حوار مع الدكتور أحمد محمد سالم: مشروع النهضة العربية


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور أحمد محمد سالم: مشروع النهضة العربية

يوسف هريمة: قبل أن نتقاسم وإيّاكم مجموعة من الأسئلة حول قضايا وآراء لها وقعها داخل الحقل المعرفي العربي الإسلامي، لا بأس في أن يقدّم الدكتور أحمد سالم ورقة تعريفيّة به، وبمساره العلمي والمعرفي، وأهمّ منجزاته الفكرية، لكي يتسنّى لقرّاء ومتتبعي موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود التعرُّف إليكم بشكل أكبر.

أ. د. أحمــد محمـد سالـم: من مواليد 4/4/1969م. (1) ليسانس آداب في مايو/ أيار (1990م)، حصل على ماجستير في الآداب في (1995م)، وكان عنوان الرسالة: (إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر... دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري)، ودكتوراه في الآداب عام (2000م)، وموضوعها: الإمام سعيد النورسي وآراؤه الكلاميــة. يعمل أستاذاً للفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر (2013م)، في قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة طنطا. نشر ت العديد من الأبحاث في مجلة محكمة وفصلية فضلا عن عدد من الكتب.

يوسف هريمة: أبدأ معكم هذا الحوار بمشروع النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر. يؤكد الجابري أنّ هذا المشروع فشل؛ لأنّ روّاده لم يدركوا، ولم يعوا؛ أنّ سلاح النقد يجب أن يسبقه نقد السلاح، لقد أغفلوا نقد العقل، ما قراءتكم لهذا المشروع؟ وهل توافقون الجابري في هذا التوجُّه والمنحى؟

د. أحمد سالم: تلك هي رؤية الجابري، ولا يمكن أن نتفق معها كليّةً في الحديث عن إخفاق مشروع النهضة العربية، وعلينا أن نتساءل: ما حدود الإخفاق؟ وهل أخفق فحسب؛ لأنّ المفكرين العرب لم يبدؤوا بنقد العقل كما فعل هو؟ إنّ مشروع النهضة، الذي يمتدّ منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، لم يحقّق الإنجاز الكبير له؛ لأنّه كان نخبوياً، ولم يستطع أن يتحوّل من إطار النخبة إلى نطاق الجماهير، وكان الحوار والصراع بين التوجهات الفكرية على مستوى النخبة العالمة، ولم تستطع حركة النهضة العربية أن تحقّق، أو تخلق لها؛ إطاراً شعبياً واسعاً. ولكن عصر النهضة كان له إنجازه الواضح في المجالات المعرفية كافةً، حيث تعرفت الثقافة العربية إلى التراث الليبرالي، وإلى مشروع الحداثة، وإلى المنتجات العلمية والمعرفية النامية في الحضارة الغربية كافة. ومن جانب آخر، سعت حركة الإصلاح الديني، منذ رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وغيرهم، إلى محاولة إحداث تغيير حقيقي في الفكر الديني، وجعله مسايراً لحركة التقدّم الإنساني، إنّ تركة عصر النهضة لا يمكن القول إنها فشلت، ولكننا نقول: إنّها حقّقت إنجازاً جزئياً، ففي تلك الفترة دوّن دستور (1923م) في مصر، وهو من أكثر الدساتير ليبرالية وتقدميّة، وفي مصر أُنشئت جامعة فؤاد الأول (1908م) كأوّل جامعة حديثة في الشرق الأوسط، وكانت منارة لتقادح العلماء من الغرب والشرق فيها، كان المطلوب منهم أن يفعّلوا سلاح النقد في تشريح الواقع المعاش، ولم يكن عليهم نقد السلاح (العقل العربي)؛ لأن المستشرقين، في تلك الفترة، تكفّلوا نقد السلاح دون موضوعية، وأرادوا أن يؤصّلوا لعجز العقل العربي بشكل دائم، حتى يبرّروا الوصاية الكولونيالية عليه، وتلك كانت محنة الاستشراق في موقفه من نقد العقل، ونقد التراث معاً.

إنّ ما يؤخذ على مشروع النهضة أنّه كان مشروعا نخبوياً، وقد يرجع السبب، في ذلك، إلى تخلّف التعليم في تلك الفترة، واقتصاره على شريحة محدودة من أبناء المجتمع، كما أنّ التحوّل من عصر الاستعمار إلى الاستقلال قد صاحبه تقييد الحريات في أماكن مختلفة، ما أدّى إلى خنق استمرار إمكانية ازدهار ذلك المشروع النهضوي.

أمّا عن موقف الجابري في التركيز على نقد السلاح (العقل)، فهذا أمر مهمّ، ولكن ذلك الطرح، الذي قدّمه الجابري، لا ينبغي النظر إليه بعيداً عن تطوّر الدرس الإبستمولوجي في الغرب عامّة، وفي الثقافة الفرنسية بوجه خاصّ، وكذلك يكتسب مشروع الجابري قيمته مع إسهام أركون، والعروي، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وحسن حنفي، والطيب تيزيني، وحسين مروة، وغيرهم، في ضوء المراجعة العامّة، التي حدثت في الفكر العربي بعد نكسة (1967م). وهنا، اكتسبت تلك المراجعات العامّة لنقد التراث ونقد العقل، معاً، أهميتها، وتلك المشاريع فرضتها طبيعة المرحلة التاريخية، لتحاول أن تجيب عن السؤال المركزي: كيف يمكن أن يكون التراث سبباً للأزمة، وكيف يكون هو، أيضاً، طريقاً للنهضة؟

