حول حريّة مفاهيم الدين والمعتقد
فئة : ترجمات
حول حريّة مفاهيم الدين والمعتقد
إيفون شيروود
ترجمة: صالح الجلاصي
أودّ من خلال هذا المقال إعطاء تفسير مختلف لمسألة حرية الدين بسبر أغوار الحرية المفزعة لمفهومَي «الدين» و«المعتقد». سأتناول بالدرس، في الجزء الأوّل، كيف تمّ إطلاق «المعتقد» في البداية كشبح متمرّد، كظل للسياسة والعقل أكثر صلابةً (أقلّ ليناً وأكثر صرامةً) من كلّ ما يقابله (وهو آمن تماماً)، ولكن كذلك أكثر ضعفاً ووهناً، وأبعد عن الواقع.
ابتكار المعتقد:
لم نكن أبداً بحاجة إلى ظهور «القاعدة»، ما يُعرف بــ «الإسلام السياسي»، أو يمين ديني متطرّف، ليخوّفنا كشبح ديني مفزع، كان يوماً ما يُعدّ ضعيفاً (كلمة «ديني» تعني عكس السياسي الصرف). بدلاً من أن تهاجمنا كشبح تاريخي للأتراك أو المغاربة على بوابات أوربا، يطلع علينا الرعب الديني، أو يتمرّد من صلب التعريفات النموذجية للدين التي أفرزتها النظريات المعرفية والسياسية الغربية. إن هذه التجزئة الموروثة للمفاهيم التي تؤسس الحداثة تركت مفاهيم الدين والمعتقد غير مستقرة، وحارقة (مثيرة للفتنة)، وخارج السيطرة تماماً؛ فعلاً محرّرة تماماً. يتصادم تحرر المفاهيم (بشكل فرجوي أحياناً) مع «الحريّة» التي تحكمها إلى حدٍّ كبير الديمقراطيات الحديثة والشروط التي نسعى إلى فرضها على الدين في القانون والحياة العامّة. نُعرّف الدين والمعتقد كأشياء غير قابلة للمساومة وغير مشروطة، ثمّ لا يسعنا سوى أن نأمل أن نفرض شروطاً على الشبح المتهور للــــ«معتقد» الذي ترعرع عندنا (هنا).
لننظر، في البداية، إلى موقع الدين، أو جدّته «الثيولوجيا» عندما كانت شابة في التصاميم الأوّلية للمعرفة: (Denis Diderot et Jean Le Rond d'Alembert's Encyclopedie) (انظر الرسم 2.1)
في «معبد» أو «هيكل» للحقيقة: تمسك ثلّة من البنات الذكيات مجموعة من الآلات والإكسسوارات والبوصلات والمثلثات والصبار والمكبرات إلى القيثارات والأقنعة والدمى. في الأعلى، وحيث تدور الأحداث، نجد الحقيقة في أعلى الهرم، وفي خدمتها صاحب التاج العقل، وأسفل منها وإلى اليمين نجد الفلسفة. يرفع العقل خمار الحقيقة الشفّاف، بينما تقوم بترتيبه الفلسفة، وبين الاثنين، وفي موقع غير مريح، تقف الثيولوجيا (علم اللاهوت). يعلق ديدرو على ذلك قائلاً: «A ses pieds, la Théology agenouillée reçoit sa lumière d'en haut» (عند قدميها تتلقى الثيولوجيا، وهي جاثية على ركبتيها، نورها من فوق). كانت عبارة «نورها» دقيقة وصريحة. بشيء من الدبلوماسية، يتحاشى المشهد التعبير عن موقف ما إذا كانت الآنسة ثيولوجيا تمتلك مصدرها الخاص للنور، أو كان نورها يلتقي مع الإشعاع العام للحقيقة التي «تبدّد الغيوم»، كما يقول ديدرو. تكاد الآنسة ثيولوجيا تلامس ما يدور حولها مع احتمال استقلاليتها عنه. من المحتمل جداً أن تندفع خارج هيكل الحقيقة في أيّ لحظة إن أمرها نورها بذلك.
إنه مشهد يتَّسم بالدبلوماسية والتعتيم؛ إنّه مشهد أخرق لاحتواء الدين وشعاره رهان الحداثة، أو لنقل «التفكير المزدوج» («تبنّي النقيضين») في الدين. هناك أساساً غياب للتناغم بين العقل والثيولوجيا أو المعتقد. هناك تشويش مُتعمَّد لموقع الثيولوجيا؛ إنها قريبة من عرش الحقيقة ولكنّها أسفل منه لأسباب استراتيجية. تنظر إليها الحقيقة كما لو كانت تتطلّع إليها، أو على الأقلّ تبدي اهتماماً بها. قد تكون الحقيقة سياسية بارعة، فهي تجعل الثيولوجيا تشعر بأنّها ذات أهمية ومرغوب فيها، هذا إن لم تكن تثق فيها تماماً.
في الوقت نفسه، تنظر الفلسفة، مساعد الحقيقة، إلى الثيولوجيا بشيء من القلق، فتكبح جماحها كما لو كانت تريد أن تبقيها تحت السيطرة، كما لو كانت الفلسفة نموذجاً أوليّاً لجهاز الأمن البريطاني (MI5)، أو وكالة الأمن القومي الأمريكية. هذا يُذكِّرني بالصورة التي يرسمها كانط للفلسفة «الشرطة في مملكة العلوم» (die Polizei im Reiche der Wissenschaften)، بما أنّها سيطرة خارجية مسموح فيها وزيادة خرقاء للنظام. يبدو أن الثيولوجيا بحاجة إلى المراقبة أكثر من أخواتها. ليس للثيولوجيا دور يذكر في إظهار الحقيقة، كما أنها لا تتواصل، ولا حتى تعترف بأخواتها. يبدو أنها تكتفي بــــ «الاستماع إلى الصوت القادم من الداخل» (nur das Orakel in sich selbst anhoren).
مع ذلك، لا داعي للفزع، فالآنسة ثيولوجيا تبدو مسالمة وسلبية؛ إنها لا ترتدي نقاباً، ولا تحمل سكيناً. ومع أنها قديمة فهي ليست رجعية، ليست أكثر رجعية من أخواتها. إنّها غربية (Abendlaudish) بشكل مناسب؛ تُجسّم أُسُس أوربا المسيحية والكلاسيكية في الوقت نفسه، إذاً هي آمنة نسبياً. بعبارة أخرى، لا تزال ثيولوجيا، وليست ديانة بعد، ولا ديانات بصيغة الجمع، ذلك الصنف الذي يحوي أشباحاً أكثر سواداً. ستكون الديانات مستودعات طبيعية للتعصّب وعدم التسامح والخطورة، باستثناء المسيحية لأنها مختلفة. إن هذا المشهد للعلمانية الوليدة يتقدّم أو يضع (خارجاً) بين معقوفتين قصة (Gil Anidjar) عن الكيفية التي «اخترعت بها المسيحية التفريق بين الديني والدنيوي» و«ابتكرت الدين»، وبذلك «جعلت الدين هو المشكلة - بدلاً منها هي».
