حرية المعتقد في معادلة الدين والتاريخ والفقه: نحو أنموذج إرشادي جديد


فئة :  مقالات

حرية المعتقد في معادلة الدين والتاريخ والفقه: نحو أنموذج إرشادي جديد

حرية المعتقد في معادلة الدين والتاريخ والفقه:

نحو أنموذج إرشادي جديد


مقدمة:

يتّجه الخطاب التشريعي لأي دين من الأديان إلى استنباط القانون المنظم للإنسان في علاقته بالله وعلاقته مع أخيه الإنسان وعلاقته بالكون، وفق فهم الفقيه الذي يتأثر بالسياق الثقافي الذي يعيش فيه، والسقف المعرفي لعصره الذي يؤطر مسلكياته الفقهية والنظرية. تبعاً لذلك خلف العقل الإسلامي إرثاً معتبراً من الفقه في مجالات مختلفة؛ اجتماعية وتشريعية، سعياً منه إلى ترتيب علاقة الناس وفق مقتضيات الوحي، ومراعاة للظروف الاجتماعية وتقلبات أحوال الناس. وقد جهد العقل الفقهي الإسلامي لمواكبة متغيرات الإنسان والتوفيق بينها وبين مقصود عبادة الله تعالى، فظهرت بالتالي منظومة فقهية لكل قطر وكل طائفة. رغم ذلك ظلّ سؤال فهم النص وتحقيق غايته الكونية والإنسية هاجساً مستمراً لدى المفسرين والفقهاء، والبحث عن جواب لأسئلتهم بعيداً عن التراث الفقهي الذي ظلّ محصوراً ومخصوصاً لترتيب علاقة الإنسان بخالقه في العبادات والمعاملات.

إنّ أحد القضايا الأساسية ضمن المنظومة التشريعية الإسلامية ما يخصّ المخالف الديني، وهو ما عُرف في الفقه الإسلامي بـ: "أهل الذمّة" أساساً، وتأتي أهميته من جانبين:

الأول: ما يعيشه الواقع المعاصر من تحولات واختلاف واقتتال، حتى أصبح العيش ضمن فئة مختلفة مذهبياً وطائفياً أمراً صعباً، وهي الحالة التي تعيشها بعض الأقطار العربية والإسلامية، وكذلك وضعية الأقليات الدينية فيها وما أصبحت عليه، ومحاولة البعض توظيفها في الصراع السياسي بدل تقديم أنموذج ثقافي مستوعب للآخر بعيداً عن الأدلجة.

الثاني: ما فرضته متغيرات العولمة من إعلام وتكنولوجيا وتواصل وتقريب الأقطار والدول والقارات وانتقال الإنسان بشكل دائم وسريع، وهو ما يعني سهولة التعايش ضمن مجموعة بشرية مختلفة ثقافياً ودينياً، يفرض ذلك تجاوز العوائق الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية لمواكبة حركية الواقع وتأطيرها ضمن رؤية موحدة لا تلغي الأبعاد الثقافية الدينية للشعوب بقدر ما تغني الرصيد الحضاري الإنساني.

إذا كان الأمر كذلك، فهل الأحكام التي تنظم عبادة الأفراد والجماعة في المنظومة التشريعية الإسلامية قادرة على استيعاب المخالف الديني، والأقليات غير المسلمة التي تعيش في كنف الدولة الإسلامية؟ وإلى أي حد استطاعت المنظومة الفقهية في تجربتها التاريخية أن تعكس روح القرآن في حرية العقيدة والمعتقد؟

يمكن الاستدلال على فرضيات هذه الدراسة من خلال المحاور الآتية:

1ـ مطلب حرية العقيدة في أجوبة فقهاء القرن التاسع عشر الميلادي بالمغرب.

2ـ بعض ردود المغاربة تجاه مطلب حرية الأديان بالمغرب في القرن التاسع عشر الميلادي، من خلال وثيقة موضوعاتية.

3ـ الحرية الدينية وفق الرؤية القرآنية.

