حوار مع الدكتور فتحي المسكيني


فئة :  حوارات

حوار  مع الدكتور فتحي المسكيني

حوار[1] مع الدكتور فتحي المسكيني[2]

في الهجرة إلى الإنسانيّة

د. نادر الحمّامي: الأستاذ فتحي المسكيني، عادة ما تقع محاورتك على أنّك فيلسوف ومفكّر، ولكن وراء ما تكتبه فلسفةً وفكراً هناك خلفيّة يؤثّثها أعلام لا يصنّفون عادة على أنّهم من أهل الفلسفة، وإذا نظرنا في كتابك «الهجرة إلى الإنسانيّة»، نرى صورة جبران خليل جبران ماثلة وراء ما تكتب من مواقف؛ سواء ما يتعلّق بالهويّة أو بالسّياسة أو بالأفكار أو بالمجتمع عموماً. كيف تبيّن ذلك؟

د. فتحي المسكيني: هي خلفيّة موقّعة في كتاباتي، فلقد كتبت عن جبران منذ كتابي الأوّل «فلسفة النّوابت»، وكنت قد بدأت في مطلع التّسعينيات بمقالين؛ الأوّل كان عنوانه «هايدغر هابرماس أو كيف الكلام عن الفلسفة»، ونشر في «مجلّة الفكر العربيّ المعاصر»، وكان أوّل مقال يظهر لي على المستوى العربيّ، لكن في الوقت نفسه كنت قد نشرت مقالاً حول جبران، وكان تحت عنوان «جبران أو النّسخة العربيّة من العدميّة»، وأنا أوقّع دائماً توقيعين؛ أحدهما صريح والآخر صامت؛ التّوقيع الصّريح هو دائماً أنني أشتغل بالفلسفة، والتّوقيع الصّامت هو أنّني أنتمي إلى ثقافتي إلى حدّ «اللّعنة»، وأمارس هذا بحميّة أعمل عليها، حتّى تتحوّل إلى مقولة تفكير قابلة للهجرة إلى الإنسانيّة، فهي ليست حميّة جاهليّة، وإنّما هي حميّة إنسانيّة.

د. نادر الحمّامي: هذه الثّقافة الّتي تدافع عنها نجد صداها كثيراً في المقالات الّتي نشرتها في كتاب «الهجرة إلى الإنسانيّة» الّذي عالجت فيه مسألة الهويّة من زوايا متعدّدة، وقد جعلته يدور حول أيلان الكردي الطّفل الرّمز الّذي يهاجر إلى الإنسانيّة. هل الهجرة هنا نوع من الانزياح الدّلاليّ، الّذي يعني «اللّجوء» إلى الإنسانيّة؟

د. فتحي المسكيني: هناك فرق شديد بين الهجرة واللّجوء، وقد اخترت الأمر عمداً لرسوخ مقولة الهجرة في تراثنا الأخلاقيّ والتّاريخيّ واللّغويّ، في حين أن اللّجوء هو مشكل حديث، فلا يوجد لاجئون في الثّقافات القديمة، وربّما ظهر أوّل اللّاجئين في التّاريخ بعد تعرّض جهاز الدّولة الأمّة، للاهتزاز؛ وأشير هنا إلى النّصّ الّذي ترجمته لحنه آرنت (hannah arendt) (1906-1975) «نحن اللّاجئون»، وهو نصّ مكتوب إبّان أو بُعيد الحرب العالميّة الثّانية. إذن نحن نتحدّث عن لاجئين منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية، عندما أصبح كلّ شخص مهدّداً باللّجوء، وهذا لا علاقة له بالهجرة، فهي أمر آخر. عندما تهاجر فأنت تهاجر من أفق ثقافة أو من أفق حياة لم يعد محتملاً، وهذا هو المعنى الّذي أقرأ به هجرة النّبيّ العربيّ مثلاً، فهو قد هاجر؛ لأنّه لم يعد يحتمل نوعاً من الأذى في سبيل ما يريد أن يقول لأولئك النّاس الّذين ينتمي إليهم. فكلّ من يهاجر، إنّما يريد أن يقول إنّ شكلاً من أشكال الحياة لم يعد صالحاً في مكان ما. ولذلك، قلت الهجرة نحو الإنسانيّة وليس نحو أوربا مثلاً.

د. نادر الحمّامي: هناك من المفكّرين من يخلط بين الإنسانيّة والغرب، فيقرؤون «الهجرة إلى الإنسانيّة» في إطار التّقسيم الكلاسيكيّ غرب/ شرق، هل يفهمون الأمر على غير مقصده؟

د. فتحي المسكيني: هنا نحتاج إلى التّذكير بأنّني أتفلسف ولا أؤرّخ ولا أقدّم وثيقة سوسيولوجيّة، هناك خلط شديد بين أجناس الخطاب في ثقافتنا، حوّل بعض النّاس تقريباً إلى مثقّفين إشاعة، فأصبح هناك خبراء مخبرون... أمّا أولئك الّذين يفكّرون، فهم نادرون جدّا. لطالما وُجد المثقّف ويوجد وسوف يوجد دائماً مثقّفون، ولكنّ المفكّرين هم فئة نادرة، فالّذي يفكّر هو صاحب نوع معيّن من النّداء، قادر على التوجّه به إلى النّاس. و«الهجرة إلى الإنسانيّة» كانت نوعاً من النّداء أو من البيان الأخلاقيّ. طبعاً، للغرب تاريخ نظريّ وفلسفيّ لمصطلح الإنسانيّة، ونحن نميّز ههنا الإنسانيّة عن الإنسانويّة، فتنصيب الإنسان في مكان الإله التّقليديّ يدخل في إطار الإنسانويّة والتّشجيع على إحياء التّراث اليونانيّ الرّومانيّ كان مشوباً بنزعة إنسانويّة، لكن أوروبا بلورت منذ القرن الثّامن عشر فكرة الإنسانيّة واقترحتها على جملة الشّعوب الأخرى، ومنها الشّعوب الّتي استُعمرت وتحوّلت إلى محاور غير مباشر لفكرة الإنسانيّة. لذلك فالّذين يخلطون بين الغرب والإنسانيّة يقولون بالفرضيّة الكولونياليّة الّتي تزعم أنّ الحداثة هي الأفق الأخلاقيّ الوحيد للإنسانيّة، الشّيء الّذي استجاب له لدينا مثقّفون وباحثون كثر يرون أنّ العَلمانيّة هي نهاية التّاريخ الأخلاقيّ أو هي أفق الإنسانيّة، وهذا ترديد سخيف لأطروحة أوغست كونت (auguste comte) (1798-1857) عندما يعتبر أنّ الوضعيّة أو الوضعانيّة هي دين الإنسانيّة الجديد الّذي ينبغي أن نَدخله أفواجاً. لكنّ الهجرة إلى الإنسانيّة يمكن أن تقوم بها في بيتك وعند نفسك وفي ثقافتك وفي لغتك؛ فنحن نهاجر إلى الإنسانيّة؛ لأنّ ثقافتنا أو أفق الإنسان لدينا لم يعد محتملاً.

د. نادر الحمّامي: أبديت الكثير من التّحسّر في قولك «إنّ الموت عندنا أصبح لا يعاف الصّغار»، فهل بهذا المعنى الفكريّ الفلسفيّ وليس الجغرافيّ التّاريخيّ، تعتبر أنّ على هذا الطّفل أن يطوي نهائيّاً تاريخ الشّرق، ويمضي إلى الإنسانيّة؟

د. فتحي المسكيني: الطّفل مقولة ذات تهيّب خاص في كلّ نصوصنا منذ الجاهليّة إلى الآن، فهو لديه هذا الكم المناسب من البراءة حتّى يمكن استثناؤه. وقد واجه هذا التّصوّر مشاكل يدركها المطّلعون على تاريخ الإسلام، من مثل التّساؤل هل إنّ أبناء المشركين يدخلون النّار أم لا؟ وقد طُرح هذا السّؤال منذ القديم، فكأنّنا نقول إنّ الحرج الوحيد عندما نصنّف النّاس هو أطفالهم، وعندما نستثني الطّفل فنحن سنواصل التّاريخ الأخلاقيّ التّقليديّ. لكنّ الموت أصبح لا يعاف الأطفال ولا يحترم هذا النّوع من البراءة الّذي تأسّست عليه تلك الاستثناءات الأخلاقيّة في ثقافتنا، وهذا ينطبق على أحداث الحرب مثلاً، كأن يُقال إنّ القصف لا يعاف العجائز أو المرضى... هناك طبعاً هذه الإحراجات الأخلاقيّة أو مساحات البراءة داخل مدينة معيّنة أو وسط شعب معيّن، لكن هذا لم يعد ممكناً لدينا. فتاريخ الشّرق، الّذي هو تاريخ أخلاقيّ بالأساس، لم يعد ساري المفعول، فهناك تعطّل ما في صلاحيّة الانتماء إلى هذا الشّرق. وقد اعتبرت أيلان الكردي شخصاً مفهوميّا يمكن أن يساعدنا على استفزاز تلك المنطقة الّتي نتحاشاها عندما نتحدّث عن القضايا الكبرى، فإلى الآن لا نستطيع أن نواجه سؤال ماذا تقول أديان الشّرق كلّها حول الأطفال؟ وهل مازال يمكن لنا أن نواصل حديثها عن أطفالنا في العصور القادمة بالطّريقة نفسها؟

د. نادر الحمّامي: نذكر أيضاً أنّك تساءلت، أو ربّما ألمحت إلى سؤال «لماذا للموت كلّ هذه الأهمّيّة في حضارتنا؟»

د. فتحي المسكيني: لقد سبق أن سُئلت عن هذا حتّى من زملاء يقرؤون نصوصي فيقولون لي: لماذا تيمة الموت مرعبة في نصوصك وقد كتبت عن المنتحرين؟ لأنّ الموت لم يعد كما كان، فهو قد غيّر من أساليبه ومن أشكاله، بل لقد غيّر من رمزيّته، فنحن لا نموت بالطّريقة نفسها في كلّ عصر، النّاس يموتون داخل سرديّات ولا يموتون كالأشياء، فهم يموتون لا يَنفقون. ولا يمكن للموت أن يصبح شيئاً عاديّاً في أيّ ثقافة، فالنّاس عندما يموت لهم أحد يحصل تعطّل ما للعالم، ودريدا (jacques derrida) (1930-2004) يقول: «هي فريدة دوماً نهاية العالم»، فعندما تسمع بموت شخص لا تعرفه ينتهي نوع معيّن من العالم تحت إمضائه، ويذهب معه. يمكن طبعاً، أن نواصل هذا الأمر في نقاش جماليّ أو تفكيكيّ أو وجوديّ، ولكن هذا ليس غرضيّ. فالغرض الّذي يتأسّس عليه هذا الاحتراس من موضوعة الموت هو أن الدّين ما يزال يبرّر نفسه بالموت، وليس له أي تبرير أخلاقيّ آخر، وما عدى الموت يمكن للدّين أن يعوّض بأيّ سوسيولوجيا أو ثقافة أو أيّ نوع من الثّرثرة الأخلاقيّة الّتي يراد منها أن تتحوّل إلى معايير أو واجبات، ولكن الموضوع الوحيد الّذي لا يمكن أن نقول بخصوصه للدّين «إنّك خارج منطقة عملك» هو الموت.

