جدليَّة المقدس والدنيوي


فئة :  مقالات

جدليَّة المقدس والدنيوي

تعدُّ جدليَّة المقدس والدنيوي من بين الإشكالات الأساسيَّة التي حظيت باهتمامٍ كبيرٍ، من قبل ثلة من الفلاسفة والمفكرين والباحثين، المهتمين بالقضايا الدينيَّة، وخاصَّة القضايا المتصلة بالعلاقة الحاصلة بين المقدس والدنيوي، بما هي علاقة بين العالم المحسوس والمادي، والعالم الأخروي، على الرغم من اختلافها وتشعُّبها، والتي ما فتئت تنكشف في المجتمعات، بهدف دراستها ودرء الغموض الذي يكتنفها. بيد أنَّ هذا الاهتمام ليس قديماً وإنَّما حديث، على الرغم من أنَّ بول ريكور يقرُّ بأنَّ المقدس قديم، ولكنَّ مع ذلك، فإنَّه ينتمي إلى عالم اليوم، وإن كان زمنيّاً قديماً، فهو حديث من حيث اعتباره موضوعاً للبحث والدراسة وإعمال النظر، حيث انكشف في المجتمعات الغربيَّة ابتداءً من الفترة المعاصرة، حينما بدأ النقاش في أوساط الباحثين والمفكرين والفلاسفة حول مسألة العلاقة الحاصلة بين المقدس والدنيوي، وهذا ما يجعل منه موضوعاً راهنيّاً. ولذلك، ينبغي على الباحث الذي يشتغل على هذه الإشكاليَّة أن يتروَّى قبل افتراض، أنَّ للتضاد والتوافق الحاصل بين المقدس والدنيوي حقيقة موضوعيَّة، وخاصَّة البحث عن كتاب في القرن الرابع عشر مثلا، يُقدم فيه مُؤلفَهُ المقدس باعتباره متضادّاً ومتبايناً مع لاالدنيوي. إنَّ المغزى من تحليل مُفردات الدين والمقدس والدنيوي، يتمثل أساساً في درء الصعوبات، التي قد تطرحها بعض الافتراضات حول الدين، والتضاد والتوافق الحاصل بين المقدس والدنيوي، ومن ثم إيجاد الأرضيَّة الملائمة لفهم واستيعاب هذه المفاهيم بدقةٍ ووضوحٍ أكبرٍ، حتى ينتفي الغموض الذي يكتنف علاقة المقدس بالدنيوي[1].

يُشير الأصل اللاتيني لكلمة المقدس إلى ما ينتمي إلى مجال الآلهة والدين، بينما لفظ الدنيوي يشير إلى ما يوجد خارج الكنيسة أو المعبد

لكنَّ، قبل الخوض في تحليل هذه الإشكاليَّة، وإبراز مختلف القضايا التي تثيرها، لابدَّ أولاً من صياغة بعض الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع، وهي إشكالات مهمَّة وأساسيَّة، لأنَّها تفتح المجال لإعمال التفكير بكل آلياته التي تصبو إلى التجديد والإبداع، وليس إلى النقل والاجترار، وهذا ما سنعسى إلى تبيانه في هذا المقال، فما المقصود بالمقدس؟ وما المقصود بالدنيوي؟ وما العلاقة الحاصلة بين المقدس والدنيوي؟ هل هي علاقة تضاد وتباين أم علاقة توافق وتماثل؟ وإذا كانت علاقة المقدس بالدنيوي هي علاقة تضاد وتباين، فما هي النقاط التي يتضادا فيها ويتباينا معاً؟ وإذا كانت علاقة المقدس بالدنيوي هي علاقة توافق وتماثل، فما هي النقاط التي يتوافقا فيها ويتماثلا معاً؟ وهل يمكن رسم حدّ فاصل بين المقدس والدنيوي أم إنَّه يصعب رسم حدّ فاصل بينهما؟ وما الباعث على رسم هذا الحد الفاصل؟ أليس الحد الفاصل هو الكفيل بتجنب الاصطدام الذي من الممكن أن يقع بينهما؟ وألا يُعدُّ الحد الفاصل حلاًّ لتجاوز الغموض الذي يكتنف علاقة المقدس بالدنيوي؟