يوسف هريمة: تتعدّد شروط النهضة ومداخلها، فمن المفكرين من اقترح الإصلاح السياسي، كالأفغاني، ومنهم من اقترح الإصلاح التعليمي والتربوي، كمحمد عبده، ومنهم من اشترط الإصلاح الديني (ممثلاً في السلفية)، كرشيد رضا. هل التجزيء، هنا، كان مخلّاً بفعل الإصلاح؟ أو، بالفعل، ما قام به رشيد رضا (تسليف الأزهر/ الوهابية) دقّ مسماراً في مسار النهضة العربية؟

د. أحمد سالم: دعنا نتفق على أنَ مسارات النهضة، وطرق الوصول إليها، تباينت مداخلها بين تيارات الفكر العربي المختلفة؛ فالنخب العلمية العلمانية، مثل: شبلي شميل، وسلامة موسى، واسماعيل مظهر، وغيرهم، كانوا يرون ضرورة إزاحة الدين عن المجال العام، وأن تكون السلطة للعقل والعلم، إذا أردنا النهضة، وروّج بعض منهم للداروينية الاجتماعية كفلسفة للتقدم، وروّجوا لأعمال دارون، وترجم إسماعيل مظهر كتاب (أصل الأنواع)، وفي المقابل، تبنّى الاتجاه الليبرالي، عند قاسم أمين، ولطفي السيد، وطه حسين، ضرورة تبنّي التجربة الليبرالية في الحكم، والدعوة لإرساء الحريات في المجالات كافّة، والقول: إنّ التجربة وحدها هي الكفيلة بالسير نحو التقدُّم. تحت ضغوط تلك الخطابات، كانت مسارات حركة الإصلاح الديني، فالأفغاني يرى أنّ الإصلاح يبدأ من الرأس الحاكمة؛ أي من السلطة السياسية، وبعد فشل الثورة العربية، رأى محمد عبده أنّ الإصلاح لابدّ من أن يبدأ من القاعدة الشعبية؛ من التعليم والتربية، هذا التنوّع في البحث عن شروط للنهضة، بشكل جزئي، لا يعيب حركة النهضة، ولكن تلك الرؤى المختلفة يمكن أن تخلق طريقاً للنهضة لو أُتيح لها المدى الزمنى، والحرية الكاملة، ولا ينبغي أن نحمّل رشيد رضا، بمفرده، باتجاهه السلفي المتشدّد، مسؤولية الإخفاق الجزئي للتجربة؛ لأنّ رشيد رضا كان معاصراً لقاسم أمين، ولطفي السيّد، وطه حسين، وغيرهم، وعلى الرغم من أنّ حسن البنا؛ مؤسّس الإخوان، قد تتلمذ على يد رشيد رضا، فإنّ جماعة الإخوان لم يكن لها دور يذكر في الحياة السياسية، في تلك الفترة، وكان تأثيره محدوداً للغاية، والحديث عن تسليف الأزهر على يديه محض ادعاء، فقد ظهر، في تلك الفترة، أعلام، مثل عبد المتعال الصعيدي، وخالد محمد خالد، وغيرهم، ولكن الأزهر، كمؤسسة دينية رسمية، يسود فيها الطابع المحافظ دوماً، وإنّ أصحاب العمائم الثائرة في تاريخ الأزهر قد حوصروا من قبل مشيخة الأزهر، وهيئة كبار العلماء. وأودُّ أن أشير إلى أنّ تسليف الأزهر، ووجه الحياة المصرية، كان في عقد السبعينيات مع سفر العمالة المصرية، في شتّى المجالات، إلى الخليج، لإعماره، فعادوا إلى مصر ليروّجوا للمذهب الوهابي، وليصبح للسلفية الوهابية حضورها في الأزهر، وفي كلّ مؤسسات الدولة المصرية، فحالة التراجع العامّة بدأت على المستوى السياسي، وصاحبها ذلك المدّ المحافظ، ففي عقد السبعينيات فتح الرئيس السادات الأبواب لحركة الإخوان المسلمين لمواجهة اليسار المصري، ورفع شعار: أنّ مصر هي دولة العلم والإيمان، ما أتاح حرية الحركة لحركات الإسلام السياسي، التي أنهت بيدها حقبة أنور السادات، باغتياله في تشرين الأول/ أكتوبر، عام 1981م.

يوسف هريمة: من شروط النهضة، كما قال مالك بن نبي، توافر ثلاثة عناصر أساسية: الإنسان، والتراب، والوقت. وفي المنحى نفسه، ذهب محمد رمضان البوطي، في كتابه (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم)، مع بعض التغييرات في الألفاظ. ماذا يقصد بهذه الثلاثية؟ أهي متوافرة، الآن، لتحديد مسار نهضة جديدة أم لا؟

