حدود الحدث والفعل والعمل في النص القرآني


فئة :  مقالات

حدود الحدث والفعل والعمل في النص القرآني

إنّ البحث في الدلالات المتصلة بمصطلح "الحدث"، يتطلّب منّا تبيّن حدّ "الحدث" في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وعلى وجه الخصوص في نصّها التّأسيسيّ، إذ نجد تداخلا بين مصطلحات ثلاثة هي: "الفعل"Effet و"العمل" Actions و"الحدث" Evénement، ممّا يُوجب علينا إماطة اللّثام عن الفروق الدّلاليّة الّتي تفصل بينها.[1]

إنّ مبحثنا شديد الاتصال بقضايا المصطلح في بعديْه الاصطلاحيّ والمصطلحيّ. زد على ذلك ما نجده من تقاطعات بين كلّ مصطلح والمصطلحات الأخرى، وذلك في مستوى الدّلالات الفكريّة والفلسفيّة، ممّا يؤكّد متانة الصّلة بين مبحثنا والمباحث اللّغويّة والفلسفيّة.

إنّ مصطلح الحادث يُنبئ عن صلة وثيقة بين عالم الغيب/ الإرادة وعالم الشّهادة الّذي يُعدّ فضاءً لتحقّق تلك الإرادة

أ - الحدث

إنّنا لحظة التّصديّ لمصطلح "الحدث" نكون قد ألزمنا أنفسنا بالبحث في بنيته وخصائصه وأنساقه، في حين نكون مع"العمل" إزاء الذّات الّتي تقوم بالعمل وآثاره في سائر الذّوات. ونحن إذا ما عدنا إلى"القرآن"، وجدنا مادة (ح، د، ث) تحضر ستا وثلاثين مرّة في صيغ صرفيّة متنوّعة، للدّلالة على معان عديدة، منها الدّلالة على الكلام المنطوق شفويّا،[2]ومن أشكاله (أَتُحَدِّثُونَهُمْ- تُحَدِّثُ، حَدِيْثٌ، أَحَادِيْثٌ)، وللدّلالة على الأمر الجديد الّذي لا سابق له، وذلك في قوله في سورة الأنبياء 21/2:" مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ" وللدّلالة على وقوع أمر ما،[3] وذلك في قوله تعالى في سورة الطّلاق 65/1:"...وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا".

أمّا في كتب اللّغة والتّفسير وكتب التّعريفات، فنجد تعريفات عديدة لمشتقّات مادة (ح، د، ث)، مثل"الحَدِيثُ نقيضُ القديم والحُدُوث نقيضُ القُدْمَةِ حَدَثَ الشيءُ يَحْدُثُ حُدُوثاً وحَداثةً وأَحْدَثه هو فهو مُحْدَثٌ وحَديث [...] وفي الحديث إِيّاكم ومُحْدَثاتِ الأُمور جمعُ مُحْدَثَةٍ بالفتح، وهي ما لم يكن مَعْرُوفاً في كتاب ولا سُنَّة ولا إِجماع [...]الحادِثُ المُنْكَرُ الّذي ليس بمعتادٍ ولا معروف في السُّنَّة [...] والحديثُ الجديدُ من الأَشياء والحديث الخَبَرُ يأْتي على القليل والكثير والجمع أَحاديثُ [...] قال الفراءُ نَرى أَن واحد الأَحاديث أُحْدُوثة ثم جعلوه جمعاً للحَديث قال ابن بري ليس الأَمر كما زعم الفراءُ لأَن الأُحْدُوثةَ بمعنى الأُعْجوبة يقال قد صار فلانٌ أُحْدُوثةً؛ فأَما أَحاديث النبيفلا يكون واحدها إِلا حَديثاً ولا يكون أُحْدوثةً،"[4] ولدى المفسّرين" الْمُحْدَثُ: مَا أُوجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ [...] وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَرُبَ عَهْدُهُ مَحْدَثٌ، فِعْلاً كَانَ أَوْ مَقَالاً ".[5]أمّا"الحادث [فـ]ـما يكون مسبوقا بالعدم، ويُسمَّى حدوثا زمانيّا، وقد يعبّر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير ويُسمَّى حدوثا ذاتيّا."[6]

من الواضح أنّ محاولة اللّغويين ترمي إلى التّمييّز بين ثلاث دلالات: الأولى دلالات إيجابيّة (الجدّة، والأحاديث النّبويّة)، والثّانيّة دلالات سلبيّة(البدعة والحدث المنكر الّذي يتنافى وأوامر الشّرع والّذي لا سابق له). أمّا الدّلالة الثّالثة، فهي دلالة محايدة كالإشارة إلى الجنس الأدبي المعروف لدى القدامى بـ"الخبر"، أو إثارة العُجب وجعل النّاس يتفطّنون إلى مواطن الطّرافة في الشّخص أو في الحدث.

