عبدالرحمن الكواكبي رائد "الإحيائية الإسلامية"


فئة :  مقالات

عبدالرحمن الكواكبي رائد "الإحيائية الإسلامية"

يعتبر العالم والمفكر "عبد الرحمن الكواكبي" من أهم رموز الإصلاح والإحياء الديني الإسلامي وأبرزهم في القرن التاسع عشر.

وقد قدّم هذا المصلح الديني الكبير الكثير من الأفكار والطروحات المفاهيمية والنتاجات المعرفية والمناهج العملية الإصلاحية الخاصة بمحاولاته الحثيثة لتجديد الفكر الإسلامي، والتي جعلته يحتل موقعاً متقدماً -ويتبوأ مكانة رفيعة- بين أعلام الفكر ورواد الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي.

نبذة تعريفية مختصرة:

ولد عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي في مدينة حلب السورية في العام 1849م، وتوفي في مدينة القاهرة المصرية، ودفن فيها في العام 1902م، وجاءت وفاته بعد أن دس له السمّ في فنجان قهوة([1])، تاركاً وراءه سيرة حياة عطرة وعابقة بالنضال والكفاح السلمي الفكري النقدي، وبالتحديات والمصاعب، لرجل إصلاحي تنويري حقد عليه (ولاحقه وطارده ونكل به) كل أعداء الحرية والعدالة في زمانه([2]).

ومن حسن سيرته، وذيوع شهرته وصيته العطر، ورجاحة عقله وتفكيره، تأثّر الناس لموته، حيث رثاه الشعراء والكتاب، ومختلف رجالات الأدب والثقافة المصريين والشاميين، حتى قال فيه الشاعر الكبير حافظ إبراهيم قصيدة شعرية مهمة، نقش منها البيتان التاليان على قبره:

هنا رجــل الدنـــيا هنا مهبط التقى

هنا خير مـــظلوم هنا خــير كاتــب

قفوا واقرأوا أم الكــتاب وســلـموا

عليــه فهـذا الـقـبر قبـر الكواكبــي

انطلق الكواكبي في بداية حياته عاملاً في مجال الصحافة، فعين محرراً في جريدة "الفرات" الحلبية التي كان يحصل فيها على أجر لا يتجاوز الــ800 قرش سوري شهرياً([3]).

وقد عرف الكواكبي في مقالاته التي كان ينشرها في الصحيفة السابقة بكونه ناقداً للحكام وللسلاطين وولاة الأمور الفاسدين، كاشفاً فضائحهم واستبدادهم وظلمهم، منحازاً إلى المستضعفين والفقراء من أبناء الأمة.

وبسبب استشراء الفساد والطغيان وتخلف المجتمع، ولكونه صاحب روح كبيرة ترنو إلى التنوير والحضور الألمعي في الأمة، ارتأى الكواكبي أن يصدر صحيفته الخاصة "الشهباء"([4]) في العام 1877م.. ولكن تم إغلاقها لاحقاً بسبب تجاوزها للخطوط الحمراء السياسية المحددة من قبل السلطات العثمانية التي لم تتحمل -على ما يبدو- جرأة الكواكبي النقدية، بسبب خوفها من القلم مثلما هو خوفها من النار، كما يقول الكواكبي.

ولكن هذا الإصلاحي الكبير الذي كانت تطلعاته نهضوية لأمته، والعاشق أبداً للحرية، لا يستطيع العيش دون قلم وورقة وبيان، فتابع هذا الإصلاحي مجدداً كفاحه وجهاده الصحفي الفكري الإعلامي ضد مواقع الاستبداد والفساد والتخلف ورموزها في أمته آنذاك، فأصدر في العام 1879 باسم صديق آخر جريدة "الاعتدال" سار فيها على منوال "الشهباء" ونهجها، لكنّها أيضاً لم تستمر طويلاً فتوقفت عن الصدور بأمر سلطوي عثماني.

وبعد أن تعطّلت صحيفتاه الشهباء والاعتدال، انكبّ الكواكبي على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضواً في لجنتي المالية والمعارف العمومية في حلب، والأشغال العامة (النافعة) ثم عضواً فخرياً في لجنة امتحان المحامين للمدينة.

