حضارة الجذر الأصم

فئة :  ترجمات

حضارة الجذر الأصم

حضارة الجذر الأصم[1][2]

الْمُفارقةُ المعروفةُ بِـ «مفارقة الكاذب» – مثلُ العبارةِ القائلة: "كلّ ما أقولُه كذبٌ" – طالما شغلت عقولَ الفلاسفة من اليونان القديمة والهند إلى القرن العشرين. وجهُ المفارقةِ أنّه إذا كانت العبارةُ صادقة، فهي كاذبة (فليس كلّ ما أقولُه كذبًا)، والعكس صحيح. غير أنّنا لن نخوضَ في متاهاتِ الحُججِ والدُّفوعِ المتقابلة، بل نلجأ إلى جاك لاكان (1901-1981) الذي يُقدِّمُ حلًّا فريدًا يمرّ عبر التمييز بين مضمون العبارة (ما يُقال)، وبين الموقفِ الذاتيّ الضمنيّ الذي تنطوي عليه هذه العبارة (كيف تُقال). ما إن ندخل هذا التمييز في النظر، حتى يتّضح لنا أن قولًا مثل: "كلّ ما أقوله كذبٌ" يمكن أن يكون صادقًا أو كاذبًا في ذاته. فالقول: "أنا دائمًا أكذب" قد يصف بحقّ – أو بغير حقّ – شعور المرء الذاتي بأنّ حياته كلّها زيفٌ وادّعاء. لكن العكس أيضًا صحيح: عبارة من قبيل "أنا أعلم أنني قمامة" قد تكون صادقة في مضمونها، غير أنها كاذبة على مستوى الموقف الذي توحي به؛ إذ يكفي أن يقولَها الإنسان حتى يُظهرَ أنّه ليس تمامًا كما يصف نفسه، بل إنه، على الأقل، صادق في اعترافه…غير أنّ الجواب الأليق بهذه الحال هو تَصريفٌ لعبارة شهيرة لغروتشو ماركس: "تتصرّف كقمامة، وتُقِرُّ بأنّك قمامة، لكنّ هذا لن يخدعنا – أنت فعلًا قمامة!"

لماذا نُضيِّعُ الوقتَ في مفارقاتٍ تمضغها الأذهانُ منذ قرون؟ لأنّ هذه اللعبةَ نفسَها، في زمننا الموصوف بـ«ما بعد الحقيقة»، قد بلغت ذروتها في الخطاب السياسيّ الشعبويّ اليمينيّ. لذلك، فإنّ التمييزَ بين العبارة وموقف الإلقاء الضمنيّ فيها، لم يعُد ترفًا فلسفيًّا، بل صار شرطًا لفهمِ خطابنا المعاصر.

لنقفزْ مباشرةً إلى "في خضمّ الحدث". بعد أن أُعيد انتخاب ترامب سنة 2024، خرجت ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز – وقد احتفظت بمقعدها في الكونغرس – تدعو أنصارها الذين صوّتوا لترامب أن يُفسّروا هذا الجمع العجيب بين نقيضين. وكان جوابهم الغالب أنّها، على عكس كمالا هاريس وسائر الديمقراطيّين الذين بدَوا لهم مرتهنين لحساباتٍ ملتوية، فإنّها وترامب يبدوان أكثرَ صدقًا. لهذا السبب تحديدًا، حين يُضبط ترامب متلبّسًا بالكذب أو التناقض، فإنّ ذلك لا يُضعفه، بل يزيدُ من شعبيّته: إذ يرى أنصاره في كذبه علامةً على أنّه يتصرّف على سجيّته، مثل أيّ بشرٍ عاديّ لا يستند إلى استشاراتِ مستشارين، بل يقول ما يجولُ في خاطره بصراحة فجّة. وبتعبيرنا: إنّ تناقضات ترامب وكذباته في مضمون عباراته تؤدّي وظيفةَ الإشارة إلى صدقه على مستوى موقفه الضمنيّ في الخطاب. وهذا يُثبت – في مفارقة لاذعة – أن الموقفَ الضمنيّ الذي توحي به العبارة يمكن بدوره أن يكون مزيَّفًا.