أمّا الشّريف الجرجانيّ، فقد عالج مصطلح "الحادث" من منظور وجوديّ يقرب إلى حدّ كبير من التّصوّر الفلسفيّ الإسلاميّ السّائد في عصره - وقبله-، إذ ميّز بين ضربين من ضروب الحادث، هما "الحادث زمانيّا" و" الحادث ذاتيّا"؛ فالأوّل مطلق مَبنيّ على عدم سابق؛ والثّاني حدوث يحتاج فيه الإنسان إلى"الغير" كي يتحوّل من حيز القوّة إلى حيز الفعل. فالتّعريف الثّاني يمكن تخصيصه للفعل البشريّ دون الفعل الإلهيّ.

 "القرآن" كان حريصا على إبراز دور الإنسان في تحديد مصيره باختيار عمله

ونحن إذا ما وَصَلْنَا هذه التّعريفات بالمواضع القرآنيّة المُتعلّقة بالدّلالة على وقوع أمر ما - رغم قلّتها- نكتشف بيسر نِسبة الحدث إلى اللّه دون البشر أو الملائكة أو الجنّ أو الشّياطين من جهة، واعتبار الحديث فعلا إلهيّا بالدّرجة الأولى/الوحي، ففعلا بشريّا بالدّرجة الثّانيّة من جهة ثانية، أضف إلى ذلك ما نجده من سمات متباينة تلتصق بمصطلح"حدث" أو أحد مشتقّاته لحظة اتّصاله بهذه الذّات أو تلك، على أنّ الحدث بما هو فعل يتحقّق في الوجود يظلّ سمة من سمات اللّه دون غيره، فهو القادر على الإتيان بالجديد الطّريف حدثا محسوسا، أ كان معجزة أم غيرها، ذلك أنّ من المعاني الّتي علّقها العرب بجذر(ح،د،ث) أنّ "الْمُحْدَثُ: مَا أُوجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ [...] وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَرُبَ عَهْدُهُ مَحْدَثٌ، فِعْلاً كَانَ أَوْ مَقَالاً."[7]

إنّ مصطلح الحادث يُنبئ عن صلة وثيقة بين عالم الغيب/ الإرادة وعالم الشّهادة الّذي يُعدّ فضاءً لتحقّق تلك الإرادة، زد على ذلك أنّ سائر المصطلحات المشتقّة من مادة(ح، د، ث) تظلّ شديدة الاتّصال بالمعاني القرآنيّة، فـ"للحديث"صلة بـ"القرآن"فهما يشتركان في صفة النّصّ، وهما شكلان من أشكال الكلام والتّأليف، وهما متّصلان من جهة الوظيفة والمقصد، فـ"القرآن" سمّي حديثا لكونه إخبارا وإعلاما بالغائب والمجهول، ولكونه يروم الإنذار والتّحذير ودفع النّاس إلى التّسليم، وفي المقابل يكون"الحديث النّبويّ" ترجمانا لما جاء في"القرآن" غامضا مبهما.

ب- العمل

ترد مادة (ع، م، ل) في" القرآن" بكثافة، وذلك في أكثر من ثلاث مئة وخمسين موضعا، وقد وردت أغلب هذه المواضع في صيغ الأفعال التي جاءت في صيغ زمانيّة ثلاث:(الماضي، المضارع، الأمر)، وقد كانت الصّيغة الأولى الأكثر حضورا، وقد اقترنت بالإنسان مفردا وجمعا، الأنبياء (آدم...) والنّاس العاديين والأقوام المعادين للأنبياء. أمّا الصّيغة الثّانية، فقد اقتصرت على قصص الأنبياء والرّسل، وقد دلّت في أغلب الأحيان على زمن الماضي، إذ كثيرا ما يُسبق الفعل بالنّاسخ الفعليّ "كان" أمّا الآيات الّتي لا تحتوي على النّاسخ الفعليّ "كان" فإنّها تتمحض للدّلالة على زمن مطلق غير محدود في قدمه أو في آتيه.

