ثورة ودولة الربيع العربي


فئة :  قراءات في كتب

ثورة ودولة الربيع العربي

ثورة ودولة الربيع العربي:

فلسفة الثورات العربية وأسئلة الدولة والمجتمع والأمة،

قراءة تركيبية في كتابات الباحث سلمان بونعمان


برزت، منذ انطلاق شرارة الانتفاضات العربية المجيدة في بداية 2011، تحليلات تحاول تفسير عوامل وأسباب وسيرورات الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت المنطقة، وقد شكل اندلاع هذه الانتفاضات مفاجأة للمحللين والباحثين الغربيين وجزء من المثقفين في العالم العربي، بسبب هيمنة براديجم عاجز عن فهم ديناميات المجتمع العربي الذي كان يرتكز على نظرية استمرارية الاستبداد[1]؛ فقد كانت هذه الدراسات تصور المجتمعات العربية "راكدة" و"عصية على التغيير" بسبب من ضعف، بل من غياب، إحساس شعوبها بالحاجة إلى الديموقراطية، وما تنطوي عليه من مبادئ ومعايير وآليات خاصة بالتمثيل السياسي والرقابة والمحاسبة؛ أي أنها عدت مجتمعات "اسثنائية"، تعهدها عسف سلطة استبدادية على مدى قرون[2].

لقد ظل تحليل الوضع العربي أسير أنموذجين تفسيريين: المقاربة الاستشراقية الثقافية، والمقاربة البنيوية. ورغم عملية التحيين المحدودة في مجال الدراسات الشرق أوسطية، إلا أنها لم تتمكن من تجاوز تحيزاتها المعرفية المتمركزة حول الذات الغربية بالنسبة للمقاربات الثقافية، والحتمية بالنسبة للمقاربات البنيوية، التي جعلتها غير قادرة على إدراك التحولات العميقة التي حصلت؛ فنتجت عنها إما مقاربات غائية (teleologique) تسعى إلى مقارنة ما وقع في العالم العربي بالثورات التي عاشتها أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، ومحاولة إسقاط نماذج حتمية "الانتقال الديموقراطي" على العالم العربي[3]. وإما مقاربات تشكيكية في إمكانية الأحداث الجارية في العالم العربي من تحرير الدول العربية من ربقة الاستبداد وإبداع أنموذج حضاري جديد، والتخويف من "شتاء إسلامي" وأنموذج طالبان وأفغانستان والقاعدة.[4]

إن هاتين المقاربتين عاجزتان عن تقديم تحليل دقيق للانتفاضات الثورية في العالم العربي، بسبب انفاصالها عن المجتمع وعدم قدرتها على إدراك إمكانات التغيير الكامنة داخله من جهة، ولأن أغلبها صادر من رؤية برانية باردة من جهة ثانية، فبدت بالتالي عاجزة أيضًا عن تقديم بديل تفسيري للنماذج القائمة منطلق من هوية المجتمع وإدراكه لذاته وواعٍ بالإمكانات المتاحة والتحديات التي تتهدده.

أمام هذين الأنموذجين برزت محاولات جدية لتجاوز المأزق الفكري الذي وقعت فيه المقاربات الآنفة الذكر، وحاولت تقديم بدائل فكرية جديدة لها منطلقات فكرية مختلفة تنطلق من الذات العربية الإسلامية، وتفكر من داخلها ولكن بروح نقدية تجديدية تجاوزية منفتحة على مكتسبات الحضارة الإنسانية والقيم الإنسانية المشتركة، تجعلها بحق بمثابة محاولات تجديدية في الفكر السياسي العربي والإسلامي.

في سياق الرغبة في تجاوز المقاربات البنيوية والثقافية المنغلقة، برزت محاولات جدية في صفوف نخب ثقافية جديدة تمزج بين المعرفة العصرية والانفتاح على مكتسبات العلوم الاجتماعية، وتمتلك في الوقت نفسه رؤية معرفية "أصيلة" تمتح من مرجعية المجتمع الثقافية، ولديها قدرة على تقديم قراءة مركبة للواقع، بعيدًا عن التبسيطية والاختزالية التي تقدمها المقاربات الصحفية من جهة، وبعيدًا عن الخطاب الجوهراني المنغلق على الذات. لقد ظهر جيل ينتمي إلى المدرسة الفكرية التجديدية الإسلامية، التي تتميز بكونها متعددة الروافد؛ فهي بالأساس ذات مرجعية إسلامية، تمتح من أفكار مفكرين ومثقفين وعلماء، أمثال يوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي، وأحمد الريسوني، وعبد الوهاب المسيري، ومالك بن نبي، وعلي عزت بيغوفيتش، وعلي شريعتي، وأبو القاسم الحاج حمد، وحسن الترابي ، ولكنها في الوقت نفسه منفتحة على اجتهادات المثقفين العلمانيين المتنورين، من مثل: محمد عابد الجابري، وبرهان غليون، وعزمي بشارة، وغيرهم، مما يجعلها في موقع أكثر انفتاحًا وقدرة على تركيب الأفكار وتجاوز المسلمات الجاهزة ونقد الفكر العربي والإسلامي وتقديم مقترحات فكرية بديلة.

وفي هذا السياق، تبرز محاولة الباحث سلمان بونعمان في تناول مسألة الثورات العربية وسؤال دولة الربيع العربي، وهي ما جسدهما في كتابين صدرا خلال عامي 2011 و2012، يحاول الكتاب الأول تفكيك خطاطة الثورات العربية وإعادة رسمها من جديد[5]، ويطرح العمل الثاني أسئلة جدية حول دولة الربيع العربي[6]، مثل علاقة الدولة والمجتمع والأمة، وعلاقة الدين بالدولة، والمركز والهامش، وقضايا الحرية والتنمية والكرامة، محاولاً الإجابة في ثنايا الكتابين عن سلسلة من الأسئلة الحارقة، ويجترح للإجابة عنها طريقًا صعبًا محفوفًا بالمخاطر والتحديات التي تتطلب يقظة واجتهادًا وإبداعًا فكريًا يتجاوز المقولات التقليدية التي أنتجها الفكر السياسي الإسلامي التقليدي، ويرفض في الوقت نفسه المقولات الجاهزة والمحاولات الإسقاطية لمفاهيم ومناهج على واقع ثقافي وسياسي مختلف.

ستحاول هذه الورقة تقديم قراءة تركيبية للكتابين، باعتبارهما موضوعين مترابطين يمتلكان راهنية على مستوى النقاش الفكري والسياسي، كما أنهما يمثلان استمرارية في مشروع الكاتب الفكري، والتي تتجلى أساسًا في تفسير الظاهرة الثورية العربية من جهة، ثم العمل على تفكيك نسق الاستبداد، ثم بناء دولة ومجتمع ما بعد الثورة من جهة ثانية.

أولا: فلسفة الثورات العربية:

ينطلق الباحث في كتابه فلسفة الثورات العربية من حقيقة أن الانتفاضات الجارية في العالم العربي شكلت لحظة فارقة في مسار الحياة السياسية العربية، يمكن أن تتوج بانبعاث دورة حضارية جديدة للأمة العربية الإسلامية بوصفها فاعلاً جوهريًا في حركة التغيير الحضاري الثوري، لتكون مقدمة تحولات ثقافية وفكرية وسياسية في تاريخ المجتمعات العربية، يقود التيار الأساسي في الأمة والقوى الاجتماعية الجديدة[7] (ص:10)، الأمر الذي أخذ نصيبًا من الاهتمام الفكري، ليس على المستوى العربي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي كذلك، وشغلت مراكز أبحاث وعلب تفكير استراتيجية، وساءلت مجددًا النماذج الثورية التقليدية والأطر التحليلية القائمة، لفهم وإدراك خصوصية الظاهرة الثورية العربية، إلا أنه يرى أن هذه النماذج فشلت في استيعاب هذه التحولات، وباتت عاجزة عن تفسير وتصنيف الحالة الثورية العربية الراهنة، وهو ما يتصدى له الباحث من خلال رغبته بتقديم معرفة مركبة ذات بعد حضاري، لكنها تستبطن إشكالية وضع هذا الحراك في سياق إمكانية انطلاق دورة حضارية جديدة تكون رافعة لمشروع نهضوي عربي واعد ومقاوم. (ص:11)

يبرز البعد النضالي التحرري بين سطور كتاباته؛ فرغم رغبته في تقديم تفسير عميق للحدث الثوري، إلا أن هذا الأمر لا يثنيه عن الانحياز إلى الذات العربية الإسلامية بمضمون قيمي ومرجعي مؤسس على قيم الحرية والعدالة والكرامة. إن رغبة الكاتب في تقديم أنموذج تحليلي متحيز للذات العربية الإسلامية، دفعه إلى إبداع أنموذج تفسيري اصطلح على تسميته بـ " التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم " حاول تطبيقه على الحالة التونسية والمصرية، باعتبارهما حالتين ثورتين ناجزتين، في حين أن باقي الحالات الأخرى ما زالت في مسار الإنجاز والتفاعل.