ومع ذلك، وفي الوقت الذي لم تنتشر فيه الثيولوجيا بعد في الأديان التي ستصبح مستودعات للخطر، نستطيع أن نرى بوضوح التذبذب الهيكلي لمكانة الثيولوجيا المُصنَّعة محليّاً. ليس لدينا أدنى فكرة عمّا يُلمّح إليه الإعلام الخارق للعادة، الذي يبث على موجة مجهولة. إنَّها تُجسد المجهول الذي لا يمكن إدراكه: لا اهتمام بالآلهة بعد الآن؛ بل بعقيدتها. الحداثة هي الزمن الذي يصبح فيه الغموض (اللغز) في الداخل، في المعتكف الباطني، داخل جوهر الإنسان. هي الزمن الذي يصبح فيه المُقدس ملكية خاصة مثل «عقيدتها».
إذا كان المعتقد الحيّز المتبقي لوصف ما ليس من الحقيقة، أو العقل، أو الفلسفة، فمن المحتمل أن يكون واسع الانتشار، وفي غاية التحرّر. كلّ الأفكار التي تُفرض علينا، وتجرّنا وراءها، ولا تتوافر فيها الشروط الصارمة لدخول عالم الفلسفة المغلق، هي معتقدات. إحساساً منَّا بالخطر عملنا على احتواء المعتقد، فألحقناه بالثيولوجيا أو الدين دون غيرهما. كانت هذه حركة جريئة، والغريب في الأمر أنها قابلة للتصديق. لقد اخترعت ثنائية «ديني ضد دنيوي» لعزل المؤمنين ومنع الأغلبية من الرغبة في الالتحاق بهم خارجاً في برزخ المعتقد. أصبحت الثيولوجيا وحفيداتها (الديانات)، بعد هذا الفصل الأنيق الذي أملته الحداثة، محطّ الأنظار، ومستودعات لقوّة المعتقد التي تعمل خارج الأطر القانونية.
«الدين أو المعتقد» والعمل في إطار القانون:
تذكر (الموسوعة الكونية) (Encyclopédie) أنّ القوة المتمردة (الخارجة عن العرف والقانون) للدين/الثيولوجيا/المعتقد تنفصل عن الفلسفة بوصفها واحداً من أعدائها وأعداء أدوات الرأي العام المحتملين. إذاً، لا يسعنا سوى التأكيد باستمرار، وبشيء من القلق، أنّ الدين الحقيقي يؤمن دائماً بالمساواة (الطبيعية) بين صوت الآلهة والمبادئ الأساسية للطاعة المدنية (الشعبية). نحن نأمل ونصلّي من أجل هذا، ونتلاعب بالدين الحقّ في هذا الاتجاه، حتى عندما نفضح مخاوفنا عندما نكرّر بقلق، للدين ولكلّ الأتباع، ماذا ينبغي أن يكون الدين الحقيقي، ماذا ينبغي أن يكون في المستقبل (وماذا كان دائماً في الواقع). نستطيع العثور على جديد يذكّرنا بالدين في جزء متناقض بشكل رائع من التشريع البريطاني الجديد، لوائح الدين والمعتقد لسنة (2003م) (TheReligion and Belief Regulations 2003)، الذي تبنّاه قانون المساواة لسنة (Equality Act 2010). يعدُّ هذا القانون متصلاً بموسوعة (Encyclopédie)، ومبدأ تقسيم العمل بين المعرفة والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، إلّا أن بعض الكلمات المفاتيح طرأ عليها تشويه مريب.
في توضيح صبياني وغريب لتحرّر مفهوم المعتقد، أصبحت الثنائية القانونية العجيبة «الدين أو المعتقد» تعني الآن «الدين أو المرادف العلماني للدين». كلمة معتقد، في هذا السياق، تعني فعلاً «علماني (دنيوي) ليس من الدين في شيء، ولكن بنفس قوة العقيدة الدينية». يُسمّى المرادف العلماني للدين في لغة القانون فلسفة؛ لأنه ولد «الآخر» الأخرق للعقل والفلسفة، أصبح المعتقد (بالمعنى القانوني) مرادفاً للفلسفة (بمعناها القانوني)، ويعني الآن، فعلاً، في القانون، «ديانة علمانية» أو «عقيدة علمانية بمواصفات الدين نفسها». وماذا بعد؟، ثمّ ماذا؟ نستطيع منطقيًّا أن نتوقّع التباساً بسيطاً في ذهن الزائر من كوكب مارس، الذي غالباً ما يُستشهد به، أو سفير لإحدى الدول القلائل التي لا تزال تعترض على العلمانية، أو الديمقراطية، القادم في مهمّة تقصٍّ للحقائق، ليتعلم الطريقة المثلى للتعامل مع الدين أو المعتقد.
إن عبارة «دين أو معتقد» ردٌّ غريب وأخرق على إملاءات العلمانية. لقد تهاوت قيمة الدين، وأُهين، وأوجدوا له صيغة الجمع، وتنكَّروا له عندما فُرض عليه أن يستنبط شبيهاً علمانياً له. ومع ذلك كلّه لا يزال صاحب سيادة (سيّد نفسه)؛ لا يزال الدين محافظاً على وظيفته مفهوماً تنسيقيًّا مهمّاً، أو، على الأقل، المفهوم الذي يُسمح له أن يحكم الدولة الموازية والأرض البعيدة التي لا يحكمها المعتقد (الأرض التي لا يرغب أيّ مفهوم ذي سيادة في حكمها). سيظلّ الدين النقطة المرجعية الأولى للمعتقد وحارسه. العبارة «دين أو معتقد» نفسها توحي بأنّه على العقيدة العلمانية أن تستجيب للشروط المهمّة التي يضعها الدين، والتي تتمحور حول العبارة الدينية المتميزة «أنا أؤمن».
