"العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك" السّيّد كمال الحيدري


فئة :  قراءات في كتب

"العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك" السّيّد كمال الحيدري

"العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك"

السّيّد كمال الحيدري

صدر عن دار مؤمنون بلا حدود كتاب بعنوان: "العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك" لسّيّد كمال الحيدريّ الطبعة الأولى 689 صفحة، وقد حاول المؤلف فيه تقديم قراءة أخرى للنصوص الدينية، من خلال آليات جديدة لتطوير العملية الاجتهادية، والتي يمكن تلخيصها في الأصول التالية: الأصل الأول: ضرورة التمييز بين القاعدة وتطبيقاتها، الأصل الثاني: نقد القراءة الرسمية للنصوص، الأصل الثالث: تعدّد الفهم والقراءة.

أهمية الكتاب

تأتي أهمية هذا العمل في المراجعة المنهجية للتعاطي مع الفقه الإسلامي؛ وذلك باستحضار، معطى العلوم الإنسانية، وبالأخص في ما يتعلق بنقد المعرفة التاريخية؛ لأن الفقه لم يتشكل في فراغ، بل تشكل عبر التاريخ والأزمنة المليئة بالأحداث والوقائع، وهذا يعني أن فهم الفقه والمدونة الفقهية رهين بفهمها وفق استحضار سياقها التاريخي الذي تشكلت فيه، ومراعاة طبيعة الخلفيات والتأثيرات التي كانت تحيط برجالات الفقه الكبار؛ إذ ساهم هذا العمل ببسط الوعي في أن الفقه الإسلامي لا يعلو على التاريخ كما يظن البعض بوعي أو من دونه.

عنوان الكتاب

يضم عنوان الكتاب مجموعة من المفاهيم التي تحمل دلالات وحمولات منهجية تلامس جوهر الموضوع في صلبه (العقل، الفقه، التاريخية، الاشتراك)؛ فالعقل هو قوى الوعي والإدراك التي تكون من وراء المعرفة والتفكير والفهم والتخيل والتمييز... وبالتالي فهو من جهة المبدأ الكلي والجوهر، واحد والناس من جهة هذه النعمة سواء، كما قال ديكارت: "العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس"، فهو قوة فطرية لدى الناس جميعا. أما من جهة استعماله، فالناس متفاوتون، وقد تتعدد العقول من جهة الآليات والقواعد ومقدمات التفكير والخصوصيات والسياقات الثقافية والمعرفية. ولهذا بالإمكان التمييز بين عقل غربي وعقل شرقي والعقل العربي والعقل الإسلامي، كما أن التخصصات المعرفية تعكس لنا تعدد العقل ونقول العقل الرياضي والعقل الفلسفي والعقل الفقهي؛ فكل عقل في الأعم يعود في عملية توليد المعاني والأفكار والمعرفة لطبيعة القواعد والمقدمات لمجال التخصص العلمي الذي يعود إليه.

العقل الفقهي إذن، هو ذلك العقل الذي يستحضر مختلف القواعد والمفاهيم والأصول التي يتوسل بها الفقهاء في فهم الشريعة تبعا لمحيطهم وزمانهم؛ فهو عبارة عن أصل فهم الآلة في الاستنباط من النصوص التي يستند إليها، منطلقا من العقل، وبه يربط بين النص والتطبيق. العقل الفقهي ليس واحدا فكل تجديد لآليات الفهم باستحداث آليات جديدة، وباستحضار العلوم الإنسانية في الفهم والتحليل، سيجعل من العقل الفقي عقلا متجددا، فهذا الكتاب مساهمة في تجديد العقل الفقهي بدعوته إلى اعتماد التاريخية في فهم الفقه الإسلامي، وهذا مفهوم معرفي لا وجود له عند المتقدمين.

أما الفقه، فقد عرف الشافعي بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية". وفي اصطلاح علماء أصول الفقه "العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية"، وقد تشكلت على طول التاريخ الإسلامي مدونة الفقه الإسلامي، وهي مدونة متعددة الفرق والمذاهب الإسلامية، ما بين الفرق الكبرى في تاريخ الإسلام الشيعة وأهل السنة والجماعة والمعتزلة الذين لم يعد لهم حضور في زماننا، وتشكلت من داخل أهل السنة والجماعة أربعة مذاهب فقهية كبرى؛ وهي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، معظم الفقهاء يتفقون من جهة المنطلقات والأصول المؤسسة للفقه الإسلامي، ولكن لهم أمور خلافية من جهة فهمهم لكثير من القضايا الفقهية.