1ـ مطلب حرية العقيدة في أجوبة فقهاء القرن التاسع عشر الميلادي بالمغرب

أثار تواجد الطائفة اليهودية في عدد من المدن والمراكز الدينية المغربية جدالاً بين فقهاء القرن التاسع عشر الميلادي، خاصة في ما يتعلق ببعض الحقوق الدينية لهذه الطائفة؛ كجواز بناء الكنائس والإقرار بحرية المعتقد بشكل عام في بلاد المغرب، واستفادة أهل الكتاب من بعض الحقوق المدنية، ومطالبة اليهود بالإقرار بإقامة حوار الأديان في بلاد المغرب. وهذه الإشكالات التي طرحت على العقل الفقهي للقرن التاسع عشر تكشف جزءاً مهمّاً من الأسس الفكرية وبنية التفكير التي تعالج بها، ويمكن مقارنتها مع خطاب اليوم في هذا الشأن، وتلمّس مدى قدرة الخطاب الفقهي والفكري المغربي على الإسهام في تجاوز بعض الإشكالات الدينية، وبحث تقريب التعايش الديني والإنساني. وتنطلق هذه المقالة في بناء استنتاجاتها واستدلالاتها المعرفية من وثيقتين تاريخيتين: الأولى متعلقة بسؤال من أبي حسون إلى القاضي السكتاني، والثانية تخصّ مذكرة ظهرت في مغرب القرن التاسع عشر بواسطة اليهودي ذي الجنسية الإنجليزية موسـى مونتفيـوري (Moses Montefiore) (1784-1885)[1] الذي وفد على المغرب عام 1280هـ/1864م، وحظي بمقابلة السلطان محمد الرابع.

إنّ البحث في قضايا حرية المعتقد ومنهج تعامل العقل الفقهي لمغرب القرن 19م معها، مدخل لفهم منهجية التفكير الديني ومدى إسهام الفقهاء في تطور المعرفة الدينية في تلك الفترة، وبيان المنظور الفكري الذي يحكمهم في التعامل مع المخالف الديني، كما تقدّم لنا مجمل الوثائق الدينية لتلك الفترة أرضية مهمة للوقوف عند إسهامات الفقهاء في تقدم منهج البناء المعرفي من عدمه في مجال قضايا الفكر الديني الإسلامي.

2- فتوى في جواز بناء الكنائس بالمراكز المغربية وسؤال الحرية الدينية

تعتبر فتوى[2] قاضي الحمراء أبي عيسى السكتاني[3] أحد النماذج التي تعكس المتغيرات الدينية التي عرفها المغرب في القرن التاسع عشر، ذلك أنّ طائفة من اليهود اتخذوا مدينة إيليغ[4] مسكناً لهم "فأسّسوا فيها كنيسة لهم يؤدّون فيها شعائر دينهم، فحدثت بعد ذلك محاورة بين الفقهاء فيما إذا كان يجوز إحداث كنيسة جديدة في بلاد إسلامية أم لا، فمنهم من مال إلى أنّ ذلك معمول به منذ الفتح الإسلامي في كل المدن الإسلامية المحدثة على أيدي المسلمين، فكم بلدٍ محدثٍ أسّست فيه الكنائس! ومنهم من أصمّ أذنيه وأبى أن ينقاد، فتضاربت فتاوى الجزوليين، فرفع الأمير سؤالاً في الحادثة إلى قاضي الحمراء سيدي عيسى السكتاني السوسي" فأجابه في الموضوع".[5]

وهو عبارة عن سؤال رفع من جانب أبي حَسْوَن[6] إلى القاضي أبي مهدي السكتاني في شأن مدينة إيليغ دار رياسته ومقر عزّه يستفتيه في إحداث كنيسة اليهود بها هل يجوز أم لا. وممّا جاء في جواب أبي عيسى قوله: "فرأيت أنّ الصواب فيها "الفتوى" بمنع إحداث أهل الذمّة الكنائس فيها وبهدم ما بني فيها بعد إحداثه، وتعليله على ذلك قوله: "أنّ إيليغ من بلاد الإسلام ولا فيه شبهة لأهل الذمّة الطارئين عليه".. ـ إلى أن قال -: "والحاصل أنّ وجه دخول اليهود إيليغ معلوم، وأنّ بلده ملك للإسلام فبناء اليهود فيها الكنائس معصية وتمكينهم منه إعانة عليها، وهذا لا يخفى، وأما الجواز والإفتاء به في النازلة فبمعزل عن الصواب والاستدلال على الجواز بحواضر المغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لا يتم لأنّ أصل تمكينهم من الكنائس مجهول، إذ يحتمل أموراً منها أنه يحتمل أن يكون بعهد كان لهم في غير تلك البلاد من إقرارهم على بلد يسكنونه مع بقائهم على متعبداتهم ثم نقلوا لمصلحة اقتضت ذلك، أو أرجح لأنّ البلاد تقدم فيها اليهود وغيرهم من أهل الصلح، والحاصل أنّ وجه دخولهم مجهول في هذه البلاد بخلاف إيليغ ونازلة إيليغ معلومة الدخول فبينهما بون فقياس إحداهما على الأخرى لا يصح."