د. نادر الحمّامي: طبعاً، هذا يعود إلى تصوّر الدّين لنفسه، فهو يقدّم لنا الإجابة عن سؤالين أساسيّين؛ من أين أتيت؟ وإلى أين سأذهب؟ فالقضيّة وجوديّة بامتياز، لذلك فالدّين بشكله القديم لم يبق له من أسباب الصّلاحيّة اليوم إلّا هذا القول.

د. فتحي المسكيني: القضية وجوديّة، لكن الدّين ليس وجوديّاً أبداً، فلا يوجد دين وجوديّ، ولو قبل المتديّن أو المؤمن أو حتّى النّبيّ بأنّه وجوديّ لواصل موته أو السّؤال عن موته بطرائق لا تتجاوز طبيعته البشريّة؛ فالوجوديّون هم الّذين ينظرون إلى الموت على أنّه العلامة الحاسمة على التّناهي الّذي يطبع هشاشة الوجود الإنسانيّ، ولذلك يواجهونه بالفنّ أو بالأدب أو بالمسرح أو بأشكال المقاومة والممانعة الّتي هي في آخر التّرتيب نوع من الهجرة إلى الإنسانيّة. أمّا الدّين، فلا يستطيع أن يكون وجوديّاً؛ لأنّ لديه الأجوبة، فالوجوديّة تكون عندما يكبر القلق حول الموت ولا وجود لأجوبة. والحال أنّ الدين يوفّر الأجوبة، ولذلك، فوجوديّته سيّئة أو مخاتلة، ولكنّها رغم ذلك مفيدة جدّاً. لذلك، فهذا التّعويل الكبير على الدّين من شعوب وجماعات تعدّ مئات الملايين ليس خطأ أخلاقيّاً أو هو ليس قلّة حيلة.

د. نادر الحمّامي: هناك مقال في هذا الكتاب (الهجرة إلى الإنسانيّة) يتعرّض إلى تيمة الموت، ولكن تحت لفظ «القتل»، هل تتحاشى لفظ الموت حين يرتبط بالعنف، وتستعيض عنه بلفظ «القتل»؟

د. فتحي المسكيني: القتل مشكل آخر لا علاقة له بالموت، وهو مشكل سياسيّ؛ أي أنّنا نستطيع ألّا نُقتل ولكنّنا لا نستطيع ألّا نموت. وإذا نظرنا في الحضارات القديمة فلا نجد فيها لفظ «العنف»، فهو اختراع قانونيّ حديث، وقد أمكننا الحديث عنه منذ هوبز (thomas hobbes) (1588-1679)، ولكن قبل ذلك وُجد مفهوم «الفتنة» في أفق المِلّة، باعتباره المقابل البنيوي لمفهوم «العنف» في الدّولة القانونيّة، ويمكن أن نلاحظ ذلك مع تنظيمات مثل «داعش» أو «القاعدة» أو أي نوع من الاستعمال المسلّح للدّين، أو من «الدّين المسلّح»، الّذي لا وجود في قاموسه للفظ العنف، بل هو يمارسه بنوع من الامتداد الكلاسيكيّ، ولذلك عندما نقول «إسلام سياسيّ» فذلك ينطوي على مخاتلة تتمثّل في استحضار مفاهيم الملّة في سياق ما بعد الملّة، وحتّى الإسلاميّون يمكن أن يقبلوا بهذا التّوصيف، ويمكن أن يقولوا «نعم نحن نمارس الإسلام السّياسيّ، ونعيب عليكم أنّكم تقفون عند الإسلام الأخلاقيّ، ونعيب على الآخرين استعمالهم للإسلام الفقهيّ...» ولذلك، فالإسلام «إسلامات» لا حصر لها، بينما القتل هو القتل وليس استعارة ما دام هناك أناس يُقتلون، في حين أنّ الموت يمكن أن يتحوّل إلى استعارة.

د. نادر الحمّامي: ولكنّ العنف، أيضاً، يمكن أن يتحوّل إلى استعارة إذا ربطناه بمفهوم التّضحية مثلاً، بينما القتل يبقى مادّيّاً.

د. فتحي المسكيني: كنتُ قد كتبتُ مقالاً، صدر صيف 1997، في مجلّة «دراسات عربيّة» تحت عنوان «ما هو الإرهاب؟ نحو مساءلة فلسفيّة»، قبل أن يصبح الإرهاب موضوعاً للكتابة اليوميّة بعد ذلك بسنوات، خاصّة بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، وقد ميّزت فيه بين الفتنة والعنف والإرهاب؛ ذلك أنّ الفتنة عادة ما تتمّ في أفق الجماعة الرّوحيّة، مثل دولة الإسلام الكلاسيكيّة أي دولة الملّة الّتي أرّخ لنهايتها التّاريخيّة ابن خلدون في «المقدّمة»، ولذلك فكلّ حديث عن الملّة بعد ابن خلدون هو في الحقيقة حديث عمّا بعد الملّة؛ أي سواء تعلّق ذلك بعصور الانحطاط أو بعصر الاستعمار أو بعصر الدّولة الوطنيّة، انتهاءً بعصر فشل الدّولة الوطنيّة وعودة الدّينيّ وظهور الإسلاميّين... فتلك كلّها أطر تندرج ضمن دولة ما بعد الملّة، ولدينا وثيقة نظريّة كبرى هي مقدّمة ابن خلدون حول نهاية دولة مُضَر أي دولة الملّة، فلم يعد ممكناً تأسيس دولة دينيّة في أفق المسلمين؛ لأنّ ذلك الأفق قد انتهى منذ ابن خلدون، ولم يعد يستطيع أن يعود لنا بدولة دينيّة. والاجتماع الإنسانيّ والعمران البشريّ هو الأفق الجديد الرّائع الّذي اخترعه ابن خلدون، وقد كتب الكثيرون حوله، ولكن دون أن يفهموا حقيقةً معنى جسارة هذا العنوان. فابن خلدون كان على وعي بأنّ ذلك الأفق الجديد يقابل مفهوم المدنيّة عند الإغريق، وهو ينتهي إلى اعتبار الإنسان حيواناً مدنيّاً، وليس سياسيّاً؛ لأنّ (police) هي المدينة. لكن المدنيّة دخلت الإسلام متأخّرة، وطالما أنّنا نعيش في أفق الملّة فإنّ المدينة تصبح مجرّد وعد حضريّ فقط، وعندما يظهر الإرهاب، فإنّه لا يظهر بعد فتنة الملّة، وإنّما يظهر بعد عنف الدّولة الحديثة، ولذلك لا يزال النّقاش حول تحديد مفهوم الإرهاب متواصلاً دون التوصّل إلى نتيجة.

د. نادر الحمّامي: كأنك تقول لنا إنّ الإرهاب هو نتيجة عنف الدّولة الحديثة؟

د. فتحي المسكيني: لا أقول هذا تحديداً، ولكنّه نتيجة فشل الدّولة الحديثة في تحقيق وعودها في دولة الاستقلال بالنّسبة إلينا. لا ننسى أنّ الإرهاب ضرب في الغرب أيضاً، وعليهم أن يتساءلوا بطريقة مختلفة، لماذا ظهر الإرهاب عندهم رغم أنّهم قد أسّسوا تقاليدَ للدّولة الحديثة من أجل السّيطرة على العنف، من خلال ما سمّاه ماكس فيبر (max weber) (1864-1920) «الاستعمال المشروع للعنف»، لكن الإرهاب يسخر من الاستعمال المشروع للعنف، وكلمة مشروع هنا يمكن أن تطرح مشكلاً؛ فأنا أقصد المشروع (légitime) وليس القانونيّ (légal)، فالدّولة لا تستعمل القانون فقط؛ لأنّ النّاس لا يقتنعون بما تمارسه بناءً على مطابقته للقانون، وإنّما هم يقتنعون لأنّهم اعترفوا به وشاركوا في تبريره الأخلاقيّ والمعياريّ، وعندئذ أصبح شرعيّاً أو مشروعاً. والإرهاب في الحقيقة لا يناقش البعد القانونيّ للعنف، وإنّما هو يناقش البعد الشّرعيّ له، وظهور الإرهاب كان في ظلّ أزمة شرعنة. ولذلك يبحث الإرهاب عن تلك الشّرعنة في النّصوص الدّينيّة وفي الموروث وفي مقولة الجهاد وغير ذلك؛ أي في مصادر تشريعيّة بالمعنى الأخلاقيّ وفي المدوّنة الّتي أقام عليها الشّعب الّذي نتحدث عنه علاقات انتماء راسخة تحوّلت إلى هويّة. فالإرهاب كأنّه يبتزّ هذه الشعوب، ويقول: ما دمتم لا تتقوّمون من حيث المصادر إلّا بالقرآن والسّنّة، فسوف أستعمل هذا النوع من مصادر النّفس أو الذّات استعمالاً أداتيّاً ضدّكم؛ أي ضدّ ما أصبحتم عليه، لأنّ هذه الشّعوب أصبحت حديثة، رغم أنفها وهي موضوع الحدث، والحقيقة أنّ الموضوع بنيويّاً هو الذّات في مستوى آخر من علاقتها بنفسها.

د. نادر الحمّامي: ما تقوله يثير العديد من الإشكاليّات في مستوى المفاهيم والمصطلحات، ففي الجملة الأخيرة أنت تستعمل «النّفس» و«الذّات» عوض لفظ «الهويّة»، فهل يحيل ذلك على التّمييز الّذي بين أفق الإنسانيّة ودعاة الكونيّة؟

د. فتحي المسكيني: يمكن أن أجيب عن ذلك بالتّدريج؛ لاحظ أنّنا نتحدّث لغة عربيّة لها أعمار ميتافيزيقيّة متناضدة فوق بعضها، كما أنّ اللّغات الأخرى تتناضد فيها أعمار ميتافيزيقيّة متعدّدة، ففي القرن السّابع عشر أو الثّامن عشر تمّ الخروج من أفق اللّاتينية إلى الفرنسيّة أو الإسبانيّة أو الإنجليزيّة، وهو خروج حمل معه رواسب مسيحيّة أو لاهوتيّة، ولكن هذا الاشتغال وفق برادايم جديد هو برادايم الحداثة قد علمن اللّغة قبل أن تتعلمن الأسئلة حول الله أو حول الكنيسة، لذلك فالكوجيطو الدّيكارتيّ مثلاً هو ضمير مسيحيّ لم يعد معذّباً. هنا تتداخل حتّى الأبعاد النّفسيّة والانتمائيّة في هذه المسائل.