ينقسم الكتاب الأول إلى فصلين أساسيين؛ خصص الفصل الأول لتحليل الظاهرة الثورية العربية في ضوء العلوم الاجتماعية، في حين خصص الفصل الثاني لمشروع أنموذج تفسيري جديد يحاول فهم الثورات العربية في ضوء العلوم الاجتماعية والخبرة التاريخية العربية.

في مفهوم الثورة:

هل هناك مفهوم علمي للثورة؟

يجيب عزمي بشارة بأن هناك محاولات يصعب أن ترقى إلى مستوى التعريف العلمي؛ فالكلمة دارجة في الاستخدام اليومي للغة، وحتى في الكتابة التاريخية، أُطلقت تسمية على عدد كبير من الظواهر المختلفة في شدتها، والتي تمتد من أي تحرك مسلح، أو غير مسلح، ضد نظام ما، إلى التحركات التي تطرح إسقاط النظام واستبداله، مما يصعب عملية تدقيق المصطلح.[8]

وعلى المنوال نفسه، يسير سلمان بونعمان في الفصل الأول من كتابه " فسلفة الثورات العربية"؛ فقد حاول الكاتب التعاطي مع الظاهرة الثورية من زاوية العلوم الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب توقفًا عند المفهوم نفسه واستجلاء مختلف أبعاده ، ويشير إلى غياب الإجماع بين العلماء الاجتماعيين على ماهية الثورة وتعريفها، مثلما هو الحال على اختلاف تفسيراتهم لكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية. فالثورة بالمعنى العلمي هي حالة من التغير اللاخطي غير المنتظم الذي يسمى في الأدبيات العلمية بالأنظمة المعقدة (ص: 25)، وبما أنها نسق معقد، فإنه يصعب التنبؤ واستشراف نتائجها ومآلاتها، لأنها لا تخضع لمبدإ السببية، وإن كان ممكنًا التحدث عن أنماط عامة لهذه التغيرات تتميز بنوع من النسبية والمرونة، وهو ما يحاول الوقوف عنده في المحور الثاني عبر عرض النماذج المقترحة لدراسة الثورات في العلوم الاجتماعية، ووقوفًا عند الأنموذج المعرفي في العلوم الاجتماعية في تعاطيها مع الظواهر الاجتماعية المركبة، حيث يحصي الكاتب سبع نماذج لتفسير الثورات في العلوم الاجتماعية، وهي: الأنموذج الوصفي، والأنموذج السببي، والأنموذج المقارن، وأنموذج الفاعل، وأنموذج الحركات الاجتماعية، وأنموذج الحركات الاجتماعية، وأنموذج الأثر الدولي، وأنموذج التركيب المتعددة الأبعاد. وهي مداخل متعددة لتفسير ظاهرة الثورة حاولت كل واحدة منها الاقتراب من الثورة من خلال زاوية معينة.

تحيزات العلوم الاجتماعية الغربية:

إلا أن الطموح المبالغ فيه لرواد العلوم الاجتماعية لتأسيس علوم اجتماعية على معايير العلوم الطبيعية واعتبار "الظواهر الإجتماعية، باعتبارها أشياء" يمكن ملاحظتها من الخارج والتنبؤ بها، وجد نفسه عاجزًا أمام الثورات العربية، فقد تفاجأت مراكز الأبحاث وعلب التفكير وصناعة الرأي في الغرب أمام الانتافاضات العربية، وبدت نماذجها التفسيرية عاجزة أمام الحدث الثوري، وإدراك أسبابه وعوامله والفواعل الأساسية ضمنه، وطرح عليها أسئلة جدية حول عمق البراديجم السائد لتفسير المجتمعات العربية، الذي بات مسكونًا بنظرية استمرارية الاستبداد العربي وإعادة إنتاج نفسه وضمان استمراريته، وهذا يرجع حسب التصور النظري السائد إلى "الثقافة العربية الجامدة" والمتميزة بنظام باتريايكي تراتبي، يثمن فيه التراتب والطاعة وعلاقة "الشيخ والمريد"، وهي في ذلك تفسر، حسب سلمان بونعمان، "الواقع المتخيل وليس الواقع الحي". (ص: 66)

إن تحيزات العلوم الاجتماعية مرتبطة بسلسلة من الأحداث التاريخية التي تربط العالم الغربي بالعالم الإسلامي، والتي كانت محكومة خلال القرنين الماضيين بالرغبة في التحكم المباشر في المجتعات العربية من خلال الاستعمار، ثم تحولت إلى رغبة في التحكم عن بعد؛ فقد كانت الدراسات الكولونيالية أحد النماذج التي تم استعمال العلوم الاجتماعية أداة لفهم المجتمعات المستعمَرة قصد السيطرة المباشرة والتحكم فيها، ثم تخففت هذه العلوم من الإرث الكولونيالي نسبيًا خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، إلا أنها ما زالت محكومة بتحيزات كامنة في بنية المعرفة الغربية تجاه العالم الإسلامي، والتي يمكن رصدها في مجموعة من المقولات على الشكل التالي:

·خصوصية الثقافة القائمة على الحاكم/الرعية وليس الدولة/الوطن.

·المقايضة التاريخية بين الحاكم والمجتمع وفقًا لمعادلة: الأمن والخبز الضروريان للرعية، مقابل تركز السلطات في يد الحاكم.

·التخويف من فراغ السلطة على أسس دينية، (حاكم غشوم ولا فتنة تدوم).

·الترهيب الأمني والقمعي للحركات الاحتجاجية المناضلة.

·سيادة النزعة الفردية والأنانية الاستهلاكية وتفكيك روح الجماعية.

·العوائق الذهنية والثقافية المترسبة في المجتمعات العربية المانعة للانتقال إلى الديموقراطية.

·غياب القوى القادرة على تبني وقيادة عملية التغيير نتيجة القمع والاعتقالات وإرهاب الدولة.

·الرشوة الاجتماعية: الدولة الريعية الثرية التي تقدم الرشاوى الاجتماعية لمنع التغيير.

·غلبة الولاءات القبلية على الولاءات الوطنية في كثير من المجتمعات العربية.

·الكتلة الصامتة الحائلة دون تعبئة القوى الاجتماعية والجماهير لمواجهة السلطات الحاكمة.

أوقعت هذه التحيزات المعرفية العلوم الاجتماعية في إسقاطات تبسيطية للواقع العربي، مما يعكس مأزقًا نظريًا يحتاج إلى وعي علمي جديد يستفيد من التراكم الحاصل ولا يلغيه، عبر استعارة بعض أدوات التحليل وإعادة تركيبها وتكييفها مع السياق العربي، وليس عملية لصق ونسخ من دون الأخذ بالسياقات التاريخية والحضارية المختلفة، ومن جهة ثانية إبداع نماذج تحليلية وأداوت جديدة لمقاربة الثورة العربية.