ومن خلال ما تقدّمه الوثيقة من أجوبة؛ فإنّ فقهاء هذه المرحلة ستكون لهم مساهمة قوية في تشكيل الأمر والحسم فيه في قضية حرية المعتقد، كما أنّ هذه الفتوى من جانب أبي مهدي السكتاني، تكشف عن بنية التفكير الديني خلال القرن التاسع عشر، وتبرز مدى اندراج فقهاء المرحلة ضمن أسئلة الهويّة الدينية الوطنية ومطلب حرية المعتقد، وهو ما يسمح لنا برصد نوعية المقاربة الفكرية التي يقدمها الفقهاء في قضايا متعلقة بحرية المعتقد والآراء الدينية بشكل عام، ومدى قدرتها على التعاطي مع الأسئلة العقدية في ضوء المنهج القرآني.

فالوثيقة ـ في جواب أبي حسون السكتاني- تستند في تعليلها إلى الحرص على حماية المعتقد الديني للمغاربة بما يقتضيه موقعهم الاجتماعي، والإفتاء بمنع بناء كنيسة بإيليغ إنّما يستوجبه - في نظر أبي مهدي- عدم أحقية اليهود في السكنى في البلاد المغربية، وسنده في ذلك ما جاء في أحاديث من منع إحداث الكنائس في بلاد الإسلام التي نذكرها فيما يلي:

1 ـ ما جاء عن حديث عمر بن الخطاب، قال رسول الله: "لا تُحدثوا كنيسة في الإسلام ولا تُجددوا ما ذَهَب منها".

2 ـ قال ابن عدي وبإسناده قال: قال رسول الله: "لا تُبنى كنيسة في الإسلام ولا يُجدد ما خرب منها".

3 ـ والحديث الذي أورده الترمذي في: "باب ما جاء ليس على المسلمين جزية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله: "لا تصلح قبلتان في أرض واحدة وليس على المسلمين جزية"[7]

4 ـ ما رواه مالك عن ابن شهاب: أنّ رسول الله قال: "لا يجتمع دينان بجزيرة العرب"[8]

في حين أنّ النص القرآني والسيرة العلمية للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرّا بأحقية أهل الذمّة وأهل الكتاب في ممارسة شعائرهم الدينية يقول الحق تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[9] إنما استثنى الله تعالى المحاربين فأعقب الخطاب بقوله/ (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[10]

وهنا إشكالية الدعوة لحرية المعتقد في نصّ الكتاب الخاتم، ومنعها في الخطاب الفقهي التاريخي من خلال منع بناء الكنائس التي جاء منعها في نصّ الوثيقة المذكورة. ومن بين القضايا التي أجّجت الخلاف بين فقهاء سوس موقف الأمير أبي حسون السملالي، عندما سمح لليهود ببناء كنيسة في فناء الحي الذي خصّه لهم في مدينة إيليغ الجديدة، واتخاذ مقبرة خارجها لبُعد مقبرة اليهود القديمة بإفران،[11] وقد دافع الفقهاء الموالون للأمير ما استطاعوا تبريراً لعمله الذي أثار امتعاضاً لدى السكان، لكنّ حجج خصومهم كانت أقوى وعزائمهم أشد".[12] وبهذا ففتوى عيسى السكتاني جاءت قاضية بمنع إحداث متعبد اليهود في إيليغ باعتبارها بلداً إسلامياً حديثاً كما نصّ على ذلك فقهاء المالكية.([13]) كما اضطرّ السلطان المغربي في بعض الأحيان إلى إصدار بعض الظهائر لحماية بعض حقوق الطائفة اليهودية، ففي سنة 1272هـ/1862م حصل الاتحاد الإسرائيلي ومقره بفرنسا على حق إنشاء مدارس يهودية بالمغرب.