هناك فيلق من المفارقات. من الواضح أن اللجنة التي استنبطت قرن «الدين والمعتقد» لم تستشر الباحثين الذين أفنوا معظم طاقتهم، على مدى الثلاثين سنة الأخيرة، في فصل الدين عن المعتقد (في تفكيك ثنائية الدين والمعتقد). تعرّضت العقيدة، في الدراسات الدينية، إلى استبعاد استراتيجي لا يختلف عمّا حدث للملكة ثيولوجيا في واجهة (Encyclopédie). لقد تمّ دحر المعتقد إلى الهامش لاعتباره فرضاً مسيحيًّا واستعماريًّا. قد يتبادر إلى الذهن أنّ السؤال عمّا إذا كان «يجب اعتبار تصوير الدين واحداً من روافد المعتقد، كشيء له تجليات خارجية يمكن أن تعود إلى موافقة داخلية على اقتراح/رأي معرفي، حالة ذهنية تتولّد عنها ممارسة»؛ قد يكون هذا السؤال ملائماً جدّاً ومألوفاً بالنسبة إلى المنظّرين في مجال التشريع والمشرّعين أنفسهم. هل هناك مجال آخر من مجالات البحث يحدّد كل الفروق بين (mens rea) النيّة أو الحالة الذهنية و(actus reus) (العمل-الذنب)؟ لا شكّ في أن الباحثين في القانون سوف يفضّلون المصطلحات التي نفضّل، مثل «المنتمون» أو «التابعون» دينيّاً، أو العودة إلى تفضيل الأعمال والممارسات الدينية. من وجهة نظر القانون، الأعمال أو الخطب التي قد تكون غير قانونية أو مثيرة للفتنة فحسب تثير أسئلة حول المعتقد. من المفارقات الغريبة والسخرية أنه بينما تسعى الدراسات المعاصرة في مجال الدين إلى إرساء نموذج لمحكمة شرعية تعتمد الشهادة والخبرة، (يغفل القانون عن كلِّ هذا، ويعيد تنصيب فئة المعتقد القديمة، ويعيد إليها الحياة). والأغرب من هذا هو أن القانون يعمل، فعلياً، تماماً مثل أنقى أشكال الدراسات الدينية، فيتنصّل ظاهريًّا من كلّ المعرفة السابقة، ويركّز على استنتاجات مبنيّة على ملاحظات. اعتماداً على الأعراض، يمكن القول إن تطبيق التشريع يركّز بشيء من الهوس على الرموز الظاهرة-المجاهرة، والتباهي بارتداء الخمار أو الصليب في مكان العمل.
تعكس عبارة «الدين أو المعتقد» تحوّلاً من دين واحد وإله واحد للدولة، ليس إلى تعدّد الآلهة، ولكن إلى تعدّد أشكال التمثيل في المجتمعات. المجتمع المتعدّد التمثيل هو ذلك المجتمع الذي يستطيع أن يثبت أنه قادر على أن يسير كما لو كان هناك العديد من الآلهة والعديد من الديانات (أو موجودة فعلاً بالنسبة إلى الذين يؤمنون بها)؛ إنّه المجتمع القادر على احترام الشخصيات والهويات كلّها، ويرى فيها قوارير ملئت بالإيمان المصون. يعدّ التفاوض الجديد حول مكانة «الدين أو المعتقد» ردًّا على السياسات التي تعتمد التمثيلية التي تنتظم حول الهوية المكتسبة بالنسب: تفهم الهوية على أنّها متجذّرة في الطبيعة الباطنية، أو تعبّر عنها الخصائص الجسمية. وهذا على علاقة بما أسميته في مكان آخر «أيقونات الديمقراطية» استناداً إلى الطرائق الجيدة المتّبعة في التمثيل. لكن وبإيجاز، حتى لو كان عنوان المساواة الديمقراطية يفضي إلى مبدأ استبدال فرد بفرد آخر (نحن متساوون أمام القانون)، فالديمقراطية تعوّض عن تجاهل الجماعات بتحديد بعض الأفراد الأيقونيين ليصبحوا دليلاً على اهتمام الديمقراطية أو استثمارها في العناية بالناس. تعدّ آليات الديمقراطية الشخصَ المنتخب لعضوية البرلمان ممثلاً، أو «يرمز» إلى ناخبيه/ناخبيها. في الرمزية الديمقراطية يُمثّل الشخص الذي يتمتّع بالحصانة الرمزية الرغبة في حماية الشعب كلّه. هناك جمالية أو رمزية ديمقراطية يظهر من خلالها حسن نيّة الحكومة تجاه الفرد من خلال شخصيات مختارة تمثّل البقية، أو، بلغة القانون، «الخصائص المحميّة». الحريّة تظهر جليًّا في الحماية. يوجد «الدين أو المعتقد» في مجال تشمله الحماية إلى جانب الجنس والحياة الجنسية، والحمل والولادة، والأصل، والعرق، والعجز، والعمر. لكن «الدين أو المعتقد» يبدو في المكان الخطأ. على الرغم من أن العرق والحياة الجنسية يثيران أسئلة معقّدة حول الاختيار والمسلّمات (المعطيات)، تحمل كلّ فئة مرتبطة بالهوية شيئاً ممّا لا يختلف عليه اثنان، ولا يمكن إنكاره، وهو: الحمل، الشذوذ، ثنائية الجنس، السن (65 عاماً). عندما نضع عبارة «الدين أو المعتقد» على هذه القائمة نخلق ونُشرّع لأسلوب جديد من الاعتقاد تجمعه علاقة مميّزة مع الجوهر، وهذا سوف يضاعف الأسلوب المألوف في التفكير في الدين. نحن نتكلم عن التدين وعدم التدين بطريقة لن نستعملها في الكلام عن الماركسية والنسوية. الإيمان أسلوب تفكير يفترض أن يصل إلى أجزاء الفرد التي لا تصلها الأفكار الأخرى (مثل النظريات السياسية). كعبارة لا تقبل التفاوض، (خلافاً لـــــ «الرأي»)، المعتقد هو ما يقابل السنّ والحمل والحياة الجنسية في عالم الأفكار. يُعرَّفُ الإيمان الديني بشكل استثنائي وبالإجماع بوصفه أسلوبَ تفكيرٍ، ولكن ليس من النوع الذي نختاره، ويجب أن يُفهم مُحدّداً للفرد، أو يتجاوزه ويعمل معطىً غير قابل للنقاش، مثل الحياة الجنسية أو لون بشرته أو بشرتها. يُفهم الإيمان على أنّه جهاز يأخذنا، بشكل متناقض، إلى ما بعد القرار، إلى نقطة حيث يصبح للإيمان الشكل الذي لا يمكن فصله عن الشخص (الشكل الذي لا يمكن أن يُنتزع منّي إلا بالقوة)؛ إذاً فهو من المسلّمات كالجنس أو العرق. ولكن، نظراً لأنّه يفهم كذلك على أنّه فكرة مركزة بشكل غير عادي وغير قابلة للنقاش، وبما أن الأفكار تتغيّر، يتأرجح الإيمان على مشارف الهاوية التي ستحيله إلى شيء غير ملموس، وغير جدير بالحماية القانونية، مثل فئة العرق (الأصل). هناك مؤشّرات واضحة على أن الدين عنوان أقلّ قوّة من الجنس والعرق في نظر القانون والرأي العام.
