسمائة صفحة حسب الترجمة العربية للكتاب البرهنة عليه؛ أي إن الذين حاولوا اختزال دعنا نقول _حقيقة الإسلام_ في قضية واحدة، هم بدورهم كانوا متأثرين بالنزعة الوضعية، وخاصة التيارات المتشددة، والتي يركز عليها بشكل كبير، وخاصة الشيخ السلفي المشهور ابن عثيمين.

بداية، ينطلق باور في هذا الفصل من الحديث عن فكرة التعدد، ويختار بعض المجالات ليرى كيف أنها نظرت بداية إلى فكرة التعدد، يتحدث عن التعدد الحضاري، ثم يتحدث عن التعدد في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والاجتماع، يهمني هنا التعدد في علم النفس، والذي ركز فيه على النظريات التي حاولت فهم فكرة القبول بالتعدد عن طريق نمط الشخصية، وهذ المجال خصب صراحة ولم يُتناول في العالم العربي والإسلامي؛ أي محاولة فهم الآراء المتطرفة التي تقود أحيانا إلى ممارسة العنف عن طريق فهم نمط الشخصية الذي يميز هؤلاء الأفراد، حيث غالبا ما يُلجأ إلى التشخيص الجاهز، وربط التطرف إما بعرق، أو بدين أو جماعة سياسية، ولا نحاول وضع فرضية أن يكون العنف له ارتباط بنوع الشخصية لم لا، عموما الكاتب لا يطيل من التحليل في هذه المجالات، ولا يكثر من الاستشهاد، حيث إنه يقتصر على مصدر واحد أو مصدرين، كما يفعل على طول الكتاب، حتى في تناوله لقضايا إسلامية، يكتفي بذكر نماذج محدودة، وهذا ربما أحد نقاط الضعف في دراسته، حيث إنه ينطلق من فرضية أساسية، وهي مسألة التعدد، ويبرهن عليها من خلال تناول بعض التخصصات لها، ثم ينطلق ليبرهن على أطروحته في الكتاب، من خلال سوق نماذج من التراث الإسلامي.

القراءات القرآنية كمدخل لفهم التعدد

كي نستمر في تحليل هذه الدراسة، لا بد من الوقوف بداية مع أطروحة الكتاب، فهو يرى أن الحضارة الإسلامية أحسن من مثل فكرة الأنوار، حيث إنه دائما هناك الحرية المطلقة، الحرية في الرأي، الحرية الشخصية، والحرية الفكرية أيضا، ثم هناك إيمان بالمساواة، والعدل إلخ، كل تلك القيم التي نادى بها فلاسفة الأنوار لكن التاريخ أخفق في تنزيلها على أرض الواقع، الحضارة الإسلامية حسب ما يرى باور، جسدت هذه القيم على أرض الواقع، حتى ربما من غير أن تصدر بيانا لذلك، بل كانت تجربتها خير ممثل لهذا الأمر، فهو إيمانا منه بهذا الأمر، يعود للتراث الإسلامي بحثا عما يعضد رأيه، يختار مجالات محددة للبحث، النص القرآني، الحديث النبوي، الفقه، اللغة والأدب، الفكر السياسي، كل هذه المجالات يحاول أن ينتقي منها نماذج تعضد ما يذهب إليه، لكن المدهش في قراءته من دون شك، هو قدرته على تصيد الشواهد والأفكار من مختلف هذه التخصصات التي تعضد وجهة نظره، حيث إنه استطاع بناء وجهة نظر منطقية، يصعب إجاد ثغرة فيها.

ينطلق باور من مسألة تاريخية، وهي قضية جمع القرآن، صحيح أن هذه القضية تستعمل في عدة دراسات؛ فهناك من يستشهد بها للشك في النص القرآني، لكن ما يهم باور هنا، هو كيف جسدت قضية جمع القرآن مسألة الاختلاف والتعدد، حيث يرى أن وجود قراءات متعددة وروايات لهذه القراءات هو دليل على مسألة قبول الاختلاف، والتعايش مع فكرة التعدد، وهذا الأمر بخلاف التاريخ المسيحي، الذي لم يكن يقبل إلا برأي واحد، وهنا لا بد أن نستحضر قضية المجامع المسكونية، وكذلك إصدار قانون الإيمان الذي يعد كل من خالفه مهرطقا؛ فالإسلام حسب باور حمى فكرة الاختلاف والتعدد، غير أنه يغفل هنا أمرا مهما، وهو أن مسألة الجمع ما وقعت إلا خوفا من الاختلاف، ويدل على ذلك الرواية المشهورة، التي تحكي اختلاف الصحابة حول قراءة القرآن، حتى كاد أن يصل بهم الأمر إلى الاقتتال، فجمع عثمان القرآن في مصحف واحد، وبعث بنسخ منه إلى الأقاليم، ونلاحظ أن باور يركز على القراءات أكثر مما يركز على مسألة وجود مصحف واحد، ويرى أن في هذه القراءات ليس دلالة على اختلاف في الأداء فقط، بل هذا الاختلاف يقود إلى الاختلاف في المعنى أيضا.

