"إعادة قراءة التاريخ" لـ "قاسم عبده قاسم"


فئة :  قراءات في كتب

"إعادة قراءة التاريخ" لـ "قاسم عبده قاسم"

عرفت "المدرسة التاريخية العربية" تحولات مهمة خلال السنوات الأخيرة على مستوى مقارباتها البحثية ومواضيعها وإشكالياتها التاريخية ومناهجها، إذ أصبح فضاء المعرفة التاريخية العربية مجالاً لإنتاج تاريخي عربي مهم، عالج عددًا من القضايا التي تهم مجالات جديدة في البحث التاريخي، أهمها: التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، والأنثروبولوجيا التاريخية، وتاريخ العقليات، والتاريخ الراهن، والتاريخ الشفوي، وغيرها. وهي إشكاليات بحثية جديدة ارتبط ظهورها بالتحول الجذري الذي عرفته المدارس التاريخية الغربية على المستوى الإسطوغرافي، وعرفته كذلك أدواتها المنهجية تحت تأثير تطور العلوم الاجتماعية في أوروبا، وانفتاح حقل التاريخ على إشكاليات وقضايا ومناهج هذه العلوم، على اعتبار أن تطور البحث التاريخي في أوروبا هو انعكاس لجدلية تطور الإنسان والمجتمع، ومدى حضور الزمن في دراسة الظاهرة الإنسانية والتاريخية.

فقد عرفت الكتابة التاريخية الغربية ونظريات المعرفة التاريخية تحولاتٍ كبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين، فتشكلت تبعًا لذلك مدارس تاريخية متعددة، إذ شهدت الكتابة التاريخية الأوروبية تطورًا مهمًا على مستوى الرؤية والمنهج والأسلوب، كما حققت في مسارها إنجازات هائلة في ميدان المعرفة التاريخية، ولعل المساهمة الفرنسية في هذا المضمار منذ القرن التاسع عشر إلى الآن ستبقى الأكثر تميزًا. لقد عرفت المدرسة التاريخية الفرنسية ثورتين على مستوى المنهج: الأولى تمت بعد هزيمة فرنسا في المواجهة العسكرية أمام ألمانيا سنة 1871 مباشرة، إذ أطلق أساتذة جامعيون تأثروا بشكل كبير بالمدرسة التاريخية الألمانية المجلة التاريخية سنة 1876. أما الثورة الثانية، فقد قادها من جامعة ستراسبورغ سنة 1929 المؤرخان مارك بلوخ ولوسيان فيفر اللذان دشنا قطيعة مع الأنموذج الألماني الذي مثلته المدرسة المنهجية.[1]

هذا التطور الذي عرفته الكتابة التاريخية الفرنسية مع "مدرسة الحوليات" ومن بعدها "التاريخ الجديد" امتد تأثيره وإشعاعه إلى باقي دول أوروبا وأمريكا والدول العربية بنسبة أقل، مما أدى بمهنة التاريخ إلى أن تحقق طفرات متعددة خلال مسارها، إذ تمكنت من التكيف مع كل الأوضاع والمتغيرات المنهجية والإشكالية، واستطاعت أن تبلور خطابات ونماذج جديدة في كل مرحلة على حدة. وعلى الرغم من الأزمة التي مرت بها مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، إذ دخل علم التاريخ منعطفًا خطيرًا بعد أن أصبح مهددًا في هويته، أو ما أسماه المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس بـ "التاريخ المفتت" وبداية الحديث عن أزمة التاريخ، فإن مدرسة الحوليات عرفت بداية من مرحلة التسعينيات تجديدًا على مستوى رؤيتها للتاريخ ومناهجها، مما يبرز قدرة المدارس التاريخية الغربية على التكيّف المعرفي، والحوار العميق مع العلوم الاجتماعية، والقدرة على صياغة المفاهيم وإعادة صياغتها، والبحث عن مخارج متعددة لأزمة التاريخ.

ومع تطور المسار الإسطوغرافي للمدارس التاريخية الغربية، وعلى رأسها الحوليات، يمكن القول إن التاريخ على مستوى المفهوم والممارسة خرج من دائرة التخصص الضيق والكتابة للمشتغلين في التاريخ وحدهم إلى الانفتاح على جمهور عريض من القراء. فأصبح المؤرخ يكتب للجميع، وأصبح الجميع يقرأ للمؤرخ، بل إن أفكار الباحث في التاريخ لم تعد تصل إلى المتلقي عبر الكتاب فقط، وإنما عبر مختلف قنوات الاتصال من صحف وإذاعات ووسائل اتصال مختلفة، كما أصبح يسهم في كل النقاشات من النظري المحض إلى المعيش اليومي، ومن تطور العلوم إلى الأسعار، مرورًا بالانتخابات والهجرة والعنصرية والبيئة والإعلام، فأصبحت المقاربة التاريخية حاضرة ومعبرة ومؤثرة، والثقافة التاريخية نافعة، شائعة، وذائعة[2].