في الحاجة إلى أنموذج تفسيري جديد:

يحاول الكاتب في الفصل الثاني تجاوز المفاهيم التي أنتجها الفكر السياسي حول الشروط التقليدية والمنظورات التقليدية لقيام الثورات، وعمل على مساءلة المسلمات الجاهزة السابقة ومقولات نظريات الاجتماع السياسي، ولاسيما المتعلقة بالفضاء العمومي والشبكات الاجتماعية، والهويات الاجتماعية الجديدة، كما أنه يعمل على نقد السوسيولوجية الحِرَفية أو سوسيولوجيا الخبرة التي استحالت معرفة تقنية وخبرة أو معرفة تحت الطلب، في خدمة مؤسسات الدولة والشركات والمنظمات الدولية، مما يخدم مصالح وحاجات وأهداف بعض الدوائر الدولية والبيرقراطية والمؤسسات الخدمية والمقاولات الإنتاجية أكثر مما يستجيب لشروط ومعايير وأعراف وتقاليد وأهداف البحث العلمي الجاد.[9]

من هذا المنطلق، يعتبر سلمان بونعمان أن الثورات العربية فرضت على المثقف العربي والفيلسوف والمفكر السياسي والعالم الشرعي مراجعة المفاهيم الفكرية والأطروحات التقليدية في فهم التحولات الاجتماعية والسياسية والحضارية، وتجديد المقولات سواء تعلق الأمر بالفكر السياسي أم بنظريات الإصلاح والتغيير أو فهم جدل الفكر والواقع، وإعادة بناء مقولات جديدة اكثر تفسيرية (ص: 84-85). وينتقل للتدليل على كلامه من خلال تجربة الثورة التونسية والمصرية، والتي يعتبرها نقيض للثورات الدموية التي عاشتها الحضارة الغربية، حيث يترجم هذا التناقض الخلاف العميق بين منظومة القيم المرجعية الحاكمة لكليهما. فالحضارة الغربية منذ الثورة الأمريكية والفرنسية إلى اليوم تمت إعادة بناء جوهرها على أساس مادي طبيعية ذي منظومة قيم تعاقدية، في حين ظلت الحضارة العربية الإسلامية وبجوهرها التوحيدي ذات منظومة قيم تراجمية، رغم عملية التفكيك والتشويه التي تعرضت لها وما تزال. (ص:85)

يقترح سلمان بونعمان أنموذجا سماه بـ" التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم"، حاول من خلاله تقديم منظور تركيبي للتحولات السياسية والتحولات الثورية وطبيعة الحركات الاجتماعية الجديدة، من خلال دمج مصطلح الثوري الانتفاضي مع مقاومة للظلم والقهر والاستبداد بأشكاله المختلفة، حيث يمثل تغييرًا حضاريًا وعملية تراكمية ممتدة في الزمان والمكان، ورجة عميقة في نسق الاستبداد وإمكانية تحول جذرية في الوعي العربي لا تتأسس فيه السياسة على المناقع المادية فحسب، بل وتشمل رؤية أكثر إنسانية وأكثر رحابة تركز على قدرة الإنسان على التغيير والفعل. ولا يخفى أثر الانتفاضة الشعبية الفلسطينية على نحته لهذا المفهوم، فهو يعتبر أن هذه المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، كشفت خذلان الأنظمة العربية للقضية الأولى للأمة من جهة، وأعطت أنموذجًا لقدرة الشعوب على تحقيق الانتصار على قيم الظلم والفساد والاستكبار (ص:99)، وهو ما جعلها تتسم بخصائص مميزة تتأسس على قيمة الحق وليس قيمة القوة، وتتصف بخصائص الفرادة والجدة والإبداع والتخلق، وعبرت عن مرحلة متقدمة في تطور الوعي الحضاري العربي؛ فلم ينجح الثوار في إسقاط الأنظمة الاستبدادية فقط، ولكنهم نجحوا في تحطيم القيم السلبية الإنسحابية كذلك، كقيم الخوف واللامبالاة والدعة والسكينة والسكوت عن الظلم، فهذه القيم الدافعة هي مكمن كل تغيير حقيقي. (ص:123)

ثانيًا: سؤال دولة الربيع العربي:

ليست العوامل الموضوعية فقط هي العوامل التي دفعت إلى التحولات السياسية الجارية، ولكن كان لها الدور الفاعل في تشكيل اللحظة الثورية؛ فالثورة في ذاتها فعل إنساني، وهذا الفعل الإنساني لا توجد بينه وبين الأسباب الموضوعية علاقة مادية مباشرة، مثل علاقة بين تسخين الحديد وبين تمدده، ولكن لا بد من وجود وسيط إنساني أو ثقافي أو معنوي، يجعل الإنسان يستشعر مدى خطورة الأسباب الموضوعية ومدى لزوم التغيير، وهذا هو موقف البوعزيزي الذي كان تعبيرًا عن فشل الدولة الحديثة. وحالة انفجار الوعي تؤدي إلى تقليص ثم زوال عناصر الخوف والرهبة من الدولة وكل مصادر جبروتها وقوتها. (ص:125)

لا يمكن فهم العمق السوسيولوجي والمؤسساتي للثورات العربية من دون ربطها بالتحولات السياسية الكبرى التي عاشها العالم العربي خلال العقود الخمس الأخيرة، خصوصًا ما يتعلق بـ"الدولة الحديثة القطرية" الموروثة عن الاستعمار، والآثار التي تركتها على نفسية الشعوب في المنطقة.

يحاول سلمان بونعمان في كتابه أسئلة دولة الربيع العربي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الحارقة التي انطلق منها عمله الفكري التأسيسي، وقد أطرها على الشكل التالي: أي نموذج حضاري مأمول لدولة الربيع العربي؟ ما هي أهم ملامحه ومحدداته؟ وأية جدليات تؤطر بناء الدولة العربية الحديثة في الوضع الحضاري الراهن؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في سياق التجول الثوري؟ وكيف يمكن ترويض وحش الدولة المستبدة؟

تعكس هذه الهواجس طموح الباحث في تقديم أجوبة، أو على الأقل محاولات أجوبة، على سؤال الدولة العربية في سياق الربيع العربي، وذلك من خلال تفكيك أنموذج الدولة العربية ما بعد الاستقلال والدولة العربية الثانية التي هي في طور البناء والتشييد، والتي تحتاج بناءً نظريًا قبل أن تتجسد عمليًا في الواقع؛ فالبيت قبل أن يبنى في الواقع العملي لا بد من تصور أولي له: ضرورته، وشكله، وحجمه، والموارد الضرورية لبنائه، وهندسته الخارجية والداخلية، وغيرها من القضايا.

قبل عملية البناء التفصيلي، لا بد من وضع تصور أولي شامل وعام، يضم أهم القضايا والإشكالات التي تقض مضجع المجتمعات العربية التواقة إلى التحرر من الفساد والاستبداد الذي شكلت الدولة الموروثة عن الاستعمار أحد ركائز تدعيمه، لتغول مؤسساتها وطغيانها على شعوبها ورغبة الحكام في فرض أنموذج تحديثي قسري على الشعوب، مؤسس على أنموذج اقتصادي ريعي غير منتج ولا يضمن التنافسية والتوزيع العادل للموارد، فلا استطاعت الأنظمة العربية التي ورثت الدولة السلطوية الهشة أن تحقق تنمية، ولا هي حررت شعوبها. إن ثورة البوعزيزي تعبير وتجسيد لفشل دولة الاستقلال التي تأسست على نمط تحديثي لوسائل الإنتاج متأثر بالإيديولوجيات الاشتراكية أو الليبرالية، فنتج عن هذا المسار تحديث قسري يفتقد إلى روح وقيم المجتمع، مما سرع في فشله الحتمي.

علاقة الدولة والمجتمع:

يتناول الفصل الأول إشكالية تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع على أرضية التحول الثوري، من خلال تحليله لخلفية تشكل هذه العلاقة مضمونها الحضاري المرتكز على فعالية أنموذج الأمة في الأصل، ورصد تجليات الاتصال بأنموذج الأمة والانفصال عن أنموذج الدولة ضد الأمة على مستوى رهانات العلاقة وعلاقة ذلك بسؤال النهضة.

إن سؤال العلاقة بين الدولة والمجتمع يعكس بشكل أساسي الجدل الدائر على مستوى الفلسفة السياسية، حيث تعطي الفلسفة الليبرالية الأنوارية الأولوية للفرد وحريته في علاقته بالدولة، حيث تصبح هذه الأخيرة خادمة له؛ فالوظيفة الحصرية لهذه الدولة بوصفها كيانًا اصطنعه الأفراد باتحاد إرادتهم، هي حماية أمن المجتمع والفرد وحماية ملكيته الشخصية (ص:35)؛ فقد تمركز الفكر الليبرالي حول أولوية الفرد والمجتمع على الدولة. في مقابل تركيز الفلسفة الليبرالية على الدولة بوصفه شرًا لا بد من التخلص منه وإعطاء دور أكبر للفرد، ركز الفكر الماركسي على أولوية المجتمع على الدولة، باعتبار الدولة تمثل طبقة البورجوازية ولا تمثل المجتمع برمته، إلا أن الماركسية رغم نقدها للدولة على المستوى النظري سقطت في المستوى العملي إلى حد تأليه وتقديس الدولة.