عموما النماذج التي يسوقها غير كافية في التدليل على رأيه، حيث إن هذا الاختلاف وإن كان يحدد اختلاف في المعاني، إلا أنها تبقى قريبة، بل في بعض الأحيان تكون بمثابة شرح للمعنى الإجمالي أو تكميل له فقط، وليست معارضة أو مضادة له، أو فيها شيء زائد يمكن أن يغير معنى السياق، لكن من المهم الإشارة إلى أن أول من تناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل هو المستشرق المشهور الذي يعد مؤسسا للدراسات الإسلامية جولد زهير، حيث تناول هذه المسألة بنوع من التفصيل، بل وفي بعض الأحيان كانت عنده بعض الملاحظات دقيقة، لكن بكل تأكيد هدف جولد زهير مختلف عن هدف باور، الذي يسوق نماذج من الخلاف حول القراءات في القديم، ويستشهد بأمثلة من كتاب الجزري النشر في القراءات العشر، ويقارنه بدراسات ابن عثيمين، والذي يرى فيه أنه لم يكن متسامحا مع التعدد، بل كان متزمتا في كثير من الأحيان؛ وذلك جاء على حساب الحقائق التاريخية.

بعد الحديث عن التعدد في القرآن، يلجأ باور للحديث عن تعدد في مجال ثان، وهو مجال السنة، مراعيا بذلك أن السنة هي بمثابة المصدر الثاني بعد القرآن من حيث استنباط الأحكام، وهنا يخلص من نتائج النقاشات التاريخية إبان تدوين السنة، وجمع الأحاديث، ومن ثم تصنيفها إلى أحاديث مردودة ومقبولة، إلى أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون بمثابة شاهد آخر على إيمان الحضارة الإسلامية بروح التعدد وعدم قبول الرأي الواحد، وهذا ما تترجمه المقولة المشهورة المتداولة في المجال الإسلامي، وهو أن الاختلاف رحمة، والتي جعلها باور عنوانا لأحد فصول كتابه، كما أنه يعرج أيضا على مسألة نشوء المذاهب الفقهية الإسلامية، وما مدى الاختلاف الموجود بينها، وخاصة في بعض الأحكام، ويضرب مثالا على ذلك بمسألة جلد الميتة، والخلاف المشهور حول حكمه بين المذاهب الفقهية، والذي يعود بطبيعة الحال، إما إلى الآية على اعتبار أنها غير واضحة الدلالة، أو إلى وجود أحاديث يبدو منها أن حكم المسألة مختلف، إلى غير ذلك من القضايا التي تعد مشهورة ومتداولة بين الدارسين للتراث الإسلامي، لكن كما أسلفت تكمن عبقرية باور في قدرته على توظيف هذه المعطيات في الدلالة على أطروحته، والتي تبدو مقبولة ومحترمة إلى حد بعيد، لولا ما قد يرد على بعض قضاياها من انتقادات.

من المهم ربما الإشارة إلى مسألة تبدو هامشية في فكر باور، لكنها جوهرية ومهمة بالنسبة إلى القراء المسلمين، وهي قضية الديني والدنيوي في الفكر الإسلامي، حيث يبدو واضحا أنه مقتنع، وهو لا يختلف عن سابقيه من المستشرقين في مسألة غلبة الدنيوي على الديني، ولهذا نجده يعقد فصلا يحمل عنوان أسلمة الإسلام، ويناقش فيه هذا الأمر، وخاصة في مسألة الأحكام، حيث حسب رأيه إن نظرية الفقه الإسلامي وإن كانت تتوسل بالنصوص المقدسة إلى أن الطابع الدنيوي يبقى حاضرا فيها، ويجعل من مسألة بعض الفتاوى التي جاءت ملبية لرغبة بعض الأمراء خير شاهد على ذلك، ولهذا فهو يرى أن المجال الإسلامي تمت أسلمته، كما يرى آخرون أنه تمت قوننته، إلخ، هذه الفكرة وإن كانت غير جديدة، إلا أنه يبدو أن فيها التباسا، وهو قد يكون من قبيل الخلاف الاعتباري حسب تعبير القدماء؛ أي إن بعض الأمور التي يعدها العلماء المنتمون للمجال الإسلامي هي محض دينية، قد يراها غيرهم أنها دنيوية؛ وذلك لأن مسألة الاجتهاد في الحضارة الإسلامية تأخذ حيزا كبيرا، وإذا ما أردنا التفصيل في هذا الأمر سيأخذ الأمر منا صفحات.

