حوار مع حياة عمامو


فئة :  حوارات

حوار  مع حياة عمامو

حوار[1] مع حياة عمامو[2]

مقاربات في الإسلام المبكّر

د. نادر الحمّامي: استفادت مقاربة الإسلام المبكّر من تطوّر مناهج المعرفة التّاريخيّة كما ظهرت في الغرب، منذ أواخر العشرينيات من القرن الماضي بظهور مدرسة الحوليّات (les annales) مع إرنست بلوخ (ernst bloch) (1885-1977) ولوسيان فيفر (lucien febvre) (1878-1956)، وقد سبقت هذه المرحلة التّمهيديّة إرهاصات لظهور تلك المدرسة المهمّة الّتي ستوجّه أنظار الباحثين، ومن بينها المقال الشّهير لفرنسوا سيميان (françois simiand) (1873-1935) بعنوان: «المناهج التّاريخيّة والعلوم الاجتماعيّة»، وقد تحدّث فيه عمّا سمّاه «قبيلة المؤرّخين» الّتي تعبد ثلاثة أصنام أساسيّة؛ هي الصّنم السّياسيّ والصّنم الفرديّ والصّنم الكرونولوجيّ؛ وهي مسألة ستغيّر النّظرة إلى التّاريخ الشّموليّ والمقاربة الوضعانيّة الّتي يقول عنها عبد الله العروي في كتابه «مفهوم التّاريخ»: «إنّنا نجد ما يسمّى تاريخانيّة في ألمانيا يسمّى وضعانيّة في فرنسا». وبهذا بدأت النّظرة التّاريخانيّة في الغرب الخروج من تلك الوضعانيّة الّتي ربّما لم يخرج منها المؤرّخون العرب والمسلمون بعد، فهل يمكن اعتبار أنّ مقاربات الأستاذة حياة عمامو قد تطوّرت شيئاً فشيئاً اعتماداً على المقاربات الجديدة الّتي أفادت من التّطوّرات المعرفيّة في النّظرة إلى التّاريخ بصورة عامّة، لتطبيقه على التّاريخ الإسلاميّ، وعلى صدر الإسلام بصورة خاصّة؟

دة. حياة عمامو: بخصوص مسألة المناهج الّتي يمكن اتّخاذها لمعالجة ما يسمّى التّاريخ الإسلاميّ المبكّر أو تاريخ صدر الإسلام، واللّفظان غير مترادفين تماماً؛ ففي الحقيقة، لقد طوّرت في تعاملي مع المصادر الّتي أعتمدها في الكتابة التّاريخيّة في ما يهمّ هذا الاختصاص، ليس من باب تغيير المناهج فحسب، فعندما كنّا نعدّ رسائل الدّكتوراه لم يكن هنالك تكوين في هذا الاتّجاه وفي كيفيّة قراءة المصادر. لذلك كانت مجهوداتنا شخصيّة، وكنّا نتعامل مع ما يُذكر في المصادر على أساس أنّه لا يمكن التّشكيك فيه، وأنّ علينا مقارنة الأحداث فيما بينها آخذين بما يرد في الرّوايات، ولكنّ ممارسة هذه المهنة لسنوات طويلة والاطّلاع على مناهج كتابة التّاريخ، وخاصّة المناهج الغربيّة في ظلّ غياب مناهج لدى العرب والمسلمين، جعلاني أراجع الكثير من الأشياء. وقد استفدت من ذلك في جملة كتاباتي، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى كتاب «السّلطة وهاجس الشّرعيّة» أو «السّيرة النّبويّة» الّذي أردته كتاباً بيداغوجيّاً موجّهاً للطّلبة أساساً، أو كذلك في العديد المقالات الّتي نشرتها، وقد ساعدني الاطّلاع على ما يسمّى بالمدرسة الأمريكيّة الّتي استعادت ما عالجه المستشرقون في بداية القرن العشرين وخاصّة منهم سوفاجيه (jean sauvaget) (1901-1950) ولامنس (henri lammens) (1862-1937) وفلهاوزن (julius wellhausen) (1844-1918) وغولدتسيهر (ign?c goldziher) (1850-1921)... فمع أنّ الأوربّيين كانوا يعتمدون على المدرسة الوضعانيّة في ذلك الزّمن، إلّا أنّ هؤلاء المستشرقين جميعاً قد اعتمدوا على المقاربة النّقديّة، وفيهم من شكك في كتابة التّاريخ الإسلاميّ الأوّل مثل هنري لامنس الّذي شكّك في إمكانيّة كتابة تاريخ إسلاميّ في المئة والخمسين سنة الأولى الّتي تلت ظهور الإسلام على اعتبار أنّ المصادر لم تُكتب في إبّانها، ولا توجد نصوص يمكن اعتمادها على أنّها حقائق؛ والمسألة هنا معقّدة جدّاً؛ لأنّ الحقائق المطلقة لا وجود لها في التّاريخ، وإنّما توجد فحسب حقائق متعدّدة، ولذلك فنحن ننظر من زوايا متعدّدة، ولكلّ منّا حقيقة ينطلق منها، ولا يعني هذا أنّ التّاريخ ليس علماً، فهو علم بمنهجه لا بنتائجه، كما يقول ج. لوغوف (jacques le goff) (1924-2014)، ونحن لا نستطيع أن نكتب أيّ شيء دون اعتماد المصادر، رغم ما فيها من اختلاف، ولذلك فهي تخضع لزوايا نظر متعدّدة. وما ساد لدى المؤرّخين العرب المسلمين، باستثناء البعض منهم مثل هشام جعيّط وعبد الله العروي، هو ترديد لما يوجد في تلك المصادر واكتفاء بإعادة تصنيف ما جاء في متونها من روايات وأحداث متعدّدة ومحاولة إكسابها سياق الحكاية الواحدة، في حين أنّ ما أتى به الغرب هو النّظرة النّقديّة الّتي تطوّرت عند بعضهم إلى مستوى التّشكيك؛ وهذه النّظرة استعادت ألقها مع باتريشيا كرون (patricia crone) (1945-2015) ومايكل كوك (michael cook) (1940) وخاصّة مع وانسبرو (john wansbrough) (1928-2002) الّذي كتب «الدّراسات القرآنيّة» (quranic studies: sources and methods of scriptural interpretation) و«المجتمع الفرقيّ» (the sectarian milieu: content and composition of islamic salvation history)، هذان الكتابان واصلا سلسلة كانت بدأت مع لامنس وتطوّرت بشكل كبير في منتصف السّبعينيّات من القرن الماضي، واعتبر وانسبرو أنّ التّاريخ الإسلاميّ الأوّل لا يمكن كتابته لعدم وجود وثائق أصليّة، وبعده اعتبر كلّ من كرون وكوك أنّ الإسلام الأوّل يمكن كتابته، ولكن من خلال المصادر الأجنبيّة وخصوصاً منها السّريانيّة والإغريقيّة. هذا الجدل الّذي طغى على ساحة المؤرّخين الغربيّين منذ أواخر القرن العشرين حتّى بداية القرن الحادي والعشرين، غاب عن ساحة المؤرّخين العرب والمسلمين بصفة عامّة، بل إنّهم تجاهلوه.

د. نادر الحمّامي: صحيح، لكن هذا لا ينفي بعض المحاولات للإفادة المنهجيّة خاصّه مع عبد الله العروي (1933) في «مفهوم التّاريخ» مثلاً، فقد تحدّث عن طبيعة الكتابة التّاريخيّة، وقال إنّها ذات جوهر دينيّ بالأساس، ومع عزيز العظمة (1947) في بعض مقالاته حول طبيعة الكتابة التّاريخيّة، وقد اعتبر أنّها تستند إلى نوع من الأوامر والنّواهي وتبحث عن تحقيق خلاص ما، ما يجعلها ذات خلفية دينيّة. ما لاحظته هو أنّك لا تنساقين وراء المنهج الّذي ينفي كلّ موثوقيّة وكلّ قيمة عن المصادر التّاريخيّة، وهذا يتجاوب مع المنهج الأنجلوسكسونيّ الّذي أشرتِ إلى بعض أعلامه، ولا يتجاوب في المقابل مع المنهج القديم في التّعامل مع المصادر التّاريخيّة، والّذي يقوم على الجرح والتّعديل وقد شاع لدى العرب والمسلمين الّذين اعتبروا أنّ التّاريخ النّقديّ يقوم على نوع من التّرجيح بين الرّوايات، هذا ما ألمسه بوضوح تامّ في ما كتبتِه حول «السّيرة النّبويّة»، وقد تحدّثتِ عن أدبيّات السّيرة، وهذا ما يجعلك تقتربين شيئاً ما إلى الأنثروبولوجيا التّاريخيّة.