تأخذ كلمة "Sacer" في اللغة اللاتينيَّة معنى المقدس، وتساوي جانباً؛ أي الجانب الذي قدم لنا الكهنوت، وهي وظيفة الكاهن (أي رجل الدين عند النصارى واليهود). وفي اللغة العربيَّة، نجد كلمة حَرام "Harram" قد تمت ترجمتها بالمقدس "Sacré"، غير أنَّ كلمة حَرام في اللغة العربيَّة حمَّالة وجهين؛ فهي من جهة أولى تدل على الشيء المحظور، أي شيء ممنوع فعله، ولا يحلُّ انتهاكه، والعكس من ذلك، نجد كلمة حلال التي تعني كل ما هو مسوِّغ ومسموح به. ومن جهة أخرى، تشير إلى الأماكن المقدسة، من قبيل المسجد الحرام (البلد الحرام الذي فيه الكعبة)، وكذا البيت الحرام (الكعبة المشرفة)، كما يشير أيضاً، إلى الأشياء والأسماء المقدسة، على سبيل المثال لا الحصر، الشهر الحرام[2]. ومن خلال الاشتقاق، تم إعطاء كلمة حَريم "Harem" باعتبارها بديلاً لكلمة المقدس، وتحمل كلمة حَريم دلالة بيت النساء، وهو ما يُسمى ببيت الحريم[3]، أي بيت قائم بذاته تسكنه النساء. تفترض فكرة المقدس وجود نوع من التفوق، ولكنَّها تفترض أيضاً، نوعاً من عدم الاستقلال والخضوع والاستكان. إنَّ الأصل الاشتقاقي لكلمة الدنيوي "Profane" يأتي من اللفظ اللاتيني "Profanum"، والذي يتكون من كلمتين، هما: "Pro" التي تعني قبل، و"Fanum" التي تعني مكان مكرَّس لشيء ما، فالكنيسة مثلاً مكان مكرَّس؛ أي مباركة ومخصَّصة لخدمة الله[4]. ولكنَّ، ما طبيعة المقدس؟ وما طبيعة الدنيوي؟

يُشير الأصل اللاتيني لكلمة المقدس إلى ما ينتمي إلى مجال الآلهة والدين، بينما لفظ الدنيوي يشير إلى ما يوجد خارج الكنيسة أو المعبد. وحينما تم تأسيس المدرسة السوسيولوجيَّة الفرنسيَّة في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر مفهوم المقدس ــ المقصود هنا صناعة المقدس الذي يتوجه نحو تقديس الخرافات والعادات والتقاليد[5] ــ باعتباره صنفاً خارج مفهوم القداسة، الذي يقصد به هنا كل أشكال التقديس التي تستمد من الإله والكتاب المقدس[6]. هكذا، تتبدى إذن طبيعتا المقدس والدنيوي، من حيث كونهما يشيران إلى مجالات مختلفة ومتباينة؛ فالدنيوي يحيل إلى العالم المحسوس والمادي؛ أي العالم المترائي والظاهر، بينما يحيل المقدس إلى العالم غير المرئي؛ أي المتواري، وكذا إلى الدين. ولكنَّ، ما علاقة الدين بالمقدس؟

يُقرُّ مارسيل بول دي بال "Marcel Bolle De Bal"، بأنَّ هناك روابط وثيقة بين الدين والمقدس، إذ يكاد لا يمكن وجود دين بدون مقدسات، أو بدون بنيات مقدسة[7]. ممَّا يلزم عن هذا القول، إنَّ كل الديانات كيفما كانت تتضمن مقدساً ما، الذي يتجلى في الأماكن والأسماء والطقوس والعبادات؛ بيد أنَّ هذه الروابط الوثيقة بين الدين والمقدس، تدفعنا إلى التساؤل حول من يؤسس الآخر، هل الدين هو الذي يؤسس المقدس أم إنَّ المقدس هو الذي يؤسس الدين؟

