هل الثورة تغيير لنظام الحكم أم لنظام الفهم؟


فئة :  مقالات

هل الثورة تغيير لنظام الحكم أم لنظام الفهم؟

هل الثورة تغيير لنظام الحكم

أم لنظام الفهم؟

لا زالت تتردد على مسامعنا مقولة ذلك الرجل في لحظة زهو وفرح، وهو يقول: "لقد هرِمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، تعبيرا عن لحظة مفصلية من تاريخ تونس، ومن تاريخ ما أطلق عليه حينذاك في سياق إعلامي جامح بالربيع العربي؛ فهل لحظة الثورة ربيع أم خريف؟. لا يمكن الجزم بذلك إلا بعد مرور مسافة زمنية من الحدث تخرج الباحث من حالة الانفعال والعاطفية الجماعية إلى حيث الاستيعاب والفهم. فالفهم هو ما نحتاجه اليوم؛ لأننا نحتاج قبل أنْ نحلم بالتغيير، أن نحلم بالفهم. فكثيرون منا يحلمون بتغيير العالم، في الوقت الذي يعجزون فيه عن تغيير مشكلة داخل ذواتهم، وكأننا نستحضر مقولة ديكارت التي صاغها صياغة رواقية، حيث إنّ السّعادة تكمن في "تغيير رغباتنا أكثر من تغيير نظام العالم".

هل الثورة تغيير لنظام الحكم أم تغيير لمقولات وأفكار يحيا بها الفرد داخل جماعته؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، يلزمنا أيضا الإضاءة على هذا المفهوم المركزي ألا وهو الثورة، فماذا يقصد به؟.

في كتابه الممتع "روح الثورات" ينقلنا غوستاف لوبون إلى حقول دلالية واجتماعية نفسية مشكّلة لهذا المفهوم السياسي والفكري والاجتماعي. وقد أشار خلال بداية كتابه إلى أقسام الثّورات، سواءٌ العلمية أو السّياسية، واستفاض بالتّحليل كعادته، ليحدثنا عن أنّه بالرّغم من أنّ أصل الثّورة هو العقل، فإنّ الأسباب التي تهيئها الثّورة لا تؤثّر إلاَّ بعد أنْ تتحَّول إلى عواطف. وهذا كلام مرتبط أيضا ارتباطا وثيقا بما كان أدرجه ضمن كتاب آخر له بعنوان "سيكولوجية الجماهير" التي تحكم الجماعات البشرية، وتؤثّر في وجدانها وعواطفها، أكثر مما يؤثِّر فيها الجانب العقلي. فالجماعة حسب لوبون: "تتِمُّ الثّورة ولا تكُون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئاً إنْ لم يكن عليها رئيس يقودها".

لكن رغم أن مفهوم الثورة كما تشكل في الأدبيات السياسية خاصة ما بعد الثورة الفرنسية، يشير فقط إلى حالة عدم الاستقرار الذي يميز بعض الأنظمة، إلا أن الكثيرين لا يهتمون بشكل كبير بباقي الثورات خاصة العلمية والفكرية والأدبية التي غيرت مسارات الوعي الإنساني، ويتم التركيز فقط على البعد السياسي الذي يهدف في الكثير من الأحيان إلى إسقاط النظام والدخول في حالة الفوضى التي تقترحها الجماهير كقولهم: "الشعب يريد تغيير النظام"، فماذا بعد النظام غير الفوضى؟.

وقد يكون الباعث على هذا الشعور هو ما أشار إليه غوستاف لوبون بكلمة الاستياء، فحينما يعم هذا الاستياء تكوّن حزبٌ قادر على مكافحة الحكومة. فعمق الثّورات السّياسية هو ما تفرزه من نتائج. والمنتصر في الثّورة السياسية ينظِّم المجتمع وفْقَ مصالحه، ويسُنُّ القوانين التي تخدم جماعته، وهذا هو منشأ الصّراع ومنطلقه، حين يبدأ النّظام المنتصر بتقويض القديم، واضطهاد عناصره. وإنّ واقع الثّورة الفرنسية وغيرها من الثوّرات يؤكد ما أشار إليه لوبون في تحليلاته للثّورات السّياسية.

هذا يعني أن الثورة هي حالة من التعصب التي تلتزم بها الجماعة والجماهير من أجل تقويض نظام قائم. وحالة التعصب دوما تكون من الناحية النفسية حالة من الانجذاب والتأثر بالأفكار والمعتقدات والحماس والهياج غير العقلاني في مقاربة قضايا لها علاقة بالوجود الفعلي للكائن الإنساني. لهذا، فكل من يقف في وجه هذا المفهوم سيمارس ضده الفعل التّدميري. إنّه باختصار حالة الإلغاء والإقصاء والإجرام التي يختزلها روبسبيير بمقولته المشهورة: "إنّنا كالحقيقة لا نلين صامدين متجانسين"، وأقول: "إننا تقريبا كالمبادئ لا نطاق". وكأننا أمام ثلاثة مؤشرات حددها فرويد لحالة التعصب: "النّرجسية، الكلية، والإسقاط أو الإضفاء. فالشّخص المتعصِّب مصابٌ بعقدة شهوانية الأنا (النرجسية). فهو الوحيد الذي يكون دوماً على حق، وبفضل إيمانه بالقدرة الكلّية لفكرته، سيتوصّل إلى تغيير العالم سحريا، وإلى اجتلاب الفردوس. كما أنّ لديه فكرة إسقاطية تريحه من كلّ شبهات الضعف والقصور البشري."..