دة. حياة عمامو: فعلاً، لقد حاولت دائماً اعتماداً على ما تمكنت من الاطّلاع عليه من كتابات، وهي كثيرة جدّاً في هذا الميدان، أن أغيّر في مسألة كتابة تاريخ المسلمين الأوّل وحتّى تاريخهم في ما بعد؛ أي فترة الإسلام المبكّر وحتّى الفترات التّاريخيّة اللّاحقة أو ما نسمّيه التّاريخ الوسيط. لكنّ الإشكال بالنّسبة إلى كلّ الفترات التّاريخيّة يتمثّل في نقص الوثائق، لذلك كان لا بدّ من الاشتغال على مختلف الوثائق والمصادر المكتوبة الّتي نقع عليها، وتصنيفها حسب طبيعتها والتّمييز بينها في كتابة التّاريخ، وتلك مسألة حيويّة وضروريّة كثيراً بالنّسبة إلى شغلنا؛ رغم ما قد يتغافل عنه بعض المؤرّخين أحياناً بسبب الاستسهال. وبالعودة إلى ما ذكرتَ حول إسهامات العروي والعظمة في ميدان كتابة التّاريخ، أقول بكلّ أسف إنّهما ليسا مؤرّخين، ولكن إلى جانب هؤلاء الّذين كتبوا حول نظريّات كتابة التّاريخ، هنالك من جسّد تلك النّظريّات في كتاباته، وأذكر من بينهم هشام جعيّط (1935) بصفته مؤرّخاً، وقد انطلق في أبحاثه في البداية على أساس أنّه مفكّر، واعتمد كثيراً على المنهج النّقديّ الألمانيّ، ودون أن يشير إلى مسألة المناهج وكيفيّة التّعامل معها ذهب مباشرة إلى التّطبيق، وقد حسم أمره بالنّسبة إلى المؤرّخين فلم يتّبع المسألة البيداغوجيّة، ولعلّ هذه الطّريقة هي ما كانت تنقص المؤرّخين في تونس، وفي اعتقادي أنّ الأمر يستدعي الكثير من اللّقاءات العلميّة والنّدوات والورشات مع الطّلبة لكي نستطيع التّفريق بين مسائل مختلفة ومتنوّعه في كتابة التّاريخ والاشتغال على نظريّات المعرفة التّاريخيّة، وفي المناهج الّتي يتمّ تطبيقها، فلا يزال الكثير من الأساتذة الكبار الّذين وصلوا إلى أعلى الدّرجات العلميّة لا يدركون هذه المسائل، مع أنّ إنتاجنا في الجامعة التّونسيّة كثيف جدّاً بخصوص رسائل الماجستير والدّكتوراه، الّتي يكاد عددها يصل إلى ثلاثة آلاف في أقسام التّاريخ وحدها، ولكن من بين هذه الرّسائل لا نكاد نجد ما يجدّد المعرفة التّاريخيّة من خلال طريقه التّعامل مع المصادر التّاريخيّة واتّخاذ المقاربات المختلفة في دراستها وفي اعتمادها، حتّى يكون التّاريخ الّذي نكتبه مجدِّداً ومساعداً على الفهم والتّفهّم كما يقول جعيّط، الّذي يميّز بين التّاريخ والتّراث، وقد كتب ذلك في تقديمه لكتابي حول «أصحاب محمّد» معتبراً أنّ التّراث هو كلّ ما ترثه الإنسانيّة من أسلافها، وأنّ التّاريخ هو كتابة ونظرة جديدة ومحاولة فهم لما حدث، وأنّ الكثير من المواضيع لابدّ من إعادة كتابتها؛ لأنّ كتابة التّاريخ تقوم أساساً على التّدقيق.

د. نادر الحمّامي: لقد كتبتِ في السّيرة واهتممت بها، بوصفها جزءاً من الإسلام المبكّر، ولا يمكن أن نغفل عن المساهمة المهمّة الّتي قدّمها هشام جعيّط في هذا المجال، في الثّلاثية الّتي كتبها حول السّيرة، ولو نظرنا في الجزء الثّاني منها الّذي يحمل عنوان «تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة في مكّة» وتمعّنّا في التّقييم النّقديّ الّذي أجراه على المصادر، سنلاحظ أنّه انتهى إلى عدم وجوب الثّقة بغير المصادر الّتي ظهرت في القرون الثّلاثة الهجريّة الأولى، بالإضافة إلى النّصّ القرآنيّ الّذي يعتمده بشكل أو بآخر، بوصفه وثيقة تاريخيّة لكتابة السّيرة، وهو ما يثير في تقديري الكثير من الاحتراز، فعلى أيّ أساس يمكننا أن نميّز هذا التّمييز بين المصادر، وأن نعتبر مثلاً مصادر الواقدي (ت 207هــــ) والطّبريّ (ت 310هــــ) والبلاذري (ت 279هــــ) وابن سعد (ت 230هــــ) وابن إسحاق (ت 151هـــ) وابن هشام (ت 218هــــ)، فقط هي الجديرة بثقه المؤرّخ، وأن نستبعد المصادر المتأخّرة وبعض المصادر الأخرى من غير الاتّجاه السّنّي في الإسلام المبكّر؛ لأنّ تلك الفترة ظهر فيها أيضاً المسعوديّ (ت 346هــــ) واليعقوبي (ت 284هــــ)، ولكن هذه المصادر بالنّسبة إلى الأستاذ هشام جعيط وغيره كثير ممّن يكتبون التّاريخ الإسلاميّ لا يتمّ الاعتماد عليها؟

دة. حياة عمامو: لا بدّ أن نعرف كتابات جعيّط كلّها، حتّى نستطيع أن نقيّم هذا الأمر؛ فهو عندما اعتمد على هؤلاء الأربعة رأى أنّهم مؤسّسو السّيرة على اعتبار أنّ الطّبريّ استعاد بعض الأجزاء من ابن إسحاق، والشّيء نفسه بالنّسبة إلى البلاذريّ الّذي استعاد بعض ما كتبه الواقديّ وفُقد، ثم ما كتبه الواقدي نفسه في المغازي، وكذلك ما كتبه ابن إسحاق وفُقد وأعيد تركيبه لدى ابن هشام مع تهذيب. وقد اعتبر جعيّط أنّ هؤلاء الأربعة يمثّلون المصادر الأساسيّة في دراسة السّيرة النبويّة، ولكنّه لا ينفي مثلاً دور اليعقوبيّ الّذي يعتمده كثيراً في كتابه «الفتنة»، ولا ينكر دور المسعودي الّذي اعتمده في كثير من الكتابات الّتي أستحضِرُ منها على سبيل المثال «الكوفة». ولكنّ جعيّط أراد أن يركّز على هذه «الأناجيل الأربعة» في كتابة السّيرة، ولا يعني ذلك أنّه ينفي أهمّيّة الكتابات الأخرى الصّادرة في القرون الأربعة الأولى، كما لا ينفي أيضاً أهمّيّة المصادر المتأخّرة مثل ابن الأثير (ت 630هــــ) والقلقشندي (ت 821هــــ) وابن حجر العسقلانيّ (ت 852هــــ) وابن سيّد النّاس (ت 734هــــ) وغيرهم... وأنا أذكر جيّداً قوله إنّ هذه المصادر المتأخّرة، بالرّغم من أنّها استعادت مصادر أبكر منها، فإنّها تتضمّن «قِطعاً» كبيرة لا بدّ على المؤرّخ أن يطّلع عليها، وهذا يعني أنّ المؤرّخ حين يركّز على بعض المصادر التّاريخيّة فلا يعني ذلك أنّه ينفي أهمّيّة المصادر الأخرى ولكن لكلّ مقام مقال، وهذا ما أفهمه أنا من تصرّف جعيّط مع المصادر. صحيح أنّه لم يعتمد المصادر الشّيعيّة، بصفة مباشرة، ولكنّه اعتمد على رواة قريبين من الشّيعة أو ممّن ينسبون إليهم ولهم ميول شيعيّة، مثل أبي مخنف (ت 157هــ)؛ فالمصنّفات الشّيعيّة ظهرت في فترة لاحقة عن الإسلام المبكّر، وهي تعود إلى ما بعد القرن السّادس للهجرة، مثل الطّبرسيّ (ت 548هــ) وابن أبي حديد (ت 656هـ)، فهي مصادر متأخّرة.