يرى فيليب بريتون "Philippe Breton"، بأنَّ المقدس لا يمكن أن يدعي أية أسبقيَّة عن الدين، لأنَّه في الأصل أنتج داخل الدين ومؤسَّساته. ولكنَّ، بالرغم من وضوح هذا التصور، فإنَّه لا يخلو من اعتراضات جمة، لأنَّه إذا كان المقدس يوجد بشكل كامل في الدين، فإنَّه لا مانع في ذلك من القول بأنَّه مؤسس له، بنفس طريقة الوحي، والإله الواحد، ورجال الدين، والعقيدة، والكتاب المقدس. وإذا كانت هذه العناصر كلها هي أساس الدين، والمقدس، فإنَّها بكل تأكيد مدخل لفكرة الإله الواحد، الذي ينتمي إلى العالم المقدس، وليس إلى العالم الدنيوي[8]. إنَّ كل المعتقدات الدينيَّة المعروفة، على الرغم من اختلافها وتشعُّبها، وسواء كانت بسيطة أو معقدة، لها نفس المميزات المشتركة، حيث تفترض مُسبقاً تصنيفاً للأشياء، واقعيّاً أو مثاليّاً، تمثله الإنسانيَّة جمعاء، في صنفين، وفي نوعين متضادين، من خلال توظيف جملة من الكلمات المتميزة والبينة، التي تترجم بشكل جلي ودقيق مفهومي المقدس والدنيوي. إنَّ تقسيم العالم إلى مجالين، حيث هناك من جهة أولى، مجال يضم كل ما هو مقدس، وهناك من جهة ثانيَّة، مجال يضم كل ما هو دنيوي، هو السمة المميزة للفكر الديني[9]. ولكنَّ، ما المقصود بالمقدس؟ وما المقصود بالدنيوي؟

يُشكل التمييز بين المقدس والدنيوي مدخلاً أساسيّاً لتعريف الدين بطريقةٍ واضحةٍ وبينةٍ، بعيداً عن الغموض الذي اكتنف مفهوم الدين في الفترة الحديثة والمعاصرة

يُعرفُ ميرسيا إلياد "Mircea Eliade" المقدس باعتباره مضادّاً ومتبايناً مع الدنيوي، وغالباً ما يتم التعبير عن هذا التضاد والتباين الحاصل بين المقدس والدنيوي، من حيث كونه تضادّاً وتبايناً بين الواقعي وغير الواقعي؛ بيد أنَّ الإنسان المتدين مثلا، يرغب في أن يعيش في عمق المقدس، وكذا أن يشارك في الواقع، أي في الدنيوي، وهو بذلك يسعى للحفاظ على الكون المقدس. وبحسب وجهة نظر الإنسان المتدين، فإنَّ الشيء الواحد الحقيقي هو المقدس، فهذا الأخير هو الامتياز الحقيقي في الحياة، وفي نفس الوقت هو قوة الإيمان، ومصدر وأساس الحياة[10]. ولتحديد مفهوم المقدس وتوضحيه أكثر، ومن ثم درء الغموض الذي يكتنفه، اقترح ميرسيا إلياد مصطلح "Hiérophanie"، وهو مصطلح مركب من كلمتين يونانيتين هما: "Hiéros" التي تحمل معنى المقدس، و"Phaneia" التي تعني ظهر، ومن هنا يأخذ المقدس معنى الظهور؛ فالمقدس إذن هو ما يظهر ويتبدى لنا، وما يتجلى من خلال بعض الأشياء، من قبيل الكنيسة، والمعبد، والطقوس[11]. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالكنيسة هي تجلٍّ للمقدس، لأنَّها تفتح الباب أمام العالم الأخروي، وتضمن التواصل مع الإله عن طريق يسوع المسيح، الذي هو تجلٍّ للذات الإلهيَّة المقدسة. وبموجب هذا التواصل، يتم تجاوز العالم الدنيوي صُعوداً نحو العالم المقدس[12].