الذّات والهويّة: نحو أخلاقيّة جديدة

د. نادر الحمّامي: هذا يحيلنا على ما ذهب إليه نيتشه من تحديد «ذات الشّعب» لتعويضها بـ «هوية الشّعب» أو الإطار الهوويّ المغلق الّذي بدأت تلك القولة في الخروج منه. ومسألة الهويّة من المسائل المركزيّة في كتاباتك، لذلك نلاحظ هذا التّفكيك الّذي فيه دعوة واضحة في كثير من الأحيان ومغلّفة في أحيان أخرى، للخروج من المعنى الهوويّ المغلق إلى معنى آخر. كيف تبيّن لنا ذلك؟

د. فتحي المسكيني: علينا أن نذكر أنّ نيتشه (friedrich nietzsche) (1844-1900) يقف في آخر سلسلة طويلة، بدأت من قبل السّقراطيّين، والّذي يشتغل بالفلسفة يعرف أنّ مبدأ الهويّة كان قد ترسّخ بشكل مبكّر في التّفكير اليونانيّ، باعتباره قانوناً للتّفكير. والمشكل أنّنا نربط بسهولة غير مبرّرة بين الهويّة والسّؤال «من؟»، فعندما نقول لك: «من أنت؟» يتبادر إلى ذهنك أنّك تُسأل عن هويّتك، وهذا فخّ نحويّ أو بلاغيّ، والحال أنّ الهويّة قد ترعرعت، باعتبارها مفهوماً فلسفيّاً في نطاق السّؤال «ما هو؟» وليس في نطاق «السّؤال من؟»، وعندما نقول: «ما هو الكتاب؟» مثلاً، فنحن نزعم أنّنا نستطيع أن نجيب بقولنا: «إنّه هو»؛ وذلك يعني أننّا ندرك الخصائص الّتي تجعل منه كتاباً وليس شيئاً آخر. والّذين يظنّون أنّ الهويّة شيء ينبغي أن ندافع عنه هم مخطئون، فلا تحتاج أيّ هويّة أن ندافع عنها؛ لأنّها ما به تكون ما أنت، فلا تستطيع أن تثبته، بينما تستطيع فقط أن تكونه، ولذلك فنحن عندما نريد أن نجيب عن سؤال «من نحن؟»، فنقول مثلاً: «نحن مسلمون» فهذا يعني أنّنا مسلمون فقط، ولا يعني شيئاً آخر، وعندما نقول إنّنا أمازيغ أو عرب أو غير ذلك، فنحن ننسب أنفسنا إلى ماهيّة ما. ولو سمّينا ذلك «هويّة» فنحن نخدع أنفسنا، فلا يمكن أن يكون السّؤال «من؟» سؤال الهويّة. ههنا لعب نيتشه دوراً حاسماً، فهو الّذي أخرجنا من سلطة السّؤال «ما هو؟» إلى قدرة «السّؤال من؟»؛ لأنّ «السّؤال من؟» يريد أن يقتدر؛ أي أن يستعمل كلّ إمكانيّة الحياة الّتي بحوزته.

د. نادر الحمّامي: هل القدرة هي الحدود الأخلاقيّة؟ وهل هي تجرّنا إلى المسألة الأخلاقيّة؟

د. فتحي المسكيني: طبعاً، فقد اختار نيتشه قطاع الأخلاق للتحقّق من هذه الأسئلة، وكتب في نطاق افتراضٍ، وهو أنّ شعباً ما عندما ينصّب لوحة الخير والشّرّ فعندها يبدأ تاريخه الأخلاقيّ ويبدأ تاريخه بعامّة؛ ولذلك فالشّعوب لا تصبح واعية بهويّتها أو بذاتها أو بوجودها التّاريخيّ عندما تبني معرفة بالطّبيعة أو تبني علماً فيزيائيّاً أو فلسفة، بل إنّها تصبح قادرة على الوعي بنفسها عندما ترسم لوحة عامّة للخير والشّرّ ولجملة القيم الأخلاقيّة، وانطلاقاً من هذا الرّسم يبدأ التّاريخ الرّوحي أو حتّى التّاريخ السّياسيّ أو التّاريخ التّاريخيّ لتلك الشّعوب. وقد وجدت منذ وقت مبكّر، عندما أخذت أبحث عن مهجتي الفلسفيّة، أنّنا لا نستطيع أن ندخل مباشرة في تنافس إبستمولوجيّ مع زملائنا الغربيّين؛ لأنّهم يصنّفون أنفسهم بعد ثورات علميّة وقانونيّة لم تقع لدينا... لكنّي وجدت أنّ نيتشه يساعدنا على أن ندخل في النّقاش دون شروط كبيرة مسبقة، فهو عندما يتحدّث عن مفهوم «الشّعب»، فإنّنا نجد أنفسنا في ذلك، فنحن شعب أو أنّنا نزعم ذلك أو يمكننا أن ندّعي ذلك من دون حرج فلسفيّ كبير. لذلك، فعندما نأخذ «السّؤال من؟» مأخذ الجدّ، فهذا يعني أنّنا سوف نتحرّر من استعمال سيّء لمبدأ الهويّة بمعنى أنّه مغلق ودوغمائيّ، وسوف نترك للنّاس إمكانيّة أن يختاروا أنفسهم وليس أن يرثوها. وهنا تتحدّد ملامح ما يسمّى «الهويّة المتحرّكة»، ويمكن لنا أن نقول نعوتاً جديدة مخفّفة حول الهويّة، وقد أصبح ذلك ممكناً، منذ إدوارد سعيد ومفكّرين غربيّين جماعويّين، تحدّثوا عن «هويّة هجينة» (hybride)؛ أي هويّة مختلطة ومركّبة ومتنوّعة. وأتصوّر أنّ استعمال الهويّة لدينا أصبح يعاني من فائض بلاغيّ خطير، حبّذا لو كنّا نستطيع أن نوقف اللّغة ونترك الألفاظ والمصطلحات تنسحب قليلاً حتّى نستطيع أن نتساوى أخلاقيّاً في ما بيننا، فلو ادّعيتَ مثلاً أنّك من يمثّل الإسلام، فماذا سأمثّل أنا؟ لذلك سيكون الحوار بيني وبينك باطلاً وسيتعطّل، ومن السّهل جدّاً أن يتعطّل الحوار بين أناس هوويّين؛ لأن ليس هناك حوار في الحقيقة بين الهويّات، وإنّما هناك فقط حوار بين الذّوات، لذلك ينبغي أن نميّز بين الهويّة والذّات، وهذا التّمييز يمكن أن يساعدنا أيّما مساعدة؛ لأنّ الذّات لا هويّة لها بالضّرورة، فهي إمكانيّة الإنسان المتاحة في ثقافة ما. د. نادر الحمّامي: يعني هذا، في المستوى الاصطلاحيّ والفكريّ، أن نستعيض عن الحوار بين الهويّات، أو لنقل الصّراع بين الهويّات، بالحوار بين الذّوات. ولكن أليس هذا الحوار بين الذّوات يحيل على البعد الفرديّ أكثر من البعد الجمعيّ أو الجماعاتيّ؟

هناك رأي واسع النّطاق ومشهور، مفاده أنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة خالية من مقولة الفرد، ولا مصلحة لنا في أن نواصل ذلك الرّأي. ولكن علينا أن نقبل بالنّتائج الّتي تدّعي أنّها موضوعيّة حول تراثنا، أو أن نقتبس علاقة تخصّنا مع هذا التّراث، ومن خلالها يمكن أن نطوّر مقولة الفرد، تلك المقولة الّتي أصبحت متّهمة؛ فالنّزعة الفردانيّة المتملّكة تُتّهم اليوم بأنّها تقف وراء كوارث أخلاقيّة في المجتمع الغربيّ. ولكن نحن ليس لدينا الحقّ في أن ننقد الفردانيّة باسم أنّنا مسلمون، مثلاً، فنحن لم نشارك في هذا التّراث الفردانيّ حتّى نتّهمه أو ننقده، وإنّما علينا أن نُسائل «من؟» الّتي تخصّنا، وينبغي أن نمارسها، ولكن ليس بشكل هوويّ، بل بالاستفادة من كلّ ما أصبح ممكناً بالنسبة إلى العقل البشريّ الآن من علوم وغير ذلك.

د. نادر الحمّامي: هل تكون مسألة الذّات لدى نيتشه مدخلاً لنقد فكرة الكونيّة من أجل تكريس فكرة الإنسانيّة عوضاً عنها؟

د. فتحي المسكيني: نعم، يمكن ذلك، لكن نيتشه أيضاً ليس إنسانويّاً، فمقولة ما فوق الإنسان هي ذلك الطّور من إنسانيّتنا الّذي ينبغي أن نتطلّع إلى بلوغه وأن نعبر إليه؛ لأنّ الإنسان الأخير الّذي صرنا نجسّده لم يعد مناسباً لكي نجدّد من خلاله مغامرة الكيان الإنسانيّ. فالكيان الإنسانيّ هو مغامرة تمرّ بأطوار من الإنسانيّة؛ وعندما نقول هذا الكلام فهو يعني ألّا أحداً منّا سوف يدّعي أنّه «الإنسان»، فلا يحقّ لأحد مثلاً أن يقول إنّه يمثّل الإنسانيّة الغربيّة أو الأوروبيّة، كما فعل هوسرل (edmund husserl) (1859-1938) الّذي يتحدّث عن «الإنسانيّة الأوروبيّة»، وهذا خطأ فادح لأنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن إنسانيّة بتوقيع قوميّ، فالإنسانيّة هي الحلّ لكي تتخلّص الشّعوب من ربقة الحدود القوميّة، ولا يجب أن تتحوّل إلى هويّة مغلقة مقابل هويّات أخرى مغلقة أيضاً، وهذا خطأ وقع فيه الفكر الغربيّ قبلنا، ليس فقط بتحوّله إلى استعمار للشّعوب الأخرى، بل لأنّه أصبح لا يستطيع أن يرى الشّعوب الأخرى أصلاً، فقد أصبحت بالنّسبة إليه غير مرئيّة، فجأة أصبح الجزء الأكبر من الإنسانيّة غير مرئيّ، ولا يراه الغرب لأنّه بنى مرآة هوويّة كبيرة جدّاً؛ رورتي (richard rorty) (1931-2007) يتكلّم عن «إنسان مرآويّ» في كتابه (philosophy and the mirror of nature) «الفلسفة ومرآة الطّبيعة»، وهو كذلك لأنّه بنى تلك المرآة الكبيرة، أو تصوّره حول نفسه واعتبره مقياس الانتماء إلى الإنسانيّة. المشكل الآن مع الفكر التّراثيّ أو السّلفيّ هو أنّه انتقائي بطريقة سيّئة، فيمكنك أن تقول إنّ القرآن مثلاً حدث روحيّ رائع يخصّنا، مثلما أنّ التّوراة حدث رائع يخصّ العبرانيّين، وهكذا، ولكن لفظ «يخصّنا» هنا هو بمعنى جماليّ نبيل، وليس بمعنى إيديولوجيّ فردانيّ؛ أي أنّك تتفرّد به دون غيرك من أعضاء الإنسانيّة، ما يجعلك تستعمله كأداة حتّى لجلد أعضاء الجماعة الرّوحيّة الّتي تنتمي إليها حين يخالفونك.