د. نادر الحمّامي: قد نجد في هذه المصادر المتأخّرة استعادة لمصادر فُقدت، وقد نجد أحياناً كتباً بأكملها منقولة في كتب متأخّرة مثل الموسوعات والمصنّفات الكبرى، ولكن يوجد فيها أيضاً شيء آخر مهمّ، يخصّ المتخيّل، وقد اهتممتِ بذلك في كتابك حول السّيرة، وما قدّمتِ به كتابك كان فقرة مهمّة جدّاً أشرت فيها إلى صعوبة الحديث عن الإسلام المبكّر جرّاء التّداخل بين التّاريخيّ والمتخيّل، وهو ما يسمّيه هشام جعيّط وغيره من قبله بـ «المتخيّل التّاريخيّ» أو «التّمثّلات التّاريخيّة» الّتي كانت مهملة أو هي على الهامش في التّاريخ الوضعانيّ ولكنّها أصبحت، شيئاً فشيئاً بتطوّر المعرفة التّاريخيّة، معبّرة عن آمال مجموعة تاريخيّة معيّنة، ولذلك ينبغي الاهتمام بهذا المتخيّل منهجيّاً، لأنّ كاتب السّيرة قد لا يكون يكتب سيرة النّبيّ محمّد فحسب، وإنّما هو يكتب أيضاً واقعه وجدالاته وتاريخه الخاصّ أكثر من محاولة استرجاع حياة محمّد الّتي قال عنها إرنست رينان (ernest renan) (1923-1892) قديماً، إنّها كانت في ضوء التّاريخ السّاطع، وهي ربّما قد تكون على غير ذلك.

دة. حياة عمامو: مسألة التّمثّلات التّاريخيّة مرتبطة بالسّياق، وما كُتب حول التّاريخ الإسلاميّ المبكّر يجب التّمييز فيه بين سياقين؛ يتعلّق السّياق الأوّل بحدوث الأحداث في حدّ ذاتها، ويتعلّق الثّاني بكتابة تلك الأحداث. ويرى جعيّط أنّ الّذين كتبوا التّاريخ الإسلاميّ الأوّل كانوا مؤرّخين جيّدين، فقد نفضوا الغبار عن كلّ ما تمّت روايته بطريقة شفاهيّة طيلة قرن ونصف، ولكنّه يرى مع ذلك أنّهم لم يتجرّدوا من السّياق الّذي عاشوا فيه، وهذا ما يجب على المؤرّخ أن يأخذه بعين الاعتبار ويركّز فيه بطريقة جيّدة وبتمعّن؛ لأنّ الصّراعات المذهبيّة الّتي بدأت تنفجر انطلاقاً من القرن الثّاني الهجريّ على الصّعيدين الفكريّ والسّياسيّ، كان لا بدّ لها أن تؤثّر في كتابة تلك الأحداث السّابقة، حتّى وإن كان نقلها موضوعيّاً ولا تشوبه أيّ شائبة. وقد بذل مؤرّخو تلك الفترة مجهودات كبيرة في سبيل أن تكون الرّوايات تاريخيّة فعلاً، ويمكن الاعتماد عليها، بغضّ النّظر عن مستوى موثوقيّتها؛ لأنّ الموثوقيّة تحيل على الدّوغمائيّة. وأعرّج ههنا على فرد دونر (fred donner) (1945)، وهو مؤرّخ أمريكيّ وله نظرة منافية تماماً لنظرتي باتريشيا كرون ومايكل كوك، وقد اعتبر أنّ الرّواية التّاريخيّة عند المسلمين الأوائل، حتّى وإن لم تكن تاريخيّة كلّها، فلا بدّ أن نجد فيها نواة تاريخيّة، وهذه النّواة هي الّتي يجب أن نتشبّث بها وأن نعتمد عليها لاستخراج باقي مكوّنات الصّورة الّتي يمكن من خلالها أن نعيد تركيب الحدث التّاريخيّ الّذي نبحث عنه، وههنا أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى ما ذكره أحد الأنثروبولوجيين وهو حسّان البودراري، من أنّ المصادر التّاريخيّة الإسلاميّة متنوّعة ومختلفة المشارب ومتعدّدة وثريّة، ولا بدّ من اعتمادها في الكتابة التّاريخيّة، رغم ما يطرحه ذلك من صعوبات؛ لأنّ اعتمادها يمكن أن ينير طريقنا في اتّجاه الدّراسة في مواضيع مختلفة تتجاوز التّاريخ إلى الأنثروبولوجيا والثّقافة والمتخيّل، وكلّ ما يهمّ الإنسان في تلك الفترة التّاريخيّة الّتي تبدو كثيرة التّعقيدات والصّعوبات. ولعلّ أوّل هذه الصّعوبات الّتي تواجه عمل المؤرّخ تتمثّل في الافتراض، فعمليّة إعادة تركيب الأحداث استنادا إلى النّواة التّاريخيّة الّتي تحدّث عنها دونر، قد تجعل المؤرّخ أو الباحث في التّاريخ أمام حلقات فارغة وعليه محاولة ملئها، ليبحث انطلاقاً منها في مجالات أخرى متعدّدة ضمن سياقات مختلفة.

المصادر الإسلاميّة ومقاربات المؤرّخين

د. نادر الحمّامي: في إطار هذه النّقطة حول السّياق المنهجيّ العامّ في الكتابة التّاريخيّة الّذي يتعلّق بمسألة الموثوقيّة، ويقوم على اعتبار أنّ مهمّة المؤرّخ قد تكون كامنة في افتراض ما هو غائب في المصادر من أجل إكمال حلقات التّسلسل التّاريخيّ، ما هو رأيك في هذه المهمّة الملقاة على عاتق المؤرّخ؟

دة. حياة عمامو: أريد أن أقف أوّلاً عند مسألة الموثوقيّة لأنّها قد تؤدّي مباشرة إلى الدّوغمائيّة، فلا يجب أن نتعامل مع ما يوجد في المصادر، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، على أساس أنّه موثوق به، ويجب دائماً وأبداً أن نضع نقاط استفهام حول عديد المسائل، لأنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي دائماً إلى التّفكير في ما يمكن أن يكون قد حدث فعلاً. وهنا نصل إلى ما سمّيتَه بالافتراضات، فالمؤرّخ وغير المؤرّخ والباحث عموماً في مستويات متعدّدة يمكنهم جميعاً أن يلجؤوا إلى ما يسمّى بالنّتائج المفترضة الّتي يمكن أن تكون صحيحة كما يمكن أن تكون خاطئة، ولذلك فالتّنسيب ضروريّ في هذه العمليّة، أضف إلى أنّ الافتراض لا يمكن أن يكون مسألة مطلقة في التّمشّي التّاريخيّ؛ لأنّه يجب أن ينطلق في جميع الأحوال من معلومة موجودة في المصادر؛ وأورد هنا مثالاً معركة بدر (وقعت في العام الثّاني من الهجرة) الّتي تتحدّث عنها المصادر على أساس النّظرة الدّينيّة الّتي ترى أنّ المسلمين الّذين كانوا قلّة قليلة استطاعوا أن ينتصروا على قريش؛ وذلك بفضل الملائكة الّتي ساندتهم، ولكنّنا نجد في المصادر جملة مفيدة جدّاً، مفادها أنّ النبيّ عندما عاد من معركة بدر واعترضه مجموعة من الأنصار يهنّئونه على هذا الانتصار الكبير، قام غلام من غلمان الأنصار(فتى)، فقال: «على ماذا تهنّئوننا، إنّنا لم نجد سوى كمشة من الشّيوخ الصُّلع فنحرناهم»، ويمكن أن نفهم من هذا القول أنّ شيوخ قريش قدموا إلى بدر على أساس الاستعراض لا على أساس القتال، لأنّ القرشيّين كما نعلم هم من أهل الحرم، وأهل الحرم حرام سفك دمائهم، سواء كانوا في أرض الحرم أو خارجها، ولهذا نفترض أنّهم لم يكونوا ينتظرون أن يقع تقتيلهم من قِبل أبناء قريش أنفسهم، خاصّة أنّنا نعلم أنّ القرشيّين عموماً لا يحسنون القتال، وقد كانوا لا يقاتلون بأنفسهم، وإنّما يقاتلون عن طريق قبائل بدويّة مثل غطفان وغيرها، لذلك فإنّ النّتيجة الّتي خلصتُ إليها في شرح معركة بدر هي أنّ القرشيّين انهزموا في تلك الواقعة؛ لأنّهم لم يكونوا مهيّئين للقتال، بل إنّهم لم يخرجوا من أجل القتال أصلاً، وهذا ما استغلّه الأنصار الّذين كانت لهم دُربة على القتال، لأنّهم تقاتلوا كثيراً في ما بين عشائرهم منذ ما قبل الإسلام، وهذا ما ساعدهم على أن يسجّلوا انتصاراً ساحقاً في معركة بدر.