د. أحمد سالم: تعني هذه الثلاثية؛ الإنسان، والتراب، والوقت، وأضاف مالك بن نبي، أيضاً، الدين عاملاً روحياً يدمج هذه العناصر بعضها ببعض لتحقيق الاستغلال الأمثل لها. الواقع أنّ هذه العناصر متوافرة في معظم المنطقة العربية، لكن التشوّهات حادثة في أهمّ ركن من هذه الأركان، وهو الإنسان، الذي يرضخ تحت وطأة الاستبداد والاستعباد من الأنظمة العربية كافةً، وحين حاول أن يثور لتحقيق الحرية، لم تكن الثورات العربية حاملة لرؤية واضحة، ولا قيادات واعية، فاستطاعت الشعوب كسر الأنظمة المستبدّة، وذلك للحظة مؤقتة، وحدث فراغ واضح أتاح للحركات الدينية أن تعتلي السلطة لفترة مؤقتة، ثمّ سعت هذه الشعوب لكسر سيطرة الفاشية الدينية، فإذا بنا نعود أدراجنا إلى الخلف باحثين عن الأمن، كمطلب أوّل، وكسرات الخبز؛ واستطاعت حركات العنف أن تملك السيطرة على دولٍ مثل سورية وليبيا؛ وحدوث انقسام طائفي في اليمن. لقد عدنا إلى الخلف بعد الثورات العربية، ولا يزال هذا الإنسان العربي يئنّ تحت وطأة الفقر في دول كثيرة، إنّ المحنة، التي يحياها الإنسان العربي من غياب تعليم جيّد ورعاية صحية جيّدة، وغياب الحريّات، وأوضاع مترديّة على القطاعات كافةً؛ يجعل هذا الإنسان أسيراً للاستعباد، وأسيراً لاحتياجاته، ولم تملك الإرادات السياسية الواعية، في المنطقة، رؤية واضحة لإمكانية تطوير واعٍ لتلك البلاد، ولا إمكانية لتحرير الإنسان، كما أنّ صورة الدين، لدى قطاعات من الحركات الدينية، متخلّفة، وهذه الجماعات تحدث اضطراباً في الدول التي تنتشر بها؛ لأنها تريد العودة بتلك الدول إلى الخلف، فلا يمكن أن تتحقّق نهضة واعية إلّا بأن يكون هناك استراتيجية واضحة لإمكانية بناء الإنسان العربي في مجالات التعليم، والحريّات، والصحة، إنّنا، إذا بنينا إنساناً حقيقاً، يمكن أن نبني الحضارة، والنهضة، والتطوّر، فدولة مثل اليابان ليس فيها أيّ موارد، وتستورد كلّ المواد الخام، وبيئتها الجغرافية صعبة، لكنّ الإنسان فيها استطاع أن يبني الحضارة، فعلينا أن نبحث عن الإنسان الذي هو مركز إنتاج الأفكار والإبداع الخلّاق.

يوسف هريمة: لماذا عُنِيَ الفكر العربي بضرورة العودة إلى التراث بعد هزيمة (1967م)، وما دواعي العودة إلى التراث منذ ذلك التاريخ إلى الآن؟

د. أحمد سالم: الواقع أنّه بعد هزيمة (1967م) كانت هناك تساؤلات ملحّة في الفكر العربي حول أسباب الهزيمة، ونُظر إلى الفكر الديني المتخلّف على أنه أحد أسباب الهزيمة. وفي تلك الفترة، ألّف صادق جلال العظم كتابه الشهير (نقد الفكر الديني)، وألّف محمد النويهي كتابه (نحو ثورة في الفكر الديني)، وكانت تلك الكتب تحمّل تخلّف الفكر الديني، بنزعته التواكلية، وانتشار الخرافات الملتحمة به؛ مسؤوليّة الهزيمة والانكسار. وفي تلك الفترة، بدأت قضية قراءة التراث تحتل القضية المركزية في الفكر العربي، وكانت التساؤلات: هل يمكن تحقيق نهضة بتجاوز دور التراث في تلك النهضة؟ ما مدى مسؤولية التراث في نشر الجمود والتخلّف في مجتمعاتنا العربية؟ التراث أهو طريق للتقدم أم أنه طريق للتخلف والجمود، ومن ثَمَّ، يجب القطع معه؟ ونتيجة لتعلّم مجموعة من النخب العربية المنهجيات الحداثية للعلوم الإنسانية، قامت هذه النخب، بما تملكه من أدوات منهجية، بتطبيق هذه المنهجيات على التراث الإسلامي في المجالات كافة، وبدا هذا واضحاً في قراءات عابد الجابري ومدرسته، وحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وحسين مروة، والطيب تيزيني، وعبد الله العروي، وغيرهم الكثير.

استطاعت تلك المشاريع الفكرية، من خلال تطبيق تلك المنهجيات على التراث، أن تفجر الديناميت في ذلك الجسد الراكد المسمَّى التراث الإسلامي، والحاكم لمسار التفكير، لتكشف لنا تلك القراءات عن آفاق متنوعة تحمّل فيها التراث، في أشكاله المتنوّعة، مسؤولية تخلّف الواقع العربي، وتنتقي، من ناحية أخرى، عناصر ايجابية ترى أنّ تلك العناصر يمكن الانطلاق منها، ولكنّ المشكلة أنّ التراث أصبح جسداً منتهكاً بين كلّ تلك التيارات، وكلّ اتجاه على حدة يرى التراث وفقاً للمنهجية التي ارتضاها، وتحمل تلك المنهجيات معها رؤية للعالم مغايرة ومحكومة بطبيعة المنهج المسلوك في قراءة التراث.

وعلى الرغم من كلّ الجهود المطروحة في الفكر العربي، على مدار أكثر من أربعين عاماً، لم نستطع أن نحسم آفاق علاقتنا بالتراث، ومازالت الرؤية السلفية للتراث هي الحاكمة والمسيطرة على الثقافة العامة، حتى في أنظمة التعليم والتربية. وبدت تلك القراءات الحداثية منبوذة ومحاصرة، بسبب تشويه أصحاب النزوع السلفي لها؛ بل تكفيرها. فحين ننظر إلى مدرسة الشرفي في تونس نجدها محاصرة، ولا تستطيع أن تفرض حضورها الواعي على النظام البحثي والأكاديمي في تونس، وما تعرّض له نصر أبو زيد من حصار في وطنه، وتكفيرٍ لكلٍّ منه وحسن حنفي، ورفض قبول إسهام محمد أركون... ومن ثمّ يمكن القول: إنّ جهود تيار الحداثة محاصرة ومنبوذة، حتى داخل المؤسسات البحثية، فضلاً عن عجزها عن أن تكون تياراً فاعلاً ومؤثراً على المستوى الجماهيري. ومازالت الرؤية السلفية للتراث هي المسيطرة على مستوى المؤسسات الأكاديمية، وعلى مستوى تسيير الجماهير.