الكذب الاستراتيجيّ

الحقّ الذاتيّ يقفُ على النقيض من الحقّ الواقعيّ تمامًا كما تتقابلُ الهستيريا مع العصاب الوسواسيّ: فالأولى حقٌّ في هيئة كذب، والثانية كذبٌ في هيئة حقّ. فالهستيريُّ، وإنْ لم يكن ما يقولُه صحيحًا بحرفيّتِه، إلّا أنّ الكذبَ الذي ينطقُ به يكشفُ، في قناع الزيف، عن شكوى صادقة؛ بينما العصابيُّ الوسواسيُّ، ما يقولُه غالبًا صحيحٌ حرفيًّا، لكنه حقٌّ موضوعُه خدمةُ كذبةٍ كبرى.

اليوم، يمارس كلٌّ من الشعبويّين اليمينيّين وأنصار اليسار الليبراليّ المدافعين عما يُعرف بـ"الصواب السياسيّ" هذين النوعين المتكاملين من الكذب. فكلا الفريقين يبرّرُ استخدام الكذب الواقعيّ متى كان في خدمة "الحقّ الأعلى" لقضيّته. فثمة من الأصوليّين الدينيّين مَن يُجيز الكذبَ "من أجل يسوع": فدرءُ جريمةٍ شنيعة كالإجهاض، في نظرهم، يُبرّر الترويج لمزاعمَ علميّةٍ زائفة عن الجنين ومخاطر الإجهاض الطبّي؛ بل إنّهم، دعمًا للرضاعة الطبيعيّة، يُجيزون القول بأنّ الإحجام عنها يسبّب سرطان الثدي، على أنه "حقيقة علميّة"! وكذلك يفعل الشعبويّون المناهضون للمهاجرين، حين ينشرون رواياتٍ غير موثّقة عن جرائم اغتصابٍ واعتداءاتٍ يُزعمُ أنّ لاجئين اقترفوها، توطئةً لتكريس "حدسهم" بأنّ اللاجئين يهدّدون "نمط حياتنا". لكن المفارقة أن الليبراليّين المناصرين للصوابيّة السياسيّة لا يختلفون كثيرًا عنهم، وإنْ في الاتجاه المعاكس: فهم يتغاضون عن الفوارق الثقافيّة الحقيقية بين أنماط حياة اللاجئين والأوروبيّين؛ لأنّ الاعتراف بها قد يُفهم كدعايةٍ للتمركز الأوروبيّ. ولنذكّرْ بحادثة روذرهام في بريطانيا، قبل نحو عقدٍ من الزمن، حيث كشفت الشرطة عن عصابة من الشبّان الباكستانيّين دأبوا على استدراج أكثر من ألف فتاة بيضاء فقيرة واغتصابهنّ: غير أنّ هذه البيانات جرى تجاهلها أو التهوين من شأنها بادئ الأمر تفاديًا لإثارة الإسلاموفوبيا.

لكن الاستراتيجيّة المعاكسة منتشرةٌ كذلك على طرفَي الطيف. فالشعبويّون المناهضون للمهاجرين لا يكتفون بالكذب، بل يُدسُّون بين أكاذيبهم قَدْرًا من الحقائق الواقعيّة لتضليل الجمهور وإضفاء طابع "الصدق" على خطابهم العنصريّ؛ وأما أنصار الصواب السياسيّ، فهم بدورهم يمارسون الكذب بالحقائق: يستندون إلى بياناتٍ قابلةٍ للتحقّق، لكنّهم يُخضعونها لتأويلٍ ملتويّ. اليمينُ الشعبويّ يُسقِطُ إحباطَهُ وإحساسَهُ بالخسارة على عدوٍّ خارجيّ، فيما يستخدم اليسار الصوابيُّ حقائقه (رصد مظاهر العنصريّة والتمييز في اللغة) لتأكيد تفوّقه الأخلاقيّ – وتجنّب التغيير الاجتماعيّ-الاقتصاديّ الحقيقيّ. والمفارقة الكبرى أنّ اليمين الشعبويّ يمارس النسبويّة التاريخيّة بقسوةٍ أشدّ من اليسار، مع أنّه لا يكفّ عن شجبِها في أدبيّاته (إنْ جاز أن نُسمّيَ ذلك "نظريّة").

