جيل دولوز عربيًّا


فئة :  قراءات في كتب

جيل دولوز عربيًّا

كيف نقرأ دولوز؟ سؤال يطرح نفسه، بقوة، على كل قارئ، يريد اقتحام نصوص الفيلسوف؟ فكيف يمكن أن نكتب عنه بالأحرى؟ وهو سؤال نلفيه في مقدمة الكتاب.

وجب التنويه، أولًا، بمكانة الكتاب في المكتبة العربية، ذلك أنه من الكتب القليلة جدًّا، عن الفيلسوف الفرنسي، وهذا إن دل على شيء؛ فإنما يحيل على الصعوبات، المنهجية والفكرية، التي تواجه القارئ العربي، خصوصًا، عندما يهم بمطالعة كتب دولوز.

إن الكتابات حول فيلسوفنا قليلة جدًّا، لدرجة يمكن أن نعدها على رؤوس الأصابع، هذا إضافة إلى أن أغلب ما كُتب عنه، كان بدافع تعليمي ليس إلا، أضف إلى كل هذا: أن السواد الأعظم من الترجمات التي طالعتها، واطلعت عليها؛ إنما تفتقر لعدة منهجية، وفلسفية، ولغوية؛ فأين نحن من هذا المفكر أمام كتاب عادل حدجامي؟

يعتبر كتاب عادل حدجامي، في نظري، والحق يقال: أهم ما تم تأليفه وخطته الأيادي، حول الفيلسوف، هذا إن لم نقل: إنه الأهم على الإطلاق، يكفي أنه حاز جائزتين؛ الأولى عربية، والثانية وطنية، الكتاب، إذن، حجة لنفسه؛ فهو ليس في حاجة لمدحه، كما أننا لا نصبو، هنا، إلى المدح والإطراء والملء، بقدر ما نهدف إلى تأسيس الفراغ والانفصال.

يصعب عليَّ جدًّا، في واقع الأمر، تقديم الكتاب؛ فهو كتاب ملغوم، مثل فيلسوفنا؛ فمفاهيمه عديدة ومتعددة، وأطروحاته متداخلة ومتشابكة، وكتابته منهجية جد منظمة، تشبه، إلى حد ما، منهجيًّا ما كتبه إسبينوزا في كتابه الإيتيقا.

يمكن تقسيم الكتاب إلى قسمين أساسيين، على الرغم من أن الكاتب قسمه إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالمرجعيات الفلسفية، يحضر فيه برغسون بمفاهيمه: الحدس والديمومة والوجود، ثم إسبينوزا، والإيتيقا، وليبنتز بمفاهيم الطي، ثم كانط ومفاهيم الحس والملكة، ثم قسم ثانٍ؛ يضم فلسفة دولوز ومفاهيمه الأساسية التي أبدعها، وما يلاحظ هنا؛ هو غياب نوعي لديكارت وهيغل، رغم أن دولوز كان من أشد الخصوم لفلسفتهما. الجواب عن هذا الغياب، في نظرنا، هو: أن كل كتابات دولوز؛ هي، في صلبها، ضرب للهيغيلية والديكارتية، دونما الإشارة إليهما مباشرة (ص 252- 253).

مع كل، وأمام كل هذا، لا يمنعنا الأمر من الإطلالة على الكتاب، سأبدأ بما أبدأ به: بلغة الكتاب؛ إذ يشعر القارئ، أو على الأقل شعرت شخصيًّا، أن الكتاب عربي الفكر والتفكير، بمعنى؛ أن قارئًا لا يعرف جيل دولوز، سيعتقد للوهلة الأولى أنه أمام كتاب عربي، يكتب عن فكر عربي بشكل عام، كيف يمكن القول، إذن: إن الكتاب عربي الهوية؟