يوسف هريمة: تعدّدت أوجُه التعامل مع التّراث في الفكر المعاصر؛ ومن الممكن اختزالها إلى اتّجاهات أساسية أطلق عليها الطيّب تيزيني التسميات الآتية: النّزعة السّلفية، النّزعة المعاصرة، النّزعة التّلفيقية. ما أهم ملامح هذه النزعات؟ وأين يمكن أن تموقعوا مساركم الفكري؟

د. أحمد سالم: نستطيع أن نقول إنّ القراءة السلفية للتراث تعيد إنتاج التراث بالحضور القديم نفسه، وتلغي البعد التاريخي الممتدّ للتراث عبر حركة الزمن والتاريخ، وتريد أن يكون للتراث حضور فاعل في كلّ نواحي الحياة، وقد ألغى هذا التيار فاعليّة العقل الإنساني، وذلك لصالح استدعاء جهود القدماء لتمارس فاعليتها في اللحظة التاريخية الراهنة، فنجد لتراث ابن حنبل، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب، حضوراً طاغياً على التفكير والممارسات السلفية، بما يعني أنّ السلف مازال يحكم الخلف، وهم في قبورهم، ولا يتم التعامل مع السلف وفقاً لمقولة الشيخ أمين الخولي: هم رجال ونحن رجال، نقتدي بهم، ولا نمشي وراءهم حذو النعل بالنعل، والقدّ بالقدّ؛ ولذلك فهناك تجاهل تامّ لدى هذا التيار بمدى تطور حركة التاريخ، لا مدى تشابك وتعقيد الواقع المعاصر، ونحن نحمّل هذا التيار مسؤولية الاستدعاء التاريخي لتراث الفقه الإسلامي القديم، الذي ينشر ذهنية التكفير، وإقصاء الآخر، وإباحة دمائه، وهذا موجود في تراث ابن تيمية، وابن عبد الوهاب. ولاشكّ في أنّ هذا التيار يطالبنا بإلغاء العقل، وتحجيم دوره لصالح استمرار نصوص السلف، واستمرار فاعليتها في تقييد مسار حركة الزمن والتاريخ. إنّ التاريخ، لديهم، لا يتقدّم إلى الأمام، ولكن بالرجوع، دوماً، إلى الخلف.

أمّا النزعة المعاصرة، فهي تلك النزعة التي ينتمى إليها معظم أقطاب الفكر الحداثي، الذي طبق المنهجيات الحداثية في قراءة التراث الإسلامي، وقراءة آليات عمل العقل العربي عبر مسار التاريخ، والآفات الواضحة في تلك الآليات الحاكمة لعمل العقل العربي، وفي هذا التيار، ندرج أعمال الاتجاه الماركسي عند حسين مروة، والطيب تيزينى، وغيرهم، والقراءة الفينومينولوجية للتراث عند حسن حنفي، والقراءة الهرمينوطيقية عند نصر أبو زيد، والقراءة البنيوية لدى الجابري، وأعمال أركون في تحليل الخطاب، ومعظم القراءات المعاصرة للتراث، التي تنطلق من الحداثة، ومن العصر. والغالب على النزعات الحداثية أولوية الإيديولوجي على الإبستمولوجي، وتحميلها التراث كلّ آفات ومثالب العقل العربي، وتحميل التراث المسؤولية المباشرة عن التخلّف والجمود الراهن، ومن آفات تلك القراءات، تغليب رؤية المنهج على حساب تنوّع المضمون واختلافه، ومع ذلك، تظلّ الميزة الكبرى للاتجاهات الحداثية المعاصرة هي القدرة الخلاقة على تفجير الحياة في ذلك التراث الجامد، وتقديم قراءات معاصرة لم يكن من الممكن وجودها لولا توظيف منهجيات العلوم الإنسانية الحديثة في تلك القراءات.

أما القراءة التوفيقية (التلفيقيّة)، فهي تمثل محاولة للجمع بين عناصر من القديم، وعناصر من الحديث، في قالب جديد، ويمثل زكي نجيب محمود أهم علم لذلك التيار، وهو يقرّ بضرورة الجمع بين التراث والمعاصرة، بين القديم والجديد.

ويمكن أن أضع جهدي البحثي في ضوء القراءات المعاصرة للتراث الإسلامي، وذلك بتطبيق المنهجية التاريخية الاجتماعية في قراءة التراث الإسلامي في مجالات علم الكلام، والفلسفة، والفقه السياسي، فحين نحاول أن نشرح جذور التسلّط والاستبداد، في واقعنا الراهن، لا يمكن أن نغضّ الطرف عن إعادة قراءة أثر مدوّنات الفقه السياسي الإسلامي في مجال (الآداب السلطانية)، أو ما يُسمّى (مرايا الأمراء)، لنقرأ كيف تخلّقت تلك الأدبيات ذات الأصول الفارسية في تجربة الحكم الإسلامية تاريخياً، وكيف تمّ استدعاء تلك الأدبيات لرسم صورة للخليفة الطاغية (ظلّ الله في الأرض)، ومن ثمّ، فإنّ أيّ معالجة لقضية الاستبداد تظلّ منقوصة ما لم يتمّ البحث عن جذور هذا الاستبداد في تاريخنا القديم، فالاستبداد صناعة سياسية، لكنها رُسّخت عبر التنظير الفكري والثقافي، ومن ثمّ، إذا أردنا نقد الممارسات الاستبدادية، لا بدّ من أن نمارس نقد صناعة الاستبداد عبر تاريخنا الثقافي، وهو ما يعني، ضرورةً، العودة إلى التراث، من أجل نقد جذور التسلط والاستبداد في هذا التراث، وذلك من أجل فتح آفاق جديدة للحرية في حياتنا الراهنة.