وتعد هذه الإطلالة السريعة والمقتضبة على مسار الكتابة التاريخية الأوروبية مهمة لفهم العلاقة بينها وبين الكتابة التاريخية العربية على مستوى معرفة مدى تأثر الأخيرة بمناهج وقضايا الكتابة التاريخية في الفضاء الأوربي. فتأثير مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد في الكتابة التاريخية العربية جد محدود، ويمكن القول إن التأثير الحقيقي كانت له بصمته الواضحة في المنطقة المغاربية أكثر من المشرق العربي، في تونس والمغرب خاصة، وذلك راجع إلى طبيعة العلاقات الجامعية لهذين البلدين مع الجامعات الفرنسية لأسباب تاريخية مرتبطة بتجربة الاستعمار الفرنسي، وبسبب الحضور البارز للغة الفرنسية إضافة إلى التكوين الذي تلقاه عدد كبير من الباحثين المغاربيين في الجامعات الفرنسية، مما أدى إلى دخول التأثيرات المنهجية الفرنسية في مجال التاريخ إلى الفضاء الأكاديمي المغاربي. وقد تجلى هذا التأثير في الكتابات النظرية للباحثين المغاربيين، وأهمها كتاب "مفهوم التاريخ" للمؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي. لكن رغم محاولات الباحثين المغاربيين كتابة تاريخهم على شاكلة مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد، فإن هناك انفصام بين الرغبة الظاهرة الوهاجة التي تقود الكتاب في السعي إلى الكتابة على شاكلة التاريخ الجديد، وواقع الكتابة التاريخية العربية عمومًا. فالكتابة التاريخية في العالم العربي لا تزال متخلفة لو قارناها بما وصلت إليه الكتابة التاريخية الغربية في أواخر القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين[3].

إن مسألة تطوير الكتابة التاريخية العربية من الأمور التي ما تزال صعبة، بسبب تجنب المؤرخين العرب لبعض القضايا التاريخية الحساسة، وانتشار النظرة التقديسية للماضي، مما أدى إلى تحنيط التاريخ العربي والإسلامي وجعله غير قابل للانفتاح على المناهج الجديدة،[4] إضافة إلى غياب هامش الحريات، لأنه لا يمكن كتابة تاريخ عربي موضوعي فعلي إلا باستقلال الحقل العلمي عن الحقول الأخرى، أقصد السياسي والديني، مما جعل الكتابة التاريخية العربية، رغم التطور الطفيف الذي عرفته في السنوات الأخيرة، تشكو من غياب الجرأة والنقد والابتكار والتجديد، لأن التاريخ العربي بحاجة إلى من يكتبه بعد الغوص في أعماق المجتمعات العربية وتجديد المساءلة وتنويع المقاربات والمناهج.

وتأتي، في سياق التجديد المنهجي والمعرفي في الكتابة التاريخية العربية تأثرًا بالكتابة التاريخية الغربية، أهمية كتاب المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم تحت عنوان "إعادة قراءة التاريخ" الذي صدر سنة 2009 ضمن سلسلة كتاب "العربي" (الرقم 78) فيما مجموعه 195 صفحة من الحجم الصغير. وقد احتوى الكتاب على سلسلة من المقالات التي سبق للمؤلف نشرها على صفحات مجلة "العربي" الكويتية، إلى جانب تقديم تحليلي لرئيس التحرير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري تحت عنوان "خطورة التاريخ". أما صاحب الكتاب، فهو مؤرخ مصري حاصل على دكتوراه الفلسفة في التاريخ وتحديدًا في تاريخ العصور الوسطى، وكانت رسالته عن مصر في عصر المماليك، وحاضر في جامعات الكويت ومصر وإسبانيا والجامعة الأمريكية، كما حاز جائزة الدولة للتفوق ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ومن قبلهما جائزة الدولة التشجيعية من مصر.[5]