د. نادر الحمّامي: هدف الإسلاميّين اليوم، من خلال خطاباتهم، هو احتكار فهم معيّن للتراث، أو تملّك الموروث. إلى ماذا يمكن أن ينتهي هذا؟

د. فتحي المسكيني: هم لا يستطيعون ذلك، وإلّا فسوف ينتهون إلى قتل بعضهم البعض؛ فالإسلاميّون هم أجيال على مستوى التّاريخ، ثمّ إنّهم عائلات روحيّة وهوويّة مختلفة، ولو طبّقنا المنطق الهوويّ نفسه، سوف يؤدّي ذلك إلى التّقاتل في ما بينهم قبل أن يتفرّغوا إلى المعارك القوميّة ضدّ إسرائيل أو المعارك الحضاريّة ضدّ الغرب، لأنّ كلّ تنصيب للسّلوك الهوويّ يحوّل النّاس إلى حيوانات سياسيّة مرعبة. وهنا يختلط الاقتدار والعنف والإرهاب، ولو نظرت إلى مظاهرة في الشّارع سترى عنفاً؛ لأنّ شخصاً سيكسر ممتلكات عموميّة مثلاً، ولكنّك سترى أيضاً فتنةً لأنّ شخصاً آخر سيقول ذاك شيعيّ أو سنّيّ أو لا دينيّ، ينبغي أن نقتله، ثم سترى إرهاباً؛ لأنّ شخصاً ما سيفجّر نفسه ضدّ أبرياء لا يعرفهم؛ لأنّه يريد أن يحقّق فكرة أنّ هؤلاء النّاس يتعاملون مع الأجنبيّ أو هم عملاء لاهوتيّون للغرب، إلى آخر ذلك. وهذا هو «القتل من أجل القتل»، المشكل أنّ الإنسان الّذي يقتل لدينا هو إنسان يحمل توقيعاً، إمّا «ما قبل حديث» (prémoderne) وإمّا توقيعاً خرج من أفق الإنسانيّة؛ فعندما تقول مثلاً «أنا أحارب لأنّني سنّي ضدّ شيعيّ»، فأنت تستند إلى مقولات انتماء (obsolète) مات أهلها ولم يعد لها أيّ معنى. فلا يمكن أن يوجد الآن سنّي أو شيعيّ بالمعنى التّاريخيّ، وإنّما يوجد مواطنون في دول حديثة، ثمّة من يجد مصلحة في أن يجعلهم يتسمّون بهذه الأسماء الّتي لم يعد لها وجود تاريخيّ، لكن نحن الآن لسنا مسلمين بالمعنى الّذي كان في القرن العاشر الميلاديّ مثلاً، أي بالمعنى التّاريخيّ. فالمسلم التّاريخيّ قد انتهى، وإنّما الّذي يوجد الآن هو مواطن دولة حديثة، يؤمن بعقيدة الإسلام. لذلك، فالخلط بين المؤمن والمواطن هو من أكبر المصائب الّتي يواجهها النّقاش العموميّ حول الدّولة. والسّؤال الّذي ينبغي أن يُطرح هو: كيف يمكن أن نعيد تحرير مساحة الاستعمال العموميّ للدّولة أو للحقيقة أو للمعرفة، من هذا الخلط؟ علينا أن نعترف إبستمولوجيّاً، بأنّنا نتكلّم أكثر من لغة، فنحن نتكلّم لغة تراثيّة ولغة حديثة ولغة محلّيّة دارجة...ونحن نتشارك في هذا كلّه، وينبغي ألّا يستعمله أحدنا ضدّ الآخر، كأن يقول «أنا أمازيغيّ ولست عربيّاً»، ويقول غيره: «أنا عربي ولست أمازيغيّاً»؛ لأنّ ذلك يحمل إرادة إساءة من نوع آخر.

د. نادر الحمّامي: تحدّثتَ عن الدّولة والمواطنين، ولكن لو بقينا في المجال الخاصّ، ألا ترى أنّ للدّولة الأمّة مسؤوليّة كبرى في ما نشهده اليوم من أحداث؛ لأنّها تركت فراغاً حول مسألة الهويّة استغلّته حركات الإسلام السّياسيّ؟

د. فتحي المسكيني: حين ندرس تاريخ المفهوم الحديث للهويّة دراسة جدّيّة، سنجد أنّ الدّولة الأمّة هي الّتي اخترعت مفهوم الهويّة، فما نسمّيه بالأوراق الثّبوتيّة، أو أوراق الهويّة، هو اختراع حديث، فلا توجد هويّة في ما قبل الحداثة، وهو اختراع قانونيّ رسّخت به الدّولة الأمّة اسماً جديداً لهذا الحيوان البشريّ الّذي ورثته عن الملّة، وحوّلته إلى مواطن، فوحده المواطن يحمل أوراق هويّة، ومن لا يحمل أوراق هويّة ليس مواطناً. لقد وجدت الدّولة الأمّة هذا الاختراع مناسباً تماماً لتحويل النّاس إلى أرقام وإلى فئات وإلى طبقات وإلى أدوار... ومن ثمّ تحويل كلّ فرد إلى شخص قانونيّ يمكن محاسبته، ليس قانونيّاً فقط، بل أخلاقيّاً أيضاً. لقد ظهر النّقاش الإسلامويّ لدينا حول الهويّة، ولم يخترعه الإسلاميّون، وإنّما اخترعه الفلاسفة الجماعويّون في أمريكا، انطلاقاً ممّا ورثوه عن وضعيّة إبستمولوجيّة كوّنتها العلوم الاجتماعيّة؛ أي تقريباً ما بين 1930 و1960. وقد تبلور، منذ ذلك الزّمن، مفهوم الهويّة بالمعنى السّوسيولوجيّ، وتأسّس عليه مفهوم الشّخصيّة. وقد تأسّس مفهوم الهويّة في الكتابات السّوسيولوجيّة الأمريكيّة على مفهوم (le soie/ self)، وترجم بعد ذلك إلى اللّغة الألمانيّة بعبارة (identit?t)، لكن نجد أن هابرماس مثلاً قد اعترض على ذلك، واعتبر أنّ (self) ليست (identit?t)، وهذا يعني أنّنا عندما نقول «ذات» في لغة ما و«هويّة» في لغة أخرى، فإنّنا نكون قد أسأنا القصد؛ ذلك أنّ الأشخاص، من وجهة علم الاجتماع، يبلورون أنواعاً معيّنة من العلاقة بأنفسهم تخلق مساحة للشّخصيّة، وعندئذ يصبح لهم أدوار معيّنة يمكن لهم أن يلعبوها في مجتمعهم. وقد انتبه الجماعويّون إلى أنّ الفلسفة اللّيبراليّة قد أنتجت أفراداً عاجزين عن الانتماء إلى أنفسهم، فهؤلاء الأفراد متملّكون منذ ج. لوك (john locke) (1632-1704) وهوبز، ولذلك وقع الخلط بين الفرديّة والملكيّة، واعتُبر الفرد اجتماعيّاً واقتصاديّاً معاً. وترتّب عن ذلك ترجمة الفرد على المستوى الأخلاقيّ إلى «شخص» وترجمته على المستوى القانونيّ إلى «مواطن»، ولكن لم تقع ترجمته إلى «إنسان»، لذلك فعندما ظهر الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، لم يجد تسمية واضحة للفرد؛ لأنّ أدواره كلّها تمّ ملؤها بوجوه ذاتيّة جديدة لم يعرفها التّصنيف القديم، فأصبح شخصاً أخلاقيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً إلى جانب كونه ذاتاً فلسفيّة وميتافيزيقيّة وخلقيّة وجماليّة... المهم هو أنّنا عندما نقول إنّ الدّولة قد تركت مجال الهويّة فارغاً، فهذا ليس صحيحاً، لأنّ الدّولة الأمّة هي الّتي اخترعت مفهوم الهويّة، وقد ظهر القول بفراغ الهويّة عندما ضعف مفهوم الدّولة الأمّة بداية من تسعينيات القرن الماضي، وذهب أصحابه إلى التّشكيك في مبدأ السّيادة من أجل تبرير التّدخّل الخارجيّ في المساحة الوطنيّة على أساس أنّها ليست وطنيّة، وإنّما هي إنسانيّة وتابعة للقانون الدّوليّ. وقد سبق ظهورُ خطاب حقوق الإنسان هذا الكلام المخاتل منذ فترة الثّمانينات، ونتساءل ههنا لماذا لم يظهر خطاب حقوق الإنسان في الأربعينيات مثلاً؟ مع أنّه قد ظهر الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، إلّا أنّه لم يكن ناجماً عن نقاش، ولم يولّد نقاشاً طيلة ثلاثة عقود تلته؛ أي أنّه ظهر في وقت كانت فيه الوجوديّة هي فلسفة ذلك العصر، فلا علاقة بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخطاب حقوق الإنسان الّذي تأخّر عنه، ولذلك ظهرت الحاجة إلى استدعاء فلاسفة قدماء لتأسيس ذلك الخطاب وتمّ الرّجوع إلى الكتب الدّينيّة وفلسفة ج. لوك وكانط (emmanuel kant) (1724-1804)، إلى جانب محاولات تنشيط مصادر لم تعد عاملة على مستوى تصوّر الإنسان المعاصر لنفسه. فالإنسان الّذي ظهر بعد الحرب العالميّة الثّانية كان إنساناً محطّماً، ولم يكن إنساناً قانونيّاً، بل كان كائناً وجوديّاً. لذلك فالسّبب الّذي يقف وراء استدعاء حقوق الإنسان من جديد في الثّمانينيات، إنّما هو ظهور السّياق المناسب لتسويق تلك المبادئ، من أجل أن تستقيد الخطابات المسيطرة...

د. نادر الحمّامي: ولكن خطابات حقوق الإنسان اليوم بدأت تُستأنف مرّة أخرى، حتّى وإن كان ذلك بشكل آخر.