إنّ الأساس الذي بنت عليه فتوى أبي حسون أسسها النظرية الفقهية لإصدار أمر منع بناء الكنسية ينسجم مع أطر التفكير المذهب المالكي، ذلك أنّ الإجابة بـ: "لا" في الوثيقة من خلال البحث في سنده المرجعي والمذهبي، تبيّن أنّ هاجس حماية الهويّة الدينية الوطنية كان حاضراً في المسلكيات الفقهية لتلك المرحلة، وهو ينسجم كذلك مع الإرث الديني الذي تسنده الأحاديث النبوية؛ لكن الإشكال الرئيس في جواب الوثيقة: كيف التوفيق بين ذلك وبين ما جاء في النصّ القرآنيّ؟

I. بعض ردود المغاربة تجاه مطلب حريّة الأديان بالمغرب في القرن التاسع عشر الميلادي، من خلال وثيقة موضوعاتية

عرف المغرب، أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، تحولات عميقة أثرت في نسقه السياسي والاجتماعي، ومن بينها ما عُرف بـ "أزمة تطوان"، يوضح الأستاذ محمد المنوني، ذلك في كتابه القيم "مظاهر يقظة المغرب الحديث" بقوله: "بعد عام 1276هـ/1860م صار من ذيول أزمة تطوان: ظهور أشكال من الاقتراحات الإصلاحية "المزعومة" الواردة من الخارج، وكان من أغربها طرح إشكالية "حرية العقيدة بالمغرب"، وهو مطلب ظهر ـ للمرة الأولى - بواسطة اليهودي ذي الجنسية الإنجليزية: السير موسى مونتفيوري، فوفد على المغرب عام 1280هـ/1864م، وحظي بمقابلة السلطان محمد الرابع، حين قدّم له مطلب حرية ليهود المغاربة."[14] وأورد الناصري تعليقاً على هذا الاقتراح يقول فيه: "واعلم أنّ هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعاً، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأساً"، وبعدما حلل هذه الأمور عقب قائلاً: وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك إن شاء، لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة المرسلة إلا في شيء واحد هو إعطاء الحق لإنسان آخر مثله فلا يجوز له أن يظلمه وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه".[15] وقد أشار عبد الوهاب بن منصور إلى أنّ مؤتمر مدريد المنعقد 1297هـ/1880م عرف تدخلاً مماثلاً، جاء فيه هذه المرّة بمبادرة من الكاردينال نينا كاتب الدولة في الفاتيكان، فوجّه للمؤتمر بواسطة سفير النمسا مذكرة بشأن حرية المعتقد في المغرب.[16] إلا أنّ محمد المنوني رجّح أن تكون هذه المذكرة تعقيباً على الوثيقة التي طرحها اليهودي السابق الذكر، ويتعزّز هذا القول بغياب نصّ مذكرة الفاتيكان، وكذلك ما قام به أعضاء مؤتمر مدريد، حيث تبنّوا هذه المذكرة، وبعثوا بها ـ باسمهم- إلى السلطان الحسن الأول. فكانت ضمن المراسلات المتبادلة بين النائب محمد بركاش والسلطان حين انعقاد المؤتمر. ويؤكده ما جاء في بداية الوثيقة "الحمد لله، اجتمع أجناس النصارى، وكتبوا كتاباً أجابهم عنه قاضي الجماعة مولانا محمد عام 1297هـ)، وهو تاريخ انعقاد المؤتمر نفسه الذي يوافق سنة 1880م."[17]

v أهم المطالب الدينية التي جاءت في الوثيقة:

من أهمّ المطالب الدينية التي جاءت في الوثيقة نذكر ما يلي:

1- إنّ البابا يطلب إجراء حرية الأديان في المغرب.