لكنْ، لا يكفي أن نلوذ بـ"الحقائق" لنتّخذ الموقفَ السليم. فثمّة، في معنًى ما، "حقائق بديلة" – وليس، بطبيعة الحال، بالمعنى السخيف الذي يشكّك في وقوع الهولوكوست. (واللافت هنا أنّ جميعَ منكري الهولوكوست الذين أعرفهم – من ديفيد إرفينغ إلى غيره – لا يزعمون النسبويّة، بل يدّعونَ أنهم يتحرّون الوقائع بمنهجيّة تجريبيّة صارمة!)

فالبياناتُ عالَمٌ متشعّبٌ عصيٌّ على النفاذ، ونحن لا نقاربُه إلا من داخل ما يُسمّيه التأويليّون "أفق الفهم"، وهو ما يعني أنّنا نُبرز بياناتٍ ونتجاهل أخرى، ونُركّبُ منها "رواية" لا تعكس الواقع كما هو، بل تصوغُ له حبكةً مفهومة. فمثلًا، يستطيع مؤرّخٌ معادٍ للسامية أن يقدِّمَ عرضًا لتاريخ اليهود في الحياة الاجتماعيّة لألمانيا في عشرينيّات القرن الماضي، مبيِّنًا تفوّقهم العدديّ في مهنٍ كالمحاماة والصحافة والفنون – وكلّ هذا قد يكون صحيحًا في نفسه، لكنّه يوظّف في خدمة كذبة؛ ذلك أنّ أكفأ الأكاذيب هي تلك التي تُروى بالحقائق – ولا سيّما حين تقتصر على عرض البيانات فقط.

خذْ مثلًا تاريخَ أمّةٍ ما: بوسعك أن ترويه من زاويةٍ سياسيّة، مركزًا على تقلّبات السلطة وصراعاتها؛ أو أن تتناوله من منظور النموّ الاقتصاديّ؛ أو من خلال صراع الإيديولوجيّات؛ أو من زاوية البؤس الشعبيّ وحركات الاحتجاج… وكلُّ هذه المقاربات قد تكون دقيقةً من الناحية الواقعيّة – لكنّها ليست "صادقة" بالمعنى القويّ للكلمة. وليس في القول إنّ التاريخ البشريّ يُروى دومًا من منظورٍ معيّن تُحرّكه مصالح إيديولوجيّة مخصوصة أيّ نسبيّة. التحدّي الحقيقيّ هو أن نُبيّن كيف أنّ هذه المنظورات المصلحيّة ليست متساويةً في "الصدق" – فثمّة ما هو أكثر انكشافًا للحقيقة من غيره.

فحين نروي تاريخ ألمانيا النازيّة، مثلًا، من زاوية معاناة أولئك الذين سحقتهم الماكينة النازيّة – أي إذا كان يقودنا في السرد هاجسُ التحرّر الإنسانيّ الشامل – فإنّ هذا ليس مجرّد اختلافٍ في المنظور الذاتيّ: بل هو سردٌ "أصدق" من الداخل، لأنّه يُبيِّنُ بشكلٍ أعمق ديناميّات الكلّ الاجتماعيّ الذي أنجب النازيّة. فالمصالح الذاتيّة ليست على سوِيّةٍ واحدة، لا لأنّ بعضها "أخلاقيٌّ" أكثر من بعضها الآخر فحسب، بل لأنّ هذه المصالح ليست خارج الكلّ الاجتماعيّ، بل هي بحدّ ذاتها لحظاتٌ فيه، يصوغها الفاعلون – أو حتى الخاضعون – في قلب العمليّات الاجتماعيّة.