تعكس قواعد تأهيل الإيمان، سواء الديني أم شبه الديني، هذه الغرابة بشكل رائع. قد يُقرأ هذان النوعان من الإيمان نسخةً محيّنةً وغريبةً من السؤال الذي يطرحه السجان في (Phillipi) على (Paul) و(Silas) في الفصل (3:16). لم يعد السؤال «ماذا عليّ أن أفعل ليتمّ إنقاذي؟»، ولا حتى «ماذا عليّ أن أفعل لأؤمن؟»، ولكن «ماذا عليّ أن أفعل حتى يعترف الناس بإيماني؟». هناك خمسة شروط لا بدّ من توافرها حتى يتأهّل الفرد لدرجة مؤمن معترَف به شعبياً:
1- يجب أن يكون الإيمان صادقاً.
2- يجب أن يكون الإيمان إيماناً وليس رأياً أو وجهة نظر تستند إلى المعلومات المتوافرة.
3- يجب أن يكون إيماناً بثقل وحجم حياة الإنسان.
4- يجب أن يبلغ درجة معيّنة من الإقناع والجدّية والتماسك والأهميّة.
5- يجب أن يكون جديراً بالاحترام من قبل المجتمع الديمقراطي، ولا يتعارض مع الكرامة الإنسانية، ولا يتعارض كذلك مع الحقوق الأساسية للآخرين.
خروجاً عن الأدب واللباقة، ورفضاً لحدود التعليق القانوني الصرف، نستطيع أن نحاول إلقاء الضوء على غرابة «المعتقد».
بالنظر إلى المقاييس الأربعة الأولى نتعرف إلى ثقل الإيمان: الإيمان عظيم؛ الإيمان جاد؛ الإيمان ثقيل، ولكنه يطفو فوق المعرفة أو المعلومات أو كلّ ما يقبل التثبّت منه. ولو لم يكن كذلك لما تأهّل ليكون إيماناً. الإيمان يتحدّى قوانين الفيزياء التي وضعها نيوتن (Newton). هذا لا يكاد يفاجئنا إذا علمنا أن الإيمان مفهوم وُلِد ليكون »الآخر» بالنسبة إلى العلوم ووصيفاتها العقل والفلسفة (بالمعنى الآخر للفلسفة-هل تذكرون؟) الإيمان في التشريع المعاصر، كما يدلّ عليه تعريفه، هو ما أفلت من الإجراءات الوقائية للتجربة والمادة؛ إنه ثقيل وجسيم وصلب وحرٌّ تماماً.
عندما ينفصل المعتقد عن، أو يحتقر، المعرفة، وما يمكن التثبت منه يصبح شبيهاً بالرأي مع أنه أثقل وأجسم وأكثر غزارة؛ مؤشّر كتلة الإيمان يختلف عن مؤشر كتلة الرأي؛ الرأي يعني الريبة، التفاوض؛ الكلمة نفسها تعني أن الرأي يُدرك تماماً أنه يمكن أن يكون شيئاً مختلفاً. يتميز الإيمان عن الرأي بالعمق الذي يبلغه داخل الفرد. الدين هو حارس الأعماق مثل ما هو حارس الإيمان.
لا تعتمد المقاييس على مراقبة علمية عملية لحياة أشخاص مُتديّنين؛ ففي الحياة العملية والخطاب الشعبي، قد يضيع الدين ويُسترجع، قد نجد الدين، قد نمرّ بفترة تديّن، قد نعود إلى ديننا، قد نعتنق دين شريكنا حبّاً فيه أكثر من حبّ الله، أو ربّما نتبنّى ديناً قناعاً من أجل مصلحة سياسية. من الغريب أن هذه الأمور الشائعة كلّها لا تزعزع، على ما يبدو، اعتقادنا في الدين، وفي القانون، وفي الخطاب العام، حيث حافظ الدين على حدّته واستمراريته وعمقه. بعيداً عن الدعاية لحقيقة رفع الالتباس، أو إعلان عدم وجود الدين، أتساءل: لماذا نُخلص في الالتزام بالموقف المضاد أين يكون الدين اكتساباً للعمق والحقيقة واحدة؟ عادةً ما نتكلّم عن الإيمان بوصفه شيئاً «يُحتفظ به في الأعماق» كما يدلّ على ذلك تعريفه. بما أن الدين يعدُّ كذلك مجالاً متميّزاً للتزوير والتستّر، فالأمر يصبح أكثر غرابةً (انظر على سبيل المثال نقاش حسين علي أغراما (Agrama) في الفصل (25) من هذا الجزء (المجلّد)، حيث يناقش عمل المُنظِّر القانوني ر. كينت غرينوالت (R. Kent Greenawalt) حول فصل «الروحي» عن الذاتي والفائدة الدنيوية). إن استعمال عبارة «قناعات نتمسّك بها بشدة»، أو «إيمان راسخ» من طرف أكثر دعاة العلمانية تحمّساً، أمثال كريستوفر هيتشنز (Christopher Hitchens) وريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) يوحي بأنّ العمق الوحيد للإيمان أصبح نوعاً من عقيدة اجتماعية نتدرب عليها غير مبالين.
هذا ما قد يزعج بشأن المؤمنين وإيمانهم. إن تقلُّب الإيمان وصلابته يجعلانه، ليس فحسب يتحدى قوانين الفيزياء التي وضعها نيوتن (Newton)؛ بل كذلك قوانين وأعراف المجتمع التي تنبني على التعاقد والمفاوضة والتوافق. إن الإيمان، هذا الشيء الغريب الذي هو من صنعنا، صلب وصارم ولا يتزحزح كما يدلّ على ذلك تعريفه، ولكنّه متحرّر ولا حدّ له. ولهذا السبب نشعر بالخوف والحاجة إلى حماية أنفسنا ضد هذا الإيمان. الإيمان الخاطئ هو ما يجب أن نحمي أنفسنا منه. أمَّا الإيمان الحسن/المحمود، فهو في المصطلح المعاصر «ميزة محمية»؛ لأنّ الإيمان يمكن أن يكون سيئاً جداً، ولأن الجميع مؤمنون، وجبت حماية الإيمان نفسه من الحرية المتأصلة فيه، ومن خطر الإيمان نفسه.