إنه على الرغم من الصعوبات الجمة التي يطرحها متن دولوز؛ لغويًّا، أو فكريًّا، ثم مفاهيميًّا، وهذا هو الأهم، إلا أنك لا تجد، كثيرًا، المفاهيم الدولوزية مكتوبة بلغتها الأصلية، بمعنى آخر؛ يشعر القارئ أن الكاتب بذل مجهودًا، مضنيًا وكبيرًا، في تبيئة المفاهيم الدولوزية عربيًّا؛ فنجد، مثلًا، وليس حصراً: المفهوم، والجذمور، والسيمولاكر، والبساط، والتكرار، والاختلاف، والحدث، ...إلخ؛ وهي مفاهيم جلها تم تعريبه، والآخر بقي على نطقه الفرنسي، لكن حدجامي من شدة ضبطه، وتمكنه من المتن الدولوزي، وسنعود لمسألة التمكن هذه، استطاع أن يجعل تلك المفاهيم مبيئة في التداول العربي، دليلنا في ذلك، هو: السلاسة اللغوية التي كُتب بها الكتاب، إن الأمر أشبه برواية فلسفية، قد يبدو التشبيه مجحفًا وتنقيصًا من قيمة الكتاب، لكنه، في واقع أمره، يجعل الكتاب حدثًا؛ بالمعنى الدولوزي للكلمة.

استطاع حدجامي أن يجعل دولوز عربيًّا، وأن ينطقه لغة عربية فصحى وسلسة، ويكاد القارئ، أمام هذا المقام، أن يتيه في النص لغويًّا؛ فيتناسى أنه حول فيلسوف، قال عنه فوكو: "إن عصرنا سيكون دولوزيًّا"، ضارباً عرض الحائط كل الصعوبات، التي يمكن أن تنال من الباحث في متن جيل دولوز، ولكن كيف يمكن لدولوز، على العسر الذي ذكرناه، أن يصير عربيًّا؟

يبدو أن حدجامي، قد أنهكته قراءة كتب دولوز، لدرجة أنه تماهى معها؛ فأصبح يفكر ويقرأ دولوزيًّا، أضف إلى ذلك، الكتابة عنه؛ فمن شدة ضبطه لمسارات فكر الرجل؛ المتعرجة، والملتوية، والمتناثرة، صار حدجامي دولوزيًّا، حتى النخاع؛ حيث صار الفيلسوف ينطق عربيًّا، بعبارة أخرى؛ من شدة تمكن حدجامي من النص الدولوزي خَانَهُ، حتى جعله عربيًّا، وهي خيانة مشروعة ومستباحة، وتستند على سند، فكري وفلسفي، يتمثل في التأويل، ذلك أن هذا الأخير، هو: خيانة؛ بل إنه قراءة على قراءة، وفكر على فكر أول، وتفكير على تفكير "أصلي"، وما ينفك هذا التفكير، أو الفكر، أو القراءة، يكشف عن نفسه، حتى يتوارى إلى الخلف.

لقد كان أغلب الألمان، ممن كان يطالع هيغل آنذاك، يعودون إلى ترجمة جون هيبوليت لكتاب "فينومينولوجيا الروح"، هكذا هو كتاب دولوز، لذلك؛ وصفته، في البداية، أنه يمثل حدثًا؛ فعوض العودة إلى المتن الدولوزي، هذا مع افتراض الإلمام الجيد باللغة الفرنسية؛ فإننا سنعود إلى كتاب حدجامي، وكأني بالقارئ العربي سيقرأ دولوز مقلوبًا، وهي الخيانة في أبهى حللها الفكرية؛ خيانة الأصل وتجاوزه، ولعل هذا ما يمنح الفكر رونقه، إن لم نَقُل أنه يحفظ بقاءه.