وما يجب الإشارة إليه في هذا المجال أنّ "القرآن"يَعتبر العمل صفة للمخلوقات- لاسيما البشر-، إذا ما استثنينا الآية الواحدة والسّبعين من سورة يس، وفيها قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ".

  الجامع بين العملين هو حريّة الإنسان وقدرته على تحديد مصيره وتوفّر الاختيارات لديه

وقد نسب فيها الـ"عمل" إلى أيدينا الّتي تعود على الذّات الإلهيّة، وأيّا كانت طبيعة الإسناد على جهة الحقيقة أم على جهة المجاز، فإنّ فعل"عَمِلَتْ" دال على الخلق، أضف إلى ذلك أنّنا نجد في بعض المواضع الـ"عمل" يُنسب إلى الجنّ والشّياطين،[8] على أنّ"العمل" بما هو فعل واع يُقصد به كسب الخيرات أو جلب الشّرور للآخرين، يظلّ سمة من سمات البشر بالدّرجة الأولى، وهو فعل يحمل في ثناياه دلالات عديدة تؤكّد مسؤوليّة الإنسان عن مصيره، وتبرز دوره في هذا الوجود، فالعمل"كُلّ فِعْلٍ يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانٍ بِقَصْدٍ."[9]

ويبدو أنّ "القرآن" كان حريصا على إبراز دور الإنسان في تحديد مصيره باختيار عمله، ذلك أنّه قد نعت الأعمال بالصّالحة حينا،[10] وبالسّيئة حينا آخر[11]من جهة، وقرن بين الفعل الصّالح والفوز بالجنّة[12] أو الهلاك في النّار بالنّسبة إلى فاعليْ السّيئات من جهة ثانية.[13] وقد حرص- القرآن- على اعتبار العمل عاملا محدّدا لمصير الإنسان في الآخرة،[14] وتأكيد قدرة اللّه على تبيّن طبيعة أعمال البشر، ذلك أنّ اللّه قد نعت نفسه بـ"البصير"[15] و"الخبير"[16] و"المحيط"[17] و"العليم"[18] في ما يتعلّق بالعمل البشريّ.

إنّ من شأن المقابلة بين"أصحاب الأعمال الصّالحة "و"أصحاب الأعمال السّيئة" أنْ تحثّ النّاس على التّوبة،[19]والثّبات على الإيمان.[20] وتنفّرهم من العمل المشين الّذي بَيَّنَ "القرآن" مصدره بقوله في سورة المائدة في الآية التّسعين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".[21]

إنّنا إزاء عملين عمل الشّيطان وعمل الإنسان الصّالح، وبين العملين مسافات لا تُقاس ولا تُحدّ؛ فالأوّل مُهلك فيه صدٌّ عن سبيل اللّه؛[22] أمّا الثّاني فاتباع للصّراط السّوي ونجاة من الهلاك، على أنّ الجامع بين العملين هو حريّة الإنسان وقدرته على تحديد مصيره وتوفّر الاختيارات لديه، فإذا بالعمل سلوك وممارسة بشريّة واعية متّصلة بعالم الآخرة. وفي لسان العرب لابن منظور، نقرأ:"العَمَل المِهْنة والفِعْل والجمع أَعمال عَمِلَ عَمَلاً وأَعْمَلَه غَيرهُ واسْتَعْمَله واعْتَمَل الرّجلُ عَمِلَ بنفسه [...] وأَعْمَلَ فلان ذِهْنَه في كذا وكذا إِذا دَبَّره بفهمه وأَعْمَل رَأْيَه وآلَتَه ولِسانَه [...] وحديث عائشة رضى الله عنـها قلت: فذراريّ المشركين؟ قال: هم من آبائهم، قلت: بِلا عَملٍ، قال: الله أَعلم بما كانوا عاملين، وقال ابن المبارك فيه: إِن كل مولود إِنما يُولَد على فِطرته التي وُلد عليها من السعادة والشقاوة وعلى ما قُدِّر له من كفر وإِيمان؛ فكلٌّ منهم عامِلٌ في الدنيا بالعمل المشاكل لفِطْرته". وقد" زعمَ بعضٌ من أئمّةِ اللُّغَة والأصولِ أنّ العمَلَ أخَص من الفِعلِ [...و] لا يُنسبُ [ الفعل] إلى الله تَعالى [...] لأنّــ[ــه...] قد يُنسَبُ إلى الحيَواناتِ التي يقعُ منها فِعلٌ بغيرِ قصدٍ وقد يُنسَبُ إلى الجَمادات والعمَلُ [...] العمَل: حَرَكَةُ البدَنِ بكُلِّه أو بَعْضِه وربّما أطلِقَ على حَرَكَةِ النَّفسِ، فهو إحداثُ أمرٍ قَولاً كانَ أو فِعلاً بالجارِحَةِ أو القَلب لكنّ الأَسْبَقَ للفَهمِ اختِصاصُه بالجارِحَة وخَصَّه البعضُ بما لا يكون قَولاً ونُوقِشَ بأنّ تخصيصَ الفِعلِ به أَوْلَى".[23]