يُعدُّ المقدس حقيقيا وصلبا، وقويا، بينما الدنيوي هو عكس ذلك تماماً، فهو غير صلب، وغير حقيقي، وغير قوي. وبموجب هذا التصور، فإنَّ المقدس هو ما هو صالح ومعقول، في حين أنَّ الدنيوي، يتم تعريفه في مقابل المقدس، حيث إنَّ الصفات التي يتصف بها المقدس، يأخذ الدنيوي عكسها تماماً. فالدنيوي إذاً، هو ما لا قيمة له، وغير معقول. ممَّا يلزم عن هذا القول، إنَّ اختيار الدنيوي يشبه اختيار حياة بدون معنى، وتخلو من القيمة. ولكنَّ، هذا المعنى الذي قدمه ميرسيا إلياد لمفهوم الدنيوي في جل أعماله، لا يمكن فهمه واستيعابه، إلا حينما يتم استحضار العالم المعاصر بكل تقلباته وتغيراته التي تأبى السكون. وبغض النظر عن ذلك، فإنَّ مفهوم الدنيوي عند ميرسيا إلياد لا يتضمن دلالة مزعجة، بقدر ما يشير فقط إلى ما ليس مهمّاً[13].

هكذا، يتبدى إذن أنَّ المقدس يتجلى دائماً باعتباره مختلفاً تماماً عن نظام العالم الواقعي والطبيعي. ولهذا يتم تعريف المقدس، من حيث كونه متبايناً ومتضادّاً والدنيوي[14]. وهذا ما يُقرٌّه ميرسيا إلياد نفسه، إذ يقول: "إنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقوله عن المقدس بشكل دقيق وواضح، هو تضاده وتباينه مع الدنيوي"[15]. وفضلاً عن هذا التعريف الذي قدمه ميرسيا إلياد للمقدس، هناك جملة تعاريف قدمت للمقدس، من بينها نذكر تعريف رودولف أوتو، الذي يُعرفُ فيه المقدس بأنَّه شعور؛ أي الإحساس بالمقدس الذي يمزج بين الخوف (الرهبة) والإعجاب (الرغبة). إنَّها قوة عليا وغامضة على حد سواء، يحوزها الإنسان الذي يمتلك وعي حدسي؛ بيد أنَّ المقدس قد يحيل إلى ما لا يمكن معرفته وفهمه، وهو بذلك يشكل لُغزاً يكتنفه الغموض، لأنَّه يشير إلى شيء يصعب فهمه واستيعابه. ويكاد لا يمكن إدراكه وتحصيله، لأنَّه بعيد المنال، ولذلك ينتج لُغزاً، أي شيئاً غير مفهوماً.[16] ولكنَّ، هل يُعدُّ المقدس خاصيَّة من خصائص الإنسان أم إنَّه فقط قيمة مضافة له؟

يُقرُّ روجي كايوا "Roger Caillois" بأنَّ المقدس ليس خاصيَّة من خصائص الإنسان، ينفرد ويتميز بها عن غيره من الكائنات، وإنَّما هو قيمة تنضاف للإنسان، أي تأتي من الخارج ويتم إسقاطها عليه. وقد تتعلق تلك الإضافة، إمَّا بأدوات (وسائل العبادة) أو بأشخاص (ملك، كاهن، نبي...)، أو بأزمنة (أشهر وأعياد ومواسم)، أو بأمكنة (أماكن الحج والعبادة)[17]. وإذا كانت هذه القيمة التي تنتمي إلى العالم المقدس، تنضاف إلى الإنسان الذي ينتمي إلى العالم الدنيوي، ومن ثم تتلون بلون الدنيوي، فلماذا إذن يلزم التمييز ورسم الحدود بين العالم المقدس والعالم الدنيوي؟ وألا يُعدُّ هذا التمييز مدخلاً أساسيّاً لتعريف الدين؟