وبالنسبة إلى مصطلح التّاريخيّة، فينبغي التمييز بين التّاريخيّة والتاريخانية؛ فقد سبق لمحمد أركون أن بين هذا الاختلاف في قوله: "(حالة التاريخانية) فإن الأمر يتعلق بمنهج تكتيكي يكتفي بتسجيل الوقائع التاريخية وترتيبها في خط زمني متواصل تقرأ فيه البدايات والأصول والتأثيرات والأحداث من كل نوع. أما [حالة التاريخية]، فإننا نجد أن الروح المغموسة في التاريخ الماضي والحاضر للجماعة، تتساءل بالإضافة إلى ما سبق، عن معنى ودلالة القوى التي تضغط عليها وعن الوسائل التي تمكنها من السيطرة على هذه القوى، أن نتبصر التاريخية ونفكر فيها أمر يعني إعادة إدخال كل ما تمحوه التاريخانية عادة أو تتجنبه باحتقار؛ أي كل الحماسات الجماعية والأحلام الممكنة والتطلعات غير المشبعة"[1] التاريخانية في نظر أركون منهج صارم في تسجيل الوقائع التاريخية لا يحتمل حضور كل ما هو مفارق للواقع، بإبعاد كل ما هو معنوي ومتعال؛ فالنصوص الدينية مثلا ما هي نتاج شروط تاريخية وواقعية، بينما التاريخية على العكس من ذلك، فهي تستحضر وقائع التاريخ كما حدثت ولا تنفي المعنوي والمتعالي في علاقته بالتاريخ والواقع.

ويعتمد المؤلف التاريخية في قوله: "ونريد بالتاريخية في هذه الدراسة: الموقّت والمقيّد بالظرف التاريخي الذي تحقق فيه، فعندما يقال - مثلاً - إن السنّة النبويّة تاريخية، معناه أنها مقيّدة بالظروف والأحوال المحيطة بها، ولازم ذلك أنه لا ينعقد لها إطلاق أحوالي وأزماني لتشمل العصور اللاحقة والبيئات التي تختلف عن تلك البيئة التي تحققت فيها وصدرت خلالها وعليه: فلا يقصد بالتاريخية هنا، المعنى المصطلح للتاريخ، الذي يوحي بأنّ للسنّة - مثلاً - تاريخ صلاحية معيّناً، وأن دورها قد انتهى بانتهاء ذلك التاريخ، بل المقصود منها، الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعادات والتقاليد التي تحيط بالنصّ."[2]

أما قاعدة الاشتراك التي جاءت في عنوان الكتاب، فهو أن مشهور العلماء ذهبوا إلى أنه إذا ثبت حكم شرعي لمكلّف، سواء كان مخاطباً به أم لا، وسواء كان بدليل لفظي فيه إطلاق، أم بدليل لبّي كالإجماع الذي لا إطلاق له، فهو شامل لجميع المكلّفين في الأزمان والأحوال، فهذا الاتجاه يرى أن الأحكام مشتركة بين المكلّفين حتى مع اختلاف الظروف والشروط المؤدّية إلى تبدّل الموضوع.[3]

وتعدّ مسألة تاريخية منظومة المعارف الدينية من أهمّ مفاتيح عملية الاستنباط، إن لم نقل هي أهمّها على الإطلاق، لما لها من آثار في مختلف المجالات المعرفية، من فقهية وعقدية وأخلاقية وتاريخية وتفسيرية وغيرها؛ لأنها تبتني على منهج يختلف عن المنهج الذي يبتني عليه المشهور في عدم التاريخية.[4]

أثر التاريخ على الفقه

جاء الكتاب مناقشا للفقه الإسلامي (العقل الفقهي)، ومن البديهي أن وقائع وأحداث تاريخية ومتغيرات لها أثرها البليغ في تشكل الكثير من مقولات الفقه في الثقافة الإسلامية، ولازم هذا الأمر "أنّه لا ينعقد لها إطلاق أحواليّ وأزمانيّ لتشمل العصور اللّاحقة، والبيئات الّتي تختلف عن تلك البيئة الّتي تحقّقت فيها، وصدرت من خلالها؛ لأن الواقع متعدّدٌ، إمّا باختلاف الأزمنة أو باختلاف درجات وطبقات الناس؛ فالنصّ الديني قبل ألف سنةٍ ربّما فهم منه علماء ذلك الزمان معنىً يختلف عن المعنى الذي يفهمه علماء العصر، ونحن نهدف إلى إثبات أنّ للتاريخ مدخليّةً وتأثيراً في فهم النصوص الدينيّة. أمّا ما هي المساحة التي يؤثّر فيها التاريخ، فهذا بحثٌ آخر يمكن للاستقراء أن يعطي فيه جواباً.