إنّ الأحاديث النّبويّة الّتي ضمّنها ابن منظور تعريفه وما أُلحق بها من تعليقات تروم الكشف عن معانيها، تقدّم فهما جديدا للعمل، فهو ما كان سيقع لو امتدت حياة الإنسان"لأَن الله تعالى قد علم أَنهم لو بَقُوا أَحياءً حتّى يَكْبَروا لعَمِلوا عَمَلَ الكفَّار"، على أنّ تعريف ابن المبارك يكشف عن دور الفطرة في تحديد عمل الإنسان؛ فالعمل البشريّ من هذا المنظور محكوم بخلفيّات ثقافيّة ووجوديّة تتّصل بالفضاء الّذي ينشأ فيه الإنسان، معنى ذلك أنّ العمل بما هو اختيار واع يتحدّد وفق إرادة الفرد، ولكنّه يظلّ مع ذلك ترسيخا لقيم المجموعة الإثنيّة أو العرقيّة، وما تعارفت عليه من سنن وتقاليد. أضف إلى ذلك ما ذكره من كون العمل يتعلّق بالجانب الذّهنيّ، في حين أشار صاحب"تاج العروس" إلى أنّ العمل اسم جامع للفعل والقول، وقد أتبع ذلك بذكر موقف معارض يرفض اعتبار العمل اسما جامعا للفعل والقول، وفي كلتا الحالتين لا يذكر الأسباب الّتي جعلت هؤلاء أو أولئك يتّخذون هذا الموقف أو ذاك.

إنّ موقف الزّبيدي دال على وعي واضح بوجود فروق دلاليّة بين" العمل" و"الفعل"، بيد أنّ هذا الوعي ظلّ في حيز التّفكير النّظريّ، فمن الواضح أنّه لم يستطع اتّخاذ موقف واضح – وليس المطلوب من المُعجميّ اتّخاذ موقف واضح من التّعريفات الّتي يسوقها عن الأسلاف والسّابقين-.

ج- فعل

يُعَرّف أبو هلال العسكري في كتابه "الفروق" الفعل بأنّه ما" قَدْ يُنسب إلى الحيوانات الّتي يقع منها فعل بغير قصد، وقد ينسب إلى الجمادات." إنّ تعريف العسكري رغم وعيه الواضح بوجود فروق دلاليّة بين المصطلحيّن - اعتماد حضور القصد أو غيابه معيارا للتّصنيف- فإنّه يظلّ مناقضا لما ورد في "القرآن"، إذ تنسب فيه مادة (ف، ع، ل) إلى الإنسان وإلى اللّه على قدر السّواء؛ ففي سورة البقرة في الآية الثّالثة والخمسين بعد المائة الثّانية، نقرأ: "فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ"، بل إنّ "الفعل" من أكثر الصّفات الخاصة بالذّات الإلهيّة؛ ففي الآية الثّامنة بعد المائة من سورة هود وفي الآية السّادسة عشرة من سورة البروج، نجد استخداما لصيغة المبالغة "فَعَّالٌ" منسوبة إلى اللّه:"فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ."

 القيمة الرّئيسة للفعل تتمثّل في المُنجَزُ لا المُنجٍزُ/ الفاعل

ومن المعلوم أنّ صيغة المبالغة دالة على كثرة القيام بالفعل وتواتره من قبل ذات واحدة أو مجموعة معينة، زد على ذلك أنّنا وجدنا مادة (ف، ع، ل) وبعض مشتقّاتها منسوبة إلى الأنبياء، مثل إبراهيم، إذ قال له ابنه الضّحيّة لمّا أعلمه بأمر ذبحه" يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ." وقد اتّصف بهذه السّمة أصحاب الأعمال الحميدة،[24] على أنّنا وجدنا نفس المادة ومشتقّاتها دالة على أفعال وصفات منبوذة.[25]