لقد لاحظ العديد من المعلّقين كيف أن بادرة «المساواة في الدين أو المعتقد» متوازنة وغير عدوانية، تتّجه نحو التصادم مع (على سبيل المثال) التسوية الأنجليكانية (Anglican Settlement) في بريطانيا، أو العديد من الاتفاقيات بين الكنيسة الكاثوليكية والدول الديمقراطية. هذا هو المشكل الواضح، ولكن قد يكون أتفه المشاكل. إن الأمر لا يتوقّف عند الدين؛ لأن المُطالَب به هو مساواة في «الدين أو المعتقد». يتعهد القانون والمجتمع باحترام الآلهة (بحروف صغيرة) وحمايتها. يُشرّع القانون لكمٍّ هائل من ممتلكات الإله في كل مكان، وحتى خارج حدود الدين التقليدية. لا بدّ أن نتعامل مع المعتقد على أنه مقدّس، حتى وإن كنا لا نملك الطريقة التي تجعلنا ندرك أو نتحكم في أهدافه، ونستثمر هذه القوة الوهمية التي نسمّيها معتقد، ونطلق لها عنان الحرية؛ لأنّها «حرّة» بطبعها. لا يمكن للآليات الوقائية الكائنة حول المعتقد إلا أن تكون شحيحة الانتشار بين الناس خشية أن نصبح كلنا مؤمنين، ونشرع كلنا في التقاضي مدّعين أننا ضحايا الميز بسبب معتقداتنا.
خذ، على سبيل المثال، الدعوى التي رفعها نيكولسن (Nicholson) ضد غراينجر (Grainger) (2009-2010م). ادّعى (Tim Nicholson) الرئيس السابق للاستمرارية في شركة (PLC Grainger) عام (2009م)، أن إلغاء وظيفته من الشركة كان ضرباً من التمييز ضد معتقداته البيئية. لقد عمل فريق الدفاع عن تيم (Tim) على إعطاء معتقداته البيئية صبغة تجعلها من مشمولات النص القانوني الرسمي؛ في المقابل حاول فريق الدفاع عن الشركة العقارية إثبات أن التزامات تيم البيئية لا ترتقي إلى درجة معتقد (النصّ القانوني)؛ لأنّها ليست أكثر من اختيار سياسي و'أسلوب حياة' الثنائيات الفاعلة هنا كانت: المعتقد ضد السياسة، المعتقد ضد الرأي، المعتقد ضد المعرفة، الصدق والعمق ضدّ ما هو مجرّد (ليس أكثر من): مجرّد ظاهر (سطح)، مجرّد اختيار، مجرّد لعب (مسرحية). في تشرين الثاني/نوفمبر (2003م) حكم القاضي ميكائيل بورتن (Michael Burton) بأن «ما يعتقد بخصوص تغيُّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان، والضرورات الأخلاقية التي تنجر عنه، قد يكون، إذا توافر فيه الصدق، اعتقاداً فلسفياً على معنى قانون الدين أو المعتقد لسنة 2003م»، وأضاف «في رأيي الخاص، ما يعتقده تيم (Tim) يتجاوز الرأي المجرّد». فاز نيكلسون بتسوية هائلة خارج إطار المحكمة، إضافةً إلى مبلغ كبير من المال، وكانت هذه التسوية سنداً للحقيقة القانونية وقوّة «المعتقد العلماني»؛ كان هذا انتصاراً مكلفاً. لقد وقع الرفع من شأن الالتزام بمعتقدات بيئية إلى منزلة محمية جنباً إلى جنب مع الدين، لكن في مكان بعيد عن الإرادة الإلهية، وعن المريب بالنسبة إلى كلّ المؤمنين. وقد أدّى ذلك إلى الإنكار الفوري للمعتقد الذي كان محلّ مطالبة شرسة، وكان ذلك بمنزلة إثبات رائع لسرعة زوال المعتقد. لقد تبيّن أن المعتقد أخذ صفة العقيدة داخل جدران المحكمة؛ خدمة لأهداف القضية فحسب، وفور غلق الملف، وانتهاء القضية، اختفى كلّ شيء (كالدخان)؛ لأنه وصف بأنه لا ينسى ولا يمحى ولا رجعة فيه وقع التنصّل من المعتقد فوراً. ما كان تغير المناخ أبداً يساوي ديناً جديداً؛ لأنه لا يرتكز على «الإيمان أو القيم الروحية»، ولكن على العلم كما صرّح نيكلسون لوسائل الإعلام.
لقد كان في المحاكمة وتداعياتها شيء من الردع: لقد أصبح جلياً أنه ليس من المرغوب أبداً أن يتمّ التقاضي على أساس المعتقد. حتى ندخل مجال المعتقد علينا أن نتخلّى عن كلّ ما هو جميل وجيّد وصلب ويعترف به الجميع مثل العلوم، والواقع، والمعرفة. علينا أن نعترف بأفكار قديمة من النوع الذي لا يمكن إثباته، وهي مع ذلك ترقى إلى درجة تجعلها تبدو كأنّما هي التي اختارتنا وليس نحن من اختارها.
على الرغم من أنّ حماية البيئة كانت تعدّ معتقداً طوال المحاكمة، أبقى الحُكم مقاييس التصنيف تحت السيطرة. قدَّم القاضي الإنسانية نوعاً آخرَ من المعتقد الذي قد يستجيب لهذه المقاييس. أمّا صيغة الجمع للمعتقد فهي شحيحة جداً، مثلاً (غير المؤمنين الرسميين، الكافرون رسميّاً)؛ أولئك الذين لا يؤمنون بالله (أو الآلهة) إلى حدِّ التنظُّم في مجموعات مُعترف فيها شعبياً لممارسة ذلك الكفر. هذه هي الطريقة الشائعة للمساندة بمعسول الكلام لمتطلبات العلمانية المبالغ فيها. عندما تعطى الجمعيات الإنسانية مقعداً حول الطاولة كديانات من خارج هذا العالم، ويُسمح لها أن تعمل بوصفها «غير دينية» رسميّاً، قد يبدو أن الدولة تعدل بين كلّ المواقع التي قد يوجد فيها آلهة، بينما في الحقيقة هي تحمي الآلهة وغير الآلهة (وبالأحرى الذين يؤمنون بها، والمنتسبين إليها). عرض القاضي، مثالاً على المعتقدات التي لا تتوافر فيها الشروط، الاعتقاد في حزب سياسي، أو الطبيعة الخارقة لــــفرسان جيدي (Jedi Knights).