د. فتحي المسكيني: نعم، فطالما أنّ ذلك الخطاب لا زال يدرّ «لبناً أيديولوجيّاً أو أخلاقيّاً أو معياريّاً» فسوف يتواصل الالتجاء إليه. فثمّة موضوعات تعود دائماً، من ذلك مثلاً، عودة مفهوم الإنسان في مراحل مختلفة من تاريخ الإنسان، وعودة مفهوم الهويّة أيضاً في إطار الدّولة الوطنيّة. وأصبحت الهويّة تعني (la conscience nationale)، ويعبّر عنها من خلال الأوراق الثّبوتيّة الّتي ليس سوى مجرّد وثيقة. ومع النّقاش الجماعويّ حول الهويّة أصبح المشكل متعلّقاً بالهويّة الثّقافيّة فقط، وقد تمّ الانتقال بذلك إلى مستوى مختلف من النّقاش حول الهويّة، وفي هذا الإطار ظهر الإسلاميّون واستفادوا من السّياق الإبستمولوجيّ والنّقاش حول الهويّة وكتابات مفكّرين مثل ساندل (michael sandel) (1931) في أمريكا، وتشارلز تايلور (charles taylor) وحتّى بول ريكور (paul ricœur) (1913-2005) في كتابه الأخير حول «الهويّة السّرديّة» وصولاً إلى إدوارد سعيد وغيره، وقد تمّت الاستفادة من هؤلاء بشكل غير مباشر؛ أي أنّ ذلك تمّ بنوع من الانتهازيّة النّظريّة، فنقاش الإسلاميّين حول الهويّة كلّه انتهازيّة نظريّة لوضعيّة لا تؤمن بهم، هي الجماعويّة. ولذلك ثمّة خلط لديهم بين الجماعويّة الأمريكيّة واللّيبراليّة من خلال النّقاش الّذي دار بين ساندل وج. رولز (john rawls) (1921-2002)؛ أي بين ليبراليّ وجماعويّ، لكنّنا لا نجد مقابلاً مناسباً لذلك النّقاش لدينا، وإنّما نجد نقاشاً بين علمانيّ وإسلاميّ، حيث يظنّ العلمانيّ نفسه ليبراليّاً وفي الحقيقة هو ينتمي إلى طور، فقط، من أطوار الفلسفة الليبراليّة، وغالباً ما لا يعرفه. في حين أن الإسلاموي يظنّ أنّه جماعويّ من حيث هو مؤمن قبل كلّ شيء، ولكن الجماعويّ الأمريكيّ يقدّم نفسه، باعتبار أنّه مواطن قبل كلّ شيء، ولديه هويّة ثقافيّة، ولا يعني ذلك أنّه مُؤمن.

د. نادر الحمّامي: لذلك فحتّى النّقاشات داخل دائرة الإيمان في العالم الغربيّ قد تتخلّى أحياناً عمّا يعتبر إيماناً في مجال النّقاش العامّ، فنجد نوعاً من المناظرات الّتي يقودها رجل دين ولكنّه لا يستعمل مطلقاً في حجاجه لا المصطلحات ولا المصادر الدّينيّة.

د. فتحي المسكيني: هذا المشكل أشار إليه آخر فيلسوف كبير في الغرب، وهو هابرماس (jürgen habermas) (1929) في كتابه «بين النّزعة الطبيعيّة والدّين» وكان ذلك نتيجة حواره مع راتسينغر. فهناك نموّ داخليّ في أعمال هابرماس، منذ كتابه «نظريّة الفعل التّواصليّ» نجد نقاشاً كبيراً مع مشكلة المقدّس ومع الصّور الدّينيّة الّتي سمّاها «الصّور الميتافيزيقيّة الدّينيّة للعالم»، إذن فهذا نقاش مترسّخ لديه، وقد كان يظنّ أنّ الدّين خرج من النّقاش نتيجة خلفيّته اليّساريّة والماركسيّة، ولكن بعد 11 أيلول/سبتمبر أتى هابرماس أخيراً إلى مواجهة المشكل، وانتبه إلى ضرورة إعادة النّقاش الّذي يحمل عنواناً عائداً في الفلسفة الغربيّة هو (foie et savoir) «الإيمان والمعرفة»، وهذا ما نجده لدى كانط ولدى هيغل (georg wilhelm friedrich hegel) (1770-1831)، ولدى شيلنغ (friedrich wilhelm joseph von schelling) (1775-1854)، ولدى فيشته (johann gottlieb fichte) (1762-1814)، ونلاحظ أنّ العنوان نفسه يعود لدى هؤلاء جميعاً، ولكن بطرح آخر. أمّا هابرماس، فهو يعتبر أنّنا دخلنا في طور نقاش عموميّ بين المواطن المؤمن والمواطن غير المؤمن وليس بين المؤمن والمواطن، كما هو لدينا في العالم العربيّ، حيث يتناقش إسلاميّون وعلمانيّون، فيغدو النّقاش بين مؤمنين وكفّار بالنّسبة إلى النّظرة العامّة، في حين أنّه يتمّ بين المواطن المؤمن والمواطن المحايد دينيّاً أو غير المؤمن، إذا أراد أن يؤشّر على ذلك ولكنّه يبقى مواطناً. ولأنّ النّقاش يكون بين مواطنيْن، فهابرماس يقترح أن نطبّق «برادايم التّرجمة»، وهو يعني أنّ المواطن المؤمن لا يستطيع أن يتحاور مع المواطن غير المؤمن إلّا إذا نجح تداوليّاً في أن يترجم المضامين الدّلاليّة لعبارات أو مواقف دينيّة إلى معنى مشترك، كأن يحوّل مثلاً مقولة إيمانيّة إلى عبارة دستوريّة وقانونيّة وأخلاقيّة بالمعنى الحديث المحايد دينيّاً، حتّى يستطيع أن يقنع بها الطّرف الآخر، الّذي هو مطالب أيضاً بأن يترجم المضامين العلمانيّة الحديثة إلى معجم دينيّ، حتّى يستطيع المواطن المؤمن أن يفهمها، وأن يتحاور معه في إطار المجتمع المدنيّ، ومن ثمّ ينجح في إقامة تواصل أو علاقة تواصليّة؛ أي تلك العلاقة القائمة على نوع من الفعل الّذي يسمّيه هابرماس «الفعل الموجّه نحو التّفاهم»؛ أي إنّ كلّ ما أفعله معك هنا هو موجّه نحو إقامة تواصل؛ أي إنجاز فعل موجّه نحو التّفاهم، وإذا لم يكن هذا هو قصدي، فسأكون في نظر هابرماس، أقوم بفعل استراتيجيّ بناءً على أشياء أخرى؛ منها مثلاً النّجاعة في أن أسيطر على إمكانيّة الحقيقة دونك وأقصيك منها.

الحرّيّة والتّعايش

د. نادر الحمّامي: من بين أسس الهويّة، مسألة التّفاهم أو التّعايش وما يرتبط بها من غيريّة وذاتيّة، إلى جانب قضيّة الحرّيّة؛ ذلك أنّ التّعايش يتطلّب مَن نعيش معه، بخلاف ما ذهب إليه شوبنهاور (arthur schopenhauer) (1788-1860) مثلاً، الّذي ربط الحرّيّة بالوحدة، وفي ذلك إلغاء لمسألة التّعايش، وربّما لم تنشأ محاولات تقويم هذه النّظرة إلّا مع نيتشه، باحتشام كبير، ليتمّ تطويرها مع هايدغر (martin heidegger) (1889-1976) في «الكينونة والزّمن»، ليتطوّر لاحقاً مع حنه آرنت تلميذة هايدغر، وينتهي مع ليفيناس (emmanuel levinas) (1906-1995) إلى طرح قضيّة فلسفيّة ما تزال محلّ جدل كبير إلى الآن، وهي أن نعرف ذواتنا بالآخر ونعرف الآخر بذواتنا. فكيف تنظر إلى هذه المسألة؟

د. فتحي المسكيني: مسألة «الهو هو» و«الغير» (le même et l'autre) بلُغة أفلاطون (platon) (427 ق.م-347 ق.م)، الّتي وصلت إلينا من خلال نصوص الفارابيّ (874-950) أو نصوص ابن رشد (1126-1198)، أصبحنا في بداية هذا القرن الواحد والعشرين نبدو كأنّنا نستأنفها، وفي الحقيقة نحن نتكلّم رطانة مختلفة؛ لأنّ «الهو هو» أصبح يدّعي أنّه الهويّة، والهويّة تدّعي أنّها الإجابة المناسبة عن سؤال من نحن، ونحن ندّعي أنّنا نستطيع أن نفهم «الغير» بوصفه غيرنا، وهذا قد طرح مسائل فلسفيّة كبيرة، فهل أنّ هذا «الغير» مختلف عنّي فقط، أم أنّه يغايرني إلى درجة أنّه لا يمكن أن يكون أنا؟ المشكل الّذي طرحه شوبنهاور أن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرّاً فعلاً إلّا عندما يكون وحيداً، ولو ترجمنا هذا القول على مستوى الآخر، فسنقول إن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرّاً إلّا بلا آخر. طبعاً، نحن لا نلوم شوبنهاور على هذا؛ لأنّ له الأساس الفلسفيّ الّذي يقيم عليه هذا النّوع من الطّرح، لكنّه ليس معلّماً كبيراً للإنسانيّة من هذه الزّاوية، فهو فيلسوف لا يؤسّس مجتمعاً. وبحسب تصنيف الفلاسفة، نجد فلاسفة يعدوننا بنوع معيّن من المجتمع أو من التّعايش بين النّاس، وهم يشبهون في هذا الأنبياء، كما نجد فلاسفة لا يعدوننا بأيّ شيء عدا أن نصبح متألّهين أو متوحّدين أو فنّانين، وقد كتب ابن باجة (1080-1138) كتاباً حول «تدبير المتوحّد»، لكن تلك «الوحدة» قد غيّرت من ملامحها؛ فلا نستطيع أن نكون وحيدين؛ لأنّ عناصر إنسانيّتنا تفترض وجود آخرين عديدين وليس آخراً واحداً، فنحن موجودون في سرديّة وحدويّة لها أكثر من أربعة آلاف سنة، وهي تشكّل لنا ذاكرة ورواسب أخلاقيّة ومصادر لذواتنا أو لأنفسنا، ولذلك فإنّ أسلافنا يشاركوننا في كلّ كلمة ننطق بها في أيّ موضوع، هذا عدا أنّ أسماءنا نفسها هي إشارات تستفزّ، فعندما نعطي اسم «محمّد» لشخص ما، فكــــأنّنا نعتبر أن العمر الرّمزيّ لهذا الشّخص هو 1400 سنة، وهذا يعني أنّ الآخر ماثل هنا دائماً. وفي مجتمع هوويّ مركّب ومكوّن من عنصر قوميّ واحد، فالآخر لا وجود له، أو يُربّى النّاس على اعتباره ذلك الخارج الّذي لن نلتقي به إلّا على حدودنا، وهذا خطأ كبير، لأنّه يؤدّي إلى بناء دكتاتوريّات، فالفكر الدّكتاتوريّ هو فكر هوويّ يؤمن بزعيم أوحد، وهو لم يصبح كذلك إلّا لأنّ تصوّرنا للإنسان قائم على الهويّة الواحدة، فعندما نربّي أطفالنا مثلاً على أن يكونوا مسلمين فقط، فكأنّنا نربّيهم على انتظار الدّكتاتور ونعلّمهم أن يتهوّوا، ولفظ التّهوّي نحته الكندي (805-873) في «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، وعندما نتهوّى فنحن نقبل على أنفسنا أن نفتعل وأن نطاوع وأن نصبح هوويّين. وعندما نصرّ على هذا النّوع الهوويّ من تربية الإنسان، فذلك يعدّ كارثة أخلاقيّة، لأنّه لا يؤهّلنا للهجرة إلى الإنسانيّة، كما لا يؤهّل ثقافتنا لاحتمالات الكونيّة. ومفهوم الكونيّة نفسه ليس بمنأى عن النّقد، فيمكن أن يتحوّل إلى متراس أو حاجز أمام الثّقافات الأخرى.