2- تستند المذكرة في مطلب حرية المعتقد إلى ظهير السلطان محمد الرابع لمن تسميّه الوثيقة المغربية بموشي، وهو السير موسى مونتفيوري، والظهير ورد نصه عند محمد الناصري في الاستقصا.

3- إنّ هذا الظهير لم يتحقق تطبيقه بتمامه، ولم تقع مساواة جميع الرعية في الحقوق والتشريع.

4- إنّ السلطان العثماني منح الحرية لغير المسلمين في بلاده، ممّا يدل على أنّ هذا المبدأ متوافق مع الدين الإسلامي.

v أجوبة الوثيقة المغربية على مطالب حرية الأديان في المغرب:

قدّمت الوثيقة المغربية جملة أجوبة عن المطالب التي تقدّمت بها مذكرة مونتفيوري، وبذلك فهي تقدّم طابع التفكير الوطني خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتجلي لنا مواقف الفقهاء والعلماء من حرية المعتقد بالمغرب.

أوّل جواب ابتدأت به الوثيقة هو: المطالبة بإجراء حرية الأديان في المغرب. وقد ورد فيها: "...فحرية الأديان بالمعنى المعروف عند من قال بها، والحالة المقرّرة الشهيرة عند أربابها: خارجة عن الدين بالدليل والبرهان، مضادة له كما لا يختلف فيه اثنان، فلا سبيل إلى العمل بها، وإلا بطلت الشريعة ولم يبق تعويل عليها".[18] وبذلك يرفض الفقهاء السماح بإجراء حريّة الأديان، بالمفهوم الذي تطالب به المذكرة، معتبرين ذلك خروجاً عن الشريعة. وفي المقابل تقرّر الوثيقة إجراء حريّة ممارسة الشعائر، جاء في إحدى فقراتها: "وقول الكتاب إنّهم ليست لهم حرية التصرّف في دينهم، وها هم في كنائسهم في مواضع سكناهم يفعلون ما أرادوا، ولم نسمع أنّ أحداً قطّ تعرض لهم في أمر دينهم: أعيادهم وأنكحتهم ومعاملتهم ممّا عوهدوا على عدم التعرض لهم فيه، ولا مشوش عليهم في شيء من ذلك".[19]

لقد أقرّ الفقهاء لهم بحق ممارسة شعائرهم الدينية، في حين أنّ حرية الأديان جعلت الفقهاء يتخذون منه موقفاً رافضاً للسماح بذلك، ويمكن قراءة موقفهم وتحليله من خلال وضعه في سياقه السياسي والفكري، إذ لم يألفوها من قبل، ثم إنّ مصطلح (حرية الأديان) شكلّ لديهم حمولة دينية تروم التسوية بين الأديان، وهذا من الإشكالات المفهوميّة التي لم يتعامل معها العقل الفقهي المغربي في تلك الفترة. لذلك التجأ الفقهاء إلى الاحتماء بسلطتهم العلمية والدينية للوقوف في وجه مبادرة السلطان العثماني ومحمد الرابع فكان من جوابهم: "إنّ العلماء حكام على الملوك، والأمراء حكام على الناس، فتصرفات الملوك تعرض على الشرع، فما وافقه منها يقبل ويعتمد، وما لا فلا، إذ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ، كما ورد".

وعن المساواة في الحقوق والتشريع: تقول الوثيقة: "وأمّا أمر المساواة أمام الشريعة: فإن كان المراد من ذلك التسويّة أمام الشريعة: بحيث لا يفضل ـ أياً كان- على أحد، ولا يلحق البعض من البعض ظلم ولا جور: فهذا أمر جاءت به شريعة الإسلام، ولم يزل معمولاً به من أول الإسلام حتَّى الآن...".