لاحظنا فيما تقدّم أنّ الآنسة فلسفة تبدو كنسخة متخفيّة لــــ «شرطة كانط على العلوم»، تُظلِّل الثيولوجيا وتراقبها. هناك في النصوص القانونية لسنة (2003م) وسنة (2010م) تجسيد أوضح لمشهد المعتقد. يبدو الفصل بين الرأي والعقيدة والمعرفة كما لو كان مأخوذاً مباشرةً من نقد العقل البحت (Critique of Pure Reason) لكانط. وأسباب هذا الاقتباس تتجاوز تكرار الباحثين في القانون المُملّ صيغ تجاوز عمرها المئتي سنة. ما يغري الديمقراطيات الحديثة، التي تكاد تكون مبنية على الفضيلة اليهودية-المسيحية، وملتزمة بحماية حريّة الدين، هو الرأي المزدوج لكانط بخصوص «المعتقد». يُعدُّ كانط مُهمًّا لأنه، مثل القاضي بورتن (Justice Burton) تماماً، يضع بكلّ حرص حدوداً للمعتقد، ويُثمّنه كذلك.
في مجال العقل المحض الذي وضعه كانط، كما في قانون (2003م) و(2010م)، هناك ثلاث درجات للحكم: الرأي (غير كافٍ عن وعي وإدراك، موضوعياً وذاتياً)، المعرفة (كافية عن وعي وإدراك، موضوعياً وذاتياً)، المعتقد (كافٍ ذاتياً فقط، وغير كافٍ موضوعياً). كما لاحظ كانط يُسمّى «الاكتفاء الذاتي (بالنسبة إليّ شخصيّاً) قناعة، ويسمي الناس الاكتفاء الموضوعي يقيناً. من الواضح أن الرأي والمعرفة متوازيان وحالتان أقلّ تخويفاً؛ لأن مستويات الاكتفاء الموضوعي والذاتي، أو اليقين العام والقناعة الشخصية تتطابق ولا تتناقض. المعتقد هو نمط معرفي يُدركُ «بشيء من التواضع» بأنه ليس معرفة، كما يُدركُ بأنه ليس موضوعياً. مع ذلك وفي الوقت نفسه، ومن «وجهة نظر ذاتية»، يعدّ المعتقد تعبيراً عن «ثبات ثقتنا». المعتقد غير متوازن، فهو ثقيل من طرف وخفيف من الطرف الآخر، ثابت على مستوى «القناعة الشخصية»، ولا وزن له على مستوى اليقين العام».
المعتقد غير متوازن، ولا يمكن السيطرة عليه؛ لهذا السبب لا يسمح له بدخول مجال العقل البحت الذي لا يمكن دخوله إلا في حدود ضيّقة. لكن هذا ليس الرأي النهائي لكانط في منزلة المعتقد. بكل صدق (فعلاً) «يشكو» الإيمان المذهبي «نوعاً من عدم الاستقرار»، ووجب استبعاده من دائرة اهتمام العقل البحت، ولكنه «يختلف كثيراً» عمّا يسمّيه كانط المعتقدات: «لأن في هذه الحالة من الضروري جدًّا أن يحدث شيء ما، وتحديداً ضرورة أن لا أختلف مع القانون الأخلاقي في أي نقطة...».
القناعات عند كانط هي تلك القوة الخارقة التي تقحم العقيدة العامة في الحرية الإنسانية، الكرامة والمساواة (وأيضاً الإله والخلود). وعلى نحو مماثل، وبحسب مفردات المعيار الخامس من قانون المساواة في التشغيل «يجب أن يكون الإيمان جديراً بالاحترام في المجتمع الديمقراطي؛ أن لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية، ولا يتصادم مع الحقوق الأساسية للآخرين». هذه رواية لذلك الأمل الحديث في جوهره، والدعاء حتى لا تنقلب الآنسة ثيولوجيا/دين على أخواتها المجتهدات، وأن لا تكون بدائية إلى درجة تجعلها تشير إلى الاختلافات العميقة بين إشعاعها ونور العقل.
المعتقد جذر حُرّ (ذرّة حرّة) قادر على الالتصاق بأيّ شيء. لا يمكن، بحسب تعريف المعتقد، تأمين موضوعات المعتقد مسبقاً. بعد إطلاق العنان لهذا الشبح الطائش، يبدو المعيار الخامس من قانون المساواة في التشغيل محاولة يرجى منها التمكّن من استعادة السيطرة، أو على الأقل إدارة وهم المعتقد. المعايير الأربعة الأولى ابتدعت المعتقد، وأطلقت له العنان، وجعلته قوّة غامضة مبهمة فوق المساءلة. لقد أُعطي المعتقد سيادة مجانية، ويُعرف بهذه السيادة (على نفسه)، ثمّ وفي تحوّل حديث واضح، على مستوى الثيولوجيا السياسية، يحاولون إدارة مسألة المعتقد، الذي أصبح سيّد نفسه، في علاقة متميّزة محتملة مع القانون بموجب إثبات امتلاك «دين أو معتقد». يسعى المعيار الخامس إلى إعادة الجنِّي إلى القارورة. إنه يحاول التفاوض على الصفة نفسها التي تعرّفه بوصفه معتقداً لا يقبل التفاوض أو المساومة. لا يتأهّل المعتقد إلى مرتبة المعتقد أبداً ما لم يخضع إلى المبادئ المهيمنة للكرامة (wurde=). من الواضح أن محاولة وضع شروط لما هو غير مشروط بطبعه سيكون نجاحها محدوداً. بالنظر إلى المعايير التي تمّ تقديمها قبل قليل يبدو جلياً أن بعض المعتقدات سوف ترفض الخضوع.