إن كتاب حدجامي: نسخة عن فكر دولوز، لكنها ليست نسخة متشابهة؛ بل متباينة، إنه سيمولاكر، ذلك أن السيمولاكر، حسب أفلاطون، هو: صورة شيطانية، تخلق فعل التشابه الخادع؛ لأنه، بكل بساطة، يحل ويفكك الهويات، وهي نفس الأسباب التي جعلت دولوز، يهتم بالسيمولاكر؛ فهو عندما يحلل الوحدات والهويات، يعبر عن فعل حياة (ص 202). السيمولاكر، نسخة بدون تشابه؛ فإذا كانت الأيقونة تكرر النموذج؛ فإن السيمولاكر يخونه، والخيانة، بهذا المعنى، نفخ في حياة النصوص، ومجاوزة لها، وهي أشبه بعملية قطع حبل السرة؛ فهي تفصل الطفل عن أمه، ليعود إليها من جديد، وليست الخيانة، هنا إذن، فعلًا شيطانيًّا، بقدر ما أنها تجعل النصوص حية وحيوية، حتى يمكن القول معها: إن كتاب حدجامي، كان من الخيانة والقدرة على التحويل، لدرجة أنه استطاع أن يقرب النص الدولوزي إلى القارئ العربي، ومن كثرة شروحاته وتفاصيله الدقيقة، جعل فكر دولوز أقرب إلى الفهم، حتى من نصوصه الأصلية، وكأني بقارئ أراد الإلمام بفكر دولوز، ما عليه سوى قراءة الكتاب، وتحضرني، في هذا المقام، قصة الشيخ الرئيس ابن سينا مع كتاب أرسطو؛ "ما بعد الطبيعة"؛ حيث يقول: "ثم عدلت إلى العلم الإلهي، وقرأت كتاب "ما بعد الطبيعة"؛ فما كنت أفهم فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا، وأنا، مع ذلك، لا أفهمه، ولا أفهم المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه"، لكنه ما إن قرأ كتاب الفارابي، في "أغراض كتاب ما بعد الطبيعة"، والذي اشتراه من سوق الوراقين، حتى فهم مغزى كتاب أرسطو، وتنطبق هذه الواقعة على القارئ العربي، وقد حدثت لي، فعلًا، حينما قرأت الكتاب أول مرة؛ ذلك أن متن دولوز يتسم بالتعقيد، والتشابك، والتشتت، لدرجة استغلاقه على الفهم، حتى أن القارئ العربي، لن يجد بُدًّا من العودة إلى كتاب حدجامي، لفهم متن دولوز، وكأني أتخيل ألقاب أرسطو؛ المعلم الأول. والفارابي؛ المعلم الثاني. تعاود الظهور مع دولوز وحدجامي. أمام هذا المعرض، لا سبيل لنا، إلا القول: إن كتاب حدجامي؛ هو نسخة متباينة عن فكر دولوز، وهو الاختلاف الذي يضم الهوية، وهو، في نفس الوقت، السيمولاكر؛ أي يخون التحديد، متمثلًا في فلسفة دولوز، ويذهب نحو اللاتحديد، ويقضي على التساوي، ويظهر التفاوت، إنه، دائمًا، إما أقل أو أكثر؛ فخاصيته هي اللاتشابه، كونه يَنِمُّ عن تنكر للتشابه، ومحوٍ للتساوي، وقضاء على التحديد، وإذا تأملنا الاختلافات، فسوف نجد أنها هي التي تتشابه؛ فنحن ندرك التشابه بين شيئين؛ لأنهما مختلفين، "لا يتخالف إلا ما يتشابه"، مثلما يقول دولوز؛ فالعيد يكرر نفسه، ليظهر بصيغة جديدة، وهو ما يمكن البدء فيه مجددًا، فصيغة التكرار، هنا؛ أنه إعادة مخالفة لما سبق.

كتاب حدجامي، بهذا المعنى، هو: تكرار لفكر دولوز، لكنه ليس تكرارًا هوياتيًّا (ص205)، وهو لا يركن للتشابه، ولا يحرص على الأمانة في النقل، ولا يحل محل شيء آخر؛ بل ينزاح نحو اللاتشابه، والانفلات، ونحو القضاء على الهويات المتطابقة، حتى بدا لنا الكتاب تكرارًا من دون هوية، ونسخة من دون تشابه، وعلى الرغم من أنه يحيل على كتب دولوز في الهوامش، إلا أنه، في واقع الأمر، يحيل إلى قراءة معينة لدولوز، متغايرة ومتباعدة؛ لكونه تضمين للتفردات الدولوزية المتخالفة، في صيغة تفردات حدجامية متناثرة، لنتأمل هوامش الكتاب، سنجدها مركزية؛ لأنها تحيل على دولوز، تحيل على ما كتب عنه الكاتب، لكنها تعاود الظهور فيما كُتب عنها، في متن/ هامش الكتاب، الذي نعطيه الأولوية هنا.

هكذا هو كتاب حدجامي، وهو يشبه فكر دولوز، لدرجة اختلافه وتباينه معه، ويلتحم معه، ويحل فيه، لكي يطلقه فيما بعد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية، عن حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: شيخنا أبو حامد، ابتلع الفلاسفة؛ فأراد أن يتقيأهم، فما استطاع، ونحن نقول: ابتلع عادل حدجامي فكر دولوز، فأراد أن يتقيأه؛ فلفظه بعيدًا جدًّا.