يُشكل التمييز بين المقدس والدنيوي مدخلاً أساسيّاً لتعريف الدين[18]، بطريقةٍ واضحةٍ وبينةٍ، بعيداً عن الغموض الذي اكتنف مفهوم الدين في الفترة الحديثة والمعاصرة على حد سواء. وبسبب هذا الغموض، واجه الباحث الذي يشتغل في مجال الدين، صعوبات جمَّة أثناء محاولة تعريفه للدين[19]. وفضلاً عن هذا الدور المهم الذي تشغله مسألة التمييز بين المقدس والدنيوي، فإنَّ لهذا التمييز أهميَّة بالغة، تتمثل في كونه يجنبنا من الاصطدام الذي قد يقع بين القوة المتوترة التي تتأهب للانفلات من دائرة المقدس، وتتوق للتحرر من إسار الرمز والمعنى المكثف، والعالم الدنيوي، ممَّا يخلف أثاراً مدمرة لكلا الطرفين، ولهذا يلزم رسم الحدود بينهما، للحيلولة دون وقوع الكارثة الميتافيزيقيَّة[20]؛ بيد أنَّ هذا التمييز يكاد لا يستقيم دون تحديد طبيعة العلاقة الحاصلة بين المقدس والدنيوي، حيث يُعيد روجي كايوا صياغة هذه العلاقة بينهما على الشكل التالي: المقدس هو عالم من القوى، والطاقات، في حين أنَّ الدنيوي هو عالم من الأشياء والمواد[21]. ولكنَّ، ماذا يُشكله المقدس بالنسبة إلى حياة الإنسان؟

يُعدُّ المقدس مصدر الحياة، ومدخل الموت، والمصدر الذي يستمدُّ منه الأنسان طاقته. ويُعبرُ المقدس عن نفسه في أشكال مختلفة، من قبيل القربان والعبادات، والطقوس التعبديَّة بشتى أنوعها، وحتى الأسماء والأماكن والأشياء، بيد أنَّ المقدس يتغذى على الغموض والإبهام والتواري، ويُبهر ويُخيف. كما يُقرر ما هو ظاهر، وما هو مسوّغ، وما هو محظور، وما هو ــ من الناحيَّة الدنيويَّة ــ خير، وما هو شر، وما هو مقدس، وما هو مدنس. إنَّ المقدس يُولد الهدايا ــ المقصود هنا هو القربان المقدس الذي يُتقرب به الإنسان إلى الله من ذبيحة وغيرها ــ والتضحيَّات، كما أنَّه يستجيب للحاجات الماسَّة للوجود الإنساني، وكذا للمشاعر التي تختلج الإنسان من حين لآخر. غير أنَّ هذه المشاعر الغامضة والمخيفة التي تجد أصلها وقوتها في اللاوعي الفردي والجماعي، تواجه القلق الوجودي الذي تثيره صُروف الدَّهر، والتي تراود الإنسان من كل حدبٍ وصوب[22].

إنَّ العلاقة التي تجمع بين العالم المقدس والعالم الدنيوي ليست علاقة تضادٍّ وتباينٍ فحسب، وإنَّما هي علاقة توافقٍ وتماثلٍ أيضاً

هكذا، يتبدى إذن أنَّ في المقدس شيئاً آخر غير العنف، بل نقيضاً للعنف، حيث فيه النظام والفوضى، السلام والحرب، الخلق والتدمير، الحب والكراهيَّة، البداية والنهاية، الجور والعدل، الحركة والسكون، التواري والترائي. يبدو أنَّ في المقدس جملة من الأشياء المتنافرة والمتعارضة والمتناقضة، التي عدل ذوو الاختصاص عن درء اللبس عنها عدولهم عن تقديم تعريف بسيط نسبيّاً للمقدس، على غرار التعريف الذي ما فتئ يُقدم له باعتباره متضادّاً ومتبايناً مع الدنيوي[23]. ولكنَّ، ألا يمكن أن يكون بين المقدس والدنيوي علاقة توافق وتماثل وليس فقط علاقة تضاد وتباين؟ ألا يمكن للمقدس أن يتجلى في الدنيوي؟ ألا يمكن للدنيوي أن يتصل بالمقدس؟