يعتبر سلمان بونعمان أن ظهور مفهوم "المجتمع المدني" في فترة التسعينيات، باعتباره حلقة وصل بين الدولة وأجهزتها والمجتمع العام، تخضع لطبيعة التحولات التاريخية والاجتماعية وخصوصية البيئة الحضارية وطبيعة الدولة وتاريخ تشكلها[...] فمسارات تطور العلاقة بين الدولة والمجتمع في مشهد بعد الربيع العربي تؤرخ لمرحلة فارقة، تسعى إلى إعادة تأسيس هذه العلاقة على أسس تركيبية مغايرة، يعاد فيها الاعتبار للمجتمع بوصفه متغيرًا مستقلاً فاعلاً في علاقته بالدولة[...] وهو نمط جديد يتأسس على أنموذج المجتمع الحي القوي والدولة العادلة القادرة، لتجاوز الثنائية القاتلة الحاكمة في طبيعة ومحددات علاقة الدولة بالمجتمع، والمستندة إلى أن قوة المجتمع مرتبطة بضعف الدولة، وأن قوة الدولة مرتبطة بضعف المجتمع.

ويربط الكاتب أنموذج المجتمع الحي القوي والدولة العادلة القادرة بمفهوم الأمة الذي يحيل في الاستعمال المعاصر إلى ثلاثة مستويات: الأمة بوصفها تنظيمًا سياسيًا لجماعة بشرية، وهو الدولة، والأمة بوصفها قوة تضامنية وثقافية، والأمة بوصفها جماعة من حيث طبيعة السلطة السياسية التي تخضع لها.

إلا أن الباحث يركز على مفهوم الأمة، باعتبار جوهر المشروع السياسي للإسلام هو بناء الجماعة الأمة أساسًا؛ فالدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة الاجتماعية، يجسده بناء القرآن الكريم لمفهوم الأمة بدل القوم المؤسس على الروابط الدموية المطابق للقبيلة، وتجسده التجربة الإسلامية الأولى مع الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة، حيث أسس الأمة أولاً، ثم المجتمع المدني التوافقي، ثم الدولة باعتبارها مؤسسة من مؤسسات الأمة، ثم السوق باعتباره فضاءً للإنتاج والإستهلاك والتوزيع.

ففي تجربة الإسلام الأولى المشرقة بنت الحضارة الدولة، وليس الدولة هي التي بنت حضارة الإسلام (ص:51). لقد كان التفاعل بين المجتمع الإسلامي والسلطة السياسية القائمة آنذاك مرتبطًا أساسًا برقابة وتقييد سلطة الدولة بسلطة الأمة عليها، ومحددة بكونها أداة حماية المجتمع، وهي الوسيلة لتحقيق أهدافه ودعم الجماعة، حيث كانت الأمة بمثابة قوة فاعلة تشتغل وتنهض وتنمو رغم ضعف الدولة، وهذا راجع إلى كون السلطة السياسية؛ أي الدولة، عنصر تابع ولاحق لوجود الجماعة، تطورت عبر التجربة التاريخية الإسلامية، باعتبارها مكونًا من مكونات الأمة، تضطلع بوظائف الأمن الداخلي والجيش والعلاقات الخارجية، في حين تضطلع مؤسسة الأوقاف والمجتمع الأهلي والعلماء والجماعات المحلية بالوظائف الأخرى من تنظيم المهن الحرة التجارية والصناعية وتطبيب وخدمات اجتماعية وتضامنات أفقية عمودية وتعليم ووساطة بين المجموعات السياسية والثقافية المختلفة وغيرها، ولاسيما أن مؤسسات الأوقاف تؤدي دورًا أساسيًا في الإنفاق على النشاطات الاجتماعية ورعاية الفقراء واستقبال الضيوف وغيرها.

ويرى الكاتب أنه من الصعب الجزم بمقولة نصر عارف التي تذهب في اتجاه القول بأن دور الدولة كان هامشيًا جدًا في المجتمع مقابل مجتمع قوي وفاعل، ويستبدلها بمقولة أخرى أكثر نسبية وأقل حدية تعتبر أن "المجتمع كان قويًا وفاعلاً والدولة شبه ضعيفة التحكم وقليلة التدخل في شؤون المجتمع"، وقد تكون أحيانًا "دولة ضعيفة جدًا داخليًا وقوية جدًا خارجيًا". (ص:57)

إلا أن انقلاب هذه المعادلة في اتجاه "مجتمع ضعيف جدًا ودولة قوية ومتغولة على المجتمع" يرجع في العمق إلى تحول حضاري طويل مرتبط بانكسار داخلي نتيجة الاحتكاك مع الغرب أو ما يعرف بـ"صدمة الحداثة" وبروز القابلية للاستعمار، تحول في المنظور الحضاري لمفهوم السياسة، باعتباره فن المصلحة وإصلاح أحوال الناس إلى اعتبار الدولة أداة للقوة والتحكم والسيطرة على المال والعباد، ولهذا لم تكن الدولة الحديثة خيارًا حرًا للعالم العربي الإسلامي، ولم تأتِ استعارتها بقوة دفع شعبية او ضغط من الرأي العام.

عَجَّلت محاولات عمليات الإصلاح الفاشلة خلال القرن التاسع عشر من فرص الأنموذج الاستعماري الحداثي الغربي في البروز والتمكن من إيجاد أرضية خصبة له في العالم الإسلامي؛ فقد أسهمت هشاشة البنيات التقليدية واستمرار قيم الانحطاط الحضاري في التمكين للمشروع الاستعماري، واحتواء المشروع التقليدي الذي لم يستطع التكيف مع التحولات التي يعرفها العالم الحديث، وعجز عن تطوير ميكانيزمات ذاتية لتطوير وجوده، وهو ما نتج عنه أنموذج هجين للدول النامية، فلا هي رأسمالية حقيقة بفلسفتها وقيمها وممارساتها، ولا هي دولة رأسمالية بالمعنى الدقيق للمصطلح، فكانت النتيجة دولة تابعة لمصادر القرار في المركز؛ أي الغرب، متحارجة في ارتباطاتها وعلائقها بمصادر القرار تلك" (ص:66) إنها أنموذج دولة "الحداثة المشوهة"، حيث تم تدمير المؤسسات التاريخية، وإحلال مؤسسات جديدة بمنطق الإلغاء الكلي لأية إمكانية للاستفادة منها، ومن روحها العامة وإبداعها الحضاري والتمييز بين الأشكال التقليدية الجامدة والأبعاد الأخرى الصالحة الممكن الاستفادة منها في تطوير مؤسسات وبنيات تنبع من القيم الثقافية والحضارية للمجتمع المسلم وتواكب تحولات العصر(ص:68)، أصبحت الدولة على أساس احتكار كل الأدوار التي كان يقوم بها المجتمع، وحلت محله فأصبحت دولة تغتصب كل الأدوار والسلطات والصلاحيات من المجتمع وكل مكوناته. (ص:70)

إن فشل دولة ما بعد الاستعمار راجع حسب القوميين إلى أنها دولة التجزئة، إلى كونها دولة علمانية في نظر الإسلاميين، إما لأنها مناقضة لدولة الخلافة أو للشريعة، أو ضعيفة الشرعية لأنها لا تفعل المرجعية الدينية بالشكل الكافي، أو دولة طبقية حسب الماركسيين. وبغض النظر عن التوصيفات التي يمكن إطلاقها على دولة ما بعد الإستعمار، إلا أنها حسب الكاتب تظل كيانًا هجينًا تاريخيًا يتسم بالهشاشة البنيوية في عالم يتجه نحو التكتل والتوحد في انتماءات ما فوق دولتية. كما أنها عرفت فشلاً ذريعًا في تحقيق وعودها في التحرير والنهضة والتقدم الاقتصادي والرقي الحضاري والتنمية السياسية، بسبب كون الدولة الحديثة بعد الاستقلال قد تأسست في انفصال عن خيارات الأمة وإرادتها ومرجعيتها، وأصبحت دولة الحزب والطبقة والمصلحة الخاصة، وأصبحت تنتج عكس القيم التي بشرت بها، مما أنتج عكس الأهداف والشعارات المرجوة.