وفي 1892 عين رئيساً لبلدية حلب.. ثم استمر بالكتابة ضد السلطة التي كانت في نظره تمثل الاستبداد، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل إليه الأمر من مضايقات من السلطة العثمانية في حلب التي كانت موجودة آنذاك، سافر الكواكبي إلى آسيا: الهند والصين وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا وإلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان عبدالحميد، وذاع صيتة في مصر وتتلمذ على يديه الكثيرون وكان واحداً من أشهر العلماء([5]).

مؤلفاته:

ألف الكواكبي الكثير من الكتب الفكرية التي ناقش فيها مختلف شؤون عصره، كان من أهمها وأكثرها حضوراً وانتشاراً كتابه حول "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"([6]).

كما ألف الكواكبي كتاباً آخر مهماً أسماه "أم القرى"([7]).. وترك لنا العديد من الكتب التراثية والأدبية الأخرى.. مثل كتاب "العظمة لله" و"صحائف قريش"، و"الأنساب"، و"أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها"، و"أحسن ما كان في أسباب العمران"، و"ماذا أصابنا وكيف السلامة"، و"تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام". ويقال بأنّه فقد مخطوطين مع جملة أوراقه ومذكراته ليلة وفاته، كما وجد له الكثير من المخطوطات والكتب والمذكرات التي طبعت لاحقاً.

وهكذا يمكن القول بأنّ الكواكبي، هو من أهم رجالات ما نسميها بمدرسة "الإصلاحية الإسلامية" التي حاول رموزها ومفكروها وعلى رأسهم "الكواكبي" الإجابة الفكرية على سؤال "التقدم الغربي، والتأخر والتقهقر العربي والإسلامي" وإشكاليته، من خلال تركيزهم على الدافع والسبب الحقيقي والعلة الذاتية الجوهرية لمرض التخلف الإسلامي، المتمثل في هيمنة الاستبداد والظلم السياسي والآفات الفكرية والاجتماعية على أمتنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية.

إذاً، أصل الداء عند الكواكبي هو الاستبداد، بوصفه نقيضاً للسياسة، من جهة أنّه إذا كانت السياسة هي "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، فإنّ الاستبداد هو "التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى"([8])، والأخطر هو أنّ الاستبداد يتجسد في "تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة بلا خوف تبعة"، باعتباره صفة السلطة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، والتي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين. ومرد ذلك هو كون الحكومة إمّا غير مُكلّفة تطبيق تصرُّفها على شريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة. أو هي مقيّدة بنوع من ذلك، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية. وعليه، ركز الكواكبي على الاستبداد من جهة كونه تفردًا بالسلطة والقرار وبالأمر والنهي، وبما يرجع الاستبداد إلى مشكلة السيطرة المطلقة([9]). وبطبيعة الحال ما كان لسلطة أن تملك وتهيمن وتقبض وتبسط من دون بيئة وحواضن فكرية اجتماعية تقليدية.. ولهذا نجد الكواكبي يحمّل الاجتماع الديني والسياسي الإسلامي أي المسلمين عموماً، مسؤولية ذاتية كبرى في توليد قيم الاستبداد واستمراريته، فهو يعتبر "العوام قوة المستبدّ وقُوتهُ.. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة"([10]).

لقد جمع الكواكبي في خطابه النقدي الفكري والسياسي بين إعلاء الدور الريادي للعرب، وبين إعلاء القيم الدستورية والشورى. فتفرد بين مفكري النهضة والإصلاح الديني بتشديده على مخاطر الاستبداد، وعلى ضرورة الحياة الدستورية الشورية لخروج العرب من دائرة الانحطاط والتردي المجتمعي. لذا خصّص كتابه "طبائع الاستبداد" لموضوع واحد وحسب، هو الاستبداد، معترفاً بأنّ فكره قد استقر "بعد بحث ثلاثين عاماً على أن أصل الانحطاط هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورية الدستورية"([11]).