التضاد اللغوي

هناك مجال طريف في التأليف نشأ في الحضارة الإسلامية، ولعلها تعتبر فريدة فيه، هذا بالإضافة إلى سبقها في مساهمة صناعة المعاجم اللغوية، وهو مجال التأليف في الأضداد، أو التأليف في مجال الكلمات التي تتعدد معناها، حيث يكون للكلمة الواحدة معنيان، أو ثلاثة معان أو أربعة، وإن كان المؤلف اقتصر على أحد المؤلفين الذي اشتهر باسم كتابه، وهو قطرب وكتابه المشهور هو كتاب مضاف إليه، واسمه مثلث قطرب، حيث عمد هذا المؤلف إلى جمع الكلمات التي لها ثلاثة معان، ونظمها في منظومة أصبحت تتداول وتحفظ من قبل طلاب العلوم الشرعية، إلا أن باور يجعل هذا الأمر مدخلا لأمر مهم، وهو مسألة التعدد في اللغة، حيث يرى أن هذا المجال سينتقل من مجال الطرافة اللغوية إلى مسألة البحث الجاد، وهو البحث عن تعدد طرائق الحقائق، ومن ثم الدخول في مجال الشك، كما يرى أن هذا الأمر سيظهر بشكل ملحوظ مع الرازي، الذي اعتبر أن لا مجال لوجود حقائق مطلقة.

لا يقتصر الأمر على قطرب وحده حسب المؤلف، بل أصبح ظاهرة عامة، وانتقلت من مجال اللغة إلى باقي المجالات الأخرى، وما ذلك إلا خير دليل حسب رأي المؤلف على روح الحضارة العربية الإسلامية، حيث يرى فيها أنها حضارة التعدد، إلا أن هذا الأمر مثل غيره، سيندثر مع بداية الاستعمار للبلدان الإسلامية، وستبدأ في الظهور تيارات لا تؤمن إلا بالرأي الواحد، كما مثل ذلك التيار السلفي الذي يستشهد به في غالب الأحيان، وكما مثل ذلك أيضا جماعة الإسلام السياسي، هنا لم يصرح باور بسبب ردة الفعل هذه، هل هو تأثر بالنزعة الوضعية التي انتقلت من العلم إلى الفلسفة قبل أن تصبح نظرة عامة، أم إن هذا الأمر ظهر كنتيجة طبيعية لردة الفعل على الاستعمار، كلا الاحتمالين يبقى واردا، لكن ما يهم باور هو أن نزعة الإيمان بالرأي الواحد، هي نزعة دخيلة على الفكر الإسلامي، الذي اعتبره مؤسسا لقضية التعدد.

تعدد معنى المتعة

هذا الفصل ما قبل الأخير يخصصه باور لمناقشة قضية الجنسانية، والتي أصبحت الآن مركزية في النقاشات الفكرية، على غير السائد عند العرب والمسلمين؛ وذلك بسبب تأثير الأيديولوجيا على أن الحضارة الغربية هي حضارة الحرية الجنسية، فإن الذين يعيشون هناك، بل والمنتمون إليها يرون الأمر على خلاف ذلك، حيث إن القيود التي فرضت على هذه الغريزة لم يستطع ولن يستطيع أن يتحملها الرجل الشرقي، الذي يؤمن بالمتعة الجنسية ومهووس بها؛ وذلك بسبب تأثير الديانة المسيحية، والتي لا تؤمن بممارسة اللذة خارج إطار الزواج، كما أن الزواج هو لأجل الأبناء وليس للمتعة، فإن الحضارة الإسلامية خلاف لذلك، حيث إنها أتاحت مجالا واسعا لممارسة المتعة، بدءا بالمتفق عليه، وأما إذا ما ذهبنا إلى ما يراه باور، فإن الأمر سيكون مختلفا.