د. نادر الحمّامي: أنت تضعين نصّين بإزاء بعضهما؛ النّصّ التّاريخيّ الّذي فيه هذه الجملة الّتي يستند إليها المؤرّخ لبناء ما يمكن أن يكون قد حصل في التّاريخ، في مقابل النّصّ الّذي يحمل نظرة دينيّة لتلك المعركة وقد أُسبغ عليها الكثير من المتخيّل الدّينيّ، ما جعلها تقلب عديد الموازين في التّاريخ الإسلاميّ، وقد اهتمّت دراسات كثيرة بمسألة المتخيّل، من قبيل ما نجد في مقالات كلود جيليو (claude gilliot) (1940) حول المتخيّل الجمعيّ والمغازي، وقد أخذ مثال فتح مكّة، ولكن الأمر لا يختلف كثيراً في هذا المستوى. ألا يضع هذا نقطة استفهام أمام من يعتمدون على النّصّ القرآنيّ، مثلاً، بوصفه نصّاً تاريخيّاً؟

دة. حياة عمامو: النّصّ القرآنيّ يمكن أن يكون نصّاً تاريخيّاً في بعض الأحوال وليس في كافّة الأحوال، وقد اعتمده جعيّط بوصفه مصدراً تاريخيّاً في حالات، مثل اعتماد القرآن في إثبات أنّ النّبي لم يتنبّأ في سنّ الأربعين، وإنّما تنبّأ في سنّ الثّلاثين أو الثّلاث والثّلاثين، وفي إثبات إيلاف قريش، والتّثبّت في قصّة الوحي والغار، ومسائل أخرى مثل موقف أبي لهب وامرأته، وقصّة الأحناف... فهناك العديد من المسائل الّتي يمكن أن نعتمد عليها، باعتبارها أحداثاً تاريخيّة أو مؤشّرات لأحداث تاريخيّة في القرآن، ولكن القرآن وحده لا يستطيع أن يقدّم لنا مادّة تاريخيّة موثوقة.

د. نادر الحمّامي: ربّما لا يقدّم لنا النّصّ القرآنيّ مؤشّرات تاريخيّة أو مادّة تاريخيّة واضحة، وإنّما هو يعدّل أو يصوّب بعض الرّوايات، ويجعل المؤرّخ يبحث في صدقيّة ما جاء في الخبر التّاريخيّ، فإذا نظرنا على سبيل المثال في سورة التّكوير أو سورة النّجم، يتبيّن لنا أنّ الوحي في بدايته لم يكن في مكان مغلق، ولكنّ القرآن لا يحدّد لنا المكان الّذي نزل فيه الوحي، وهذا ما يدفعنا إلى التّساؤل حول مسألة اختلاق قصّة غار حراء في الرّوايات؛ وهكذا فعلى أساس النّصّ القرآنيّ يتمّ التّدقيق في الخبر التّاريخيّ.

دة. حياة عمامو: يتم التّدقيق والمراجعة أيضاً؛ لأنّ النّصّ القرآنيّ إلى حدود القرون الأربعة الأولى، وحتّى بعد ذلك، كان يُعتمد فيه على التّفسير فقط، والتّفسير يخضع إلى العديد من السّياقات المرتبطة بالواقع الرّاهن آنذاك، وهي تختلف عن سياقات نزول القرآن، وهذا ما يستدعي الكثير من العلوم الأخرى، مثل العلوم المتعلّقة بأسباب النّزول وبالسّيرة، الّتي هي في الأصل توليد لعديد من الآيات القرآنيّة ما يصبغها بصبغة دينيّة. لذلك، فالمؤرّخ مطالب أمام تلك النّصوص، سواء كانت من القرآن أو التّفسير أو الأخبار أو غيرها، بأن يجرّدها من النّظرة القدسيّة ليجعلها تاريخاً بشريّاً يمكن على أساسه محاولة إعادة تركيب الأحداث، وهذا مهمّ في مستوى المنهج؛ لأنّه يمكّن من إيجاد الصّورة أو الصّور لما يُحتمل أن يكون قد حدث فعلاً. وذلك يبقى مجرّد احتمال دائماً، لأنّنا أمام غياب مصادر مباشرة يمكن أن تدلّنا على وقوع الأحداث كما هي، فحتّى الآثار والمسكوكات أو ما يسمّيه المؤرّخون حاليّاً بالنّميات (علم المسكوكات الإسلاميّة islamic coinage) أو النّقائش الّتي تعود إلى فترة الإسلام الأوّل، هي شحيحة جدّاً مقارنةً بتلك الّتي تعود إلى فترات التّاريخ الّتي عاشتها شعوب البحر المتوسّط، مثل الحضارات اليونانيّة والرّومانيّة والبيزنطيّة، وحتّى الحضارات السّاسانيّة وحضارات الشّرق بصفة عامّة، قبل ظهور الإسلام. ولكنّ هذا الشّحّ في المصادر والآثار يمكن أن يكون مؤقّتاً، في انتظار ملء فراغات تسلسل الأحداث التّاريخيّة، ورغم أن البحث عن هذه المصادر يواجه الكثير من العوائق بسبب قدسيّة الدّين الّتي تمنع التّنقيب في الآثار أو البحث في هذه المواضيع، إلّا أنّ الأمور بدأت تتغيّر اليوم ولعلّ ستتطوّر مستقبلاً؛ فالكثير من علماء الآثار اليوم بصدد الحفر في أماكن متعدّدة، بما في ذلك شبه الجزيرة العربيّة، وهناك الكثير من الأشياء الّتي تخرج بوتيرة بطيئة، ولكنّها تخرج على أيّ حال. وهذا ما يستدعي منّا اعتماد الكثير من المصادر الأخرى المتنوّعة، حتّى نستطيع أن نراجع النّتائج التّاريخيّة الّتي توصّل إليها المؤرّخون إلى حدّ الآن.

د. نادر الحمّامي: هناك نوع من الإغراء في هذا الجانب المنهجيّ الّذي لم نستوف الحديث فيه، فهو ينطوي على الكثير من المسائل الّتي تستوجب الاهتمام، ومن بينها مسألة التّركيب الّتي أشرتِ إليها، وفي نظريّات المعرفة التّاريخيّة يمكن الوقوف على مدرستين أساسيّتين؛ المدرسة الوضعانيّة القديمة الّتي تقول بأنّ مهمّة المؤرّخ كشف الماضي، والمدرسة النّقديّة الحديثة الّتي تقول إنّ المؤرّخ لا يكتشف الماضي، كما أنّه لا يركّبه فقط، وإنّما هو يصنعه، وبالتّالي فللمؤرّخ دور في صياغة ذلك الماضي. فهل تعتبرين أنّ المؤرّخ فاعل في الماضي، وأنّه «يصنع الماضي» كما يقول دي سارتو (michel de certeau) (1925-1986) وبول فاين (paul veyne) (1930) ومؤرّخو ما بعد الحداثة، أم أنّك تعتبرين أنّ الوصول إلى هذه الدّرجة من القول مبالغ فيه، وأنّ المؤرّخ إنّما هو يحاول تركيب أحداث الماضي فقط؟