إنَّ العلاقة التي تجمع بين العالم المقدس والعالم الدنيوي ليست علاقة تضادٍّ وتباينٍ فحسب، وإنَّما هي علاقة توافقٍ وتماثلٍ أيضاً؛ فهما غير منفصلين، وغير متباعدين عن بعضهما البعض، بل هما عالمان لصيقان ببعضهما البعض[24]. وبالرغم من انفصال العالم المقدس عن العالم الدنيوي، فإنَّهما يتصلان من جديد، من خلال بعض العبادات والطقوس، من قبيل طقس القربان، الذي يُعدُّ "وسيلة الدنيوي للتواصل مع المقدس بواسطة ضحيَّة، حيث يجعل التنقل ممكناً بين العالمين ــ العالم المقدس والعالم الدنيوي ــ وهما يتجاذبان ويتنفران في آنٍ واحدٍ. وفي الوقت الذي يُضفي القربان فيه القداسة على القائم به "Sacrificateur" وعلى الضحيَّة "Victime"، فإنَّه يتكفل بإضفاء القداسة على صاحب القربان "Sacrifiant" إضفاءً يتيح لصاحبه هذا ولوج عالم المقدس من غير خطر، ويقوم في الوقت نفسه بنزع القداسة عنه نوعاً يُطهره (ومعه كذلك القائم بالقربان) من القداسة الممتنعة من العالم الدنيوي"[25]؛ بيد أنَّ هذا الاتصال الذي يحدث بين العالم المقدس بما هو عالم مجرد ومتوارٍ، والعالم الدنيوي بما هو عالم محسوس ومتراءٍ ــ الذي من خلاله تنتج علاقة التوافق والتماثل بينهما ــ تفرضه ضرورات أنطولوجيَّة وسيكولوجيَّة محضة، لأنَّه من الصعب العيش خارج المقدس.

هكذا، يتبدى إذن أنه بالرغم من الفصل الجذري الذي تم بين العالم المقدس والعالم الدنيوي، فإنَّ بعض الشكوك بدأت تنكشف بلغة هايدغر حول نجاعة وفعاليَّة هذا الفصل الذي تم بينهما. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى فكرة أساسيَّة لا محيد عنها، تتمثل في أنَّ الحدود التي رسمت بين العالم الدنيوي والعالم المقدس صارت أكثر وضوحاً وتميزاً من أي وقت مضى، غير أنَّ عناصر العالم الدنيوي ــ الحياة بكل تفاصيلها، سواء المسوّغ أو الممنوع فيها ــ ليست بالضرورة غائبة عن العالم المقدس. وفضلا عن ذلك، يمكن للمقدس أن يُلون جُملة من الأنشطة الدنيويَّة، من قبيل الفن، الموسيقى، الشعر، الفكر، السيَّاسة، والعمل بلونه المقدس. كما يمكن للمقدس أن يُساعد الإنسان على الانفصال عن العالم الخارجي، والارتقاء روحيّاً، ومن ثم الاتصال بواقعٍ من نظامٍ آخر، أي بالنظام الأخروي غير المرئي والمتواري[26].