مجال الأدب هو مجال خصب في الحضارة الإسلامية، وخاصة شعر الغزل منه، الذي يصور عشق الرجل العربي للمتعة واللذة، بخلاف الحضارة التي مارست الرقابة على هذه الغريزة الطبيعة في الإنسان، هناك مجال يناقش بكثرة في الحضارة الغربية، وخاصة بعد ازدياد حدة النقاش حول مجتمع الميم، وهو الشعر الذي يحكي تغزل الشعراء بالغلمان، حيث يرى الغربيون أن في هذا الأمر دلالة على الحرية الجنسية التي أتاحتها الحضارة الإسلامية، بارو لا يأتي بجديد هنا، بل يحيل بكثرة على الدراسة الرائعة التي قام بها جوزيف مسعد في كتابه اشتهاء العرب، وهو كتاب استوفى النقاشات حول هذه القضية.

ما استغربت له في هذا الفصل، هو استغراب المؤلف من وجود علاقة صداقة بين الرجال العرب، حيث يرى أن هذا أمر غريب؛ إذ يذهب الرجل إلى جانب الرجل وهم أصدقاء يمازح بعضهم بعضا، وهو من دون شك يرى في هذا الأمر دلالة على ما يذهب إليه، ويحكي أن المستشرقين الأوائل الذي كانوا يتعرفون على مجتمعات الشرق الأدنى لأول مرة، أثار هذا الأمر استغرابهم، واستغرابهم يثير استغرابنا نحن العرب من دون شك، وجميعنا يأمل أن تزول هذه الغرابة التي تنشأ بيننا وبينهم، إلا أن الدراسات العلمية تؤكد أن الاختلاف هو الأصل، وهذا أمر طبيعي.

البحث عن اليقين

حسب التأريخ الغربي التقليدي للفكر والفلسفة، فديكارت مؤسس منهج الشك، والمدافع عن مسألة مسح الطاولة، هيوم المدافع عن التجريب، ونيتشه هدم بمعوله اليقين وأسس للعدم، والأمر نفسه نظّر له علميا أينشطاين بنظريته في النسبية العامة، وبالتالي فالعالم دخل في متاهة، وودع عصر اليقينيات ليدخل مجال السيولة وعدم اليقين والثبات في كل شيء، هذا الأمر لا يسلم من قبل الكثيرين، وما يفعله باور وغيره من الباحثين الذي يبحثون في الحضارات القديمة والمتوسطة خير شاهد على ذلك، حيث إنه لم يعد فرويد هو مؤسس الثورة الجنسية، بل هي وجدت قبله بكثير، ولم يعد ديكارت من أسس للشك، فالحضارات القديمة عرفت نماذج له أيضا، وهذا هو الذي دفع باور للبحث في الحضارة الإسلامية وإيلائها كل هذه العناية.

يختتم كتابه بالحديث عن قضية التعدد في المجال السياسي، ويبحث من جديد قضية الديني والدنيوي، يقف مع كتب المؤلفات في الفكر السياسي، وهي كتب التي تعرف بالآداب السلطانية، وكما سلف فهو ينتصر للجانب الدنيوي على الجانب الديني، ويرى أن لكثير من القضايا التي يدعي الباحثون أنها ذات طابع ديني محض، هي في الحقيقة دنيوية، وما ذلك في اعتقادي إلا بالاعتبار ويصعب الحسم في ذلك، ويثير مسألة عدم اليقين في الحضارة، وكأنه يذهب إلى ما ذهب له غير واحد من الباحثين، وهو أن الإيمان بوجود حقائق مطلقة ومقدسة هو الذي يقود للعنف والدمار، وبذلك فهو يرى أن الحضارة الإسلامية كانت تؤمن بالتعدد، وخير دليل على ذلك، هو وجود هذا الكم الهائل من الاختلافات بين المفكرين الذين عاشوا في ظلها.

خاتمة

أطروحة باور في هذا الكتاب كما في كتابه الثاني الذي ترجم أيضا، وهو هل توجد هناك عصور إسلامية وسطى، ليست جديدة، حيث إن مجمل هذه الأفكار إما موجودة في الفكر الإسلامي المعاصر، أو بعضها الآخر موجود عند المستشرقين، إلا أن قراءته التركيبية لهذه الأفكار مهمة، وكما أسلفت فتخصصه في مجال اللغة والأدب، ثم انتماؤه لإرث يعد مؤسسا لنقد الحداثة، ساعداه على هذا الأمر. من دون شك، هذه محاولة طموحة، ومهمة بغض النظر على إفراطه في الدفاع عن الجانب الدنيوي في الحضارة الإسلامية، إلا أن أطروحته تعد على الأقل من الأطروحات المنصفة للفكر والحضارة الإسلاميين؛ وذلك خلافا لما عهد على المستشرقين من انتقاص للفكر والحضارة الإسلاميين.