ومن هذا المنطلق، جاء تفكيري في تأليفي موضوع كتابي (دولة السلطان... جذور التسلُّط والاستبداد في التجربة الإسلامية)، محاولاً الكشف عن الداعي التاريخي لحضور الآداب السلطانية داخل الحقل التداولي لثقافتنا العربية الإسلامية من ناحية، ودور هذه الآداب في صياغة شأن التدبير السياسي في الإسلام، والآثار التي ترتّبت على ترسيخ الآداب السلطانية كإيديولوجيا للتنظيم السياسي في الإسلام، ومن ناحية أخرى، على الموروث الاستبدادي في الممارسة السياسية.

وحين حاولت أن أبحث في سيطرة ذهنية التكفير السائدة في الواقع المعاصر، عدت إلى كتب العقائد لأهل السنّة، ولاحظت سيادة حاكمية حديث الفرقة الناجية، الذي يدّعي فيه أهل السنّة أنّهم هم الفرقة الناجية، وتوظّف كلّ فرقة نصّ الحديث باعتبار أنّها هي الفرقة الناجية دون غيرها، ومن ثمّ تمّ توظيف السنّة، وتوظيف المقدّس، لدى كلّ فرقة، في إثبات صدق موقفها ضد الفرقة الأخرى، واعتبار أنّها هي الفرقة الناجية دون الأخرى، ووظفت كلّ فرقة آليات التشويه والتشهير للفرقة الأخرى، حتى تثبت أنّها الفرقة الناجية، وما عداها كافرة، تحت منطق امتلاك الحقيقة المطلقة؛ ولذا كانت روح الإقصاء والتكفير هي الروح السائدة بين الفرق الإسلامية، وقمت بعرض هذا الصراع العقائدي، في ضوء المنهجية التاريخية الاجتماعية، وذلك للكشف عن كيف تمّ تسييس الدين في تاريخ الحضارة الإسلامية، وأن الصراع، بالأساس، كان صراعاً على من يملك السلطة، وأنتهي إلى الصراع على من يملك الحقيقة، ومن ثمّ، فإنّ الممارسة الدينية الإقصائية، بين الحركات الدينية المعاصرة، ما هي إلاّ امتداد للممارسة نفسها بين الفرق الإسلامية عبر تاريخنا الثقافي، وهذا ما تعرضتُ له، وبوضوح، في كتابي (إقصاء الآخر... دراسة في فكر أهل السُنّة).

وفي كتابي (نقد الفقهاء لعلم الكلام... بين حراسة العقيدة وحركة التاريخ)، قدّمتُ قراءة لصورة الصراع بين الفقهاء وعلم الكلام، وبصفة خاصّة الفقهاء الأربعة، الذين قدّموا أنفسهم بصورة حرّاس العقيدة الذين يدافعون عنها، موظفين في ذلك سلطة الفقه في تكفير المتكلمين، وحين وضعت موقف الفقهاء في سياق التاريخ، حاولت أن أجيب عن مجموعة من التساؤلات المهمّة، وهي: هل كان للعقيدة أن تسير في صورة واحدة عبر مسار التاريخ؟ وهل الوحي في علم العقائد كان خارج حركة التاريخ أم داخله؟ وهل تأثرت قراءة الوحي، في علم العقائد، بمسار اختلاف اللغة، والبيئة، والزمن، والثقافة، والصراع السياسي؟ وبالفعل، كانت الإجابة، من خلال التحليل التاريخي الاجتماعي، أنّ تلك العناصر السابقة كان لها دور كبير في إحداث الفرقة والاختلاف بين المسلمين، في رؤيتهم للعقيدة، فلم يكن من الممكن أن يدخل الإسلام ثقافات، وحضارات، وبيئات، ومجتمعات شتّى، ولا تتأثّر تلك المجتمعات في صور اعتقاداتها بموروثاتها السابقة عن الإسلام؛ ولذلك فإنّ لكلّ بيئة صورة للإسلام تناسب طبيعة وثقافة تلك البيئة؛ ولذلك بدا لي أنّ علم الكلام هو ذلك العلم الذي كشف عن تعدد صور العقيدة الإسلامية، في ضوء خضوع الوحي للتاريخ، وتعدُّد قراءاته نتيجة اختلاف اللغة، والبيئة، والزمن، والثقافة، والصراع السياسي، كما أنّه كان كلاماً في السياسة، والكبائر السياسية، ولا ننسى مقولة الشهرستاني: ما سُلّ سيف ولا سالت دماء مثلما كان في قضية الصراع على الإمامة.

والواقع أنّني لم أكن أملك أن أقدّم قراءات جديدة للتراث إلا من خلال تطبيق المنهجية التاريخية الاجتماعية في قراءة التراث العربي، التي، من خلالها، يمكن أن نقرأ أثر التراث في مسار الحاضر، وكيف يمكن أن ينظر الحاضر إلى التراث من خلال طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة.