يطرح الحيدريّ تساؤلات: هل للنّصّ الدّينيّ قراءة واحدة أم متعدّدة؟ وحال التّعدّد هل جميعها حجّة أو بعضها فقط؟ وإذا قلنا جميعها فهل جميعها مطابقة للواقع مع العلم بكون الواقع متحول؟ من البديهي أن للنص الديني قراءات فقهية متعددة وهذا التعدد هو ما يجعلها تاريخية، ولا يمكن إطلاقها على جميع الوقائع والأزمنة، فلكل زمان فقهه، فالثابت هو النص الديني، بينما الفقه متحول ومتعددة، ولا يصدق عليه في مجمله مفهوم الاشتراك. المفسّر للنصّ الديني، (في نظر المؤلف)، إنما كان يعيش ضمن ظروف زمكانية معينّة، فيكون فهمه وقراءته متأثرَين بالظروف التي يعيشها؛ إذ لا يمكن لأي عالم أن يتجاوز زمانه ومكانه، وهذا هو وجه التاريخية في الفقه الإسلامي.

الكتاب غني بالكثير من الأمثلة والشروح، التي يتضح من خلالها أن الفقه الإسلامي في مجمله وخاصة في كل ما هو جزئي فيه من الأحكام، غير مطلق فهو مقيد بظروف وحيثيات الزمان والمكان فضلا على خصوصيات الفقيه وطباعه ومذهبيته...الفقه متعدد بينما الدين في نصوصه واحد، وبالرغم من كون هذا الأمر المنهجي يبدو بديهيا، لازال الكثير من الفقهاء يتعاملون مع المدونة الفقهية كأنها فوق التاريخ، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب "العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك" الذي يعيد الفقه الى مكانه فهو تحت النص الديني (القرآن/السنة) وليس فوقه، كما أنه مقيد في مجمله بالزمان بينما النص الدين مطلق.

لا خلاف بين العلماء في تبعيّة الأحكام الشرعيّة لموضوعاتها، وأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي نسبة المعلول إلى علّته، فكلّما تحقّق الموضوع ترتّب عليه الحكم الشرعي، فكل تغير يلحق بالموضوع من حيث الظروف والاحوال سيكون له أثر على الحكم.

من بين الأمثلة التي أوردها المؤلف -الشطرنج-الذي هو موضوعٌ من الموضوعات - كان في ضمن ظروف ذاك الزمان يُعدّ من آلات اللهو والقمار، لذلك جاء النصّ الروائي بحرمة اللعب به. أمّا اليوم وضمن معادلات العصر وظروفه، فهو يُعدّ من آلات وألعاب الرياضة الفكريّة، وهذا يعني: أنّ الموضوع قد تغيّر تغيّراً خارجيّاً، وإن كان داخليّاً، فهل هذا النحو من التغيّر في الموضوع يُغيّر الحكم الشرعي من الحرمة إلى الجواز أم لا؟ محلّ النزاع ليس في تبدّل الموضوع تبدّلاً تكوينيّاً حقيقيّاً داخليّاً، وإنّما في تغيّر الموضوع بلحاظ شروطه وظروفه الخارجيّة مع بقاء أصل وجوده.

يؤكد المؤلف بالأحكام الشرعيّة ثابتةٌ لموضوعاتها؛ فالشارع عندما حرّم موضوعاً ما، فإنّ هذه الحرمة ثابتةٌ لا تتغيّر، وعندما أوجب آخر، فإنّ هذا الوجوب ثابتٌ لا يتغيّر، وليس لأحدٍ أن يمسّ حريم الأحكام الشرعيّة؛ سواءٌ أكانت أحكاماً تكليفيّة أم وضعيّة. فالعلماء متّفقون على تبعيّة الأحكام لموضوعاتها، ومع تغيّر الموضوع يتغيّر الحكم.

[1] محمد ركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ط.2، 1996م، ص. 123

[2] مقدمة الكتاب.

[3] نفسه.

[4] مقدمة الكتاب.