وفي كتب اللّغة "افْتَعل عليه كذباً وزُوراً؛ أَي اختلَق وفَعَلْت الشّيء فانْفَعَل، كقولك كسَرْته فانكسَر وفَعالِ قد جاء بمعنى افْعَلْ"لسان العرب، فالصّيغة الصّرفيّة غير دالة على معنى معيّن، بل إنّنا متى تأمّلنا ذكر الأفعال في "القرآن" وجدناها مبنيّة للمعلوم حينا،[26] ومبنيّة للمجهول حينا آخر، وفي تلك المراوحة بين الشّكلين إشارات إلى أنّ القيمة الرّئيسة للفعل تتمثّل في المُنجَزُ لا المُنجٍزُ/ الفاعل.[27] إنّنا نميل إلى استخدام مصطلح "الحدث"، ذلك أنّ من المعاني الّتي تعلّقت به في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة الإتيان بالجديد المُستطرف المُستظرف، ونحن إذا ما تأمّلنا مُتخيّل الوقائع في النّصوص المقدّسة، وجدنا أغلبه من هذا الفصيل، زد على ذلك ما عُرّف به المُحدث من كونه الفعل المنبوذ؛ فنحن إذا ما عدنا إلى قصص الأنبياء والرّسل في النّصوص المقدّسة الثّلاثة، وجدنا جملة من الوقائع المُتخيّلة قائمة على البدعة لاسيما ما أتاه أهل السّحر.

إنّ الأمرين المشار إليهما يدفعان بنا إلى اعتماد مصطلح "الحدث" بدلا من مصطلحيْ "الفعل"و"العمل" لما يتوفّر فيه من معان تتماشى وطبيعة الوقائع المُتخيّلة الّتي نشتغل عليها. أضف إلى ذلك أنّ ما انتهت إليه الدّراسات السّرديّة المعاصرة من اعتبار"نظريّة العمل السّرديّ، إنّما هي فرع من نظريّة العمل العامة، إلاّ أنّها تهتمّ بنوع خاص من الأعمال هي تلك الّتي انقضى زمان إنجازها وتحقّقها، فأضحت أحداثا événement لا يمكن الكلام عليها إلاّ بواسطة الأقاويل السّرديّة".[28]

وهو تصوّر يوافق التّصوّر الدّينيّ للحدث بما هو ما تمّ تحقّقه في عالم الواقع بفعل الإرادة الإلهيّة، وبالنّظر إلى جملة من الوقائع المُتخيّلة الّتي احتضنتها النّصوص المقدّسة، وما امتازت به من جدّة وطرافة، مثل المعجزات والخوارق، فإذا بالحدث هو ما يجمع بين الواقعيّ والمُتخيّل ذهنيّا أو حسيّا في عالم الأعيان أو في عالم الأذهان.

* عبد الباقي الهنداوي باحث مغربي


[1] تناول قريرة (توفيق): المصلح النّحوي وتفكير النّحاة العرب، سلسلة لسانيّات، دار الحامي وكلية منوبة، ط 1، تونس، 2003، ص 26 ص28 مواقف اللّغويين من "الحدث"و" الفعل"، فإذا بالفعل شامل للحدث والعمل، وقد اعتبر بعض النحاة الحدث سمة للأسماء والأفعال. وفي الحقيقة نشير إلى مواقف اللّغويين باعتبارها مواقف تعكس وعي العرب القدامى بالفروق الدّلاليّة بين المصطلحات.

[2] سورة الأحزاب33/53 وسورة التّحريم 66/3.

[3] ورد جذر (ح، د، ث) مصدرا "الحديث" للدّلالة على الحلم في سورة يوسف في قوله تعالى:" رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ". وقد أُطلق اللّفظ أيضا للدّلالة على" القرآن" في مواضع عديدة : سورة الطّور52/34، سورة النّجم53/59، سورة الجاثية45/6، سورة النّساء4/87]، وللدّلالة على الآية والحجّة والبرهان، في قوله تعالى:" فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ." سبأ 34/19 وللدّلالة على الموعظة في قوله تعالى في سورة المؤمنون23/44:" ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ" وللدّلالة على الإخبار والإعلام في قوله تعالى في سورة الزّلزلة 99/4:" يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا" وللدّلالة على الثّناء والاعتراف بالفضل والجميل في قوله تعالى في سورة الضّحى93/11 :" وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"، وللدّلالة على "القرآن" في قوله تعالى في سورة الكهف 18/6 :" فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" وفي قوله تعالى في سورة الطّور 52/ 34 :" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ"، وللدّلالة على الخبر أو القصّة في قوله تعالى في طه 20/9 وفي سورة الذّاريات 51/24 "هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى" وفي سورة النّازعات 79/15 :" هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ".