لقد تحولت الدولة حسب سلمان بونعمان إلى نخبة معزولة عن المجتمع، منحازة لفئة منه وطاردة لبقية المجتمع؛ فهي دولة الجزء، وليست دولة الكل، ودولة الفئة الواحدة وليس دولة جميع الفئات. فهي دولة نابذة وطاردة ومهمشة للكثير من أبناء المجتمع بفعل طبيعة الخيار السياسي الذي يدير عقلها ومنطق اشتغالها (ص:82)، ويعتبر أن عنوان الأزمة التي تعيشها الدولة والمجتمع يرجع إلى معضلة الدولة القطرية، وهي حسب رأيه الدولة القائمة على قطر واحد فقط، وهي دولة تستند على القومية العرقية، ولا تعترف بالروابط الحضارية العابرة للقومية، وهي دولة علمانية مادية في جوهرها، حتى وإن ارتدت عباءة الدين احيانًا، وهي دولة تفكك الوحدة العربية وتفكك تبعًا لذلك الوحدة الإسلامية؛ فهي الدولة القومية كما يعرفها الغرب، التي تجعلها منفصلة عن محيطها الحضاري، وتفكك عرى روابط المجتمع مع عالمها العربي والإسلامي، وتحتفظ بالهوية الإسلامية عنوانًا لا يطبق على أرض الواقع؛ فهي الأنموذج الغريب عن القيم والتقاليد السائدة، حتى وإن تشابه معها وتداخل معها أحيانًا، وهي دولة لا تخضع للقيم الدينية الروحية، في مجتمع لا يخضع إلا للقيم الدينية الروحية، فيرفض الخضوع للدولة، وترفض الدولة الخضوع لقيم المجتمع (ص:83).

سؤال العلاقة بين الدين والدولة:

يشكل هذا الفصل أحد القضايا الأكثر إثارة للجدل، حيث يتناول بالدرس والتحليل سؤال العلاقة بين الدولة والدين، ويعتبر أن هذا الموضوع يعاني من الضعف الشديد للقراءات التركيبية والعميقة لهذا السؤال، مما ينتج عنه مقولات مفرطة في الإطلاقية، ولا تسمح بتأسيس أنموذج معرفي متكامل يسمح بتجاوز الانغلاق المذهبي والطائفي ومصادرة حق الآخر في التفكير والاجتهاد. ويعتبر أن مفاهيم من قبيل "الدولة الإسلامية"، و"الدولة العلمانية"، و"الدولة المدنية" أحد تجليات الأزمة الفكرية التي طالت الفكر السياسي العربي منذ قرنين من الزمن بسبب التشنج الفكري المصاحب للنقاش حول موضوع العلاقة بين الدين والدولة والديني والسياسي في المجال العربي، مما نتج عنه نوعان من الخطابات المؤطرة لإشكالية الدولة في المجتمعات العربية، تتراوح بين الدعوة للقطيعة الجذرية مع التراث التاريخي والحضاري أو التواصل المطلق معه أو نوع من الجمود على فقه سياسي سلطاني متجاوز (ص:108)، فنتج عن الأول اختيار يعتبر أن الحل يكمن في بناء الدولة العربية الحديثة على أسس علمانية، باعتبارها عقيدة ومرجعية نهائية للدولة، في حين يعتبر الاتجاه الثاني أن الخلاص يتجلى في الرجوع إلى الشريعة وأنموذج الخلافة في شكلها التاريخي، أو عبر تطوير لهذا الأنموذج، أو أسلمة الدولة الحديثة وتبني المؤسسات العصرية.

وقد عرفت سنوات ما قبل الربيع العربي انفتاحًا نسبيًا بين الطرفين العلماني والإسلامي، تتجلى في دعوة بعض المثقفين العلمانيين إلى أنموذج علماني متصالح مع الدين، في حين دعا بعض المثقفين الإسلاميين إلى التمييز بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، كما دعا البعض إلى التكيف مع القوانين العلمانية الموجودة في الغرب، والتي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية. وينتقد الكاتب كلاً من الإسلاميين والعلمانيين في عدم انفتاحهما على الاجتهادات التي يقوم بها مفكرون من داخل المرجعية الفكرية التي ينتمون إليها، والقراءات المتعسفة والاختزالية لبعض المشكلات، ومحاولة تعميمها على باقي دول العالم العربي، لا تعكس بالضرورة الأولويات والإشكالات نفسها، كما أن المفاهيم الجديدة في المجال التداولي العربي، مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان لم يتم "تبييئها" في المجالات الجديدة التي انتقلت إليها مما أدى إلى تشويه المفهوم وأخذه معنى معاكسًا للمعنى الأصلي الذي جاء من أجله، فضلاً عن أن مشكلة علاقة الدين بالدولة أو بالسياسة في المجتمعات العربية ليست مشكلة تخترق كل المجتمعات بل تختلف من مجتمع إلى آخر من حيث الحدة والدرجة، بل منها من لم يعرف استشكال هذه العلاقة على مستوى السلطة أو الفكر، وعلى الحقيقة، تكاد تكون مشكلة العلمانية محصورة في الأقطار ذات التنوع الديني والطائفي والعقدي، مثل لبنان وسورية ومصر والسودان والعراق، وبدرجات متفاوتة. (ص: 114)

ويعد الباحث أن المشلكة الأساسية التي يعاني منها العالم الإسلامي، لا تتجلى في فصل الدين عن الدولة، وإنما الطريقة التي نجعل بها المنظومة الدينية قادرة على التعامل مع إشكاليات المجتمع الحديث والتنوع الديني والإثني في المجتمع، فلم يعانِ العالم العربي الإسلامي من تغول الفكر الديني ورجال الدين بالمعنى الكنسي، حسب الكنسية الغربية، بل شهد تجربة مريرة قاسية تتعلق بما يسميه "آفة التضخم السياسي"؛ أي اعتبار المدخل السياسي هو المدخل الأساسي للإصلاح، وبالاستبداد السياسي الذي تغولت فيه الدولة على حساب المجتمع، بتوظيف أداوت التسلط المادي والعنف الرمزي، وهو يدعو إلى بناء أنموذج علاقة بين الديني والسياسي في المجال السياسي العربي على أسس حضارية وفكرية، مستلهمة من قيم وذاكرة وحضارة وثقافة المجتمع، بدل استيراد أنموذج فكري جاهز، وهو ما سيحاول البسط فيه أثناء الحديث عن تفعيل المرجعية في دولة الربيع العربي.

أي نموذج بديل لدولة الربيع العربي؟

بعد عملية التفكيك المنهجي والمعرفي لمفهوم الدولة في المجال التداولي العربي، يتجه هذا الفصل أكثر فأكثر إلى تقديم تصور طموح، يتطلع إلى إعادة بناء معرفي ومنهجي لمفهوم الدولة في مرحلة ما بعد الربيع العربي، يحاول من خلاله تقديم أنموذج تفسيري لما ينبغي أن تكون عليه الدولة المنشودة، سواء من حيث الشكل أو المضمون أو العلاقة التي تربطها بالمجتمع، وهي عملية بناء تحتاج جهدًا فكريًا قادرًا على تجميع الجزئيات وتقديمها في إطار تحليلي منسجم، ونعتقد أن الكاتب تمكن من اقتراح محاولة جدية وتجديدية في الفكر السياسي العربي على مستوى تصور بناء الدولة العربية في مرحلة ما بعد صحوة الشعوب، ورغبتها في التحرر من الفساد والاستبداد، وبناء مجتمع ودولة على أسس جديدة تكون للمجتمع دور الصدارة، وتكون الدولة انعكاسًا له وفي خدمته.

وتجدر الإشارة إلى أنه مع حالة الاستقطاب والانشطار الأهلي العميق الذي يكتنف الأمة، أصبح النقاش والحوار مستحيلاً بين القوى السياسية والمدنية، والنقاش حول موضوع الدولة والمجتمع والثقافة والاقتصاد والبيئة، ولكن هذا لا يمنع من التفاؤل من إمكانية تحقيق تسويات تاريخية بين القوى السياسية والمدنية الأساسية في الأمة من أجل بناء دولة الربيع العربي، وهي عملية بناء مستمرة وممتدة، وليست أنموذجًا جاهزًا أو مستوردًا. فدولة الربيع العربي حسب سلمان بونعمان ليست أنموذجًا ناجزًا أو مستوردًا من الخارج، وليست معطىً ثابتًا، وإنما هي في الحقيقة نتيجة التوافقات والتواطؤات التي تتأسس بين أفراد الأمة وجماعاتها، حيث تصبح ترجمة عملية لعملية توافق وتسويات حول القضايا الكبرى، وليس غصبًا لفئة ضد فئة أخرى، وليس استفرادًا بالحكم من طرف الأقلية المتنفذة أو الأغلبية العددية؛ فالمطلوب عملية إبداع تاريخي وفكري لأنموذج الدولة الحديثة المنفتحة قادرة على إدماج واستيعاب أكبر قدر ممكن من الأفراد والجماعات داخل الأمة، وتسمح بممارسة للسلطة تراقبها الأمة وتسهر على اختيار من يمثلها ويعبر عن تطلعاتها.