د. نادر الحمّامي: لنقل بوضوح أنّك تعوّض مفهوم الكونيّة (universalité) بمفهوم الإنسانيّة (humanité)، وأنّك تعتبر أن الأفكار المتعلّقة بالهويّة يجب أن تُطرح للنّقاش في إطار التّحوّل من الكونيّة إلى الإنسانيّة.

د. فتحي المسكيني: نعم، علينا القيام بذلك رغم أنّ مفهوم الإنسانيّة يبدو متعباً ومرهقاً نتيجة النّقد الهائل الّذي سُلّط عليه، من خلال التّفكير الّذي نقد فلسفة الذّات وفكرة الإنسانويّة. فمن الرّائع أنّ سارتر (jean-paul sartre) (1905-1980) مثلاً، اعتبر أنّ الوجوديّة مذهب إنسانيّ، في وقت كان يبدو فيه الفيلسوف قد حسم أمره إزاء الإنسانيّة، وطوّر نزعة مضادّة للإنسانويّة مع هايدغر ونيتشه، وقام بنوع من المراجعة لفكرة الإنسان مع فرويد (sigmund freud) (1856-1939). لذلك، فثمّة مفاهيم تبدو لنا مرهقةً نتيجة ما كتب عنها أو ما سُلّط عليها من نقد، إلّا أنّها ما تزال تحتمل وعوداً كبرى لم تُستنفذ بعدُ. من ذلك أنّ هابرماس مثلاً، يفترض أنّ العقلانيّة مثل الحداثة، هي طاقات لم تُستنفذ بعد، ولذلك فهو يسمّي الحداثة «مشروعاً لم يُنجز بعد»، بمعنى أنّه مشروع مستمرّ ومفتوح، ولذلك نجد رفضاً واسعاً لفكرة «ما بعد الحداثة». فهابرماس يرفض ذلك في سياق الرّدّ على ليوتار (jean-françois lyotard) (1924-1998)، الّذي قدّم الحداثة باعتبارها «أزمة السّرديّات الكبرى»، فعندما نقول إنّ التّاريخ الحديث هو تاريخ التّقدّم، وإن المجتمع يقوم على مبدأ الذّاتيّة أو الفرديّة، وإنّ العامل، بالمعنى البلوريتاريّ، لبّ الصّراع في المجتمع الرّأسمالي... فهذه كلّها سرديّات كبرى. فالسّرديّات الكبرى الّتي يقصدها ليوتار هي سرديّات حديثة فقط، ولذلك فهو لا يتحدّث عن الإسلام، على سبيل المثال، باعتباره أحد تلك السّرديّات الكبرى، وقد انتهى إلى أنّ من نخاطبهم لم يعودوا على ثقة في ما نقول لهم، نتيجة أنّ هذه السّرديّات قد دخلت في طور أزمة شرعنة أو شرعيّة (légitimité)، بمعنى أنّ المعرفة الّتي نُدلي بها إلى النّاس حول أنفسهم أو حول الآخرين أضحت جزءاً من خطّةِ ما لممارسة نوع من السّلطة عليهم أو على عقولهم.

د. نادر الحمّامي: هل أنت مع القائلين إنّ زمن السّرديّات الكبرى قد انتهى دون رجعة؟ ألا يمكن للعقل البشريّ اليوم أن يؤسّس لسرديّات كبرى أخرى جديدة؟

د. فتحي المسكيني: سوف يستمرّ العقل البشريّ في إنتاج سرديّات جديدة، وهذه السّرديّات سوف تستمرّ في الادّعاء بأنّها سرديّات تأسيسيّة. لقد تكلّم هيغل، مثلاً، عن نهاية التّاريخ، وهو يعلم أنّ التّاريخ لم يتوقّف بعد أن عرفنا نهايته التّأمّليّة أو الأخلاقيّة؛ ونستنتج من ذلك أنّ النّقاش حول فكرة ما يمكن أن ينتهي، ولكن النّاس سيواصلون استدعاء تلك الفكرة، ويعيشون تاريخهم بشكل ما بعد تاريخيّ. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالنّقاش حول الحروب القوميّة اليوم يتمّ بشكل ما بعد قوميّ، إذ لم يعد ممكناً للدّولة الأمّة أن تخوض حروباً قوميّة، ورغم ذلك، سنواصل الحديث عن انتمائنا لأوطاننا وعن الدّفاع عنها، بشلّ ما بعد قوميّ. والتديّن الرّاهن هو ظاهرة ما بعد دينيّة، لكن التّاريخ سيواصل إنتاج مؤمنين جدد، هم مؤمنون ما بعد دينيّين أو ما بعد لاهوتيّين، لأنّك لن تجد شخصاً يقول لك، اليوم، أنّه ينظر إليك نظرة لاهوتيّة، فمفهوم اللّاهوت قد انسحب، لكن الدّين ما يزال يكلّمنا.

د. نادر الحمّامي: انسحب مفهوم اللّاهوت لكن الفكرة القديمة لا تزال موجودة، وذات تأثير في المجال الإسلاميّ عبر إنتاج ثنائيّات لمفاهيم بعينها. من ذلك مثلاً، قضية الهويّة، ونجد أنّك قد بحثت فيها في «الهجرة إلى الإنسانيّة» من خلال مفهوم «النّصر» في علاقة بـ «الغيريّة»، ورأيتَ أن علاقتنا بالآخر ظلّت قائمة على ذلك المفهوم، فكأنّنا نخلق عدوّاً من أجل أن نعرف أنفسنا بتمايزنا عنه، في حين أنّ المجتمعات الّتي تحوّلت خرجت من مرحلة كونها شعوباً قائمة على النّصر إلى مجتمعات أصبحت قائمة على النّجاح، وهكذا أصبح مفهوم «النّجاح» في مقابل مفهوم «النصر».

د. فتحي المسكيني: هذا التّمييز الّذي وضعته بين شعوب تنتصر ومجتمعات تنجح، لم يكن، في الحقيقة، تمييزاً بين مجتمعات تعوّل على الدّين ومجتمعات تعوّل على العلم، فيمكن أن تنجح بالدّين كما يمكن أن تنجح بالعلم، ويمكن أن تنتصر بالدّين كما يمكن أن تنتصر بالعلم، لكن المشكل يكمن في كيفيّة تمثّل الكيان الجمعيّ لنفسه، حتّى نكون في النّهاية قادرين على أن نعيش داخله، وأن نشارك الآخرين في تعريف أنفسنا من خلاله، وأن نتأوّل مصادر أنفسنا اعتماداً على ذلك. لكنّ الدّولة الأمّة لا ترى المجتمعات، وكأنّها تريد أن تقول أنتم شعب ولكم سيناريو من الانتصارات الّتي ينبغي أن تحقّقوها لتكونوا شعباً خالداً، والحال أنّ هذا الحلم القوميّ لم يعد مقنعاً للنّاس، وهم يجدون حرجاً في أن ينتموا إلى قوميّتهم، أو في أن ينتموا إلى دولهم انتماءً قوميّاً، فيغيّرون انتماءهم ليصبح انتماءً إلى مجتمعات؛ فلا يمكن أن نتحدّث عن الفرنسيّ اليوم مثلاً، على أنّه ذلك الّذي ينتمي إلى فرنسا باعتبارها الدّولة الأمّة، أي فرنسا الّتي تريد أن تنتصر على ألمانيا، أو تحارب في إفريقيا بدافع قوميّ، ولكنّنا نتحدّث عن أولئك الّذين ينتمون إلى المجتمع الفرنسيّ. فالدّولة دائماً هي الدّولة ولن تغيّر من منطقها، تماماً مثل السّلطة، والسّلطة هي نفسها، سواء عند اليونان أو عندنا نحن.

د. نادر الحمّامي: ألا يُعدّ انتظار تغيير من الدّولة ضرباً من الوهم؟

د. فتحي المسكيني: انتظار التّغيير يخفّف شكل الحياة بالنّسبة إلى النّاس الّذين يقيمون في أفق الدّولة؛ أي السكّان، لذلك لا يتكلّم فوكو (michel foucault) (1926-1984) عن الشّعب، وبالنّسبة إليه ثمّة فقط «سُكّان» (population)، إلّا أنّ الدّولة الأمّة تخاطب النّاس باعتبار أنّهم شعب، ولكنّها تعاملهم، في الوقت نفسه، باعتبار أنّهم سكّان.

د. نادر الحمّامي: أو لنقل إنّها تعاملهم باعتبار أنّهم جماهير.

د. فتحي المسكيني: «الجماهير» توصيف يساريّ، يُراد منه القول: نحن العُمّال نستطيع أن نكوّن كتلاً اقتصاديّة اجتماعيّة أو كتلاً حيويّة للدّفاع عن أنفسنا أو للدّفاع عن حقوق ما ضدّ طبقة أخرى أو ضدّ دولة لا تعترف بنا، إلّا أنّ المجتمعات أصبحت تنجح؛ لأنّها لم تعد تخوض معارك الانتصار، ونحن في تونس مثلاً، عندما نقول إنّنا قمنا بثورة وكتبنا دستوراً، فهذه كلّها ليست انتصارات شعب، وإنّما هي أشكال من برامج النّجاح الّتي يمكننا أن نعِد بها أطفالنا.

د. نادر الحمّامي: ألا يجعلنا هذا الوعد نسير في الاتّجاه الصّحيح للتّاريخ؛ بمعنى أن نتحوّل من ثقافة النّصر إلى ثقافة النّجاح، فالنّجاح هو ما يرتبط بمقولة «نموذج العيش» كما بينتَ ذلك؛ أي عوض الحديث عن نصر وانتصار يصبح مشغلنا إنتاج نموذج العيش؟

د. فتحي المسكيني: نحن لا نجدّف بمصطلح الدّولة الأمّة، لكن نضعه في سياقه التّاريخيّ حتّى نتحرّر من سطوته، فإذا استُعملت «الدّولة الأمّة» أو نُشّطت باسم حزب سياسيّ مثلاً، يدّعي أنّه يريد أن يدفع شعباً ما لخوض معارك الانتصار، فإنّ الأفق اليوم لم يعد ملائماً لذلك، ومن ثمّ فالمشكل يكمن في التّوقيت التّاريخيّ، فنحن نوقّت أنفسنا بشكل سيّء؛ لأنّنا عندما نقول مثلا «نحن مسلمون»، ينبغي أن نكمل الجملة بدقّة، كما يلي «نحن مسلمون في بداية القرن الواحد والعشرين، بعد انحسار دور الدّولة الأمّة في بلورة شكل العيش للمواطنة الحديثة». عندما نتكلّم بهذه الدقّة، سيختلف الأمر كثيراً، لكن لو أخذ كلّ منّا يمارس نوعاً من التّعمية المنهجيّة حتّى يستطيع أن يقدّم مضموناً لا يبرّره السّياق التّاريخيّ الّذي نعيش فيه، فعندئذ لن يحصل الاتّفاق. وإذا اعتبرنا أنّ اليسار إيديولوجيّ وأنّ الّذين ينشّطون المدوّنات الدّينيّة دعويّون، فإنّنا سنجد في النّهاية أنّ الإيديولوجيّ والدّعويّ ليسا سوى خطّتين لإنتاج وعي زائف بالمرحلة.