ولهذا لا يوجد شيءٌ اسمه "روايةٌ حياديّة" أو "تغطية موضوعيّة" لحرب الشرق الأوسط، ولا للعدوان الروسيّ على أوكرانيا: لا يمكن قولُ الحقيقة عن هذه الأحداث إلّا من موقعِ الضحيّة. وعنوانُ تحفة يورغن هابرماس المبكّرة المعرفة والمصالح البشريّة يبدو اليوم أكثر راهنيّةً من أيّ وقتٍ مضى.

الكذب السّلبي والفعّال

لتعميق هذا البُعد، يجب أن نستعين بمفهومٍ آخر يلعب دورًا محوريًا في تحليل أيديولوجيا اليوم: مفهوم التداخل السّلبي ((interpassivity، الذي قدّمه روبرت بفالر.التداخل السّلبي هو عكس مفهوم هيغل لـList der Vernunft(مكر العقل)، حيث أكون فاعلًا عبر الآخر: بمعنى أني أظل سلبيًا جالسًا براحة في الخلفية، بينما يقوم الآخر بالعمل نيابةً عني. بدلًا من أن أضرب المعدن بالمطرقة، تقوم الآلة بذلك عني؛ وبدلًا من أن أدير الطاحونة بنفسي، يفعل ذلك الماء. هنا أحقق هدفي من خلال وضع جسم طبيعي آخر بيني وبين الشيء الذي أعمل عليه. ولكن يمكن أن يحدث نفس الأمر على المستوى الشخصي بين الناس. بدلاً من مهاجمة عدوي مباشرةً، يمكنني أن أحرّض قتالًا بينه وبين شخص آخر، لأتمكن من مشاهدة تدميرهما لبعضهما البعض براحةٍ تامة.

في حالة التداخل السّلبي، على العكس، أكون سلبيًا عبر الآخر: فأنا أمنح الآخر الجانب السلبي – المتعة – من تجربتي، بينما أبقى أنا نفسي مشغولًا بنشاط؛ أستطيع أن أواصل العمل في المساء، بينما يستمتع جهاز تسجيل الفيديو سلبيًا بالتلفاز نيابةً عني؛ أستطيع أن أدير الشؤون الماليّة لميراث الميت بينما يبكي الحاضرون. وهذا يقودنا إلى مفهوم النشاط الكاذب: فالناس لا يتصرفون فقط لتغيير شيء ما، بل يمكنهم أيضًا أن يتصرفوا لمنع حدوث شيء، حيث لا يتغير شيء. هنا تكمن الاستراتيجية النموذجية للشخص المهووس بالتحكّم (الوسواسي): فهو نشيط بشكل محموم لمنع وقوع الأمر الحقيقي. مثلاً، في موقف جماعي يهدد فيه التوتر بالانفجار، يتحدث الوسواسي بلا انقطاع لمنع اللحظة المحرجة للصمت التي تجبر الحاضرين على مواجهة التوتر كامنةً بصراحة. وبالمثل، في العلاج النفسي التحليلي، يتحدث المرضى الوسواسيون باستمرار، يفيضون المعالج بالحكايات، والأحلام، والرؤى. هذا النشاط المتواصل يستند إلى الخوف الكامن من أن يتوقفوا عن الكلام للحظة فيسألهم المعالج السؤال المهم حقًا. بعبارة أخرى، يتحدثون ليبقوا المعالج في حالة سكون. حتى في كثير من الحركات السياسية التقدمية اليوم، الخطر ليس السلبية بل النشاط الزائف، الرغبة في أن تكون فاعلًا ومشاركًا حتى وإن لم يكن ذلك مثمرًا. يتدخل الناس دائمًا، محاولين "أن يفعلوا شيئًا"، ويشارك الأكاديميون في مناقشات بلا معنى؛ أما الصعب حقًا فهو التراجع والانسحاب. غالبًا ما يفضل أصحاب السلطة حتى المشاركة النقدية على الصمت – يجرّوننا إلى حوار ليكسروا سكوننا المريب. التأكيد المستمر على ضرورة العمل، والقيام بشيء ما، غالبًا ما يخفي موقفًا ذاتيًا بعدم القيام بأي شيء. فكلما تحدثنا أكثر عن الكارثة البيئية المقبلة، قلّ استعدادنا للفعل. ضد هذا النمط التداخلي السلبي، الذي نكون فيه نشطين طوال الوقت لضمان عدم حدوث أي تغيير حقيقي، تكون الخطوة النقدية الأولى الحقيقية في مواجهته هي الانسحاب إلى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الأولى تمهد الطريق لنشاط حقيقي – فعل يغيّر بشكل فعّال إحداثيات المشهد.