وفي هذا الإطار، يتنزّل ما قام به الرّاغب الأصفهاني (ت 396 هـ) في المفردات في غريب القرآن، دار قهرمان للطباعة والنشر والتوزيع، استانبول تركيا، 1986، مادة (ح، د، ث) إذ انطلق الرّاغب في تعريفه لمشتقّات المادة من" القرآن"، وأبرز ما يلفت الانتباه في تعريفه للحدث والحديث اعتباره أنّ " كُل كَلاَمٍ يَبْلُغُ الْإِنْسَانَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ أَو الْوَحْيِ فِيْ يَقَظَتِهِ أَوْ مَنَامِهِ يُقَالُ لَهُ: حَدِيْثٌ" ومن شأن هذا الفهم أن يوسع دلالات الحديث، فكلّ اتصال بين عالميْ الغيب والشّهادة في تصوّر الرّاغب قائم على كلام مسموع أو على إشارة فكلمة "وحي" المستخدمة في تعريف الرّاغب تقوم مقابلا دلاليّا للسّمع.

[4] ابن منظور (جمال الدّين): لسان العرب، دار صادر، ط 1، بيروت لبنان، 1997، مادة ( ح،د ،ث)،(سبق ذكره)، ج2، ص37.

[5] الأصفهانيّ (الرّاغب): المفردات في غريب القرآن ، (سبق ذكره)، ج2، ص103.

[6] الجرجاني(علي محمّد الشّريف):كتاب التّعريفات، مكتبة لبنان، بيروت لبنان، 1978، ص 85.

[7] الأصفهانيّ (الرّاغب): المفردات في غريب القرآن ،( سبق ذكره)، ج2، ص103.

[8] سورة سبأ 34/12 وسورة الأنبياء 21/82.

[9] الأصفهانيّ (الرّاغب): المفردات في غريب القرآن ،( سبق ذكره)،ج5، ص59.

[10] سورة البقرة2/277 وسورة النّساء 4/124.

[11] سورة النّساء 4/123و سورة هود11/46

[12] سورة مريم 19/60 وسورة غافر40/40.

[13] سورة التّوبة 9/18.

[14] سورة الكهف 18/110.

[15] سورة الحديد 57/10.

[16] سورة الحديد57/4.

[17] سورة هود11/92 وسورة آل عمران 3/120

[18] سورة المؤمنون 23/51 وسورة النّور 24/28.

[19] سورة القصص 28/67-80 وسورة الفرقان 25/71.

[20] سورة سبأ34 /37.

[21] نجد إشارات أخرى تؤكّد صلة الشّيطان بالعمل السّيئ، وذلك أثناء سرد بعض أحداث قصّة موسى "وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ". اُنظر كذلك سورة الأنفال8/48 وسورة النّحل 16/63.

[22] سورة العنكبوت 29/38 وسورة النّمل 27/24

[23] الزّبيديّ الحنفيّ) محمّد مرتضى الحسيني الواسيطي) : تاج العروس في جواهر القاموس،تحقيق صاحي عبد الباقي، مراجعة عبد اللّطيف محمّد الخطيب، المجلس الأعلى للآداب والفنون والثّقافة، ط 1، الكويت 2001، مادة (ع،م،ل)، ج30، ص65.

[24] سورة الرّوم30/44-48.

[25] مثل سورة النّساء 4/ 30 وسورة المائدة 5/90 وسورة القصص28/15وسورة الأنفال 8/48 وسورة النّحل 16/63 وسورة النّمل 27/ 24 وسورة العنكبوت 29/38.

[26] سورة الأعراف 7/155 و173

[27] سورة الأحقاف 46/9 وسورة سبأ 34/54

[28] راجع خضر(عادل): العمل السّرديّ ضمن أعمال ندوة المعنى وتشكّله، منشورات كلّيّة الآداب بمنّوبة، تونس 2003،ج 1، ص395. ويشير صاحب المقال في ص 421 أنّ بول ريكور قد ذهب إلى أنّ"العمل[هو] القصد والدّافع والوسيلة والغاية. أمّا الحدث [ فهو] ما وقع دون إدراك أو غاية أو مقصد".