د. نادر الحمّامي: الوعي الزّائف الّذي لن يوصل إلى التّمييز، في نموذج العيش، بين ما يمكن أن نسمّيه الحياة الخاصّة والحياة العامّة؛ لأنّ الدّعوي والإيديولوجي لا يوليان اهتماماً كبيراً للحياة الخاصّة القائمة على الخير، بل يتّجهان إلى فكرة العدل في الحياة العامّة.

د. فتحي المسكيني: في فترة ما تمّت بلورة التّمييز بين الخاصّ والعموميّ (publique)، وليس العامّ (le général)؛ أي بين دائرة الحياة الخاصّة ودائرة الحياة العموميّة، وقد اعتُبر ذلك مكسباً في طور ما من بلورة الأفكار الحديثة، لكن يمكن أن ننتبه إلى أمر مختلف في الفكر الماركسيّ وما بعد الماركسيّ؛ فمع أنطونيو نيغري (antonio negri dit toni negri) (1933) نلاحظ أن التّمييز اللّيبراليّ بين الخاصّ والعموميّ لا يكفي لإقامة العدل الّذي نتحدّث عنه؛ لأنّ ترك الحياة الخاصّة للنّاس هو نوع من التّواطؤ ضدّهم، لأنّهم إذا كانوا لا يملكون لقمة العيش مثلاً، وتقول لهم إنّ مسألة لقمة العيش تدخل في نطاق الحياة الخاصّة، فأنت تريد أن تتخلّص من واجباتك نحوهم. ولذلك اقترح نيغري تمييزاً جديداً بين المفرد (le singulier) (وليس الفرديّ) والمشترك (le commun). فهل الهويّة مشكل متعلّق بالحياة الخاصّة أم بالحياة العموميّة؟ إذا قلنا إنها تتعلّق بما هو مفرد وليس مشتركاً سنطرح مشكلين مختلفين؛ لأنّ النّاس سيتساءلون مثلاً، كما ظهر مؤخّراً في تونس، هل للمثليّين الحقّ في أن يمارسوا قناعاتهم؟ فهل سنعتبر أن ذلك يدخل ضمن الحياة الخاصّة أم ضمن الحياة العموميّة؟

د. نادر الحمّامي: كأنّك تشير إلى أن الطّرح الحداثيّ القائل بوجوب إبقاء الدّين داخل دائرة المجال الخاصّ والفرديّ، هو طرح خاطئ، وأنّ المسألة الدّينيّة يجب أن تطرح في المجال العموميّ لنقاشها، حتّى لا تكون حجّة لدى شقّ آخر من المعادين للفكر الحداثي، ليقدّموا أنفسهم على أنّهم هم الوحيدون المكلّفون بفهم الظّاهرة الدّينيّة؟

د. فتحي المسكيني: نعم، هو مشكل مركّب، وينبغي أن نتلطّف في بلورة التّمفصل الّذي يؤدّي إلى الإحراج في كلّ مرّة، فعندما نقول علينا ترك الدّين أو الإيمان للحياة الخاصّة، فهذا مغرٍ على مستوى التّبسيط المنهجيّ للنّقاش، والأمر سيفيد في بعض المعارك، ولن يفيد في بعض المعارك الأخرى، ولو ذكرنا المثليّين لقلنا ربّما ترك هذا المجال من حقهم في مستوى الحياة الخاصّة مفيد أكثر، ولكن في المسألة الدّينيّة سيصبح الأمر طمساً للخطورة الّتي علينا أن ننتبه إليها، فالمنتقبة مثلاً تمارس حقّاً شخصيّاً في حياتها الخاصّة عندما تظهر في الفضاء العموميّ وهي منتقّبة، وهذا يطرح إشكالاً.

د. نادر الحمّامي: إذا قمنا بعمليّة قياس، فالشّعار الأوّل لدى المدافعين على النّقاب، هو أنّه يدخل ضمن الحرّيّة الشّخصيّة.

د. فتحي المسكيني: هناك شيء ينبغي أن نثبته ههنا، وهو أنّك لا يمكن أن تدافع عن نفسك بقيم لا تؤمن بها.

د. نادر الحمّامي: نعم، ولكن إذا وضعتَ هذه المسألة في إطار القياس، فإنّك ستعطي القائلين بذلك سلاحاً.

د. فتحي المسكيني: أنا أتحدّث عن إطار الصّلاحيّة المعياريّة لهذا النّوع من القول، كأن يقدّم شخص نفسه على أنّه يرفض، مدوّنة حقوق الإنسان أو مدوّنة الذّات الحديثة أو مدوّنة الفرد الحديث، جملة وتفصيلاً، ثمّ يقول إنّ من حقّي أن أتمتّع بدائرة الحياة الخاصّة.

د. نادر الحمّامي: والعكس صحيح، فهناك من الحداثيّين من يدافع عن عقوبة الإعدام، على سبيل المثال.

د. فتحي المسكيني: نعم، فتجزئة النّقاش يمكن أن تؤدّي إلى كوارث، ولذلك ينبغي أن نعالج المسألة، باعتبارها مترابطة أو مركّبة في سياق واحد؛ فعندما نقول يجب أن يُترك الدّين لمجال الحياة الخاصّة، فذلك أخطر من أن يترك إلى أحد ليتصرّف فيه، وتلك الخطورة عابرة للأفراد، بل هي عابرة لشعوب بأكملها؛ لأنّها مشاكل معولمة، قابلة للتأثّر بما يسمّى (l'effet papillon) «أثر الفراشة»، الّذي يعني أنّ ما يمكن أن يحدث هنا، يمكن أن يحدث في أماكن أخرى بطريقة العدوى. فكلّنا معرَّضون إلى معارك جديدة، هي معارك المناعة، وقد بيّنت في بعض نصوصي السّابقة كيف أنّنا ننتقل من مشاكل الجماعة إلى مشاكل المناعة؛ إلّا أنّنا يمكن أن نتخاصم حول مشاكل الجماعة في أفق الدّولة الحديثة، وننتهي إلى اعتبار أنّ الحلّ بين المتناقشين جميعهم هو القانون. ويمكن أن يقبل عديد الإسلاميّين بهذا ويدخلوا في إطاره، ويتحوّلوا من أحزاب دينيّة إلى أحزاب مدنيّة. ولكن مشاكل المناعة من نوع آخر؛ ذلك أنّني عندما أواصل شرعنة نوع معيّن من الخطاب، وأقدّمه باعتباره وجبة أخلاقيّة للأطفال، دون أن أنتهك القانون، فأنا في الحقيقة أعرّض المناعة العميقة للمجتمع الّذي أعيش فيه للخطر، وهذه نظرية تسمّى «أفعال ناتجة عن القول» (l'acte perlocutoire)؛ أي أن يكون لديك قول (مثال: خطبة في مسجد) يمكن أن تنجم عنه أفعال إرهابيّة. وأذكر هنا كتاب أوستين (john langshaw austin) (1911-1960) (how to do things with words) وقد ترجم إلى الفرنسيّة وإلى العربيّة بشكل رديء «عندما يكون الكلام هو الفعل» وهو يعني «كيف نفعل الأشياء بالكلمات» فما يقوم به كلّ خطاب لا علاقة له بالسّياق التّاريخيّ الّذي نوجد فيه، وإنّما المقصود به إنتاج أكثر ما يمكن من الأفعال.

د. نادر الحمّامي: ذلك ينطبق تماماً على خطاب التّكفير، فحين تقول لشخص ما «أنت كافرٌ» فكأنّك أصدرت أمراً لمنفّذ ما بأنّ يقوم بقتله.

د. فتحي المسكيني: ولكن التّكفير ليس الأخطر، فهو يحمل رايةً وعلامة وتعريفاً واضحاً، والّذين يكفّرون يستعملون خطاباً محدّداً يمكن محاصرته، ولكن ماذا نفعل مع كلّ الأفعال النّاتجة عن القول الّتي تهدّد المناعة، وهي ليست مقنّعة، بل موجودة حتّى في كتب التّدريس، في برامج التّربية الإسلاميّة مثلاً، وتلك الكتب يمكن ألّا نكتبها وألّا نقرأها، ولكن لا نستطيع أن نمنع النّاس من أن يواصلوا استنبات ذاتيّتهم من النّصوص الدّينيّة، لأنّهم سيواصلون ذلك بأشكال عديدة؛ مثل استحضار القرآن في عقد الزّواج وفي التّأبين والدّفن والحديث بأخلاق دينيّة... وهذا سيتواصل إلى أمد طويل، ولذلك فالمطلوب ليس أن نقوم بتنوير رديء أي تنوير عنيف يقنع النّاس بأن يُلقوا جزءاً من أنفسهم في سلّة المهملات على أساس أنّه خطر، وإنّما علينا أن ننتج تنويراً ذاتيّاً بأنفسنا؛ والتّنوير يكون إزاء تقليد، هو مقدّس دائماً، بينما التّحديث شيء آخر. لذلك يمكن للنّاس أن يقوموا بالتّحديث وليس بالتّنوير. والنّاس لا يحتاجون إلى التّنوير إلّا إذا ظهر من داخل النّقاشات الّتي يقوم بها مجتهدون ينتمون بصدق إلى تراثهم، وأنا دائماً أنتظر أن يقول بعض الّذي نقوله أناسٌ من أهل «الصّناعة»؛ أي من العلوم الشّرعيّة والفقه مثلاً، فسيكون لكلامهم الطّاقة الإنجازيّة الّتي لا تسمّى عندئذ تنويراً بل هي ستصبح التّنوير الذّاتيّ الّذي نتحدّث عنه. وهذا ما لم يقم به مثقّف الدّولة الأمّة الّذي ظلّ مثقّفاً هوويّاً يكرّر نفسه. وعندما نقول إنّ السّلطة تخلق معارضيها، مثلما تخلق الدّولة الأمّة مثقّفيها، ففي دولة الملّة لا يوجد مثقّفون، وعندما ندخل في بعد إمبراطوريّ أو معولم الآن سينتهي المثقّف الهوويّ، لأنّ الوضع الإمبراطوري الّذي يعيشه العالم يسخر من إمكانيّة أن يلعب المثقّف دوراً ما، ولذلك يتساءل كثيرون قائلين: «أين مثقّفونا وأين نخبتنا؟»، وهؤلاء يتكلّمون عن وضع كان في ما قبل التّسعينيّات؛ أي عندما كانت الدّولة الأمّة تتحكّم في مساحة هوويّة وتبني التّمييز بين الخاصّ والعامّ كما تريد، لإنتاج مواطن على قياس تلك الدّولة. الآن، نجد أن دساتير عديد الدّول العربيّة والإسلاميّة مثيرة للسّخرية، لأنّها تكرّس أوضاعاً كانت تنتمي لحقبة ما قبل الاستعمار، ثمّ أوضاعاً سابقة عن الاستقلال نفسه، بل على الاستعمار نفسه. د. نادر الحمّامي: هذه الدّساتير الّتي تلبس لباس العصر الحديث، لا ترقى في الحقيقة إلى تصوّر مفهوم المواطنة، وأنت تعلم أنّ عبارة (citizenship) قد تمّت ترجمتها إلى «مواطنة» في حين أنّها تعني في الأصل عبارة «مدينيّة»، الّتي لم نؤسّسها بعد.