علّق محمد المنوني على هذه الردود بقوله: "يمكننا أن نستنتج من هذه الفقرة والنماذج قبلها، طابع التفكير الوطني خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبالضبط لدى جماعة العلماء. فالوطنيّة توجّه وجهة إسلاميّة صرفاً، وتواجه التدخلات الأجنبية بمصادمتها لواقع التشريع الإسلامي. كما كانت سياسية الدولة تدعّم بأفكار منتزعة من السياسة الإسلامية. وفي هذا الاتجاه يحالفهم النجاح أحياناً، كواقع هذه الوثيقة لمّا تعلن أنّ الملوك مسؤولون أمام العلماء، فتصرفات الملوك تعرض على الشرع. وأيضاً كواقع موقفها من عرض "حرية العقيدة".[20]

إنّ الجواب الذي قدّمه الفقهاء التجأ إلى الاحتماء بالسلطة العلمية، دون التأسيس لاستدلالاته النظريّة من خلال تجاوز الإشكالات المعرفية المحيطة بالنصّ. ومن أجل النظر في ما قدمته الوثيقة نعطي جملة إشارات لحرية العقيدة عموماً من خلال ما قدّمه القرآن الكريم.

II. الحرية الدينية وفق الرؤية القرآنية

يكشف القرآن عن رؤية كُليّة مستوعبة للمخالف الدين الإسلامي وسمح له بممارسة شعائره، وأعطى له الحريّة في أن يختار عقيدته الدينية بلا إكراه، "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"[21] كذلك قوله: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". ودعا المسلمين إلى احترام عقائد الغير وعدم السخرية منها قال تعالى: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".[22] بل إنّ من يرتدون عن الإسلام لا يجوز قتالهم في رأي البعض من الأئمة والمفسرين[23] طالما أنهم لم يقاتلوا المسلمين ولم يعلنوا الحرب عليهم في دينهم عملاً بقوله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".[24]

وفق هذه المعطيات القرآنية يكون ما قدّمته التجربة التاريخية الفقهية في مجال حرية المعتقد من خلال الوثيقتين في حاجة إلى مراجعة وتقويم بالمنظور القرآني الذي له القدرة على استيعاب المخالف الديني من خلال ما تدعو إليه آياته المتعددة إلى عدم الإكراه في الدين، وهنا منشأ الحاجة إلى إعادة تقويم الإرث الفقهي والنظر في ظروف إنتاجه المؤثرة فيه، وما الذي حمل المغرب في القرن التاسع عشر الميلادي على إصدار فتواه تلك، ويمكن أن تكون هذه القراءة مقدمة تفسيرية لبيان دور الفقهاء في بناء الدولة الوطنية ومدى إسهامهم في تقدّم الخطاب الديني المستوعب لروح النصّ وتجاوز إشكالات الواقع.

إنّ القراءة المتقدمة في مضامين الوثيقة ومقارنة مع ما قدمه النصّ في هذا الباب، تكشف أننا بحاجة إلى أنموذج إرشادي موجّه للأطر النظرية للفقه نابعة من روح النصّ القرآني، وهذا ما يعني إعادة قراءة القرآن بوعي معاصر جديد، له كلّ مقومات إغناء الرصيد الثقافي الإسلامي من خلال المكون الديني.

على سبيل الختم:

قدّمت وثيقة أبي حسون وجواب فقهاء المغرب في القرن التاسع عشر أنموذجاً تاريخياً لمنهج تعامل فقهاء القرن التاسع عشر مع المخالف الديني، وطريقة تعاملهم مع دعوى حريّة المعتقد، كما شكلت قراءة الوثيقة أرضية لكشف أجوبة الفقهاء لإشكالات الدولة الوطنية الدينية وحريّة المعتقد؛ كما توضّح الفتوى منهج النظر الفقهي التاريخي ومدى تأثرها بالسياق الثقافي والسياسي لتلك المرحلة، من هنا منشأ الحاجة إلى أنموذج إرشادي جديد موجّه ينطلق من روح القرآن الذي يتجاوز المنظور الفقهي الذي ظلّ محصوراً بين الجواب المذهبي لإشكالية حرية العقيدة من خلال مناقشة جوابهم في جواز بناء الكنائس وحريّة المعتقد، وبين المعطى السياسي الذي شكّل الغطاء للجواب الفقهي.