حاصل القول، إنَّ جدليَّة المقدس والدنيوي التي ما فتئت تنكشف في المجتمعات المتدينة، من حيث كونها إشكاليَّة أساسيَّة ومُهمَّة، يلزم دراستها ودرء الغموض الذي يكتنفها، حظيت باهتمامٍ كبيرٍ من قبل ثلة من المفكرين والباحثين والفلاسفة، على الرغم من اختلاف وتنوع قنواتهم الفكريَّة، والمهتمين بالقضايا التي تثيرها تلك الجدليَّة القائمة بين عالمي المقدس والدنيوي، بما هي علاقة بين المستور والمكنون من جهة، والجلي والبادي من جهة أخرى. وبالرغم من التضاد والتباين الذي قد يتبدى بين عالمي المقدس والدنيوي، فإنَّ هناك بعض التداخل بينهما، ولهذا فالحدود بين المقدس والدنيوي غير ثابتة، فهي قابلة للتغير والتحول، فضلاً عن كونها مُلتبسة، ويكتنفها الغموض. وقد تأخذ تلك العلاقة في أحيانٍ معينة صورة تضاد وتباين، وفي أحيانٍ أخرى صورة توافق وتماثل، ولذلك اتسمت تلك العلاقة الحاصلة بين عالمي المقدس والدنيوي بالجدليَّة، التي لا تكف عن التحرك والتجدد والتغير.


[1] Jeffery Aubin, La religion, et l’opposition sacré et profane, dans les diuinae institutiones de Lactance: les limites d’une dichotomie moderne, érudit, Faculté de théologique et de science religieuses, Université Laval, Québec, Volume 70, Numéro 2, 2014, p. 229

[2] يقصد به أحد أشهر الأربعة الحُرُمَ، التي كان العرب يُحرمون فيها القتال، وهي: أولاً ذو القعدة، وثانياً ذو الحجّة، وثالثاً المُحرَّم، وأخيراً رجب، وتسمى الأشهر الحُرُمَ.

[3] شاع هذا الاسم في الحضارة العثمانيَّة، حيث صار هذا الاسم أحد مظاهر الثقافة العثمانيَّة. وكان يقصد ببيت الحريم كل من يسكن في حرم السلطان، وكان يصل عدد النساء اللواتي يسكن في هذا البيت إلى ثلاث وثلاثون امرأة، ثلاث منهنَّ فقط مَحْظيَّاته، والأخريات خادمات العرف.

انظر: عبد السلام كمال، مظاهر حضاريَّة من الثقافة العثمانيَّة، بروج للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 2017، ص. 188

[4] Léo Legendre, Le religieux – Mythes et Rites Fondations – Orientations – Limites, Li – 22CM – Introduction à La sociologie et à L’anthropologie, Ecole Nationale Supérieure d’Architecture se Paris Val Seine, 2012, p. 3

[5] يقدم كل من جيمس ر. لويس "James R. Lewis" وأولاف هامر"Olav Hammer" في كتابهما الموسوم بـ "اختراع التقليد المقدس"، وجهة نظر مُغايرة تماماً لِمَا ألفناه حول مفهوم المقدس، حيث لم يعد يحيل المقدس إلى الكتاب المقدس، والعالم غير المرئي، والآلهة، والطقوس الدينيَّة، وأماكن العبادة من قبيل الكنيسة أو المعبد فحسب، وإنَّما صار يحيل أيضاً إلى أشياء أخرى، من قبيل التقاليد التي تم اختراعها. وبالرغم من أنَّه في الأصل ليس هناك تقاليد مقدسة ــ وهذا ما تقره الكتب المقدسة ــ فإنَّه تم اختراع هذه التقاليد، وبفضل تشبث الإنسان بها، وكذا اهتمامه الكبير بها، تحولت عندئذ إلى مقدس، وصارت هي الأخرى تحظى لدى الإنسان بمنزلة المقدس، مثلها في ذلك مثل الأشياء المقدسة. انظر:

James R. Lewis and Olav Hammer, The invention of sacred tradition, Cambridge University Press, 2007.