د. فتحي المسكيني: لقد بحثت في هذا اللّفظ، ووجدت أنّ الفارابيّ أشار إليه مرّة واحدة، وكان ذلك في كتاب «تحصيل السّعادة» حين تكلّم عن «المدنيّين»، ويبدو أنّنا لم نستأنف ذلك للأسف، وليس من الصّدفة أن هذا اللّفظ قد تاه عنّا ولم يصلنا، فنحن لسنا مدينيّين، ثمّ إنّ ثقافة الملّة لا تؤهّلنا لأن نكون مواطنين بالمعنى الحديث. المشكل أنّنا بعد أن استأنفنا أنفسنا وأصبحنا نريد أن نبني مجتمعاً تعرّضنا إلى مشكل مفهوم الشّعب نتيجة الاستعمار، الّذي فرض علينا أن نصبح شعباً لكي ننتصر. فلا يمكن أن تكون سعيداً في وقت الاستعمار؛ لأنّك لن تنجح باعتبار أنّك شخص أو عضو في المجتمع، لأنّ النّجاح هو نجاح أعضاء المجتمع أو أشخاص، بينما الانتصار هو انتصار للفرد الهوويّ الّذي تدعوه إلى أن يدافع عن بلاد أو عن شعب أو إقليم أو دين. لذلك، نجد أنّ الإسلاميّين مازالوا يستلفون معارك هوويّة من فترة الاستعمار أو من الفترة الكولونياليّة، وتنشيطها لحثّ النّاس على نوع معيّن من المعارك ما بعد القوميّة وما بعد الدّينيّة. فالذّهاب إلى المسجد اليوم لم يعد سلوكاً دينيّاً، وإنّما هو سلوك ما بعد دينيّ؛ لأنّ الدّين لم يعد يمثّل بنية العصر، وشكل الحياة اليوم لا علاقة له بما قبل الحداثة؛ أي بالعصور الوسطى، ولم يعد له علاقة بالحداثة حتّى. وما يسمّيه ليوتار «أزمة السّرديّات التّأسيسيّة» ويسمّيه «الوضعيّة ما بعد الحديثة» ليست وضعيّة مريحة كما يعتقد البعض، وإنّما هي وضعيّة أزمة، فلا يستطيع أن يصبح ما بعد حديث إلّا الحديث. والحلّ هو أن نسمح بالانتماء إلى أنفسنا بشكل مغاير، فطالما أنّنا هوويّين، فلن نستطيع أن نبني مفهوم الآخريّة المناسب لكي ننجح في ما بيننا؛ لأنّ النّجاح الأصحّ هو أن ننجح عند أنفسنا، ولو أنّني أعفو أو أصفح عن نفسي بشكل مناسب، مثلاً، فلن أواصل تكفير النّاس، ولو اعترف المسلم المعاصر الآن بأنّه هو نفسه ينتمي إلى تاريخ من القتل، لا يجب أن ينشّطه ولا أن يعلّمه لأبنائه، لأنّه جزء رديء من الذّاكرة العميقة، فسوف يتصالح مع ذاته أوّلاً ومع الآخر ثانياً. لهذا ينبغي أن نعيد رسم ذاكرتنا العميقة نفسها من جديد، فقتل عمر أو قتل علي أو قتل عثمان مثلاً، هو جزء من ذاكرتنا العميقة، ولا ينبغي أن نتعامل معه على أنّه أقواس فارغة.

د. نادر الحمّامي: أو تابوهات لا يمكن الاقتراب منها، ونجدها مثلاً في الصّدع بالعقيدة السنّية والكفّ عمّا شجر بينهم؛ لأنّ ذلك يعيق مسألة الاعتراف.

د. فتحي المسكيني: ثمّة قرارات تأويليّة ربّما كانت مناسبة سابقاً، مثلما فعل ابن خلدون عندما لم يكن يريد أن يخوض في مسألة الفتنة الكبرى؛ لأنّه لم يعتبر ذلك الأمر مناسباً لمصلحة الملّة ولا لمصلحة المسلمين، لقد استند في ذلك إلى التّأويل، وأنا أتصوّر أنّ على رأس كلّ عصر هناك من يساعد على اتّخاذ القرارات التّأويليّة المناسبة أو الصّحّية دون أن يدّعي أنّه قد حسم الأمر. ونحن نقرأ الآن كتابات الإسلاميّين في العالم الإسلاميّ وفي أوروبا وأمريكا، ولا نلاحظ أنّ هؤلاء كلّهم يمكن أن يساعدونا على أن نتّخذ القرار التّأويليّ الصّحّيّ وليس الحقيقيّ، فلا يوجد نقاش حول حقيقة أيّ شيء، والمعرفة الموضوعيّة لا تسيء إلى أحد، لكن المشكل الكبير هو أنّنا لا نتجرّأ على أن نتحمّل مسؤوليّة الانتماء إلى أنفسنا، وأن نقول مثلاً، نعم إنّ تاريخ الدّولة الأمويّة أو العبّاسيّة هو تاريخ قتل، وأنّنا لا يمكن الآن أن نعِد المؤمنين ما بعد الدّينيّين بأنّ تأسيس الخلافة هو الحلّ، أو أنّ الإسلام هو الحلّ؛ لأنّ الإسلام لم يعد الحلّ للملّة نفسها منذ وقت طويل، فما بالك باعتباره حلّاً للمجتمعات الحديثة. والانتماء إلى ذواتنا معركة خطيرة جدّاً، أخطر حتّى من معارك الهويّة، ومن يظنّ أنّ حماية الدّين هي حماية للهويّة أو حماية للإله مثلاً، فهو مخطئٌ، فمن السّخف أن نفكّر في حماية الإله وهو خالق السّموات والأرض. هذا الخطاب الّذي يروّج له من يدّعون أنّهم حماة المقدّس هو مشكل كبير جدّاً، فليس لدينا مقدّسات، لأنّ الدّين شيء والمقدّس شيء آخر. المقدّس لم يدخل إلى التّفكير الإنسانيّ إلّا في بداية القرن العشرين، أما الدّين فهو مشكل قديم، لكن هذا الأمر لم يسلم من الخلط في ثقافتنا، حتّى إنّ كلمة «دِين» في اللّغة العربيّة لا تقابل كلمة (religion) في اللّغات اللّاتينيّة، وعندما نترجم القرآن إلى تلك اللّغات نقول إنّه الدّين، لذلك يذهب في ظنّ الغرب أنّنا نتحدّث عن الشّيء نفسه (الدّين كما يفهمه الأجنبيّ)، لذلك فهم سرعان ما يتبرّؤون منّا على أساس أنّنا أناس وثنيّون، أو أنّنا لسنا جزءاً من الإنسانيّة التّوحيديّة، بل يذهبون حتّى إلى إقصائنا من السّياق اليهوديّ- المسيحيّ، حتّى إنّ فلاسفة نقرأ لهم ونحبّهم، مثل هابرماس، لا يعترفون بأنّ المسلمين هم جزء من هذا كلّه. الشّجاعة الرّهيبة الّتي أريد أن أشير إليها ههنا هي شجاعة دريدا الّذي يعتبر أنّ العنصر الإبراهيميّ أو التّوحيديّ أهمّ من العنصر اليهوديّ- المسيحيّ، وهذا هو الشّكل الوحيد لإعادة الإسلام إلى العائلة، وأنا ألاحظ أنّه حتّى المسلم الأوروبيّ وحتّى محمّد أركون لا يساعد المسلمين على أن ينتموا إلى أنفسهم بشكل مناسب؛ هو يريد أن يقول لهم عليكم أن تقوموا بالتّنوير حتّى تستطيعوا كذا... وأنا أقول لا، فهم ليسوا في حاجة إلى التّنوير، وإنّما هم في حاجة إلى ما يعتقدون أنّه يناسب فهمهم لأنفسهم، وعندما يبنون هذا الفهم المناسب لأنفسهم لن يفتكّه منهم لا تكفيريّ ولا غير تكفيريّ.

د. نادر الحمّامي: إذن، تبقى القضيّة المركزيّة الّتي يمكن أن تكون منطلقاً لاستئناف بحث آخر أو حوار آخر أو لقاء آخر، هي مسألة إعادة الانتماء إلى أنفسنا أوّلاً وقبل كلّ شيء، وربّما يكون ذلك بداية سبيل إلى معرفة ذواتنا، ليس بالآخر، وإنّما معرفة ذواتنا بذواتنا، ولعلّ هذا هو الطّريق الّذي ينبغي الشّروع في سلوكه فلسفيّاً. بهذا نأتي إلى ختام حوارنا معك أستاذ فتحي المسكيني، شكراً جزيلاً لك على كلّ ما تفضّلت به.

[1]- أجري هذا الحوار في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2017

[2]- أستاذ الفلسفة بالجامعة التّونسيّة، متخصّص في الفلسفة المعاصرة. حاصل على دكتوراه الدّولة في الفلسفة 2003. من مؤلّفاته؛ «نقد العقل التّأويليّ، أو فلسفة الإله الأخير» (2005)، «الهويّة والزّمان، تأويلات فينومينولوجيّة لمسألة النحن» (2001)، «التّفكير بعد هيدغر، أو كيف الخروج من العصر التّأويليّ للعقل؟» (2011)، «فلسفة النوابت» (1997)، «الهويّة والحرّيّة، نحو أنوار جديدة» (2011)، «الفيلسوف والإمبراطورية، في تنوير الإنسان الأخير» (2005)، «هيغل ونهاية الميتافيزيقا» (1997)، «الكوجيطو المجروح: أسئلة الهويّة في الفلسفة المعاصرة» (2013)، «الهجرة إلى الإنسانيّة» (2016). صدرت له ترجمة؛ «في جنيالوجيا الأخلاق»، نيتشه (2010)، «الكينونة والزّمان»، هيدغر (2012)، «الدّين في حدود مجرّد العقل»، كانط (2012). حاصل على جائزة الشّيخ زايد للكتاب (2013).