جورج زيمل والسوسيولوجيا الحضرية


فئة :  مقالات

جورج زيمل والسوسيولوجيا الحضرية

جورج زيمل والسوسيولوجيا الحضرية

1- جورج زيمل: فيلسوف وسوسيولوجي ألماني

ولد جورج زيمل في برلين عام 1858، من أسرة ذات أصول يهودية، تحولت إلى البروتستانتية. وبعد دراسته الفلسفة بجامعة هامبولت ببرلين، ناقش أطروحته في موضوع: "طبيعة المادة في المونادولوجيا الفيزيائية لكانط"، وحصل على شهادة الدكتوراه على إثرها سنة 1881؛ إلا أن أنه لم يعين أستاذا رسميا بالجامعة، ويعود ذلك - حسب ما أشار إليه فيليب كابان- إلى أن كتابات زيمل كانت تنتقص من المعيار الجامعي. وعلى الرغم من ذلك، كان زيمل يلقي محاضراته بالجامعة مقابل أجور يتلقاها مباشرة من الطلبة. وانتقل من الفلسفة إلى السوسيولوجيا ابتداء من الموسم الجامعي 1893، وأسس، بعد ذلك، رفقة كل من ماكس فيبر وفرديناند تونيز "الجمعية الألمانية للسوسيولوجيا". وقد حمل زيمل، كما هو الأمر لدى دوركايم وفيبر، هَمَّ تأسيس السوسيولوجيا كعلم مستقل بموضوعه ومنهجه، وهو ما يفسر اهتمامه بإبستيمولوجيا السوسيولوجيا، على الرغم من أنه لم يترك كتابات كثيرة بشأن المنهج. ولأن جورج زيمل كان ينتمي إلى المدرسة التأويلية الألمانية التي تعدُّ مدرسة محاورة ومناقضة للتيار الوضعي على المستوى الإبستيمولوجي، ولأنه كان يركز على موقع الفرد في بناء الوقائع الاجتماعية، فإنه قد حصلت قطيعة بينه وبين دوركايم ومشروعه. ويعلق دوركايم على النزعة التجريدية التي تطغى على أعمال زيمل بالقول: "من الضروري السيطرة المنهجية على فعل التجريد وأن نميز بين الوقائع بحسب تحديداتها الطبيعية. وبدون ذلك فإن هذا التجريد سيتحول كليا إلى بناءات خيالية"[1]. هذا أمر من بين أمور أخرى أَخَّرَتِ الاعتراف بعضويته في الحقل السوسيولوجي، إلى أن يعيد عدد من السوسيولوجيين بمدرسة شيكاغو، كــ"ألبيون سمول" و"إزرا بارك"، القيمة لأعماله، ويصبح، كما عبر عن ذلك فليب كابان، "الأب المجهول للسوسيولوجيا التفاعلية"[2].

عاش زيمل في مدينة برلين أغلب فترات حياته وشاهدها، وهي تتحول من مدينة صغيرة إلى متروبول (مدينة كبرى)، وهو يقول عن ذلك - حسب ما ذكره حسن أحجيج، نقلا عن دايفيد فريسبي-: "إن تطور برلين من مدينة إلى متروبول في منعطف القرن يصادف أقوى لحظات تطوري وأكثرها كثافة"[3]. هذا ما يفسر، إلى حد ما، اهتمام زيمل بالحياة الحضرية في مؤلفات عديدة.

ومن بين ما ألفه جورج زيمل:

"فلسفة النقود"، و"المتربول والحياة الذهنية"، و"المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا"، و"الغريب"، و"الفقراء"، وعدد غزير من المؤلفات والمقالات الأخرى في الفلسفة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا.