تزداد الأمور تعقيدًا مع عملية الاعتذار. فإذا آذيتُ شخصًا بتعليقٍ فظ، فإنّ الصواب هو أن أقدّم له اعتذارًا صادقًا؛ والصواب بعد ذلك أن يقول هو شيئًا مثل: «شكرًا، أقدّر ذلك، لكنني لم أُهْنَ، كنت أعلم أنك لم تقصد، فلا حاجة لك بالاعتذار!» المهم هنا، بالطبع، هو أنه رغم النتيجة النهائية التي تقضي بعدم الحاجة إلى الاعتذار، إلا أنه لا بد من المرور بكل عملية تقديم الاعتذار أولًا: فلا يمكن أن يُقال: «لا دين عليك بالاعتذار» إلا بعد أن أقدم الاعتذار فعلًا. إذًا، رغم أن لا شيء رسميًّا يحدث – حيث يُعلن أن الاعتذار غير ضروري – إلا أن هناك ربحًا في نهاية هذه العملية: ربما، وحتى، تُحفظ الصداقة. ينجح الاعتذار تحديدًا عبر إعلانه فائضًا عن الحاجة. وتعمل استراتيجية مشابهة في الاعتذار عندما يُستخدم الاعتراف السريع كذريعة لتجنب الاعتذار الحقيقي («قلت آسف، فاصمت وتوقف عن إزعاجي!»).

لقد قدّم الحزب الشيوعي الصيني (من بين كثير من الجهات السياسية الأخرى) نموذجًا مماثلًا في التلاعب بالفجوة بين المحتوى المعلن والوقوف على إعلان الخطاب. فقد تعلّم درس فشل غورباتشوف: أن الاعتراف العلني الكامل بـ«الجرائم المؤسسة» للنظام سيؤدي حتمًا إلى انهيار النظام بأكمله. لذا، يجب أن تبقى هذه الجرائم غير معترف بها. صحيح أن بعض «الإفراطات» و«الأخطاء» الماوية تُدان (القفزة الكبرى إلى الأمام والمجاعة الكارثية التي تلتها؛ الثورة الثقافية)، وتقييم دنغ لدور ماو بنسبة 70% إيجابي و30% سلبي يُعتَمد كصيغة رسمية. لكن هذا التقييم يعمل عمدًا كخاتمة شكلية تجعل أي توسع لاحق فائضًا عن الحاجة: فحتى وإن كان ماو سيئًا بنسبة 30%، فإن الأثر الرمزي الكامل لهذا الاعتراف يُمحى، فيستمر الاحتفاء به كأب مؤسس للأمة، وجثته في ضريح، وصورته على كل ورقة نقدية.

نحن هنا أمام حالة واضحة من الإنكار الفتيشي: رغم أننا نعلم جيدًا أن ماو ارتكب أخطاء جسيمة وتسبب في معاناة هائلة، فإن شخصيته تبقى محصنة بسحر ضد هذه الحقائق. وبهذه الطريقة، يمكن للشيوعيين الصينيين أن «يأكلوا كعكتهم ويحتفظوا بها»، فتترافق التغييرات الجذرية التي أحدثتها الليبرالية الاقتصادية مع استمرار حكم الحزب ذاته كما كان.

الإجراء هنا هو إجراء تحييد، أو بالأحرى، ما سمّاه فرويد "العزل": تعترف بأشياء مروعة، لكن تحظر جميع ردود الفعل الذاتية تجاهها (الرعب مما حدث). ملايين القتلى تصبح حقيقة محايدة. وعندما تُبلغ اليوم وسائل الإعلام الإسرائيلية (وبعض الإعلام الغربي) عن تدمير غزة، ألا تمارس نوعًا مشابهًا من التحييد؟ فإرهابيو حماس يعذبون ويقتلون، بينما ضحايا الجيش الإسرائيلي يُصفّون أو يُبادون...