دة. حياة عمامو: نعم، وعندما يحاول المؤرّخ تركيب الأحداث التّاريخيّة فهو يصنعها أيضاً؛ لأنّ التّركيب يتطلّب تجميع قطع متعدّدة ومتناثرة، أحياناً، ولذلك فهو عمل شخصيّ يعود إلى المؤرّخ الّذي يصنع التّاريخ بطريقة أو بأخرى، وهذا ما يميّز بين مختلف المدارس التّاريخيّة، وبين مختلف المناهج المعتمدة في كتابة التّاريخ، فما تتوصّل إليه أنت اعتماداً على المدرسة الوضعانيّة مثلاً، لا أتوصّل إليه أنا بالضّرورة، اعتماداً على المدرسة النّقديّة الألمانيّة أو مدرسة الحوليّات أو كذلك اعتماداً على المقاربات المنهجيّة المختلفة، فمن يعتمد المقاربة الأنثروبولوجيّة التّاريخيّة ليس كمن يعتمد مقاربة تجميع المعرفة التّاريخيّة أو تجميع الأحداث وإعادة صياغتها أو تصنيفها، وهنا أطرح سؤالاً مهمّاً كنت دائماً أسأله لنفسي، ولكن لا أستطيع الإجابة عنه، وهو ما الّذي يختلف بين المؤرّخ الحاليّ الّذي يعتمد المناهج العلميّة وبين المؤرّخ في القرن الثّاني أو الثّالث الهجريّ، ما الّذي يميّز بين الصّنفين من المؤرّخين؟ فالطّبريّ مثلاً مؤرّخ وأنا مؤرّخة، وما قام به الطّبريّ أنّه أعاد تجميع الأحداث وصنّفها حسب التّسلسل الزّمنيّ الكرونولوجيّ، ولم يعتمد هذا المنوال لفترة ما قبل الهجرة، لأنّه اشتغل من داخل منظومة دينيّة تحدّد تأريخه للأحداث بتاريخ الهجرة، بينما أنا أعتمد الطّبري وأعتمد معه الكثير من المؤرّخين الآخرين، مثل البلاذريّ واليعقوبيّ والمسعوديّ وابن سعد وابن خيّاط وغيرهم، لأحاول أن أوجد ما يمكن أن يجمع بين مختلف الأفكار الموجودة في مصادر متعدّدة وأركّبها، فأنا بهذا المسعى أصنع التّاريخ أيضاً، لكن ليس من فراغ، بل من خلال بحثي عن مسائل أريد الوصول إليها، وهنا نأتي إلى مسألة الموضوعيّة في كتابة التّاريخ. فالعلوم الإنسانيّة عموماً ترسم لنفسها هدفاً تريد الوصول إليه، وقد يتغيّر ذلك الهدف في بعض الأحيان، لأنّ المادّة المتوفّرة لا تمكّن من ذلك، وهي تسمح بالشّيء ونقيضه، وعلى هذا الأساس يجب أن ندرك أنّ المعرفة التّاريخيّة والمعرفة الإنسانيّة بصفة عامّة هي معرفة تراكميّة ونتائجها ليست نهائيّة، وإنّما هي تتطوّر دائماً وأبداً، ومن هذا المنطلق، فأنا لا أرى أنّ موضوعاً ما يمكن أن يكون قد قُتل بحثاً، فالمواضيع كلّها يمكن أن يُعاد البحث فيها بصفة متواصلة، ويمكن أن نصل فيها إلى نتائج مختلفة، أو أكثر صرامة ممّا تمّ التّوصّل إليه فيها، وهذا لا ينفي النّتائج السّابقة كما لا يعني أنّ النّتائج الجديدة هي نهاية ما يمكن الوصول إليه. فالمعرفة التّاريخيّة في تطوّر مستمرّ، شأنها شأن جميع المعارف في العلوم الإنسانيّة وفي العلوم الصّحيحة أيضاً، والنّتائج فيها ليست نهائيّة لأنّها قائمة على القطائع، فإذا ما قلنا إنّ موضوعاً ما قُتل بحثاً ولا يمكن أن نبحث فيه مستقبلاً، فإنّنا نكون بذلك بصدد مصادرة إمكانيّة تطوّر المناهج العلميّة الّتي تؤدّي إلى نتائج مختلفة أو متطوّرة بالنّسبة إلى ما تمّ التّوصّل إليه من قبل.

د. نادر الحمّامي: هناك أفكار متداولة مفادها أنّ التّاريخ الإسلاميّ يسمح بكثير من التّأويل، نظراً إلى أنّه لم يُكتب إلّا بداية من عصر التّدوين في القرن الثّاني للهجرة، ورغم ما يُطرح من تساؤلات حول الموضوعيّة والتّاريخانيّة، فإنّ انتقال التّاريخ الإسلاميّ من مرحلة المشافهة إلى مرحلة التّدوين لا يعدّ استثناءً بالمقارنة مع تواريخ الشّعوب الأخرى، ونلاحظ في مقدّمة كتابك حول «السّيرة النّبويّة» أنّك تنسّبين كثيراً هذا الأمر اعتماداً على فرد دونر، فهل ما اقترحته من تنسيب للحدّ المنهجيّ الصّارم بين الشّفويّ والمكتوب في مستوى السّيرة قابل للتّعميم على بقيّة التّاريخ الإسلاميّ؟

دة. حياة عمامو: ليس التّاريخ الإسلاميّ فقط هو المعنيّ بهذا الأمر، لأنّ فيفر (lucien febvre) مثلاً، في مقاله في الموسوعة الكونيّة (encyclopédie universalise) يقول: «إنّ النّاس كانوا قبل القرن السّادس عشر يسمعون أكثر ممّا يقرأون، والآن أصبحنا نرى أكثر ممّا نسمع وأكثر ممّا نقرأ»، وهذا تطوّر عرفته الإنسانيّة جمعاء، وهو لا يخصّ المسلمين وحدهم. ويمكن أن نحدّد ثلاث مراحل يتمّ من خلالها التّعامل مع التّاريخ؛ من السّماع إلى الكتابة إلى الرّؤية. فالمهتمّون بما يسمّى التّاريخ الآنيّ، يشتغلون بدرجة أولى على الصّورة لا على النّصوص أو الكتابة أو المشافهة. أمّا تاريخ المسلمين في القرن الأوّل وفي النّصف الأوّل من القرن الثّاني الهجريّ، فهو لا يهمّ المسلمين وحدهم، وإنّما يهمّ الإنسانيّة كافّة، على اعتبار أنّ المشافهة كانت هي الأصل لدى جميع الشّعوب، وقد كان العرب ينقلون ما يعرفونه مشافهةً، لأنّهم يقولون بكراهة الكتابة وقد أوصى النّبيّ ألّا يُكتب الحديث، ولابن عبد البرّ (ت 463هــــ) كتاب في ذلك. ولكن هذا لا ينفي الكتابة مطلقاً عن المسلمين، كما يؤكّد ذلك المستشرق النّمساويّ ألويس اشبرنجر (aloys sprenger) (1813-1893)؛ ذلك أنّ الرّواة المسلمين الأوائل كانوا يدوّنون بعض الكتابات الشّخصيّة الّتي يتمّ اعتمادها في نقل الأخبار فيما بعد إلى أناس آخرين، وبهذه الطّريقة كان يُتناقل العلمُ، وقد بحث في هذا الموضوع المؤرّخ السّوري شاكر مصطفى (1921-1997). فأولئك القدامى كانوا يعتمدون على مذكِّراتهم الشّخصيّة ليستطيعوا نقل المعرفة الّتي تلقّوها إلى أجيال أخرى، وهكذا إلى أن أصبح التّدوين رسميّاً في العهد العبّاسيّ، وهو لم يتأخّر لدى العرب إلى منتصف القرن الثّاني للهجرة، وإنّما كانت توجد كتابات، وقد كتب العرب حتّى قبل الإسلام، ولكن تلك الكتابات كانت فرديّة وشخصيّة بمعنى أنّها غير رسميّة. وقد تمثّل التّحوّل الأساسيّ في أن التّدوين أصبح رسميّاً مع الدّولة العبّاسيّة، وهذا يعود إلى سبب آخر أيضاً، وهو توفّر الورق في ذلك الزّمن، وقد كان يُجلبُ من الصّين، وقد دخل الإمبراطوريّة الإسلاميّة في ما بين سنة 121 و125هــــ، ولذلك استطاع العبّاسيّون أن يحوّلوا مسألة الكتابة والتّدوين إلى أمر رسميّ، وبدأت الكتابات من ثمّ انطلاقاً من ابن إسحاق وأبي مخنف والمدائنيّ (ت 225 هــــ) والعديد من الّذين كتبوا في مجالات متعدّدة ولكن كتاباتهم فُقدت، وتمّت استعادتها في القرن الثّالث في كتابات الطّبريّ والبلاذريّ وابن سعد وغيرهم.

د. نادر الحمّامي: كانت بداية التّدوين مع ابن إسحاق، وهو صاحب أشهر سيرة، وهي سيرة نواة لكلّ السّير الأخرى، فهل تعتبرين أنّ السّيرة أوّل جنس للكتابة وأوّل أدب كُتب في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قبل كلّ شيء آخر؟

دة. حياة عمامو: لا أعتقد ذلك، لأنّ أوّل ما كتب هو الحديث، ولو بصفة غير رسميّة، فالمصادر تذكر أنّ عمر بن عبد العزيز (ت 101هــــ) كلّف الزّهري (ت 124هــــ) بكتابة الأحاديث الّتي لم تصلنا عن طريق الزّهري، وإنّما وصلتنا عن طريق البخاري (ت 256هــــ) ومسلم (ت 261هــــ) والكثير من المحدّثين الآخرين، وأنا أعتقد أنّ أدب السّيرة وقع توليده من الحديث ومن التّفسير، كما يذكر ذلك عبد العزيز الدّوري (1919-2010)، حتّى إنّ سيرة ابن إسحاق هي مزيج بين كثير من الأجناس من التّفسير ومن الحديث ومن القصص ومن الإسرائيليّات، وقد جمعت بين أدب ما قبل إسلاميّ، وهو أدب مهمّ جدّاً، وكان يُعتمد بصفة رسميّة مع معاوية بن أبي سفيان في مجالس السّمر، وقد تجاوزت تلك المجالس مسألة الحروب والمغازي والأيّام وكلّ ما كان يُتداول لتتركّز حول شخصيّة الرّسول، بصفتها شخصيّة محوريّة بالنّسبة إلى المسلمين، ومن هنا بدأت مسألة قداسة النّبيّ والرّسالة والقرآن والإسلام إلى غير ذلك. وقد ذكر لي زميل شابّ من زملائي أنّ كلمة «نبيّ» لم يرد ذكرها أبداً في البرديّات المصريّة، فلم تكن متداولة في الحضارة الفرعونيّة، لذلك فهي مرتبطة أساساً بالسّياق التّاريخيّ الّذي وقع فيه تطوّر النّظرة إلى النّبوّة.