إن تحقيق عملية الإصلاح الجذري للدولة، لا يتم دون عقد اجتماعي بين الدولة ومواطنيها، يكون ترجمة للتوافقات الكبرى والقيم المركزية المؤطرة للاجتماع البشري للمواطنين في رقعة معينة، ويستند إلى قيم حقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة وحكم القانون وضمان التنافس العادل على السلطة والقرار، وتمكين مختلف القوى السياسية والمدنية من التعبير عن آراءها ومصالحها ومطالبها من خلال قنوات شرعية، تسمح لها بتنفيذ وتجسيد طموحاتها بشكل عادل ومتوازن لا يضر بمصالح الفئات الأخرى، وتحقيق المشاركة السياسية لجميع الفئات الاجتماعية دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الدين أو غيرها من الاختلافات التي يتم اعتمادها لإقصاء فئة داخل المجتمع من المشاركة في الحياة العامة والسياسية، وهو بذلك تأسيس لمفهوم المواطنة بمعناه العصري، كما هو متعارف عليه دوليًا، والذي يجد له جذورًا في التجربة الإسلامية الأولى في وثيقة المدينة التي أسست لمفهوم التعايش بين المسلمين وغير المسلمين، وحددت واجبات وحقوق كل الفئات الاجتماعية داخل المجتمع، وأسست لتعاقد اجتماعي على أساس مدني بين الفئات الاجتماعية داخل مجتمع المدينة. فعلاقة الفرد بالدولة تتم على أساس المواطنة؛ فحقوقه وواجباته تتم على أساس أنه مواطن والمساواة بين المواطنين تنسجم مع روح الشريعة.

بعيدًا عن الثنائيات التقابلية التي طبعت الخطاب السياسي العربي خلال العقود الماضية، والمتمحورة حول ثنائية الدولة الدينية والدولة المدنية، يقدم الباحث تصورًا مختلفًا للشكل الذي ينبغي أن تأخذه دولة الربيع العربي، والتي يقترح أن تكون مؤسسة على شكل أنموذج "الدولة العادلة والقادرة والفاعلة"، والتي تكون انعكاسًا للأمة العادلة الراشدة؛ المجتمع الحي والقوي والفاعل، حيث تشكل قيمة "العدل" القيمة المركزية ضمنه، وهدفًا ومقصدًا في ذاته، حيث تشتمل كل مناحي الحياة، وليس جوانب معينة، وتشكل العدالة/العدل الشامل نسقًا قيميًا حاكمًا على غيره من القيم السياسية، يشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية(ص:157)، ويؤكد الباحث أن قيمة العدل لا تتعارض مع قيمة الحرية، بل هما متكاتفان ومترابطان يكمل أحدهما الآخر، ويتقاطع معه في كون الحرية مناط الاختيار والعدل أساس الحكم، فلا عدل بدون حرية، ولا حرية بدون عدل، فهما قيمتان متكاملتان مترابطتان.

دولة الربيع العربي: نزعة التسيد وآليات الترويض

إن الدولة الحديثة ذات طبيعة شمولية وسلطوية، تتميز بخاصية التسيد والافتراس، باعتبار الأدوات والأجهزة الموضوعة تحت سيطرتها، والتي تسمح لها بتشكيل وإعادة تشكيل المواطن وفق رغبة الدولة، والتحكم في سلوكه وضبطه بناء على إرادتها هي. وهذه الخاصية الافتراسية والتسلطية للدولة الحديثة دفعت المجتمعات لكبح جماحها والحد من نزعتها التسلطية والعمل على عقلنة أدوراها وتحديدها بشكل دقيق، لكي لا تسمح لها بتجاوز أدوراها إلى أدوار أخرى، وتم إبداع مفاهيم وأدوات جديدة من قبيل: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية وبروز فكرة المجتمع المدني، وفكرة الدستورية، وفكرة اللامركزية والجهوية والفيدرالية وعلاقة المركز بالأطراف، وغيرها من المفاهيم والمؤسسات التي جاءت لتعزيز فكرة الحد من تغول الدولة وتسلطها على المجتمع.

إلا أن الأمر مختلف في دول العالم الثالث، وضمنها العالم العربي، حيث تميزت الدولة بالتسلط والوحشية على المجتمع، ولكنها في الوقت نفسه تتميز بالهشاشة؛ فقد كانت تعتمد للحفاظ على استمراريتها على أجهزة الأمن والقمع والتحكم المادية والرمزية بشكل جعلها تستعملها بشكل حصري، لقمع معارضيها وباقي الفئات الاجتماعية الأخرى لفرض وجودها، كما تراجعت ميكانيزمات الإدماج والاستيعاب للقوى المعارضة ومختلف الفئات الاجتماعية التي تؤمن بقيم مختلفة عن تلك التي تؤمن بها، ففشلت في إدماجهم واستيعابهم حول الدولة إلى آلة صماء متوحشة لا تؤمن إلا بالعنف محددًا وجوديًا للاستمرار. ولهذا يقترح الباحث أدوات لتفكيك سلطوية الدولة في العالم العربي ويجملها في المحددات التالية:

- أولاً: تقليص حجم الدولة وتقليص سلطاتها، لأن لدى السلطة ميلاً عضويًا تلقائيًا في ابتلاع المجتمع وسحق الفرد وامتصاص الحريات، ولاسيما حجم الأجهزة الأمنية والبيروقراطية الإدارية لمؤسسات الحكم المختلفة التي تضخمت على حسات أجهزة الدولة الأخرى، ولكن في الوقت نفسه تقوية الدولة العربية المهددة بالانقسام على أساس طائفي أو قبلي، لكي لا تتفاقم عملية التجزئة القائمة أصلاً.

- ثانيًا: تقوية دور المجتمع ومؤسساته والتمكين للفعاليات المدنية من الانتظام والتمأسس للتعبير عن القوى المجتمعية، لبناء سلطة مضادة لسلطة الدولة لمراقبتها ومحاسبتها، والتكامل معها إزاء القضايا والمجالات التي لا يمكن للدولة أن تلجها أو تملأ الوظائف المطلوبة فيها.

- ثالثًا: تجاوز الدولة القطرية عن دولة عابرة للقطريات، باعتبار حالة التجزئة القطرية قيدًا أساسيًا أمام طموحات العرب في النهضة والتحرر، والرهان في ذلك على بناء تكتلات اقتصادية عربية كبرى أو اتحادات اقتصادية إقليمية. (ص: 197)

آليات الترويض والتقييد والتفكيك:

إن تحقيق هذه الأهداف يحتاج إلى الاشتغال على ثلاثة مستويات، تتميز بالانفصال والاتصال والتفاعل، وهي سيرورات تهدف إلى ترويض المجتمع للدولة، وتقييد صلاحيات الدولة وتفكيك دولة الاستبداد؛ وفي كل مستوى، يقترح الكاتب حزمة من الآليات والإجراءات الكفيلة بتحقيق الهدف المرجو منه.

ففي المستوى الأول المرتبط بترويض الدولة، يقترح الباحث ثلاث آليات، وهي: آلية التأنيس، وآلية التأسيس، وآلية الدمقرطة.

- آلية التأنيس: التي تعني إضفاء الطابع الإنساني على مؤسسات الدولة، وتجاوز الممارسات التي تحط من كرامة الإنسان والمهينة له، ونزع طابع القداسة على مؤسسات الدولة التي يجعلها فوق المحاسبة والمساءلة، لكي لا تنسى شهوة السلطة ممارسها طابعه البشري، وتجعله يعتقد أنه فوق المساءلة والمحاسبة، بل وفوق الطبيعة البشرية، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.