إن الكتاب عبارة عن جذمور بلغة دولوز، وهو العشب المستنبت على جوانب الشجرة العملاقة، لذلك؛ فالجذمور: هو نقيض الشجرة، على أن النقيض، هنا، لا يعني عند دولوز: الضد. والجذمور، ليس نفيًا للشجرة؛ بل يقلب فقط علاقة العلية التي بينهما (220)، كما أن النقطة، ليست نفيًا للخط؛ فالخط: هو علة النقطة، والجذمور: جسم بلا أعضاء، وتلاقٍ بدون تركيب؛ أي لا تراتبية، ولا مركز، ولا أطراف، ولا حدود، ولا إحالات، كونه مجرد تجميع لتعددات وتباينات متباينة، فعوض أن تكون الأعضاء، هي ما يكون الجسم، يصبح التلاقي في الجسم، هو ما يكون الأعضاء بعديًا، مما يفتح الجسم على إمكانيات الحياة.

الجذمور، إذن، هو: ما يكوِّن الحياة، وما يعطي للشيء ماهيته ووجوده الذاتي، وهو الهامش الذي يؤسس المركز؛ فيصبح، هذا الأخير، تابعًا للأول، وليس العكس. لنتخيل شكل الدائرة؛ إنها جوفاء في مركزها، لكن ما يكونها مجموعة من الهوامش؛ الهامش، بهذا المعنى، يبعث الحياة في الشيء. كتاب جذموري، إذن، يخون الشجرة؛ لأنه خرج منها، ونبت بجانبها، ولا يهم مستوى الخيانة، بقدر ما يهمنا أن الكتاب تجاوز الأصل، وتباين معه، وجعله مثل الكبت الفرويدي؛ الذي يتوارى ويتستر، لا لكي يتخفى ويختفي؛ بل لكي يعاود الظهور بصيغ متباينة ومختلفة.

الجذمور مثل الحدث، أو لنقل: هو إحدى نتائجه، والحدث، عند دولوز، هو: تلاقي أو اصطدام بين سلسلتين، يطرأ عليهما تغير معين (209)، ومن طبيعة هذا الاصطدام؛ أي الحدث: أنه لا يحمل أية دلالة أو معنى؛ لأنه هو المعنى نفسه، وهو سطح لا عمق فيه، كون العمق دلالة ميتافيزيقية، بينما السطح: هو ما يشكل الحدث. لنتذكر مقولة نيتشه عن الفلاسفة الإغريق، "لقد كانوا سطحيين من شدة عمقهم"، ومع دولوز، يبقى السطح هو ما يحدد المعنى، أو بلغة دقيقة: منطق المعنى (210). السطح محايثة، لذلك؛ كان دولوز معجبًا كثيرًا بليبنتز: الذي تعبر فلسفته عن هندسة للسطوح ونسيج للبساط، بدل صروح للثيولوجيا، وسلالم للميتافيزيقا.

إن كتاب عادل حدجامي، ليس كتابًا شارحًا فقط، هذا على الأهمية الكبيرة التي يحملها إلينا الشرح، إنه لا يقرأ دولوز ليفك رموز متنه، ويحاول أن ينفذ إلى أعماق النص، لإدراك حقيقته، ونقل معناه بأمانة، لا تحضر هذه الثنائيات في فكر كاتب الكتاب؛ بل إنه لا يميز بين النص وكاتبه، منتجًا، بذلك، النص بشكل مغاير، في صورة متباينة عما قيل في متن الفيلسوف، ونظرية الكتابة هذه، تتجاوز ميتافيزيقا الكتابة، التي تتصور أن عملية الكتابة: هي حفظ وصون للمعنى الحقيقي، وهي مسألة أخلاقية، يَنظر إليها الكاتب أو الشارح من منظور الأمانة، على العكس من ذلك؛ تتجاوز الكتابة الفيلسوف ومتنه، تتجاوزه لتعيد إليه الحياة من جديد، لهذا السبب، ولوحده فقط، صار دولوز يتكلم اللغة العربية مع كتاب حدجامي.