[1]ـ ولد عام 1784م، وهو زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا، ومن كبار المدافعين عن الحقوق المدنية لليهود في إنجلترا والعالم. وُلد في بريطانيا لأسرة إنجليزية ذات أصول إيطالية سفرادية استقرت في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وبدأ عمله كسمسار في بورصة لندن حيث حقق ثراءً سريعاً. وقد ارتبط بعائلة روتشيلد المالية الثرية من خلال المصاهرة، الأمر الذي ساعده في مجال أعماله. وقد كرَّس مونتفيوري جهوده بعد ذلك للقضايا المرتبطة بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا والعالم الإسلامي، زار فلسطين سبع مرات، وقدّم لمحمد علي باشا عام 1838 خطة لتوطين اليهود في فلسطين تتضمن توفير وضع متميِّز لليهود وقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتنمية المشاريع الزراعية والصناعية في فلسطين حتى يحقق اليهود الاعتماد على الذات. وفي المقابل، اقترح مونتفيوري تأسيس البنوك في المدن الرئيسة في المنطقة لتقدِّم التسهيلات الائتمانية للمنطقة بأكملها. وقد ساهم مونتفيوري في تأسيس بعض المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسَّس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس القديمة، كما أسس بعض المشاريع الصناعية. وقد اهتم مونتفيوري أيضاً بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوروبا، فزار روسيا عامي 1846 و1872 لبحث حالتهم مع الحكومة القيصرية، كما زار المـغرب عـام 1863 ورومانيا عام 1867 للغرض نفسه، توفي عام 1885م، انظر http://www.elmessiri.com/encyclopedia/JEWISH/ENCYCLOPID/MG6/GZ2/BA05/MD06.HTM

[2]ـ جاء في نص الفتوى إجابة عن السؤال الذي رفع من جانب أبي حسون إلى القاضي أبي مهدي السكتاني في شأن مدينة إيليغ في جواز إحداث كنيسة اليهود بها هل يجوز أم لا؟ الجواب: الحمد لله وعلى فقهاء بلادنا السوسية حرسها الله وأكرمهم باتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد فقد وقف كاتبه عفا الله عنه على نازلة أهل الذمة النازلين بإيليغ مختط أولاد السيد البركة قطب بلادنا سيدي أحمد بن موسى نفعنا الله ببركاته وبارك في ذريته وسددهم لما فيه رضاه آمين، ولما وقفت عليها وتأملتها فرأيت أن الصواب فيها الفتوى بمنع إحداث أهل الذمة الكنائس فيها وبهدم ما بني فيها بعد إحداثه لأنّ إيليغ من بلاد الإسلام ولا فيه شبهة لأهل الذمة الطارئين عليه لا باعتبار الفتح العنوي ولا باعتبار الصلحي على الخلاف في المغرب باعتبار فتحه وحاصل أمرها خفاء الحال فيها وإذا كان الأمر هكذا فالحكم أنها ملك لمدعيها الحائز لها والأراضي أقسام أرض إسلام لا يجوز إحداث الكنائس بها باتفاق، ثم إن وقع شيء من ذلك هدم وأرض إيليغ من هذا القسم فإن ملكوا الأرض التي بنوا فيها الكنيسة بوجه من وجوه التملك كالعطية وجب هدمها ونقضها ويكون لهم ما يسوغ من المنافع وإن كان بناء الكنيسة شرطاً ردت العطية وفسخ البيع إن كان به لأنه في معنى التحبيس على الكنيسة والحاصل أن وجه دخول اليهود إيليغ معلوم وأن بلده ملك للإسلام فبناء اليهود فيها الكنائس معصية وتمكينهم منه إعانة عليها وهذا لا يخفى، وأما الجواز والإفتاء به في النازلة فبمعزل عن الصواب والاستدلال على الجواز بحواضر المغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لا يتم لأن أصل تمكينهم من الكنائس مجهول إذ يحتمل أموراً منها أنه يحتمل أن يكون بعهد كان لهم في غير تلك البلاد من إقرارهم على بلد يسكنونه مع بقائهم على متعبداتهم ثم نقلوا لمصلحة اقتضت ذلك أو أرجح ولأن البلاد تقدم فيها اليهود وغيرهم من أهل الصلح، والحاصل أن وجه دخولهم مجهول في هذه البلاد بخلاف إيليغ ونازلة إيليغ معلومة الدخول فبينهما بون فقياس إحداهما على الأخرى لا يصح وبالله التوفيق، وكتب عيسى بن عبد الرحمن وفقه الله آمين. ولما علم المرابط بالحكم أمر بهدمها ومنع اليهود مما أرادوه» أنظر كتاب "الاستقصاء"، ج 6، ص 79