أكاذيب وإشاعات

ثم هناك الإشاعات، التي تعمل بطريقة غريبة فيما يتعلق بالحقيقة: الحقيقة الواقعية للإشاعة معلقة، أو بالأحرى تُعدّ غير ذات أهمية («لا أعرف إذا كانت صحيحة، لكن هذا ما سمعته…») بينما يحتفظ مضمون الإشاعة بكامل فاعليته الرمزيّة – نستمتع بها، نعيد سردها بشغف (أستند هنا إلى كتاب الإشاعات لـ ملادن دولار، 2024). لذا، الأمر ليس كما في الإنكار الفتيشي الذي يشبه إلى حد ما القول: «أنا أعلم جيدًا أنها غير صحيحة، لكني مع ذلك أؤمن بها»، بل هو الانقلاب عليه – شيء مثل: "لا أستطيع القول إنني أعتقد أن هذا صحيح، أو أن هذا حدث فعلاً؛ لكن مع ذلك، هذا ما أعرفه".

فيما يتعلق بممارسة السلطة، يكون مجال الإشاعات غامضًا. فالإشاعات «القذرة» قد تدعم السلطة وسلطتها (من أتاتورك إلى تيتو)؛ ولكن الإشاعات تلعب أيضًا دورًا حاسمًا في الاضطرابات والثورات، بما في ذلك أعمال الشغب ضد المهاجرين (كما ذُكر، أوروبا الآن مليئة بإشاعات عن اعتداءات مهاجرين على نسائنا، وعن كيفية قيام السلطات بفرض رقابة على الأخبار المتعلقة بهذه الاعتداءات). وهناك أيضًا ما قد يُسمى «الإشاعات الجيدة» – تلك التي تُستخدم لإحداث انفجار ثوري، مثلاً. مثال تاريخي على ذلك هو «الخوف العظيم» (la Grande Peur)، وهو الذعر العام الذي وقع بين 17 يوليو و3 أغسطس 1789 في بداية الثورة الفرنسية.

ولا أستطيع أن أقاوم إضافة حالة فريدة من تاريخ السينما. ثمة توتر بين الالتزام السياسي الشيوعي والانجذاب إلى «الشيء المحرم» يميز العمل السينمائي الفريد للوتشينو فيسكونتي. ففي أفلامه، يحمل «الشيء المحرم» وزنًا سياسيًّا خاصًّا؛ إنه اللذة المنحطة، أو المتعة في الألم، للطبقات الحاكمة القديمة في حالة الانحطاط. المثالان الأعظم للانبهار المميت هذا هما الفيلم الشهير الموت في البندقية (1971)، والفيلم الأسبق الأقل شهرة، ولكنه أفضل كثيرًا، نجوم خافتة لدب البري: جوهرة سينمائية بلونين فقط. ما يشترك فيه الفيلمان ليس فقط الشغف المحرم الذي ينتهي بالموت (شغف الملحن بالفتى الجميل في البندقية، والشغف المحرم بين الأخ والأخت في نجوم خافتة؛) بل أيضًا في كلتا الحالتين، ازدواجية الالتزام السياسي اليساري للفنان؛ إذ ظل فيسكونتي عضوًا في الحزب الشيوعي الإيطالي حتى وفاته) وانبهاره باللذة المنحطة للطبقة الحاكمة في حالة الانهيار. وهذا يعمل هنا كفصل بسيط بين المحتوى المعلن والوقوف على إعلان الخطاب، كما لو أن فيسكونتي، بأسلوب أفضل الثوار المتزمتين المتشدّدين، يدين علنًا ما يستمتع به ويُفتتن به شخصيًّا، حيث يتحول تأييده العلني لضرورة إلغاء حكم الطبقة الحاكمة القديمة إلى أداة لمنح متعة من نوع اللذة المؤلمة في عرض تدهور الذات. ألم يكن الأمر نفسه صحيحًا حتى مع الديستوبيات مثل حكاية الخادمة؟ ألا نكون نحن أيضًا سرًّا مفتونين بوصفها التفصيلي لقمع النساء – والذي بالطبع، كلنا ندينه؟