لا عجب في أنّ التنافر بين المعايير الأربعة الأولى (التي تطلق العنان للمعتقد) والمعيار الخامس (الذي يفرض شروطاً على المعتقد) يتجلى بانتظام في المحاكم. في المعارك الدائرة بين حريّاتنا التي لا شكل ولا ملامح محددة لها لا تصمد الحرية الواردة في «الحقوق» و«المساواة في الحقوق» أمام «حريّة المعتقد» إلا لبعض الجولات. المؤمنون المشهود لهم بالإيمان - المسيحيون القائمون بفروض الدّين مثلاً- يُعترف لهم دائماً بالاتفاق مع المعيار الخامس؛ لأنّ مجرّد الشكّ، حتى لا نقول قطع الروابط بين المسيحية والمساواة والحرية، سيكون أكثر ممّا تتحمّله أسطورة الديمقراطيات الغربية الحديثة وديمغرافيتها. ولكن على الرغم من التصريح بالتوافق حول المعيار الخامس، يسمح للمصدّقين بالدين أن يختلفوا مع حقوق الآخرين. لقد صدر عن المحاكم استبعادات من التشريع، مثيرة للجدل، على أسس دينية بخصوص الجندر (الجنس) والميول الجنسية، ولكن هذا لم يحدث أبداً في شأن العرق أو الإعاقة. لا تحظى كلّ الخصائص المحمية (الحياة الجنسية/الجندر، الحمل/الولادة، الأصل/العرق، الإعاقة والسن) بالقدر نفسه من الرسمية، والقدر نفسه من الحماية، على الرغم من أنّها كانت جميعها استجابةً لغليان اجتماعي وسياسي غير بعيد. لقد أصبح الصراع بين الدين والحياة الجنسية (ولا سيما المثلية الجنسية) نقطة اشتعال ثقافية حارقة، ومسرحاً لمحاكمة أو اختبار الحريات المتنافسة؛ لأن العقيدة الدينية و(المثلية) الجنسية أقلّ تأميناً، وأضعف من السنّ والولادة والإعاقة أو العرق.
كلّما استثنينا معتقداً مُترسّخاً من متطلبات العدل فيما يخص (مسألة) الحياة الجنسية يُعيد الحكم اهتمامنا مرةً أخرى إلى التحالف الهشّ، وعدم التوازن بين «المعتقد الديني والمعتقد العلماني (الدنيوي)». لماذا لا نُعير اهتماماً لمعارضة المثلية الجنسية إلّا إذا كان الله يُقرّ/يدعم هذه المعارضة، أو إذا كانت منبثقة عن جهة مقدّس بامتياز؟ المعتقد هو نادٍ مغلق (محدود العضوية). لا يوجد حول الطاولة مكان للمعتقدات السياسية الصرفة (التي تعرف بــ «آراء»/وجهات نظر)؛ أعني المعتقدات التي لا تستطيع حشد مجموعات كبيرة ورسمية، أو المعتقدات التي تنقصها المؤسسات ودعائم القدم والتاريخ لتثبت منزلتها، وتدافع عن نفسها.
في كلّ مرّة يتمّ إدخال تعديلات على المعيار الخامس على سبيل التنازل أمام إكراهات المعتقد التي لا ينكرها أحد، يصبح المعتقد، إذا جاز التعبير، أكثرَ قوةً، ونُسلِّطُ الضوء على قوة الوهم الذي ابتدعناه ولا يمكننا تجاوزه. نحن نجسّم مفهوم المعتقد «حازماً» و«غير قابل للمساومة» (يسبّب إشكالاً للمجموعة) و «صلباً» و«غير حقيقي»، ومع ذلك حقيقيًّا إلى درجة أنه يجب على الواحد منا أن يتصرّف كما لو كان المعتقد أكثر من حقيقة وواقع. نعزّز مجموعة المفردات الغريبة والمخيفة التي تحيط بالمعتقد، الكلمة التي أصبحت في حدّ ذاتها نقطة التقاء للتعاونيات المُعترف بها، التي هي بحاجة إلى الالتقاء بأعداد كبيرة حتى تستجيب للشروط القانونية للإيمان. يتمّ الاعتراف ببعض المعتقدات، في حين يتمّ إقصاء أخرى بالقوّة وبطرق مثيرة للجدل، ولكن هذا كلّه يظلّ بأكمله داخل تعريف المحكمة المبهم، الذي لا يمكن التكهّن به للمعتقد.
لا نستطيع الهروب من المفارقة (التناقض) التي أسّسنا لها: سلطة خارجية نسمح بها ونحترمها (الاستسلام لقانون الآخر(الإلهي) في إطار نظرة إجمالية تعطي الأولوية للاستقلالية فقط ما دامت هذه السلطة الخارجية لا تمسّ السير اليومي للديمقراطية، أو تأتي بقانون بديل للنظام القانوني. لا عجب أن الهستيريا، بسبب الشريعة الإسلامية، لا تزال مستمرّة. إن تهديد الشريعة يزيد مؤسّسة «السلطة الخارجية»، أو القوانين الأخرى التي سلّمنا بها فيما يخصّ «المعتقد» دون أيّ استفزاز خارجي، صلابةً ووضوحاً. تتجاهل التحقيقات حول التعصّب، التي تأمر بها الحكومات، وتنفق عليها الأموال الطائلة، التحقيق في كيفية تأصّل تهديد التعصّب في مفهومنا للمعتقد. لقد تمّ تحديد المعتقد وتصنيفه باعتباره مسألةً دينيةً أساسيةً واستثنائيةً زمن التنوير، ولكنه بلغ درجة محمومة في الفترة الأخيرة. لقد أنشأنا مجموعة أخرى من النصوص التي تُحيِّرنا، وتجعل مسألة المعتقد أكثر غموضاً، بحمايتنا للمعتقد، والعمل على الحدّ من عصابة المؤمنين المحتملين.
من الواضح أن قوانين الدين أو المعتقد لا تفكّر في نظرية المعرفة، ولا تُحقِّقُ في كيفية عمل المعتقد الحقيقية في المجتمع. إن المهمة هي التسيير القانوني. ويتمّ ذلك بوضع المفاهيم الأساسية على رقعة شطرنج («المعتقد»، «الدين»، «الاختيار» «المعرفة»)، ثم يُضاف إلى ذلك، لسبب وجيه، التقابل بين الصدق و«مجرّد/سوى» (مجرّد بمعنى معتدل، ولكن كذلك بمعنى سطحي وتقليد ومزوَّر). جُعلت المفاهيم والمقارنات فضفاضة ومرنة عن قصد، حتى تسمح، بطرق متعددة، بترتيب القطع، ووضع عدة سيناريوهات للكش ملك صالحة لجولة بعينها دون سواها. تؤدي المفردات من نوع «المعتقد» أو «المعرفة» الدور الذي للمقصّ والورقة والحجر في لعبة الحظّ. بما أن الورقة تلفّ الحجر، إذاً يفوز المعتقد على المعرفة (بشرط أن يتمّ البتّ في امتلاك المعتقد «للعمق» المطلوب). تعتمد النتيجة، في كلّ حالة، على العيار الذي يُسند إلى القوّة النسبيّة للكلمات، مثل «المعتقد» «الاختيار»، وكذلك على الترتيب الهرمي الذي توضع فيه الكلمات.