د. نادر الحمّامي: هل يعني هذا أنّ أدبيّات السّيرة يمكن أن تكون هي المساهم الأوّل في تشكيل صورة للنّبيّ، أُضفيت عليها قداسة لم تكن موجودة بالشّكل نفسه من قبل؟

دة. حياة عمامو: نعم، وتلك الصّورة مرتبطة بمسألة الشّرعيّة، فمعاوية بن أبي سفيان التجأ إلى مثل هذه المجالس، وقد فعل العبّاسيّون ذلك أيضاً من بعده، في محاولة للارتباط بهذه الشّخصيّة المؤسّسة للإسلام، ولذلك كانوا يعقدون حولها الكثير من المجالس؛ وذلك من أجل أن يعطوا لأنفسهم شرعيّة. وقد انتقلت تلك الشّرعيّة من اعتبار خليفة رسول الله مجرّد واسطة لتمثيل السّلطة بين النّاس وممتلكاتهم وبين الله، إلى سلطة وصلت في تقديسها إلى حدّ أصبح معه الخليفة خليفة الله وظلّ الله في الأرض، وهي مسألة وقع التّأثّر فيها بالحضارات المجاورة على مثال التّقاليد السّلطويّة في الإمبراطوريّة البيزنطيّة، والملك الإله عند السّاسانيّين وحتّى عند العرب القدامى في اليمن وفي غيرها من المناطق الأخرى، حيث كانت السّلطة تمثّل نوعاً من القداسة المتولّدة دائماً من بحث الحاكم عموماً عن نوع من الحصانة. وقد استندت السّلطة في فترة معاوية إلى تشكيل صورة مقدّسة للنّبيّ من أجل استمداد الشّرعيّة منها، ولكن ذلك حدث أيضاً من قبل، أي في أحداث السّقيفة حين استطاع أبو بكر أن يحقّق إجماع المسلمين عليه، بالرّغم من اختلاف وجهات النّظر في ذلك الوقت. فقد كان لا بدّ من إيجاد شرعيّة للاختيار، وهي نظير لما يسمّى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة شرعيّة الانتخاب.

نظرات في الإسلام المبكّر: الشّرف والسّلطة والتّمصير

د. نادر الحمّامي: أنت بحثت في مسألة الشّرعية وعلاقتها بالسّلطة بداية من الخلفاء الرّاشدين ومن لحقهم، وميّزت في ذلك بين نوعين من الشّرف، فوضعت ما سمّيته بالشّرف الإسلاميّ في مقابل الشّرف القبليّ، وهما نوعان من الشّرف مثّلا نتاجاً للصّراع من أجل تأسيس الشّرعية، الّتي تسعى إلى إيجاد مقبوليّة اجتماعيّة قائمة في جوهرها على أساسي الدّين من جهة والانتماء القبليّ من جهة ثانية. كيف تبيّنين ذلك؟

دة. حياة عمامو: عندما بدأ المسلمون بتأسيس سلطتهم، في غياب نبيّ يوحى إليه، كانوا على وعي بضرورة أن يؤسّسوا شيئاً يميّزهم عن المجتمع القبليّ السّابق، وقد كان الشّرف القبليّ يقوم على أمرين أساسيّين هما العدد والنّسب. ولعلّ البحث عن كثرة العدد هو ما جعل قبائل العرب، بما في ذلك قريش، تلتجئ إلى ما يسمّى بالحلف أو التّحالف مع القبائل الأخرى لزيادة عدد المنتسبين إليها. وكما يتبيّن في الدّيمغرافيا التّاريخيّة، كان النّاس يولدون ويموتون بسبب الأمراض والأوبئة والعديد من الأشياء الأخرى، ولم تكن الولادات تكفي لتوفير العدد الّذي يسمح لتلك القبائل بإبقاء شرفها على ما كان عليه. وتكتسب مسألة النّسب أهمّيّة كبرى أيضاً، وقد كانت القبائل تتمايز بالانتساب إلى رجالات العرب الكبار، فأن يكون الانتماء إلى عبد مناف بن قصي ليس كأن يكون إلى أي شخص آخر، فهناك اختلافات وتراتبيّة في الانتماء، بالرّغم من أنّ كافّة القرشيّين ينتسبون في الأصل إلى كنانة، ومنه تفرّعت مختلف فروع قريش الّتي تسمّى صاحبة النّسب المتميّز والملأ. وأمام هذه الشّرعية المترسّخة في العدد وفي النّسب كان لا بدّ على المسلمين أن يوجدوا شرعيّة أخرى، وهي ما سمّيتها بالشّرف الإسلاميّ الّذي لا يقوم على الانتماء القبليّ ولا يقوم على العدد، وإنّما على الأسبقيّة في الإسلام الّتي سيتميّز بمقتضاها المهاجرون عن الأنصار، وهذا ما جعل السّلطة حكراً على المهاجرين، لأنّهم سبقوا غيرهم من الأنصار إلى الإسلام، بالرّغم من أن الأنصار يُعتبرون في المخيال الجمعيّ للنّاس من رسموا انتصار الإسلام بعد أن كان معذّباً ومهزوماً في مكّة، ولكن بسبب أسبقيّة هؤلاء في الإسلام فهم متميّزون عن الأنصار وعن الّذين سيأتون فيما بعد. إذن فهذا التّصنيف مهمّ جدّاً في مسألة اختيار أصحاب السّلطة بما في ذلك الخليفة، وحتّى في صلب السّابقين إلى الإسلام وقع التّمييز أيضاً؛ فليس من أسلم رجلاً أو حرّاً أو بالغاً كمن أسلم امرأة أو عبداً أو فتًى. وفي هذا السّياق، استطاع أبو بكر الصّدّيق أن يتولّى أمر المسلمين بعد وفاة الرّسول، رغم حادثة السّقيفة. وفي المرحلة اللّاحقة، عندما أنشأ عمر بن الخطّاب ديوان العطاء، كانت نظرته مختلفة، فقد وضع مجموعة من الأسس العامّة لإعطاء النّاس؛ منها: درجة النّسب من الرّسول، والسّبق في الإسلام، وفَضَّل أهل الحرب على قدر براعتهم في القتال، وكذلك البُعد والقرب من الأراضي الّتي تمّ فتحها، نظراً إلى أنّ العرب لم تكن لهم معرفة كبيرة بميدان الزّراعة، باستثناء بعض الّذين قدموا من اليمن، وأنّ مهمّتهم الأولى هي نشر الإسلام ومواصلة الفتوحات وليس تولّي أمر الزّراعة في سواد العراق، لذلك تركوا أمر الزّراعة للمستقرّين هناك من فلّاحين ومزارعين، وهم أساساً من الشّعوب القديمة ممّن عمّروا العراق في العهد السّاسانيّ، وقد أدّى توزيع العطاء على أساس القرابة من النّبي أوّلاً قبل أساس الأسبقيّة في الإسلام، إلى الخلط بين هذين المعطيين، وهو ما سيسبّب أزمة شرعيّة السّلطة، في ما بعد، مع الأمويّين الّذين لم يكونوا أقرب من الهاشميّين إلى الرّسول ولم يكونوا من السّابقة أيضاً، فهم يفتقدون إلى أمرين أساسيّين وقع اعتبارهما في رسم ملامح الشّرف الإسلاميّ، والّذي سيقع فيه اضطراب لأنّ هذا الشّرف ليست له ديمومة في التّاريخ، فهو مرتبط بأشخاص، والأشخاص يموتون، ولذلك لا يمكن أن تتواصل مسألة الأسبقيّة في الإسلام، لأنّها لا يمكن أن تورّث، فأبناء الصّحابة اعتمدوا على أنّهم كذلك لأنّ آباءهم كانوا سابقين في الإسلام، لكنّهم لا يستطيعون الادّعاء بأنّهم السّابقون في الإسلام، ومن هنا جاء الخلط، أضف إلى أنّ الأمويّين كانوا يفتقدون إلى القرابة اللّصيقة بالنّبيّ، لأنّهم ينتمون إلى أميّة لا إلى هاشم، ومع ذلك فهم الأقرب إليه من غيرهم من العشائر القرشيّة الأخرى.