[6] Nadège Rolland-Samé, Entre profane et sacré: Le rôle des bas-fonds New-yorkais dans les films d’Abel Ferrara, Université de Bretagne Occidentale, Article un Revue Français d’Études Américaines, CAIRN. INF, April, 2014, p. 120

[7] Marcel Bolle De Ball, Le sacré, Janus philosophie et sociologique, Université Libre de Bruxelles, Essachess, Journal For Communication Studies, Vo. 4, 2011, p. 26

[8] Stéphane Dufour et Jean-Boutaud, Figures du sacré, Presses Universitaire de Nancy – Éditions Universitaires de Lorraine, HAL, Archives-Ouvertes, Fr, 2013, p. 3

[9] Émile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieux, PUF, Paris, 1960, p. 50-51

[10] Mircea Eliade, Le sacré et le profane, Gallimard, 1965, p. 29-30

[11] يُقرُّ ميرسيا إلياد بأنَّ المقدس يتجلى لنا في أشياء دنيويَّة، على الرغم من التضاد والتباين الحاصل بين المقدس والدنيوي، الوجود واللاوجود، المطلق والنسبي، الأبدي والفاني، ولولا العالم الدنيوي لما تجلى لنا المقدس.

Mircea Eliade, Traité d’histoire des religions, Payot, Paris, 1953, p. 33

[12] Ibid, p. 3

[13] Jacques Etienne, L’homme et le sacré: Pour une clarification conceptuelle, In: Revue théologique de Louvian, 13ᵉ année, 1982, p. 8-9

[14] يبدو أنَّ التضاد والتابين الحاصل بين المقدس والدنيوي، يمثل الفكرة الأساسيَّة المحضة للمدرسة السوسيولوجيَّة الفرنسيَّة. وبموجب هذه الفكرة، فإنَّ المقدس والدنيوي يمثلان زوجان، ولكنَّهما زوجان متضادان ومتباينان. فالمقدس له أهميَّة بالغة في كيفيَّة تصور الدين، إذ بدونه يكاد لا يمكن تصور الدين، ومن ثم يصعب فهمه واستيعابه. انظر:

James Hastings, Encyclopædia of Religion and Ethics, Volume 3, Edinburgh: T. &. T. Clark, New York, 1908-1926, p. 231

[15] Mircea Eliade, The sacred and the profane: the nature of religion, A Harvest Book, New York, First Published, 1957, p. 10

[16] Éric de Montgolfier, Le silence, le secret, et le sacré, Points de Vue Initiatiques, Revue de la grande Loge de France, Publication trimestrielle, Décembre, 2010, p. 19

[17] محمد مزوز، فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص. 89ــ

[18] تنصب تعاريف الدين التي قدمها الباحثون في مسألة الدين، وخاصَّة الباحثون الفرنسيون المختصون في قضايا الدين على التضاد والتباين الحاصل بين المقدس والدنيوي، إلى درجة صار هذا التقسيم مدخلاً أساسيّاً لتوضيح الحقيقة الدينيَّة، وحتى السمة المميزة للفكر الديني يتم تبيانها باعتماد هذا التقسيم. انظر:

Jeffery Aubin, La religion, et l’opposition sacré et profane, dans les diuinae institutiones de Lactance: les limites d’une dichotomie moderne, op, cit. p. 228.

[19] Camille Tarot, Le symbolique et le sacré: théories de la religion, Éditions La découverte, Paris, 2008, p. 29

[20] محمد مزوز، فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري، سبق ذكره، ص. 90

[21] Roger Caillois, L’homme et sacré, Gallimard, 1950, p. 44

[22] Marcel Bolle De Ball, Le sacré, Janus philosophie et sociologique, op, cit. p. 19

[23] رينيه جيرار، العنف والمقدس، سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص. 435

[24] Roger Caillois, L’homme et sacré, op, cit. p. 51

[25] دانيال هيرفيو ليجيه وجان بول ويلام، سوسيولوجيا الدين: مقاربات كلاسيكية، يوسف طاهر الصديق، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، الطبعة الأولى، 2018، ص. 231ــ232

[26] Isabelle Buatois, Le sacré et la représentation de la femme dans le théâtre et de peinture symbolistes, Université de Montréal, Faculté des études supérieures, Département des Littératures se Langue Française, Canada, 2012, p. 47