نحن أمام الأحداث الكبرى لا نملك فقط حق الإجابات، بل نملك أيضا حق الفهم، وهذا من وجهة نظري أبلغ وأعمق. وحينما نسترجع شريط الأحداث المتلاحقة منذ لحظة اندلاع الشرارة الأولى سنة 2011، نستحضر أيضا سؤالاً كبيراً طرحه هاشم صالح في مواجهة هذا الحدث الضخم: هل الانتفاضات العربية حدث تاريخي أم زوبعة في فنجان؟. سؤال يبدو مثيرا، ونحن نرى كيف تساقطت أنظمة وتهاوت دول. دون أن نضع هذه الأحداث في سياقٍ جدليّ يفهم الانتفاضات على ضوء فلسفة هيجل التّاريخية، وهو في الحقيقة حدث مهم يمكن أن نسقط عليه كل الأفكار وكل الفلسفات. فهاشم صالح لا ينكر بأن كل هذه الأحداث تتحرك ضمن مجال يمنح للتاريخ دائرة تنفسه؛ أيْ إنّ التَّاريخ المكبوت والمحتقن ينبغي أنْ ينفجر بكلّ قيحه وصدئه الطّائفي، حتّى يمكن للتّاريخ في جدليته وصيرورته وسيرورته أنْ يتنفّس الصّعداء. ومهما توافقنا أو اختلفنا في القراءة مع هاشم صالح، إلا أن هذا التحليل له ما يعضّده من الواقع، وأحداث التّاريخ، وسياقات التشكل الاجتماعي التي نعيشها في أوطاننا في مسار وعينا السياسي والثقافي بقضايانا المصيرية.

لكن بالرغم من كل هذه الأحداث، وهذا التجاذب السياسي والإعلامي في قراءة الحدث، فما هي خصائص هذا الحدث المركزي والحيوي في التاريخ العربي المعاصر؟.

هل الثورة أنْ تقيم للوطن دولةٌ أخرى، أم الثّورة أنْ تقيم للنّاس وطناً؟. هكذا يتساءل عبد الرزاق الجبران. سؤال محوري يضيء على إشكالية ما الذي يدفع بالإنسان أن يضحي باستقراره وأمنه في سبيل رؤية ودعوات وسلوكيات تطرح نفسها بديلا لواقع اجتماعي معقد ومتشابك؟. للجواب عن هذا السؤال وغيره يلزمنا أن نأخذ في الاعتبار المعطيات التالية:

أولا: حالة الفساد المزمن التي تعيشها المجتمعات النامية ومن ضمنها المجتمعات العربية والإسلامية.

ثانيا: خروج الناس إلى الشارع كسر عقدة الصّمت والخوف الملازم للإنسان العربي.

ثالثا: الخروج إلى الشارع كان محطة مهمة للتعبير، وانتزاع الحقوق، وردّ الاعتبار للذات المجروحة.

هذا عن جانب المميزات وخصائص الحراك الاجتماعي الذي يراه مشروعا العديد من الباحثين اعتمادا على الحقوق والمطالب، ولكن إذا كان سقف التوقع الثوري كبيرا خلال مرحلة 2011. فلماذا فشلت هذه الحركة الاحتجاجية؟

أولا: أنّ السّلطة من حيث منطقها هو انفراد بالأمر. والانفراد هو ممارسة للإقصاء، والعنف في حقّ الآخرين بغضّ النّظر عن طبيعة هذا العنف.

ثانيا: أنّ النّظام الذي يخرج من أجل تغييره الجموع هو جزء منها، وهو صنيعتها، كما أنّه يترك أثره فيها. هذا الأمر طبيعي إذا ما استحضرنا ما قاله باولو فرايري، حيث أشار أنّ مشكلة الإنسان المقهور هي أنّه يعاني من ازدواجية في ضميره. فبالرّغم من شعوره بالحاجة إلى الحريّة، فهو يهابها، حيث يزاوج بين إحساسه الخاصّ، وإحساس قاهره القابع في ضميره، وهكذا يحتدم الصّراع بين أنْ يحقّق المقهور ذاته، وبين أنْ يكون ذات قاهره، وبين أنْ يعمل على تحقيق كماله الإنساني، وبين الإبقاء على غربته الذّاتية، بين أنْ يصبح متفرّجاً، وبين أنْ يصبح ممثّلا، بين أنْ يلعب دوره الحقيقي، وبين أنْ يلعب دور قاهره، بين أنْ يتكلّم بصدق وصراحة، وبين أنْ يلزم الصّمت خوفا ورهبة.

ثالثا: الخوف من النّقد، وهذا اتّجاه متأصّل في الوجدان الشَّعبي، خاصّة الشّعوب العاطفية؛ فكلّ تحرُّك للشّعب يصاغ بصبغة المطلق، وتضفى عليه الشّرعية الشّعبية. هي الإشكالية نفسها التي تحدّث عنها طرابيشي متتبّعا فشل الدّيمقراطية في مجتمعاتنا. إنّها إشكالية الذّئب والحمَل؛ أيْ إنّ الدّولة هي الذّئب، والحمَل هو الشّعب، أو ثنائية الجلاّد والضحيّة. في حين أنّ المجتمع المدني أو الأهلي، هو نفسُه يعاني من مجموعة من الأمراض أهمّها الفئوية الطائفية واللّوبوية الدّينية.