د. نادر الحمّامي: صحيح أن للسّابقيّة في الإسلام هذه الأهمّيّة الكبرى، ولكن لماذا لم تُسند أدوار قياديّة كبرى في الإسلام المبكّر لمن هم فعلاً من السّابقين في الإسلام، أو من سمّوا لاحقاً بالمستضعفين، مثل عمّار بن ياسر أو ابن مسعود أو بلال أو غيرهم؟ هل يمكن إرجاع ذلك إلى عامل ثالث، وهو ما يسمّى في بعض الدّراسات بالبرجوازيّة القرشيّة الّتي كانت لها الغلبة، قياساً على الحديث «خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام...»؟

دة. حياة عمامو: هذه مسألة مهمّة جدّاً؛ لأنّ السّابقيّة في الإسلام لا تقصي النّسب الصّريح الموروث عن الجاهليّة؛ إذ إنّ الإسلام لم يلغ العبوديّة، وإنّما أضاف إليها الولاء، لذلك فالموالي ليسوا كالعرب الصّرحاء. والأسبقيّة في الإسلام تشترط ثلاثة أمور؛ وهي أن يكون المسلم حرّاً وراشداً وذكراً، ذلك أنّ السّلطة كانت تكرَّس في المجتمع الذّكوريّ وتقصي النّساء، ولا تكون إلّا في ذوي النّسب الصّريح بما في ذلك من ارتدّوا عن الإسلام، الّذين ستسند إليهم المناصب وسيعاملون معاملة أفضل ممّا يعامل الّذين لم يرتدّوا، وكذلك الطّلقاء والمؤلّفة قلوبهم الّذين هم الصّرحاء من قريش ومن الأعراب الآخرين وهم من الأحرار، لذلك أسند لهم الرّسول عطاءات أو غنائم، حتّى إنّه وقع جرّاء ذلك لغط ونقد للنّبيّ من قِبل الأنصار، فقالوا له كيف تتّألف قلوبهم بالغنائم ونحن الّذين ساندنا الإسلام ونصرناه لا نُعطى...

د. نادر الحمّامي: أليس في ذلك نوع من التّنسيب لمقولة الشّرف الإسلاميّ، أو هو مزج بين القبليّ والإسلاميّ؟

دة. حياة عمامو: في التّطوّر التّاريخيّ للأشياء لا يمكن أن نتجرّد تماماً من الموروث؛ لأنّ تطوّر التّاريخ مبنيّ على القطيعة والتّواصل، فهناك أشياء يتمّ التّخلّي عنها وأشياء أخرى تبقى في انتظار أن يقع التّخلّي عنها في مراحل أخرى لاحقة، وهذا ما حدث للشّرف الإسلاميّ، لأنّ ليس له ديمومة في التّاريخ، فقد وقع إعادة إدماج الأرستقراطيّة العربيّة في مناصب السّلطة وفي مراكز القيادة الكبرى، ووقع إدخال المؤلّفة قلوبهم على حساب من نصروا الإسلام، وكانوا من أصحاب الأسبقيّة فيه. لكنّ التّنسيب هنا مهمّ جدّاً؛ لأنّ هذا الشّرف الإسلاميّ لم يُبنَ على مقاييس إسلاميّة صريحة، وإنّما أخذ بعين الاعتبار مقاييس أخرى غير إسلاميّة لا تتعارض مع الإسلام الّذي أبقى بدوره على العبوديّة وعلى الولاء، ولم يُدمج المرأة على أساس المساواة مع الرّجل كما أبقى على مسألة السنّ، ذلك أنّ العرب القدامى كان لهم تقدير خاصّ للشّيوخ والمسنّين والآباء حتّى إنّ هؤلاء كانوا يعبدون في دين العرب القديم، ولذلك كان لهم دور محوريّ في هذا الشّرف، وهذا يمثّل جانباً من الموروث الّذي يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، ولكنّه تواصل مع الإسلام وتأقلم معه، ولذلك اعتُبر أبو بكر أفضل السّابقين إلى الإسلام لأنّه أسنّهم. هكذا تعاضدت مسألة الشرف الإسلاميّ مع الشّرف القبليّ لتنتج هذه الشرعيّة. وقد بيّنت ذلك في كتابي بطريقة واضحة انطلاقاً من السّؤال؛ لماذا أُسندت الخلافة إلى أبي بكر، ولم تسند إلى سعد بن عبادة في حادثة السّقيفة؟ ذلك لأنّ أبا بكر الصّدّيق كان أسبق من ابن عبادة في الإسلام، ولأنّه كان من قريش.

د. نادر الحمّامي: فهل ترين أنّ بداية التّحوّل عن مقياس الشّرف الإسلاميّ الّذي على أساسه قامت الخلافة الأولى، في اتّجاه العودة إلى مقياس الشّرف القبليّ، كانت مع عثمان بن عفّان أم مع معاوية بن سفيان بعد ذلك؟

دة. حياة عمامو: بل إنّ التّحوّل عن مقياس الشّرف الإسلاميّ بدا واضحاً منذ عهد عمر بن الخطّاب؛ لأنّ هذا المجتمع الإسلاميّ الجديد خرج إلى الفتوحات، شرقاً وغرباً، في شكل قبائل وقام بتمصير البصرة (14هــــ) وتمصير الكوفة (17هــــ) وتمصير الفسطاط (21هــــ) بعد ذلك، ثمّ القيروان (50هــــ) وغيرها؛ وقد استقرّ النّاس في هذه الأمصار على أساس انتمائهم القبليّ، رغم أنّ ذلك لم يكن صريحاً مثلما كان شأنهم في شبه الجزيرة العربيّة، فقد عمدوا إلى إدماج قبائل متقاربة في ما بينها لإعطائها خططاً معيّنة في المدن، كما قاموا بإدماج عناصر أخرى مثل «الحمراء» أي جند الفرس الّذين خرجوا عن رستم وتحوّلوا إلى صفّ العرب وقاتلوا معهم في القادسيّة، وبذلك فقد قبلوا أناسا آخرين من غير أصولهم القبليّة العربيّة الصّريحة، إلّا أنّنا لا يجب أن ننسى أنّ هذه كانت عادة معروفة منذ ما قبل الإسلام في اتّجاه تكوين ما اصطلح عليه المؤرّخون ب «الكنفيدراليّات القبليّة»، وأن ذلك لا يعني إلغاء التّمايز القبليّ.

د. نادر الحمّامي: قضيّة التّمصير مهمّة جدّاً، لأنّها مرتبطة بتوسّع مجال الحضارة العربيّة الإسلاميّة، شرقاً وغرباً. فهل كان التّمصير قائماً على الأسلمة أساساً، أم إنّه قائم على التّعريب أكثر؟

دة. حياة عمامو: كان التّمصير قائماً على هجرة القبائل العربيّة الكثيرة جدّاً، ونحن نعلم أنّ واقع الجزيرة العربيّة في فترة بداية الإسلام وحتّى قبل ذلك، كان فيه الكثير من الصّعوبات الاقتصاديّة، وقد بيّن ذلك الكثير ممّن درسوا مسألة الفتوحات الكبرى، لذلك فإنّ الخروج من شبه الجزيرة العربيّة كان بدافع تغيير الوضعيّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فلم يكن باستطاعة العرب أن يواصلوا نمط العيش السّابق الّذي كان يقوم على الغزو والتّجارة الكبرى. وقد قامت الأمصار على الهجرة والاستقرار في شكل قبائل، وقع الاتّفاق على استقرارها في إطار خطط معيّنة انطلاقاً من قرار اتّخذه عمر بن الخطّاب ونفّذه سعد بن أبي وقّاص (ت 55هــــ) في الكوفة، وعتبة بن غزوان (ت 17هــــ) في البصرة. ويمكن القول إنّ العرب المسلمين عندما خرجوا في اتّجاه الفتح والانتشار خارج الجزيرة العربيّة كان هاجسهم الأوّل هو الهجرة ومواصلة الفتح، وعلى هذا الأساس قامت مختلف الأمصار، بما في ذلك الغربيّة منها. ولم يقع تمصير الشّام لعدم وجود حواجز مائيّة بينها وبين شبه الجزيرة العربيّة، ولأنّ العرب اليمنيّين كانوا متواجدين في بادية الشّام عبر هجراتهم القديمة جدّاً، ومن بينهم من ترومن في صلب الإمبراطوريّة البيزنطيّة، وأولئك هم الّذين اعتمد عليهم معاوية بن أبي سفيان في غزو البحر، ثمّ إنّ البيزنطيين كانوا قد فرّوا كلّهم إلى بيزنطة وتركوا بلاد الشّام للعرب اليمنيّين الّذين ترومنوا وأسلموا في ما بعد، لذلك لم يكن مطروحاً على العرب تمصير الشّام وخاصّة الّذين لم يجدوا ما أرادوا أن يجدوه من غنائم ومنافع، فانتقلوا شرقاً وكوّنوا هناك مجالات تواجد واستقلال، وهاجروا أيضاً في اتّجاه فلسطين ومنها إلى مصر ومنها إلى بلاد المغرب وإفريقيّة.