يوسف هريمة: يصدمنا جورج طرابيشي حين لا يعترف بوجود فلسفة عربية، مع أنّ هناك الكثير من الكتابات التي تحدّثنا بذلك. هل، بالفعل، الفلسفة العربية، حتى في مراحلها المتقدّمة، لم تكن سوى نسخٍ هجينة عن الفلسفة اليونانية والغربية؟ وماذا عن واقع الفلاسفة المعاصرين، أو المتفلسفين، بتعبير طرابيشي؟

د. أحمد سالم: إنّ رأي جورج طرابيشي بعدم وجود فلسفة عربية ينبع من مفهوم محدّد للفلسفة، بالمعنى اليوناني القديم، أو بالمعنى الحديث الغربي، فإذا ربطنا الفلسفة العربية الإسلامية بالسياق اليوناني، سوف نكرّر اتهامات المستشرقين نفسها، التي تنبع على لسان جورج طرابيشي بأنّه لا وجود لفلسفة عربية؛ لأنّ إسهامات الفلاسفة المسلمين، من الكندي حتى ابن رشد، تقوم، في بنيتها، على استهلاك الفلسفة اليونانية عند أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، وعلى الرغم من أنّ هذا الاستهلاك، والتوظيف للمفاهيم والفلسفات اليونانية، كان يخدم القضايا الأساسية التي اهتمّ بها هؤلاء الفلاسفة المسلمين، وهي قضايا الله، والإنسان، والعالم، ولو نظرنا إلى الفلسفة الإسلامية من منطلق طبيعة الفلسفة الغربية الحديثة، فهذا حكم جائر أيضاً؛ لأنّ طبيعة وشروط تَخلّق الفلسفة الحديثة مغاير تماماً لطبيعة وظروف تَخلّق الفلسفة العربية الإسلامية. فالفلسفة الإسلامية هي فلسفة دينية، تسيطر عليها الروح الدينية، مثل فلسفة أوربا في العصور الوسطى؛ ولذلك يمكن الكشف عن روح العقلية الإسلامية ليس في إطار التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية فحسب؛ بل تظهر الفلسفة في علم الكلام، والتصوّف، وفي علم أصول الفقه، كما أقرّ بذلك الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه (تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الفقه السياسي الإسلامي)، فالفلسفة الإسلامية كفلسفة دينية تقطن في علوم الدين الإسلامي، ومن خلال تلك العلوم حاول المفكّرون العرب المعاصرون أن يحلّلوا آليات عمل العقل العربي عبر مسار حركة التاريخ.

ولكن المشكلة في الأحكام القطعية، عند طرابيشي، أو عابد الجابري، أنّ الفلسفة موجودة، فقط، ضمن دائرة البرهان، أو صناعة الدليل العقلي، وفقاً للنمط الأرسطي؛ ولذلك نجد أنّ الجابري يقيس أصالة الفلاسفة المسلمين بمدى اقترابهم من البنية الأرسطية، فيرى أنّ عقلانية ابن رشد هي العقلانية الحقيقية في الفلسفة العربية الإسلامية؛ لأنها كانت الأقرب إلى روح الفلسفة الأرسطية، في حين نجده ينتقد الفارابي، وابن سينا، ويتّهم الأخير بالظلامية؛ لاختلاط البرهان لديه بالعرفان، ومن ثمّ بنى الجابري حكمه الجائر بالقطيعة المعرفية بين فكر المشرق وفكر المغرب.

في المقابل، نجد أن طرابيشي يرى أن التقليد الفلسفي، الذي ظهر على يد فلاسفة الإسلام، كان تقليداً محدوداً ومحاصراً من قبل الفقهاء والسياسة في أرض أهل السنّة بالذات، وللأسف الشديد إنّ هذا كان صحيحاً إلى حدّ كبير، حيث تعرّضت الفلسفة، وحتى التصوّف، للحصار والاضطهاد من قبل الفقهاء والساسة، ولكن ينبغي أن نعي أنّ التصوّف والفلسفة قد ازدهرا في أرض التشيُّع لحاجة التشيع إلى التأويل الرمزي للقرآن في معتقداتهم، وحين أفلت الفلسفة، بعد ابن رشد، في أرض أهل السنّة، ظهرت الأعمال الكبرى لصدر الدين الشيرازي والميرداماد في فارس.

يوسف هريمة: تتقاسم التراث ثلاث دوائر أساسية: البيان، والعرفان، والبرهان، بحسب تقسيم الجابري. ما موقفكم من هذا التقسيم؟ وأين يمكن أن نموقع الفكر العربي المعاصر، أهو امتداد، أم قطيعة عن هذه الثلاثية؟