كان فوكو قد نبَّه إلى خصائص التأويل المعاصر مع فرويد وماركس ونيتشه، معتبراً أنه تأويل مخادع، لا يؤمن بالرموز كدلالة على المعنى والحقيقة؛ بل يقول: إن كل كتابة هي نوع من التأويل، بمعنى؛ أن الكتابة في صيغتها الأصلية، حسب العبارة الميتافيزيقية، ما هي إلا تأويل من درجة معينة، لذلك؛ نلْفي في نص حدجامي، فصولًا حول دولوز، وإسبينوزا، وهيوم، وليبنتز، وبرغسون؛ أي إن الكاتب/ الخائن، كتب حول كتابة كتبت عن كتابات أخرى؛ فهي كتابة من الدرجة الثالثة، وتأويل داخل تأويل: تأويل دولوز لسبينوزا، وليبنتز، وهيوم، وبرغسون، وتأويل حدجامي لتأويل دولوز لهؤلاء، ولا تغدو الكتابة، في هذا المقام، مجرد شرح أمين ونقل للمعنى الحقيقي، بقدر ما هي تأويل للعلامات والرموز المتوارية والخفية.

كتاب حدجامي، بهذا المعنى، هو: كتاب مجاوزة للأصل، هذا إن كان هناك أصل، وتشتيت للمعنى وقذفه بعيدًا، وهو التشظي الذي يحمل قراءة مغايرة، تريد الانسلاخ عن الذات، والخروج من جلباب الأب، قراءة لا تؤمن بالماهيات والمعاني الأصلية، لذلك؛ لا نلفي في الكتاب، تلك النزعة التي تدعي الفهم الصحيح والجيد، بدل فهم سيء ومغلوط، وهي مقاربة تأويلية للوجود؛ الذي تملؤه التفردات والأحداث غير الدالة؛ التي تأتي بديلًا عن الثنائيات الميتافيزيقية، الساكنة والجامدة، وهو وجود متنافر ومختلف، يقدم المعنى دون أن يكون محملًا بالمعنى؛ لأنه ليس إلا حركة الاختلاف والتكرار.

لا يسعى الكتاب إلى إثبات حقيقة ما؛ ذلك أن "حقيقة" الحقيقة: هي كونها صيرورة للفوارق الافتراضية، فما يوجد في النهاية، هو حقيقة على شاكلة رمية النرد، بمعنى؛ أنها ليست برهانية، ولا إحالية، ولا تطابقية في ذاتها حتى؛ بل إنتاجية وإبداعية، وهي مفعول الفكرة والمفهوم، ذلك أن حقيقة الأشياء تقاس بقوة أثرها في الحياة.

في متن الكتاب:

يُعرَف جيل دولوز على أنه مؤرخ للفلسفة، بمعنى؛ أنه صاحب نظرية في كيفية التأريخ للفكر (ص11)، بيْد أن تأريخ دولوز للفلسفة، ليس تأريخًا خطيًّا أو أفقيًّا؛ بل إنه يؤرخ للفلسفة من منطلق فلسفي (ص11)، وتأريخ دولوز للفلسفة، لا يهتم بنقطة بداية أو نهاية، كما أنه لم يهتم، إطلاقًا، بالأسئلة الفلسفية التقليدية، حول ما إذا كان، مثلًا، نيتشه ينتمي إلى تاريخ الميتافيزيقا، أم أنه استطاع تجاوزها؛ فهو يهتم بالفلاسفة الذين ينتمون لتاريخ الفلسفة، ولكنهم ينفلتون من إحدى جوانبه، ويزيغون عنه، فينزوون إلى الهامش، أو يخرجون منه كلية، مثل؛ برغسون، وإسبينوزا، ونيتشه، وهيوم، وليبنز.

تاريخ الفلسفة ليس تاريخًا موحدًا، ولا متجانسًا، إنه تاريخ متقطع ومنفصل، تسود فيه الفراغات والهوامش، أكثر من الامتلاء والمركز، وهو تاريخ للتكرار، ينتج أوجه التشابه بوسائل مخالفة تمامًا.

لهذه الأسباب؛ يهتم دولوز ببرغسون، كفيلسوف للاختلاف والمحايثة (ص16)، على أن أهم مفهوم أثار انتباه دولوز؛ هو الحدس البرغسوني، وإذا كان الحدس الديكارتي يدرك الفكرة الواضحة المتميزة والعقلانية؛ فإن الحدس البرغسوني أو الدولوزي، يدرك الوجود دون شرائط للمعرفة، أو مقولات جاهزة؛ فهو يدرك الديمومة كما تتجلى في الوجود (ص16)، والديمومة هي نوع من التغير الأنطولوجي، الذي لا يدرك بمنطق الثبات والحساب (ص22)، إنها حركة حية لا تقبل التكميم.