وفي اعتقادي أنّ قيمة هذا الكتاب لا تتأتى فقط من خلال الأهمية الفكرية والمعرفية التحليلية التشريحية والنقدية للمرض العضال الذي عانت منه مجتمعاتنا العربية زمن الكواكبي، بل أيضاً من خلال كمية التطابقات التي يمكن أن يجريها القارئ ما بين الكتاب وزمنه الحالي، خصوصاً ما يتعلق فيه بآليات عمل الاستبداد وسبله وطرق مكافحته والانتهاء منه.. ولعل الكواكبي الذي هرب من حلب السورية إلى القاهرة، للمفارقة، كان سيهرب الآن، بالآليات ذاتها والأسباب ذاتها. (هذا إن استطاع الهرب، بطبيعة الحال!).. هكذا سنصدق كل جملة قالها الكواكبي حتى التي تواضع فيها معبّراً عن سماحة نفسه واحترامه للغير: "ما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد"([12]).


([1]) راجع كتاب: عبد الرحمن الكواكبي.. السيرة الذاتية.. للباحث: سعد زغلول الكواكبي. دار بيسان للنشر والتوزيع، تاريخ النشر: 1998م.. /272/ صفحة.

([2]) راجع كتاب: "الأعمال الكاملة للكواكبي".. دراسة وتحقيق محمد جمال طحان-مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- الطبعة الثالثة: 2006م.

([3]) مصدر سابق.. نقلاً عن حفيده سعد زغلول الكواكبي.

([4]) لم يتمكن عبد الرحمن الكواكبي من ترخيص هذه الصحيفة باسمه الخاص، بل رخصها وأصدرها باسم أحد أصدقائه كي تحظى بموافقة السلطة العثمانية ممثلة آنذاك بوالي حلب الذي كان غير قادر على تحمل ما ينشر فيها من مقالات نقدية جريئة بخط الكواكبي وقلمه الناقد والناقم على الفساد والاستبداد.

([5]) راجع موقع "فلاسفة العرب" على النت..

http://www.arabphilosophers.com/Arabic/aphilosoph...

([6]) وهو عبارة عن بحث فكري واجتماعي ونفسي مهم كتبه الكواكبي في تحليل قضية الاستبداد وموضوعه الذي اعتبره المرض الأكبر والأهم الذي تعاني منه الأمة، مستعرضاً طبائعه، وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى فساد الأمة وتأخرها، إلى جانب تحليله لانعكاسات الاستبداد على جميع مناحي الحياة الإنسانية بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقي والتربية والعمران.. ويشرح الكواكبي من خلال التساؤلات من هم أعوان المستبد.. وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ وبالتالي كيف يكون الخلاص منه؟ وما هو البديل عنه؟!.

([7]) ألّف الكواكبي هذا الكتاب لضبط مفاوضات مؤتمر النهضة الإسلامية الذي انعقد في مكة المكرمة سنة 1316 ه ومقرراته.. إلاّ أنّ هذا المؤتمر لم يحدث، فكان هذا الكتاب من بنات أفكار الكواكبي، انتقاداً للعلاقات القائمة بين الأمم الإسلامية آنذاك، وترويجاً لفكرته حول الوحدة الإسلامية، وضرورة استرجاع العرب لدورهم الريادي في النهضة المنتظرة، وفي ترتيب أوضاع البيت الإسلامي عموماً.. ووجوب انعقاد الخلافة لهاشم. أي بتنصيب خليفة عربي من نسب قرشي، يختاره ممثلون عن الأمة، وتكون له سلطة دينية على المسلمين عموماً، إلى جانب السلطات المدنية للدول القائمة، ففصل بذلك بين السلطتين الدينية والزمنية.

([8]) راجع: عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص: 84، دار "كلمات عربية" للطباعة والنشر. مصر.

([9]) راجع، عبد الرحمن الكواكبي مرة أخرى.. المفكر وصاحب مشروع مقاومة الاستبداد، الكاتب: عمر كوش، جريدة المستقبل اللبنانية.. الرابط:

http://almustaqbal.com/stories.aspx?storyid=54750...

([10]) راجع موقع "مفكرون" على الانترنت:

https://www.facebook.com/AlKawakibi.

([11]) راجع، شمس الدين الكيلاني، عبد الرحمن الكواكبي وتشريح آليات الاستبداد، جريدة المستقبل اللبنانية، 8/12/2012م..

([12]) راجع: عهد فاضل، "عبد الرحمن الكواكبي.. إصلاحي الماضي الذي لا يمضي"، مجلة المجلة السعودية، العدد: 5/3/2014م.