2- سوسيولوجيا جورج زيمل:

اهتم جورج زيمل بتأسيس السوسيولوجيا علما مستقلا، كيف ذلك؟ ووفق أي منطلقات أنطولوجية (وجودية) وإبستيمولوجية (معرفية)، يناقش تأسيس هذا العلم؟

أولا، وقبل أن نتوجه إلى السوسيولوجيا الشكلانية لزيمل، أقترح عرضا عاما وموجزا للأسئلة التي تثيرها فلسفة العلوم الاجتماعية، حتى يتسنى لنا فهم أصول التفرعات المعرفية التي حصلت في تاريخ السوسيولوجيا؛ فالكثير منا (طلبة الإجازة) يسمع أو يقرأ عن النظريات الهوليستية والنظريات الفردانية، ولكن من أين أتت فعلا؟

تهتم فلسفة العلوم الاجتماعية بسؤالين أساسين: أولهما سؤال أنطولوجي (وجودي)؛ يعني أنها تتساءل عن طبيعة الموجودات، وأشكالها، والفروق بينها، وثانيهما سؤال إبستيمولوجي (معرفي)، غايته الوصول إلى المنهج الواجب اتباعه لأجل التفسير أو الفهم، وكذا البراهين المطلوبة لهذه الغاية، وإمكان تحقق الموضوعية من عدمه... وتجدر الإشارة إلى أن الإجابة عن سؤال المنهج مشروط، أولا، بالإجابة عن السؤال الأنطولوجي؛ فمثلا هل توجد المجتمعات مثلما توجد الجمادات؟ إذا كانت الإجابة بالنفي وأن وجودها مختلف، فإن طرائق معرفتها كذلك ستختلف. انطلاقا من هذا التوضيح اليسير، يمكننا أن نفهم الصراع الذي حصل بين المدرسة الوضعية التي راهنت على مناهج العلوم الطبيعية في تفسير الظاهرة الاجتماعية انطلاقا من البنى الكبرى، والمدرسة التأويلية المثالية التي ترى أن الظاهرة الطبيعية تختلف اختلافا أنطولوجيا عن الظاهرة الإنسانية، وأن المجتمع هو نتاج تفاعل الأفراد، ومن ثم، فإنها تقترح الفهم التأويلي أو التعاطفي، والمناهج التي تفي بغرض الفهم.

إذا كان الاتجاه الوضعي الكونتي يعتمد المقاربة العضوية، التي تعتمد الاستعارة البيولوجية، وتنظر إلى المجتمع كالكائن الحي الذي تعمل أعضاؤه لأجل استمراره وبقائه، وترى في نموذج التفسير في العلوم الدقيقة الأداة الأمثل لتفسير الظواهر الاجتماعية، والكشف عن القوانين التي تنتظم وفقها، فإن جورج زيمل ينطلق من تفاعل الأفراد، ويَعُدُّ المجتمع هو الاسم الذي يطلق على عدد من الأفراد المرتبطين فيما بينهم بواسطة التفاعل، وأن البنيات الكبرى، كالدولة والمؤسسات، ليست سوى تبلورات لهذا التفاعل، يقول حسن أحجيج في معرض حديثه عن سوسيولوجيا زيمل:

"لا يمكن إذن دراسة العالم الاجتماعي بنفس الطريقة التي يدرس بها العالم المادي، وبالتالي ليست مهمة السوسيولوجيا هي اكتشاف قوانين طبيعية تضبط السلوكات الاجتماعية. فالمجتمع حسب زيمل، يتكون من التفاعلات بين الأفراد، ويجب على السوسيولوجي أن يدرس أنماط هذه التفاعلات وأشكالها بدلا من البحث عن قوانين اجتماعية. وهذا ما يفسر اعتراض زيمل على مفهوم 'المجتمع'؛ لأنه يعتقد أنه ينتمي إلى الميتافيزيقا أكثر مما ينتمي إلى العلم الاجتماعي. وبذلك، فإن المجتمع بما هو كذلك ككيان في ذاته، لا وجود له؛ أي ليس هناك مجتمع يمثل الشرط الضروري لتحقق التفاعل الاجتماعي نظرا لأنه لا توجد تفاعلات في ذاتها، وإنما فقط أشكال نوعية للتفاعل"[4].

يرى زيمل، إذن، أن موضوع السوسيولوجيا هو أشكال الاجتماع (هناك من يسميها أشكال الجمعنة)، وهو يميز بين "شكل" الاجتماع و"مضمون" الاجتماع؛ فالمضمون يحيل إلى الدوافع البيولوجية والميول النفسية والمصالح والأهداف التي تحرك الأفراد، كالربح والحرب والعمل ... وأما الأشكال، فهي التشكيلات التي تنتج عن المضامين، وهي ما نسميه المؤسسات والبنيات الاجتماعية. نعطي مثالا على ذلك بالنظام الديمقراطي، بما هو شكل من أشكال الأنظمة السياسية، حيث يتم التنافس فيه على السلطة في دولة معينة، والمضمون هو الدوافع التي تحرك التنظيمات السياسية نحو السلطة، بل كذلك الفاعلين في تلك التنظيمات السياسية نحو هدف سياسي معين.