د. نادر الحمّامي: بما أنّك أشرتِ إلى أنّ العرب كانوا قد خرجوا مهاجرين من شبه الجزيرة العربيّة، وأنّهم واصلوا بعد ذلك الفتوحات، فهل نفهم من ذلك أنّ غرضهم الأوّل لم يكن الفتح وإنّما كان الهجرة؟

دة. حياة عمامو: لا نستطيع الفصل في هذا الأمر فصلاً دقيقاً، فلولا الفتح لما استطاع هؤلاء أن يهاجروا، وقد استقرّ العرب من قبل على ضفاف الفرات، وكان ذلك في الحيرة، وكوّنوا دولة أيضاً، وكانوا تابعين للسّاسانيّين، ولكن الأمر في الكوفة اختلف، فقد كان العرب منتصرين على السّاسانيّين، ولعلّهم تجنّبوا الحيرة لتجنّب تلك الذكرى، ولترميم ذاكرتهم على أساس أنّهم شعب منتصر وليس تابعاً، ثمّ إنّهم حاولوا أن يقيموا مصرين في الكوفة والبصرة على الضّفّة الّتي تحاذي شبه الجزيرة العربيّة للفرات، وذلك اتّقاءً لما يمكن أن يتبادر من الجيش السّاسانيّ الّذي انسحب إلى هضاب إيران، وكان يمكن أن يباغتهم في أيّ وقت، لذلك تركوا بينهم وبينه هذا الحاجز المائيّ المتمثّل في الفرات ودجلة، ثمّ إنّ العرب تركوا مجالاً للانسحاب في حال داهمهم الخطر، فكانوا يستطيعون الانسحاب إلى شبه الجزيرة العربيّة دون أن يلحقهم ضرر كبير.

د. نادر الحمّامي: لعلّ في طرح هذه القضايا وإعادة النّظر في الفتوحات وفي الهجرة العربيّة وتمصير الأمصار وأسلمة بلاد المغرب، دعوة علميّة إلى دراسة هذا التّاريخ بناءً على الأخذ بالعوامل السّياسيّة والاقتصاديّة والجغرافيّة والدّيمغرافيّة، عوض الاهتمام بالجانب العقائديّ والبكاء على الأطلال وتقديم أحداث الهجرة والفتوحات بقراءات دينيّة في إهمال تامّ لكافّة العوامل التّاريخيّة. لذلك لا بدّ من قراءة هذا التّاريخ قراءة أخرى على غير العوامل الدّينيّة.

دة. حياة عمامو: لقد قدّم فرد دونر منذ سنة 1982 دراسة علميّة حول الفتوحات الإسلاميّة، أرى أنّها جيّدة جدّاً، فقد تناولت مسألة الفتوحات من مختلف أبعادها، كما أن هشام جعيّط قد درس هذه المسائل في كتابه «الكوفة نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة» بشكل جيّد، وذكر أنّ تمصير الكوفة كان بسبب العطاء الّذي كان يوفّره سواد العراق، والّذي تُرك فيئاً للمسلمين وملكاً مشاعاً بينهم، ولم يقع تقسيمه على أطراف بعينها كما كان يقسّم النبّيّ غنائم غزواته ضدّ بني قينقاع أو بني النّضير، ثم بعد ذلك في خيبر وغيرها. إذن فهذه المسائل قد تمّت دراستها، ولكن النّاس لا يطّلعون على ذلك. وبمناسبة حديثنا حول مسألة الفتوحات، فأنا أميل إلى أنّ جبهة العراق، مثلاً، قد فُتحت بصفة عفويّة وسرعان ما تبنّت ذلك دولة المدينة في عهد أبي بكر الصّدّيق، لأنّ الجبهة الرّسميّة آنذاك كانت الشّام، وكان من الطّبيعيّ أن يتوسّع العرب في اتّجاه بادية الشّام، ولكن بالنّسبة إلى العراق كان الأمر مختلفاً، فقد انطلق إليها المسلمون بعد حروب الرّدّة مباشرة، وشارك فيها حتّى المرتدّون، وقد سمح لهم عمر بن الخطّاب بالمشاركة في هذه الفتوحات دون أن تكون لهم مراكز قياديّة، كما سمح لهم بالحصول على الغنائم وعلى نصيبهم من العطاء؛ ولعلّ السّبب وراء الفتوحات كان حالة القحط والانفجار الدّيمغرافيّ الّذي عرفته منطقة شرق شبه الجزيرة العربيّة، ما دفع النّاس إلى التّنقّل في اتّجاه جبهات أخرى غنيّة وثريّة، ولم يكن دافعهم دينيّاً بالضّرورة.

د. نادر الحمّامي: أليست مقاربة التّاريخ العربيّ والإسلاميّ اعتماداً على هذه المناهج والتّعريف بها ومحاولة تدريسها ونشرها، قادرة على إنقاذنا من تمجيد تاريخنا؟

دة. حياة عمامو: ما يمكن أن ينقذنا هو أن نُسقط كلّ قداسة عن التّاريخ، وأن نُعيد التّاريخ إلى التّاريخ، حتّى نفهم ما حدث كما حدث، ولو تمسّكنا بالنّظرة القدسيّة للتّاريخ، فإنّنا لن نفهم شيئاً، وسنبقى نبكي على الأطلال ونتفاخر بالماضي المجيد الّذي كنّا فيه منتصرين وكنّا سادة العالم، والحقيقة أنّ العرب المسلمين كانوا في شكل قبائل تُعتبر أنقص حضارة من الشّعوب المجاورة لهم ومع ذلك استطاعوا أن يؤسّسوا حضارة وأن يتثاقفوا مع تلك الشّعوب، وهذا حدث في التّاريخ حتّى مع البرابرة الّذين هاجموا الإمبراطوريّة الرّومانية، وانتصروا عليها، واستطاعوا أن يتثاقفوا مع شعوبها وتاريخها وأن يؤسّسوا ما يسمّى الآن بأوروبا؛ فهم الّذين أسّسوا الدّولة الأمّة، وهم الّذين أسّسوا اللّغات الأوروبيّة الّتي نعرفها اليوم. ولذلك، علينا إعادة التّاريخ إلى التّاريخ وترك المقدّس للدّين، وعلى المشتغلين بالدّين أن يرفعوا أيديهم عن التّاريخ، لأنّه ليس ملكاً لهم.

د. نادر الحمّامي: على هذه الدّعوة لإعادة التّاريخ إلى التّاريخ، والانتصار للمقاربة العلميّة الّتي تدعو إلى نزع القداسة عن التّاريخ، نأتي إلى ختام حوارنا معك أستاذة حياة عمامو، ونشكرك شكراً جزيلاً على ما تفضّلت به.

[1] - أجري هذا الحوار في 29 آذار/مارس 2018

[2] - حياة عمامو:

أستاذة التّاريخ بالجامعة التّونسيّة، متخصّصة في التّاريخ الوسيط، مهتمّة بالتّاريخ الإسلاميّ المبكّر.

حاصلة على الدّكتوراه بأطروحة حول «أصحاب محمّد ودورهم في نشأه الإسلام» (منشورة 1996)

من بين مؤلّفاتها؛ «تصنيف القدامى في السّيرة النبويّة» (1997)، و«أسلمة بلاد المغرب؛ إسلام التّأسيس من الفتوحات حتّى ظهور النِّحل» (2001)، و«السّيرة النّبوية؛ مناهج نصوص وشروح» (2014)، و«السّلطة وهاجس الشّرعيّة في صدر الإسلام» (2014)

لها مساهمات علميّة كثيرة في ندوات ودوريّات محكّمة عربيّة وأجنبيّة.