أما اهتمام دولوز بهيوم؛ فيعود إلى بداياته الفلسفية الأولى، حينما ألف كتابًا حوله في فترة كان الفكر الفرنسي يهتم كثيرًا بهيغل، وهوسرل، وهيدغر، فجاء كتابه حول هيوم نشازًا تامًّا بالفعل، مردُّ هذا الاهتمام، إلى كون تجريبية هيوم، لا تعبر فقط عن الوقوف على حدود التجارب؛ بل إن التجريبية بالنسبة إلى دولوز، هي التوجه الذي ينظر إلى التجارب، بما هي إمكانات؛ أي التفكير الذي ينكب على الشروط القبلية لكل معرفة، دونما الاستناد إلى أية مرجعية معينة (ص28)؛ فكل موجود عند هيوم، هو صادر عما يتجاوزه، ولا شيء يحصل في الداخل؛ بل كل شيء في الخارج (ص29).

أبدع جيل دولوز جملة مفاهيم، تركت بصمتها على الفلسفة المعاصرة، من بينها، نجد؛ المفهوم أو الأفهوم، والزمان، والاختلاف، والسيمولاكر، والهوية، والتكرار، والجذمور، ...إلخ، ومن المعلوم: أن دولوز يُعتبر فيلسوف المفهوم، وأنه يعتبر أن الفلسفة: هي إبداع المفاهيم، كما هو مشاع؛ فالفلسفة تبدع المفاهيم لبعث الحركة في الفكر، وتحرير الممكن الحي في التجربة، وتقريب العقل من الوجود والحدث؛ فالمفاهيم عبارة عن أحداث وأفراد، والسبب الذي يجعل الفلسفة تبدع المفاهيم: هو التخلص من المفاهيم الجامدة، والثابتة، والماهيات، ودخولها إلى منطق المعنى، كما يتحدد عند نيتشه (ص146)، لا يعبر المفهوم الدولوزي عن الوحدة؛ بل عن التعدد، ولا يعبر عن التشابه؛ بل الاختلاف، كما أنه لا يهتم بالمركز؛ بل بالهامش والأطراف، ولِنقل بالجذمور؛ أي حقل ترابط محايث لذاته، ولا يأتي المفهوم جوابًا عن الماهية؛ بل عن الكيف، كونه يجاور المكونات ولا يجمعها (ص147).

يعبر مفهوم الزمن، عند دولوز، عن العادة والتكرار؛ فالأنا الحاضرة في الزمن، ليست سوى إعادة وتكرار لذاتها، داخل العادات البسيطة والصغرى، التي تكسر بنية الزمن، والحاضر لا يعبر، مع دولوز، عن ما هو موجود؛ بل عما مضى، والذات التي تشكل الحاضر توجد في الماضي، فما نحياه تجريبيًّا كتعاقب للحاضر، هو، في العمق، مستويات جزئية من الماضي، تتزايد وتتحقق في تركيب هذا الحاضر المنفعل (ص189).

إن زمن دولوز ليس زمنًا مترابطًا خطيًّا؛ بل إنه زمن بدون حركة، يتمثل الماضي في الحاضر، إنه زمن العود الأبدي، زمن التنافر والاختلاف والتباين، إنه العود الذي يعود بطريقة أخرى؛ أي عودة الاختلافات بما هي تكرار، فالاختلافات، هي وحدها، ما يعود (ص194)، لذلك؛ فدورة الزمن تعبر عن الوجود المشترك للكل، وهو ما يحفظ للاختلاف، من حيث هو تكرار منزاح، ماهيته، كونه تعدد وتغاير لأدوار متزامنة.