- آلية التأسيس: هي نقيض الشخصنة التي تهيمن على الدولة العربية، والتي تضفي على الزعيم والسياسي طابع القداسة، وجعله فوق أية سلطة أو محاسبة، ويتحول من قانوني لتدبير العلاقة بين الناس بالعدل إلى نظام تجبري سلطوي، والخضوع لمزاج الحاكم وآرائه الخاصة دون الرجوع إلى المؤسسات، تتراتب فيه العلاقة على نمط الطرائق الصوفية المعتمدة على أنموذج الشيخ والمريد، الشيخ المخلِّص والفاعل صاحب الإرادة الشاملة، والمريد المنزوع الإرادة والمفعول به، ويتم تحويل مفهوم التوحيد من بعده العقدي المؤمن بإله واحد إلى الحقل السياسي، فيصبح الحاكم كأنه إله منزه. ومن ثم تأتي الحاجة إلى نزع بعد الشخصنة على الحكم واستبدالها بالمؤسساتية، وحكم القانون والاحتكام إلى الأغلبية والتعددية السياسية التي تضمن التداول السلمي على السلطة.

- آلية الدمقرطة: تقتضي وضع نظام مؤسساتي يتقاطع مع النظام الشمولي الإقصائي، وهي تعتمد على أدوات وإجراءات، إلا أنها ليست كافية لنعت نظام سياسي ما بأنه ديموقراطي؛ فهي تتضمن أيضًا قيمًا ومؤسسات، إن آلية الدمقرطة مرتبطة بالبعد السابق المرتبط بالبعد المؤسساتي، ولكنها تتضمن أيضًا القيم والأفكار التي توصف بأنها ديموقراطية، فلا يكفي وجود أحزاب سياسية وانتخابات دورية للحديث عن الديموقراطية، بل تقتضي أيضًا المضمون الذي تحمله هذه الممارسات، والتي تقتضي إيمانًا بقيم التعدد والاختلاف، وقبول الآراء وضمان الحريات العامة الخاصة، وإقرار حقوق الإنسان وحقوق المواطنة كاملة غير منقوصة، وإقرار النظام الدستوري التعاقدي لممارسة السلطة، وإقامة الحياة السياسية على مقتضى التعددية السياسية، وإقرار النظام التمثيلي والنيابي، ثم فتح المجال السياسي أمام إمكانية التداول السياسي على السلطة، من خلال نظام مدني سياسي، مع الممارسة الفعلية لمبدإ المراقبة والمحاسبة للسلطة على السلطة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. (ص: 209)[10]

يتقاطع الكاتب مع محمد عابد الجابري، باعتبار الديموقراطية منتوجًا للمجتمع نفسه، وليس عملية استيراد أو أنموذجًا معلبًا، يمكن استيراده جملة من الخارج وتطبيقه في سياق ثقافي وحضاري مختلف من دون تكييفه مع الواقع الجديد الذي ينقل إليه؛ فالجابري يقترح تبييء مفهوم الديموقراطية لتأخذ بعين الاعتبار مختلف المعطيات التاريخية والحضارية الإسلامية، وفي الوقت نفسه بناء أنموذج دولة حديثة مرتكزة على الفصل بين السلطات الدستورية والمؤسساتية، وفي الوقت نفسه عليها أن تمتح من قيم المجتمع المركزية ومرجعيته الحضارية، ليحصل تزاوج بين الأصالة والمعاصرة.

أما المستوى الثاني، فمرتبط بتقييد صلاحيات الدولة، وهو ما يتم بحزمة من الآليات القمينة بتحقيق هذا الطموح، ترتبط الآلية الأولى المقترحة بتجذير الشرعية؛ أي تعميق الطابع الطوعي لنظام الحكم وقبول الناس به، سواء من حيث الشكل عبر وضع دستور، أو من حيث الموضوع من خلال رضى الناس وقبولهم بالسلطة القائمة، وهذه الشرعية ليست ثابتة، وإنما تتغير حسب تأثير المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتضع السلطة على المحك باستمرار، ويجادل الباحث بأن المنظور الحضاري الإسلامي يستند إلى شرعية مركبة لا تقتصر على رضى الناس فقط، ولكن ترتبط بشرعية التأسيس والمرجعية وبشرعية السياسات والممارسات وبشرعية الوظائف المرتبطة بأبعاد المراقبة والمحاسبة وعلى شرعية الإنجاز والمؤسسات؛ فالشرعية المركبة تقتضي تراكب مجموعة من الشرعيات الفرعية، مثل المحافظة على هوية المجتمع الأساسية، باعتباره المرجعية النهائية التي يتمثلها، والحفاظ على الالتزام بها، وكذا شرعية الحفاظ على العدالة والتعاقد الحر والمتحرر من أي إكراه أو إلزام، وشرعية الإنجاز والمصالح عبر سد حاجيات الناس وقضاء حوائجهم، وقدرتها على الإنجاز وتحقيق السياسات التي من شأنها تسهيل حياة الناس الدنيوية، وكذا التوزيع العادل للموارد بما يضمن تقسيمها وتوزيعها على مختلف الفئات الموجودة في المجتمع بما يتناسب مع حجمها ونوعها وحاجاتها، سواء تعلق الأمر بالموارد الطبيعية، مثل الماء والأراضي الزراعية والخدمات كالكهرباء أو السياسية، ومثل الولوج إلى مراكز القرار ومناصب الدولة المختلفة، أو الرمزية عبر التعبير الحر عن الأفكار والرموز ونشرها والتبشير بها، ثم أخيرًا شرعية المحاسبة والمراقبة، حيث تستمد السلطة شرعيتها من المجتمع، ويصبح له رأي في قيامها وزوالها ومراقبتها وتقييمها بالأشكال المسموحة والقانونية.

تفعيل المرجعية:

يدعو الباحث في هذا الفصل بشكل مباشر إلى تفعيل المرجعية الإسلامية، باعتبارها المرجعية النهائية في دولة الربيع العربي؛ فالمقصود بالمرجعية "الفكرة الجوهرية التي تشكل كل الأفكار في أنموذج معين، والركيزة الثابتة له، التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم بدونها، والمبدأ الواحد الذي ترد إليه كل الأشياء ولا يرد هو أو ينسب إليها"[11]، فهي تؤدي في رأيه الوظيفة نفسها التي تؤديها الإيديولوجيا الليبرالية في الغرب، والتي تشكل المرجعية العليا للنظم السياسية في الغرب؛ أي أنها تحدد الأهداف العليا والقيم الأساسية للمجتمع أو أولياته في مرحلة تاريخية معينة. إنها تتضمن قيمًا ومبادئ عليا تقف ضد الاستبداد وتضمن الحريات، ومن ثم فالمرجعية النهائية مسألة حتمية إذا لم يقرر مجتمع ما مرجعيته سيحددها له آخرون، أو يحدد لنفسه مرجعية غير واع بها. ويقترح سلمان بونعمان أن تكون المرجعية النهائية لدولة الربيع العربي تمتح من القيم المرجعية الإسلامية بشكل تصبح فيه خطاب الشريعة سلطة علوية كابحة للدولة وملجمة لإرادة الحكام الاستبدادية، فضلاً عما كان يتتمع به المجتمع الإسلامي من استقلالية المؤسسة القضائية. ولهذا، فهو يعتبر أن السياسة والدين لا يمكن أن يستقل أحدهما عن الآخر سواء اعترف بذلك الفكر العلماني أم لا، ولكنه يعتبر أن الطبيعة التي تربط بينهما ينبغي أن تكون متوازنة، حيث لا تكون السياسة منفصلة عن الدين بشكل نهائي، كما أنها ليست متماهية معه بشكل مطلق، فبينهما علاقة انفصال واتصال يصطلح عليه سعد الدين العثماني بالتوازن في إطار التمايز؛ فالدين حاضر في السياسة كمبادئ وقيم موجهة، وروح دافعة، وقوة جامعة للأمة، لكن الممارسة السياسية رغم ذلك هي ممارسة بشرية نسبية قابلة للخطأ، إذ لا ينبغي إضفاء طابع القداسة عليها.[12]

فتفعيل المرجعية يتم إذن، من خلال تفعيل القيم الأساسية في الشرعية، والتي يشكل العدل والحرية القيمتين المركزيتين ضمنها، وهو ما يتطلب استعادة المرجعية التي يختارها عامة الناس، وإسقاط المرجعية التي فرضت عليهم، على أساس أن يكون تفعيل القيم المرجعية مدخلاً للفعالية الحضارية وتحفيز الناس للالتزام بالقيم الدينية الحاضة على البناء والعمل والعدل بين الناس والجدية والإخلاص والتفاني في العمل، وبالتالي لا معنى لادعاء تبني مرجعية في دولة فاشلة ومتخلفة، تعيد إنتاج نفس أنماط التحكم والتسلط على الدين والمجتمع والسياسة.