[3]ـ هو عيسى بن عبد الرحمن السكتاني أبو المهدي قاضي تارودانت ثم قاضي مراكش، صاحب الفتاوى الشهيرة، وصاحب القضية المعلومة بينه وبين يحيى بن عبد الله بن سعيد الحاجي... أشهر من نار على علم، كان من أعيان السوسيين مجموع فتاويه مشهورة له بعضها في البرجية. انظر حاشية إيليغ قديما وحديثا محمد المختار السوسي، ص 62

[4]ـ اسم إيليغ مشهور لمواطن متعددة من قرى سوس، فهناك قرية في قبيلة إدا وزكري وأخرى في الفائجة إزاء تاتلت كلتاهما تحمل هذا الاسم عينه، أورد المختار السوسي أن مؤسسها هو البودميعة. انظر محمد المختار السوسي "كتاب ايليغ قديماً وحديثاً"، المطبعة الملكية الرباط 1386هـ/1966م، ص 60 وما بعدها.

[5]- محمد المختار السوسي، "كتاب ايليغ قديماً وحديثاً"، المطبعة الملكية الرباط 1386هـ/1966م هيأه للطبع وعلق عليه محمد بن عبد الله الروداني، ص 62

[6]ـ هذا الرجل هو أبو الحسن ويقال أبو حسون علي بن محمد بن محمد بن الولي الصالح أبي العباس أحمد بن موسى السملالي. وكان بدء أمره أنه لما ضعف أمر السلطان زيدان بالصقع السوسي، وفشل ريحه فيه نبغ هو فدعا لنفسه وجر نار الرياسة إلى قرصه وتألبت عليه البرابرة من بسائط جزولة وجبالها والتفت عليه غالب القبائل السوسية، فاستولى على تارودانت وأعمالها إلى أن أخرجه عنها الفقيه أبو زكرياء بن عبد المنعم بعد حروب. انظر "كتاب الاستقصا" ج 6، ص 79

[7]ـ الترمذي الزكاة / 633، أبو داود الخراج والإمارة والفيء / 3053

[8]ـ البخاري الشروط / 2580، أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007)، مالك الجامع (1651).

[9]ـ سورة الممتحنة الآية 8

[10]ـ سورة الممتحنة الآية 9

[11]ـ ويقصد بإفران هنا الأطلس الصغير جنوبي إيليغ، لا إفران الشهيرة بالأطلس المتوسط.

[12]ـ محمد حجي الحركة الفكرية في المغرب في عهد السعديين الجزء 1 سنة 1396هـ/1976م، ص 271

[13]ـ محمد حجي، مرجع سابق، ج 1، ص 272

[14]ـ محمد المنوني، "مظاهر يقظة المغرب الحديث"، ط2، سنة، 1405هـ/ 1985م، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، ج1، ص 405

[15]- محمد الناصري، "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، تحقيق جعفر الناصري/ محمد الناصري دار الكتاب الدار البيضاء 1418هـ/ 1997م الجزء 3، ص ص 114/115

[16]- مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب للأستاذ عبد الوهاب بن منصور المطبعة الملكية ص 102 نقلاً عن مظاهر يقظة المغرب الحديث لمحمد المنوني ص 406

[17]ـ محمد المنوني، "مظاهر يقظة المغرب الحديث"، ج 1، ص 406

[18]ـ انظر نص الوثيقة.

[19]ـ الوثيقة

[20]ـ محمد المنوني مرجع سابق ج 1 ص 408/409

[21]ـ البقرة 256

[22]ـ الأنعام 108

[23]ـ ممّن قال بعدم قتال المرتد: الشيخ محمود شلتوت، وعبد العزيز البشري، وراشد الغنوشي، انظر تفاصيل ذلك: د. فهمي جدعان: حقوق الإنسان في الإسلام، مقال في: حقوق الإنسان في الفكر العربي، ص 211-212.

[24]ـ الممتحنة 8-9