تبدو الإشاعات متناسبة تمامًا مع مأزق اليوم، الذي يصفه كثير من الناس بـ«موت الحقيقة» – وهو وصف خاطئ بوضوح. فالمقصود من قِبل من يستخدمون هذا المصطلح هو أنه في السابق (لنقل، حتى ثمانينيات القرن الماضي)، بالرغم من كل التلاعبات والتشويهات، كانت الحقيقة إلى حد ما تسود، حيث أصبح «موت الحقيقة» ظاهرة حديثة نسبيًا. لكن لمحة سريعة تخبرنا أن الأمر لم يكن كذلك: كم من انتهاكات لحقوق الإنسان وكوارث إنسانية ظلت غير مرئية، من حرب فيتنام إلى غزو العراق؟ فقط تذكر عهود ريغان، نيكسون، وبوش… الفرق لم يكن أن الماضي كان أكثر «صدقًا»، بل أن الهيمنة الإيديولوجية كانت أقوى بكثير، حيث كانت «حقيقة» واحدة (أو بالأحرى كذبة كبيرة واحدة) تسود بدلاً من الفوضى الكبرى اليوم من «حقائق» محلية متعددة. في الغرب، كانت تلك الحقيقة هي الحقيقة الليبرالية الديمقراطية (بلمسة يسارية أو يمينية). ما يحدث اليوم هو أنه مع موجة الشعبوية التي زعزعت الاستقرار السياسي، تنهار الحقيقة/الكذبة التي شكلت أساس هذه الهيمنة الإيديولوجية أيضًا. والسبب النهائي لهذا التفكك ليس صعود النسبية ما بعد الحداثية، بل فشل الطبقة الحاكمة في الحفاظ على هيمنتها الإيديولوجية.

يمكننا الآن أن نرى ما يندب هؤلاء الذين ينوحون على «موت الحقيقة» حقًا: إنه تفكك قصة كبيرة واحدة، مقبولة إلى حد ما من الأغلبية، والتي جلبت الاستقرار الإيديولوجي للمجتمع. السر في أولئك الذين يلعنون «النسبية التاريخية» هو أنهم يشتاقون إلى الوضع الآمن الذي كانت فيه حقيقة واحدة كبيرة (حتى لو كانت كذبة كبيرة) توفر «الخريطة المعرفية» الأساسية للجميع. باختصار، الذين ينوحون على «موت الحقيقة» هم أنفسهم الوكلاء الحقيقيون والأكثر راديكالية لهذا الموت: شعارهم الضمني هو ما يُنسب إلى غوته، «besser Unrecht als Unordnung» – أي «الظلم خير من الفوضى» – بمعنى، كذبة كبيرة واحدة خير من واقع مختلط من الأكاذيب والحقائق.

لذا، حين نسمع ادعاءات بأن «انهيار منظومة المعلومات» الجاري يؤدي إلى تفكك مجتمعنا، يجب أن نكون واضحين جدًّا بشأن ما تعنيه هذه الادعاءات: ليس فقط أن الأخبار المزيفة كثيرة، بل إن الكذبة الكبيرة التي جمعت فضاءنا الاجتماعي حتى الآن تتفكك. ومن ثم، فإن «موت الحقيقة» يفتح المجال لإمكانية حقيقة أصيلة جديدة… أو لكذبة كبيرة أسوأ حتى. أليس هذا ما يحدث اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية، التي تُظل تدريجيًّا بأشكال متعددة من الفاشية الجديدة، من الشعبوية الإقطاعية الجديدة، إلى السلطوية الدينية؟

[1] Slavoy Žižek, “Civilization of the Liar’s paradox” Philosophy Now, no. 168 (June–July 2025): 32

[2] تمت ترجمة العنوان Civilization of the Liar’s paradox بهذه الطريقة؛ لأن مفارقة الكاذب أو مفارقة كريت يعبر عنها في اللغة العربية وفي التراث الإسلامي بالجذر الأصم.


مقالات ذات صلة

المزيد