من بين النتائج التي قدمت نفسها كبديهيات في تاريخ الفلسفة، نجد؛ التقابل الشهير بين الحقيقة والخطأ، فإذا كانت العقلانية الديكارتية، قد افترضت شيطانًا ماكرًا، يخدع العقل ويضلله عن الصواب، وحاولت أن ترفعه، وتجعله حالة استثنائية؛ فإن دولوز، يرى أن الخطأ ما هو إلا صورة عن الحقيقة، كما اعتبرها نيتشه؛ أي مجموعة من الأوهام والاستعارات، التي نختارها انطلاقًا من مجموعة من القيم الوهمية، وما ينطبق على الحقيقة، ينطبق على الخطأ؛ فلا وجود في الفكر لإرادة طيبة، تحاول تجاوز الخطأ، والخطأ يصبح كذلك؛ لأنه أُريد له ذلك، وفقًا لظرفية معينة، كما أن الحقيقة، ليست، كما كان متداولًا، نقيضًا للخطأ، ولا تراكم معرفي من أجل تجاوز النقص؛ بل إنها إنتاج وإبداع، ومفعول لقوة الخطأ (ص160)، ذلك أن الخطأ حامل لقوة إثبات، والتفكير في ماهية الحقيقة، يمر بالضرورة عبر التفكير في ماهية الخطأ؛ فتاريخ الحقيقة ليس، في واقع الأمر، سوى تاريخ مكبوتاتها؛ فهي لا تظهر نفسها إلا لكي تحجبها، ولا تحضر إلا بقدر ما تتيه وتضل، ويرى نيتشه، أن الحقيقة تخفي خداعها في المجاز؛ فالمعنى ليس سوى المجال التفاضلي، الذي تتناحر فيه التأويلات والقراءات.

انطلاقًا من هذا المنطلق؛ ينتقد دولوز الأنا الديكارتي، ويعتبر أن الذات التي تبدو لنا واحدة ومنسجمة، ما هي، في الواقع ووفق منظور منطق المعنى، ذات مشتتة، وهي: تركيب ينحل إلى ذوات متعددة، وعليه؛ فإن الأنا مجرد توليف ظرفي، وعبور وإحساس دائم بهذا العبور (ص230)؛ أي مجرد تحقق في الصيرورة، فالكوجيطو الديكارتي، ليس هو "الأنا أفكر"؛ بل "أنا أصير"، وأتعدد، وأتوالف، وأتفرد، بفعل قوى تتجاوزني (ص231)، والذات، كما يرى إسبينوزا، ليست مادة يسكنها جوهر؛ بل خريطة، ومعيار قياس لما يتعين، ويقتضي الأمر إذا مجاوزة للذات، وتقويض للكوجيطو، لكن هذا التجاوز والتقويض، لا يعنى الاهتمام بالغير أو التاريخ؛ بل يعني الطريقة التي يتحدد بها الموجود، إنه حركة لتوليد الفوارق، والتباينات، والاختلافات، لهذا كانت الذوات؛ هي ما يتغير في طبيعته عند التلاقي، وما يتخالف مع ذاته بمفعول الأثر؛ فالذات تركيبة جغرافية، وليست نشأة تاريخية متواصلة، إنها تركيب انفصالي، وتفردات متنافرة، لا تتواصل إلا لكي تتباعد، ولا تلتقي إلا لكي تتفرق.

لم ينصب اهتمام دولوز، فقط، على فلسفة الذاتية الديكارتية؛ بل طال حتى الفلسفات التي اعتبرت نفسها لا ديكارتية، وهي فلسفة فرويد، ويصنف فرويد على أنه؛ مفكر انتفض ضد الوعي الديكارتي، لكن فرويد، حسب دولوز، أخطأ في مقاربة مفهوم الرغبة، وحصره في مجال السيكولوجيا فقط؛ فهو عوض أن يقرأ الرغبة وفق منطق تعددي، يستحضر العالم في كليته (ص38)، يعمد إلى حصر المفهوم في كل ما هو سيكولوجي ضيق، وليست الرغبة، عند دولوز، وليدة اللاشعور باعتباره خزانًا، كما أنها ليست نقصًا وجب إشباعه؛ بل إنها حركة لا ترد إلى نقص أو حاجة، ولا تهدف إلى غاية، ولا تنصب على موضوع محدد، ولا تتعلق بفرد، ولا تقبل تأويلًا، أو تنظيمًا، أو تنظيرًا من الخارج، كما أنها ليست مخزنة في اللاشعور؛ لأن هذا الأخير ليس خزانًا؛ بل هو حركة ما تنفك تعمل وتنتج، إنه مثل الحدث الذي لا يمكن فهمه برده إلى الماضي، كما يرى فرويد. اللاشعور بساط لا سمك له، وسطح لا عمق له، وتوليف لا إحالة تسكنه، إنه ترحال دائم؛ لأنه لا يريد التأجيل، و"الرُّحل هم المعمرون"، كما يقول )توينبي (Toynbee؛ إنهم رُحَّل؛ لأنهم يرفضون الرحيل بعيدًا.