تفكيك السلطة:

عرض سلمان بونعمان آليتين أساسيتين في تفكيك بعض مكونات البنية الاستبدادية وتحديد تغول الدولة، وهما آلية التحرير وإعادة هيلكة السلطة.

يقصد بآلية التحرير، عملية تحرير الدولة من هيمنة أنموذج المستورد والتحرر من التبعية للعامل الخارجي، وهي عملية تحرير ذهنية أولاً تتمثل في التحرر من "القابلية للاستعمار"، وتعميق معنى الحرية والاستقلال في وجدان وشعور الناس في المجتمعات العربية، يجعل ولاءهم للأمة بدل الانبهار وتقليد الغرب، ثم على المستوى السياسي والاقتصادي والحضاري من خلال التحرر من التبعية واللحاق بالخارج والقوى الأجنبية، خصوصًا أمريكا وأوروبا.

والثانية تتجلى في إعادة هيكلة السلطة والقرار نحو تبني أنموذج الدولة اللامركزية الذي يعطي صلاحيات واسعة للمجتمع المحلي، ويمنحه القدرة والموارد على تدبير شؤونه اليومية بعيدًا عن مزاجية المركز وبيروقراطيته، ومن ثم التمكين أكثر فأكثر لأنموذج الديموقراطية المباشرة والتشاركية. إن مفهوم اللامركزية الذي يتبناه الكاتب يقترب من أنموذج اللامركزية السياسية، وليس فقط اللامركزية الإدارية المتبنى في عدد من الدول العربية، بل يتجاوز النزعة المركزية التوحيدية للدولة العربية القائمة على التخوف الدائم من المجال المحلي، والحرض الشديد على الضبط الشامل للمجتمع المحلي، نحو أنموذج تنموي قاعدي، يعمق الديموقراطية المحلية والمشاركة المجتمعية القاعدية من أجل خلق الثروة وتوزيعها بشكل عادل وبناء التضامنات المجالية مع مراعاة خصوصيات المناطق والجماعات وطبيعة تشكلها التاريخي وتعدديتها وتنوعها. (ص:267)

خلاصة:

إن الثورات العربية ما زالت في مراحلها الأولى؛ فهي متوالية متفاعلة مع محيطها القريب والبعيد الذي تشتغل ضمنه، ونجاح الثورة مرتبط بالعوامل المساعدة، كما أنه مهدد بتهديدات، ولهذا يعتبر الكاتب أن نجاح مقاصد الثورة لن تستقيم، ولا تحقيق آمال تغيير الدولة، دون إنجاز ثورة ثقافية قيمية جذرية تطال المجتمع العميق، لتستكمل مسارات التحرير والتثوير والتنوير، ليشمل نسق القيم والأفكار والعلاقات والمؤسسات والخيارات، بل إعادة حضاري جديد لعالم الأفكار والأشخاص والأشياء والأحداث ضمن رؤية إصلاحية للنهوض. ولذلك يعتبر الكاتب أن أي إصلاح سياسي جذري جاد وعميق لا يمكنه النجاح ما لم يرتكز على إصلاح النسق الثقافي المواكب للثورة السياسية. وذلك من خلال محاربة الاستبداد، والقابلية للاستبداد والاستضعاف والقابلية للاستضعاف، وتلعب الثقافة هنا دور الناقد للسياسة.

وما زالت من جهة أخرى، العديد من التحديات والتهديدات التي تواجه الانتقال الديموقراطي وإعادة بناء الدولة العربية، منه ما يتصل بمحتوى الخطاب الفكري السائد ما بعد الثورة؛ فثورات الربيع العربي حسب بونعمان لن تستطيع بناء عالم الأشياء من جديد، إذا لم تهتم بإعادة بناء عالم الأفكار، وإذا لم تقم مختلف التيارات الفكرية والسياسية ببناء نقد ذاتي موسع لمرجعيات الاستعلاء الفكري ورؤيتها التغييرية وتطوير اجتهادات لمواكبة التحولات الحارقة في المجتمعات العربي، وتقديم رؤية ناظمة لمشروع عربي نهضوي ومقاوم. كما أن الروح الطائفية والتعصب الحزبي وسيادة عقلية امتلاك الحقيقة المطلقة ومصادرة حق الآخر في الاختلاف الفكري والسياسي ما زالت سائدة، يضاف إليها تحديات القوى المضادة للثورة وللإصلاح وإكراهات الدولة العميقة ذات الجذور الإعلامية والإقتصادية والثقافية والأمنية الكابحة لانبثاق أنموذج جديد لفلسفة الحكم في التجربة العربية.

ويمكن القول أخيرًا إن عملية النهوض الحضاري تتطلب مشروعًا متكاملاً ذا بعد حضاري، ذلك أن التغيير الحضاري هو عملية تكاملية وتوافقية وتراكمية متدرجة؛ فهو فيض من الداخل، يتفجر من أعماق النفس، ويشع من تألق الفكر وأناقة الروح وسمو الوعي وارتقاء الاهتمامات ووعي التحديات، ليشع على المجتمع والدولة. جوهره: تغيير ما بالأنفس، ومنطلقه نقد الذات، وطريقه الحوار مع الآخر، وهدفه تحرير الإنسان وينابيعه آيات الله (ص:272) في كتابه المسطور وكتابه المنظور، محوره الأساسي الآية الكريمة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

* محمد مصباح باحث مغربي في علم الاجتماع


[1]- كان الأنموذج التفسيري المهيمن لاستمرار الاستبداد في العالم العربي يدور حول عدد من التفسيرات، إما ثقافية بسبب احتواء الثقافة العربية الإسلامية على مكونات تجعلها أقرب إلى إنتاج ثقافة بطريركية أو تفسيرات اقتصادية نتيجة غياب أنموذج اقتصاد رأسمالي منتج، وهيمنة أنموذج اقتصاد الريع، وغيرها، يمكن في هذا السياق الاستئناس ببعض الدراسات في هذا السياق:

Larry Diamond, Why are there no Arab Democracies?, Journal of Democracy Volume 21, Number 1 January 2010

[2]- جاكأ. قبانجي، لماذا " فاجأتنا " انتفاضتا تونس ومصر؟ .. مقاربة سوسيولوجية، مجلة إضافات ( المجلة العربية لعلم الاجتماع ) ،العدد 14، ربيع 2011. ص: 10

[3]- مثلاً اعتبر ألفريد ستيبان أن تونس حققت انتقالاً ديموقراطيًا ناجحًا، رغم أنها ليست ديموقراطية موطدة

Alfred Stepan, Tunisia’s Transition and the Twin Tolerations, Journal of Democracy Volume 23, Number 2 April 2012

[4]- نشرت مئات المقالات والتحليلات الصحفية التي تحدثت عن تحول الربيع العربي إلى خريف إسلامي، وهو يعكس الخوف السائد في صفوف عدد من الباحثين الغربيين من الثورات العربية وصعود الإسلاميين.

[5]- سلمان بونعمان، فسلفة الثورات العربية، مقاربة تفسيرية لأنموذج انتفاضي جديد، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2012

[6]- سلمان بونعمان: أسئلة دولة الربيع العربي: نحو أنموذج لاستعادة نهضة الأمة، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 2013

[7]- سلمان بونعمان، فسلفة الثورات العربية، مقاربة تفسيرية لأنموذج انتفاضي جديد، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2012. ص: 10

[8]- عزمي بشارة، "في الثّورة والقابليّة للثّورة": نحو تأسيس نظريّة علميّة عن الثّورة العربية الحديثة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات –الدوحة، الطبعة الأولى، 2012. ص: 6

عدد الصفحات: 104

[9]- مصطفى محسن، ثورات الربيع العربي وأسئلة الفكر السوسيولوجي :«بيان» للتأمّل والفهم والاستشراف.

[10]- عبد الإله بلقزيز، في الديمقراطية والمجتمع المدني، ص: 102

[11]- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية، الطبعة الأولى، 1999

[12]- سعد الدين العثماني، في فقه الدين والسياسة، مركز صناعة الفكر، الطبعة الأولى، 2011