وقد وضع زيمل نماذج مثالية لأشكال الاجتماع، وهي:

- أشكال متصفة بالديمومة، كمؤسسة الأسرة أو الدولة؛

- أشكال مُشَكِّلة؛ تتشكل المؤسسات والتنظيمات تبعا لها (الصراع، التراتبية...)؛

- التشكلات؛ وهي الإطار العام للتنشئة الاجتماعية (السياسة والدين والثقافة ....)؛

- الأشكال العابرة (الطعام المشترك، العادات، الركوب في الباص ...).

حاولنا فيما سبق عرض الخطوط العامة لسوسيولوجيا زيمل؛ وذلك بغرض الانتقال إلى الحديث عن تصوره للمدينة والحياة الحضرية، ثم تأثيره في أبرز مدرسة سوسيولوجية اهتمت وتهتم بالتحضر والحضرية، هي مدرسة شيكاغو.

3- جورج زيمل وتحليل الحياة الحضرية:

في تحليله للحياة الحضرية، ينطلق جورج زيمل من أساس سيكولوجي هو تكثيف التحفيز العصبي لدى الأفراد، وهو ما يمكن عَدُّه مضمونا يرتبط بشكل الحياة الحضرية، على عكس الحياة في القرى أو المدن الصغيرة، حيث تجري الحياة الحسية والعقلية بشكل أكثر انتظاما ووفق إيقاع أبطأ. وأمام التسارع والزخم الذي تنزل به المدينة على الفرد، فإن هذا الأخير يقوم بمحاولات للتكيف مع نمط العيش المديني وبتفعيل آليات وقائية ضد الاجتثاث الذي يهدد وجوده، ومن ثم، فإنه لا يتفاعل مع معطيات الحياة اليومية بالعواطف بل بالعقل، والفرد، إثر هذا، ينشئ المسافة بينه وبين الآخرين حماية لذاتيته، بما يعني تعزيزا للفردنة، وهو ما يفسر، أيضا، سيادة ثقافة الموضوع؛ فمثلا عملية البيع والشراء تتم في المدن الكبيرة بين فرد وعلامة تجارية، على عكس العملية التجارية في المدن الصغيرة أو القرى، فإن العملية تفترض أن يكون طرفاها على معرفة ببعضهما البعض، وأن المنتج أو الصانع إنما ينتج لشخص يعرفه، الأمر الذي يقلص في المدينة من المعاملات الزبونية إلى مجرد تبادل بسيط، ورقم من أرقام كثيرة. وهذا المعطى يرتبط أيضا وانتشار العقلية الحسابية، في المتروبول كل شيء هو موضوع قياس؛ المواقيت المضبوطة، مثلا، هي أحد أكثر مميزات الحياة المدينية المرتبطة بالتنظيم المعقلن للحياة، فلا تخلو الساحات الكبيرة في المتروبولات (خصوصا مطلع القرن العشرين) من وجود الساعات الضخمة المعلقة، التي تذكر الأفراد بالوقت، وهي إذ تقوم بهذا فهي تؤثر في الشخصية الحضرية؛ فالحضري يعيش، إذن، وفق مواقيت منظمة للعمل، للنقل، للنوم، ولهذا آثار سنأتي على ذكرها. إضافة أيضا إلى أحد أهم خصائص الحياة الحديثة، بشكل عام، هو تقسيم العمل؛ فالمتربول هو مجال التقسيم الأكثر كثافة للعمل على عكس القرى (...).

وإضافة إلى ما سبق، يتحدث زيمل عن المعاملات النقدية التي هي تعبير عن التجريد، بما هي ثقافة سائدة في المدن؛ فالتحول من التعامل بالمقايضة إلى التعامل بالنقود، هو تحول من شكل ثقافي بسيط ومباشر إلى شكل آخر أعقد وأكثر تجريدا، يرتبط بشكل كبير مع ما سبق ذكره عن تنامي الفردنة والعقلية الحسابية.