د. أحمد سالم: إنّ تقسيم الجابري للبناءات الحاكمة للعقل العربي، على الرغم من أهميته البالغة، تشوبه أزمة واضحة هي أزمة تطبيق المنهج على حساب تباين الموضوعات المندرجة تحت البنية الواحدة، فعلى سبيل المثال، إنّ بنية البيان تشتمل على علوم اللغة العربية، وعلوم الدين، كالتفسير، وأصول الفقه، وأصول الدين، أو علم الكلام. ويرى الجابري أنّ أزمة البيان في التركيز على أولوية اللفظ على المعنى، وتحكّم الأنموذج السالف، أو سلطة الأصل، وسيادة مفهوم التجويز، أو العلاقة الانفصالية بين السبب والمسبب، وتلك آفات رئيسة أصلها البيان في العقل العربي. ونجد في تحليل الجابري أنه يدرأ أيّ تباين بين التوجّهات الفكرية الخاضعة لبنية البيان، فيضع إسهام المعتزلة مع الأشاعرة في موقف واحد في قضية السببية، وذلك على الرغم من أنّ العديد من أعلام المعتزلة، كالعلاف والنظام، قالوا بفكرة الطبع في علاقة الأسباب بالمسببات، ما يجعل المعتزلة أقرب إلى البرهان، في بعض القضايا، منهم إلى البيان، ونجده يحذف جهد ابن حزم في توظيف البرهان في علم أصول الفقه، ويضعه في نهاية كتابه، كمنطلق مغاير لإمكانية النهضة، بمعنى أنّ الفصل القاطع بين البنى المعرفية أمر صعب للغاية، للتداخل بينها، وهذه النقيصة جاءت نتيجة توظيفه للمنهج البنيوي، الذي يبحث عن الثابت البنيوي، ويدرأ التباين، حتى يطلق الأحكام الكليّة.

وفي تحليله للبنية العرفانيّة المشتركة بين التشيُّع والتصوّف، نجد الجابري يتجاهل قيام الفكر الشيعي، في العقائد، على المنظومة الاعتزالية في علم الكلام، ويؤسّس للعرفان، في قيامه على الرؤية الهرمسية للعالم، التي تستند على التراتب الهراركي للعالم، واعتمادها على السيمياء، والسحر، والتنجيم. ويحمّل الجابري هذه البنية المعرفية تخلّف العقل العربي، ويرى أنّ سيادة هذه البنية أساس كلّ التخلف الموجود في العقل العربي، وذلك على الرغم من وجود هذه البنية المعرفية في كلّ الثقافات قديماً وحديثاً، وليست قاصرة على العقل العربي وحده.

وإذا اتجهنا إلى تحليله لبنية البرهان، نجده يرفع من شأن هذه البنية، باعتبارها قائمة على الاستدلال العقلي وفقاً للنمط الأرسطي في البرهان. وعلى الرغم من أنّ تراث فلاسفة المشرق يقع ضمن نطاق هذه البنية، يدين هذا التراث عند الفارابي وابن سينا، ويتّهمهم بأنّهم خلطوا بين العرفان والبرهان، ورسّخوا للاعقلانية، ويمجّد ابن رشد؛ لأنّه كان شارحاً أميناً لتراث أرسطو حول البرهان. ويرى أن الفكر المغربي قد قطع مع الفكر المشرقي، فالفكر المشرقي عرفاني لاعقلاني، في حين الفكر المغربي برهاني عقلاني؛ فالجابري كان حريصاً على إثبات التباين في بنية العرفان، من أجل القول بالفصل بين تراث المشرق وتراث المغرب، وتناسى الجابري كلّ التراث العرفاني القائم، في المغرب، على يدّ ابن مسرّة، وابن باجة، ومحيي الدين ابن عربي، وغيرهم، (ولقد تعرّض الجابري للنقد من العديد من المفكرين، ابتداءً من محمد عزيز لحبابي، ويحيى محمد، وجورج طرابيشي، والطيب تيزيني).

وينتهي الجابري، في قراءاته لبناءات العقل العربي، إلى أنّ مشروع النهضة، لكي يتجاوز كلّ آفات العقل العربي، ينبغي أن ينطلق من مقاصدية الشاطبي، وعقلانية ابن حزم، وتاريخية ابن خلدون، وبرهانية ابن رشد، باعتبار أنّه تراث المغرب، الذي يمكن أن تنطلق منه النهضة العربية، ويتناسى الجابري أنّ تأسيس ابن حزم للبرهان في علم أصول الفقه يقابله نزوع ابن حزم الإقصائي في (علم الكلام)، أو علم أصول الدين، حيث قام ابن حزم بتكفير كلّ الفرق في كتابه (الفصل)، فيكفّر المعتزلة، والشيعة، والأشاعرة، باعتبار أنّ مذهبه هو الحقّ، وما دون ذلك كفر، ولكن الجابري يتغاضى عن إقصائية ابن حزم الواضحة، كما أن تاريخية ابن خلدون قائمة على المفاهيم المشرقية نفسها، عن سلطة التجويز (أي العلاقة غير الضرورية بين الأسباب والمسببات)؛ فابن خلدون لديه التصوّر الأشعري نفسه عن نفي الضرورة في العلاقة السببية، ويحاول الجابري أن يبرّر له هذا، كما أنّ عناصر السحر والتنجيم قائمة في تاريخ ابن خلدون، ومن ثمّ، فإنّ كل العاهات المزمنة، التي ينسبها الجابري إلى بنية البيان والعرفان، قائمة في فكر ابن خلدون، ولكن الجابري يبرّر له مشروعية مثالبه؛ لأنه يقع ضمن نطاق الفكر المغاربي فحسب، وقد طرحت ناجية الوريمي، الأستاذة التونسية البارزة، قراءةً متميّزةَ، في كتابها عن ابن خلدون، تمثِّل نقداً واضحاً لمعظم القراءات السابقة عن ابن خلدون، وأهمّها قراءة الجابري. المهمّ أنّني أؤكّد وحدة العقل العربي مشرقاً ومغرباً، ووحدة القضايا المطروحة على هذا العقل، ولقد قطعت شوطاً كبيراً في دراسة الجابري، في أطروحتي للماجستير المعنونة: (إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر... دراسة مقارنة بين حسن حنفي وعابد الجابري)، وقد نوقشت في أيلول/ سبتمبر (1995م)، ومنشورة، حالياً، في كتاب بالعنوان نفسه.