تعدُّ القوانين البريطانية مثالاً صارخاً آخر على التكييف الأخرق «للدين» مفهوماً وخاصيةً محميةً. ومن الواضح أن هيئات تشريعية أوربية أخرى تؤدي اللعبة نفسها. يقترح حسين أغراما (Agrama)، في مساهمته الواردة في الفصل (25) من هذا الجزء (ولا سيما في مناقشته لعمل مايانثي فرناندو Mayanthi Fernando)، أن مجموعة مماثلة من المفردات تُستعمل في فرنسا لمنع حجاب (خمار) المسلمات. أن تُثبت أن الحجاب «اختيار» يعني أنك تُثبت فضيلته لأنه اختيار حُرّ وليس إكراهاً. لكن إذا أردت إثبات أنّ الحجاب اختيار شخصي، فإنّك ربّما تجد نفسك عالقاً قد تقطّعت بك السبل، ودون أيّ مساندة من السلطات الرسمية؛ دون دعم كافٍ (ما قد يصبح تأثيراً عكسياً مثل الإكراه)، قد تكون قضية الحجاب، من النوع الذي لا يمكن الدفاع عنه، واهية وعالقة مثل تلك المعتقدات التي لا يُؤيدها في المحاكم أعداد كافية من المنتمين. إنَّ تعارض الأسس المنطقية لمنع الحجاب لدليل يثبت مدى مرونة النتائج عندما تُعتمد مفردات مثل «المعتقد» و«الاختيار». ويساعد التضارب نفسه بين الأسس المنطقية على مزيد التفكير في الطرق التي يستعمل بها القانون المؤشّر المتحرّك «للعمق». تضع قضايا العمق والصدق القانون في المنزلة المشؤومة والسخيفة في الآن نفسه ليؤدي دورَ الربّ العالم بكلّ شيء، ويختلس النظر إلى الروح (الباطن). من المفارقات أن فحص باطن الفرد تقوم به هيئات عامة (علمانية) لطالما أعلنت التزامها المبدئي بالفصل بين المعتقد الشخصي والسلوك العام لدى كلّ مواطن من مواطني الدولة. هناك المزيد الذي يمكن الحديث عنه بخصوص المحاكمات الغريبة للصدق. عند إجراء اختبار الصدق، الاستعارة المكانية التي يتمّ استعمالها هي المدى والعمق، ولا يُسلَّط الضوء على العمق الفردي فحسب. لا يمكن للمعتقدات والممارسات أن تكون صالحة وقوية بمفردها، لا يمكنها أن تتشكّل من جديد. يجب أن تجتاز بنجاح اختبار التزامنية والعمق التاريخي. وحتّى يتمّ الاعتراف بها، لا بدّ من أن يتمّ إقرارها بأعداد كافية، كما يجب أن يكون لها عمق تاريخي كافٍ. وهذا ما يعني غالباً، وبشكل مفيد، أن المعتقدات المتأهلة هي تلك المدعومة من طرف السلطات الدينية، وتقرّها نصوص التيار الديني الرئيس (المتأهّل والعريق). لكن التحكيم باللجوء إلى الأرضية المتصدّعة/المنقسمة للنص والسلطة يترُك مجالاً واسعاً للمناورة. يسمح هذا التحكيم بإسناد الثقل والخفّة بمقاييس مختلفة للديانات والممارسات المختلفة داخل تلك الأعراف والتقاليد. يُسمح لنا بالبتّ فيما سوف يصبح في تقديرنا أساسياً ورسمياً وتأويلاً حقيقيّاً؛ وهذا يعني ما نقدّر أنه «لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية»، ويتفق مع أهداف الدولة الحديثة.
تُظهر الأسس المنطقية المتكافئة والمتناقضة لمنع الحجاب النفوذ الهائل لهذا المؤشّر المتحرّك للعمق. على المسلمات الفرنسيات اللائي يسعين للدفاع عن الحجاب إيجاد القدر الكافي من السياق؛ ما يكفي من الإقرار فقط ليصبح الحجاب التزاماً تأذن به السلطات، وليس إقراراً يجعل لباس الحجاب «إكراهاً»؛ عليهنّ التحكم في درجة الإلزام. وهذا أقرب إلى إعطاء المعتقد المتأهل الوزن الصحيح في القانون البريطاني. لابُدّ أن يثبت المعتقد الحقيقي شيئاً من المبالغة أو السموّ حتى يتميّز عن المعرفة. ولكن لا ينبغي أن يُظهر المبالغة التي قد تكون تعصّباً، ولا يدعمها التيار الديني العام. عليه أن يكون ثقيلاً بما يكفي ولكن خفيفاً بما يكفي حتى يكون مرناً وقادراً على التحالف مع المفاهيم الأساسية لحقوق الإنسان. على نحو مماثل، على المسلمات الفرنسيات أن يبيّنَّ أن دوافعهنّ خارجية وتتجاوزهن، دون السماح لهذه القوة (الخارجية) أن تكبر إلى حدّ احتمال تحويلهنّ إلى دمى سخيفة (من المؤمنات) تُلبي كلّ ما يُطلب منها. عليهنّ إيجاد ما يكفي من السياق والصلة (العمق) لتسميتهنّ ملتزمات حقاً، ويرفعهن فوق حاجز الاختيار المجرّد (مجرد رأي) إلى منزلة الإيمان. الدولة فحسب تعرف سرّ مكان هذا الوسط المثالي. من الصعب تصوّر المسيحية تمرّ بهذا الاختبار المستحيل والخرافي. القطع على رقعة الشطرنج تساعد على إنهاء اللعبة من جهات متماثلة ومتقابلة. إنَّ الدول لا تكتفي بالأمل والصلاة (الدعاء) عندما تبحث عن أفضل أنواع الديانات.
مراجع مختارة:
- Anidjar, Gil, «Secularism», Critical Inquiry33, I (2006): 52-77
- Diderot, Denis and Jean le Rond d'Alembert, L'Encyclopédie, Paris, Bordas, 1967
- Employment Equality (Religion or Belief) Regulations 2003, Accessed April 8, 2014 at http:/www.legislation.gov.uk/uksi/2003/1660contents/made.
- Equality Act2010, Accessed April 8, 2014 at; http:www.legislation. gov.uk/ukpga/2010/15/contents.
- Grainger plc and others v Nicholson, Employment Appeal Tribunal 3 November 2009 [2010]I.C.R. 360
- Kant, Emmanuel, Critique of Pure Reason, Tans. Norman Kemp Smith, London, Palgrave Macmillan, 2007
- Lopez, Donald S., ``Belief'', In Critical Terms for Religious Studies, edited by Mark C. Taylor, 21-36. Chicago: University of Chicago Press, 1998
- Sherwood, Yvonne, Biblical Blaspheming: Trials of the Sacred for a Secular Age, Cambridge: Cambridge University Press, 2012