إن هذه المقاربة التي اعتمدها زيمل في تحليل المدينة، ترى إلى المدينة أسلوب عيش وثقافة، يُشَكِّلها الأفراد وتُشكِّل نمط عيشهم، وأن الرهان الذي يحمله الفرد المديني هو مزيد من الحرية، حرية بمعناها الفردي والذاتي لا أكثر؛ فإذا كانت المدينة هي مجال الإبداع والتحديث المتواصلين، فإنها أيضا مجال السأم وظواهر الانتحار والأمراض النفسية، وهذا ما سماه زيمل تراجيديا الثقافة.

نضيف إلى ما ذكرنا عن المتربول إشارته أن مجموع المجتمع سيتمترل، أو المترلة (إحالة على المتربول) الشاملة للمجتمع؛ أي إن خصائص الحياة الحضرية والإنسان الحضري ستتسع وتمتد عبر المجتمع كله، فتبني قيمه وأسلوب عيشه. كان هذا في مطلع القرن العشرين، والسؤال اليوم هو هل لفكر زيمل عن الحياة الحضرية راهنية اليوم؟

لنا أن نعود إلى ذلك الأساس السيكولوجي الذي رأى فيه جورج زيمل المتغير المستقل الذي تنتج عنه كل مظاهر الحياة الحضرية، وهو "تكثيف التحفيز العصبي"، الذي يعني الكم الكبير للمثيرات الحسية الخارجية والاستجابات الداخلية اللازمة لها. ثم نقيس، بملاحظة يسيرة، وجودها مقارنة مع زمن زيمل قبل مائة وعشرين سنة، لنرى أحد جوانب الحياة المعاصر حتى تتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال. أغلب سكان العالم من البشر اليوم يحملون هواتف وشاشات يصطلح عليها "الذكية"، التي تُمكن من التسوق، التواصل، العمل، الترفيه... وتعمل بالإشعارات الصوتية وإشهارات الفيديو، ووفقا لخوارزميات تستطيع تحديد الأشياء المفضلة... وهو ما يعني أن الإنسان يعيش تكثيف النشاط العصبي أكثر من وقت زيمل، بل إن شكل الحياة المتربولية، بما هي مرتبطة بهذا المضمون وهذه الخصائص، قد أصبحت ملازمة لأغلب البشر من خلال الأسطح الرقمية، وأن ما يترتب عن نمط العيش "الحضري" من فردنة وعقلنة، وسأم ملازم، قد أصبح اليوم أسلوب حياة عالميا.

 

لائحة المراجع والمصادر:

  1. جورج زيمل، "الفرد والمجتمع- المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا". ترجمة وتقديم حسن أحجيج. دار النشر"رؤية".
  2. عبد الرحمان المالكي، "مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة." دارالنشر "أفريقيا الشرق".
  3. مجموعة من الباحثين. الفهم في العلوم الإجتماعية. تحرير حسن أحجيج، الفصل الثاني: الفهم عند جورج زيمل. المركز الأكاديمي للدراسات الإجتماعية، دار النشر "مؤسسة آفاق".
  4. فليب كابان، جان فرانسوا دورتييه. علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية أعلام وتواريخ وتيارات. دار النشر "كتابك للنشر والتوزيع."
  5. Georg Simmel. « Métropoles et mentalité » traduit de l’allemand par Philippe Fritsch.

[1]- عبد الرحمن المالكي. مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة. دار النشر "افريقيا الشرق".

[2]- فليب كابان، جان فرانسوا دورتييه. علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية أعلام وتواريخ وتيارات. دار النشر "كتابك للنشر والتوزيع."

[3]- جورج زيمل، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا. ترجمة حسن أحجيج

[4]- الفهم في العلوم الاجتماعية، تحرير حسن أحجيج، تأليف مجموعة من الباحثين. الفصل الثاني: الفهم عند جورج زيمل. حسن أحجيج. صادر عن المركز الأكاديمي للدراسات الاجتماعية، ومؤسسة آفاق.