يوسف هريمة: أعود معكم إلى بدايات تشكّل العقل الإسلامي، لاسيّما مع ظهور التيار الاعتزالي، الذي امتدّ، حسب بعضهم، إلى حدود القرن التاسع عشر، مع بعض الرواد. هل توافقون نصر حامد أبو زيد في أنّ الأشعرية، في العقيدة، كانت نقطة تحوّل في العقل الاعتزالي، مع أبي الحسن الأشعري والغزالي تحديداً؟

د. أحمد سالم: الواقع أنّ ظهور التيار الاعتزالي، منذ عصر التدوين، في أواخر القرن الثاني الهجري، وأوائل القرن الثالث الهجري، كان علامة بارزة في تطور العقلية العربية، والسبب، في ذلك، أنّه مع بروز الدولة العباسية الأولى، في منتصف القرن الثاني الهجري، حدثت انفراجة كبرى في حياة الموالي، حيث أسهم الموالي والعجم في اعتلاء بني عباس السلطة، وأتاح هذا للموالي حرية الحركة والتفكير، وتولى العديد منهم المناصب الرفيعة في الدولة العباسية؛ في الوزارة، والكتابة، وغيرها. وللعلم، إنّ معظم أقطاب المعتزلة كانوا من الموالي والعجم، وكانوا يحكّمون العقل في كلّ شيء، واتخذوا من العقل الكوني المعيار للحكم على كلّ شيء، حتى النصّ المقدّس. وحين قالوا بخلق القرآن، فقد أخضعوا الوحي لحركة التاريخ، وبسبب هذا المعيار المختلف لفكر أهل السنّة، فقد خلق هذا فضاءً معرفياً ثرياً قائماً على الصراع بين الآراء والأفكار، وكانت تلك الفترة (فترة حكم الدولة العباسية الأولى-) أكثر فترات الثقافة الإسلامية ثراءً على مدار تاريخها، ولكن مع حصار المعتزلة، وحرق تراثهم الفكري، بدأت سيطرة الفكر السني المحافظ. ومع ظهور أبو الحسن الأشعري من عباءة المعتزلة، ثم تحوّله إلى المذهب السني، أسّس للإيديولوجيا الوسطية، التي احتوت حدّة الصراع بين العقل والنقل، وتحقّق الانتصار للنقل بأدوات عقلية، وليتمّ درء الصراع الخلّاق بين دعاة العقل من ناحية، ودعاة النقل من ناحية أخرى. ثم يأتي الغزالي، في القرن الخامس، ليوجّه ضربته القاضية على عمل العقل، بتكفير الفلاسفة المسلمين، وحصار الفلسفة الشديد داخل دائرة أهل السنّة، ولتسود، في ثقافتنا العربية، ثقافة النقل على ثقافة العقل، وثقافة الرواية على ثقافة الدراية، وتقديس نصوص السلف، وتغييب عقل الخلف، ومن ثمّ غياب ثقافة النقد والعقلانية.

يوسف هريمة: ما رأيك في تعليم الدرس الفلسفي في جامعاتنا العربية في الفترة الراهنة؟

د. أحمد سالم: الواقع أنّ الدرس الفلسفي، في جامعاتنا العربية، يعاني محنة كبرى، وذلك لأنّ البحث الفلسفي نفسه يعاني تراجعاً، فالدرس الفلسفي يقوم بتعليم ركام من المعلومات الجاهزة، ولكنّه لا يسهم في تشكيل عقل نقدي، فالمعرفة الفلسفية، في دروس الفلسفة، تُقدَّم بروح حيادية، ولا تطرح على عقل الدارس الأسئلة التي تحرّك الثوابت والمسلّمات الراكدة في عقول الطلاب، ولا يمكن تطوير الدرس الفلسفي، في العالم العربي، من دون وجود ارتقاء حقيقي بالبحث الفلسفي؛ ولذا ينبغي أن نهتمّ بعرض حركة الأفكار وتطورها كجزء من تطور حركة الواقع التاريخي والاجتماعي لهذه الأفكار، فلا يمكن أن نعالج الفرق الإسلامية بعيداً عن علاقة الدين بالسياسة في التجربة الإسلامية، ولا يمكن أن نرى آليات تطوّر علم أصول الفقه بمعزل عن الممارسة السياسية، ولا يمكن دراسة الحداثة إلا في ضوء تطور الحضارة الغربية، ولا يمكن قراءة الفكر الماركسي جيداً إلا في ضوء تطور الرأسمالية الغربية في عصر الثورة الصناعية، وهكذا، فإنّ تطوير الدرس الفلسفي، في جامعاتنا العربية، مرهون بتطوير البحث في مجالات الفلسفة، حيث لا يكون الدرس الفلسفي مجرد عرض لأنماط معرفية، وركام من المعارف، دون أن يسهم هذا الدرس في تشكيل الوعي النقدي لدى الطلاب، وللأسف، إنّ حال الدرس الفلسفي، في مصر، يزداد تراجعاً وتخلّفاً؛ لأنّه يعتمد على تلقين المعرفة، وفرض حفظها على الطالب، ولا يطرح على عقله أسئلة تحرّك ذهنه، ويعود السبب في ذلك إلى تراجع حال البحث الفلسفي، الذي يعيد إنتاج النصوص القديمة والحديثة دون وجود رؤية ولا تحليل، فالأستاذ، إذاً، افتقد الرؤية والموقف، كان عاجزاً عن نشر وتعليم درس فلسفي حقيقي.

يوسف هريمة: شكراً الأستاذ أحمد سالم.