يقول سليمان إبراهيم العسكري في تقديمه الإطار العام لهذا الكتاب: "إن عالمنا المعاصر يشهد علوًا للأمم التي استطاعت أن تعيد فهم تاريخها بشكل جديد، بينما تتحجر الأمم التي تفشل في فهم صيرورة تاريخها. نحن بحاجة ماسة لأن ننتقل من تقديس التاريخ بصفته قدرًا محتومًا إلى إعادة فهم التاريخ بصفته فاعلية حققها أسلافنا، وتفتح بدل أن تغلق، علينا نوافذ جديدة لإتيان فاعليات جديدة مجاوزة وليست مطابقة لما سلف. من المحزن أن نحرص على التذكير بهذه المهام الحضارية، لأن ذلك يعبر عن توجس من عجزنا عن القيام بها، وهي بعد من مقدمات التقدم وليست من نتائجه، لكن مما يسر أن نجد بيننا مؤرخين نهضوا لأداء هذه المهمة التي استعصت على كثيرين من أجيالنا السابقة. إن مما يبعث على الأمل في حياتنا المعاصرة أن نجد بيننا من يمكن أن نسميهم المؤرخين النهضويين الجدد، ونقصد بهم أولئك المؤرخين ممن تمردوا على النهج التقليدي للتاريخ الاجتراري الذي يرى المؤرخ مجرد راوي أحداث أو موثق مخطوطات أو جامع لطرائف تاريخية مسلية. فمنذ ابن خلدون لم يشهد علم التاريخ لدى العرب أي تجديد يذكر، بل إن ابن خلدون نفسه لم يؤسس لمدرسة عربية بل عد استثناء ولم يتسلم أحد من أتباعه مسيرته بل انقطع فكره وتوقف مع تأخر الحضارة العربية ككل."[6].

وقد تناول الدكتور العسكري في مقدمته التحليلية للكتاب منهج قاسم عبده قاسم في معالجته للإشكاليات التاريخية والمنهجية قائلاً: "في هذا الكتاب لن تجد أحداًثا ووقائع، بل ستجد وجهات نظر وتصورات، وهذا هو المنهج الجديد في كتابة التاريخ. فالتاريخ هنا ليس اسمًا لكيان يتكون من بضع حوادث تروى وفق تسلسل كرونولوجي مبتسر، بل ستجد التاريخ في هذا الكتاب هو فعل التأريخ كعملية إنتاج لممارسة ثقافية تقوم على تصورات وافتراضات تفصح عن نفسها بدلاً من أن تختبئ عن عيون القراء..."[7]. فمن خلال القراءة المتأنية لهذا العمل يظهر بشكل جلي أنه قد اكتسب الكثير من عناصر التجديد المنهجي، سواء على مستوى مساءلة النصوص الكلاسيكية العربية والأجنبية، أو على مستوى توظيفها في إطار كتابة نسقية نجحت في إعادة تقييم العديد من القضايا التاريخية والمنهجية التي أثيرت بين متن الكتاب.

لقد قسم قاسم عبده قاسم مقالات كتابه إلى محورين أساسيين؛ أما المحور الأول، فعنونه بــ "قراءة التاريخ... رؤية معاصرة"، في حين عنون المحور الثاني بــ "تاريخنا مع الآخر". وتناول في المحور الأول العديد من القضايا برؤية منهجية مجددة، إذ تطالعنا دراسة أولى حول دلالات ومعاني مفهوم "قراءة التاريخ"، ثم دراسة ثانية حول "القراءة الشعبية للتاريخ"، ودراسة ثالثة تتطرق لحدود التكامل أو التفاضل بين التاريخ والآثار، وحدد في دراسة رابعة مفهوم "القراءة الدينية للتاريخ". أما الدراسة الخامسة، فتطرقت لموضوع وظيفة المأثور الشعبي. كما عالج المؤلف في المحور نفسه وظيفة اللغة باعتبارها سلاحًا فعالاً، وفكك أبعاد المعاني المرتبطة بقيمة التسامح في الكتابات التاريخية العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية، كما بحث صاحب الكتاب في موضوع العلاقة بين الوعي بالتاريخ بالوعي بالذات. وكان لموضوع العلاقة بين التاريخ والرواية حضور في هذا المحور من خلال تناول عناصر التفاضل أو التكامل بينهما. وفي الدراسة ما قبل الأخيرة، عرّج المؤلف على إشكالية إعادة كتابة التاريخ التي أصبحت مطلب عدد كبير من فئات المجتمع العربي. أما الدراسة الأخيرة فقد فتحت الباب لمساءلة نقدية لرصيد المنجز السينمائي العربي من الأفلام التاريخية التي أنجزت خلال القرن العشرين.

واهتم المؤلف في المحور الثاني بقضايا تاريخية تهم العلاقة بين الأنا والآخر بداية من الدراسة الأولى التي قدمت قراءة تاريخية في أدب الشكوى عند يهود أوروبا من خلال إعادة مقاربة قضية الهولوكوست الشهيرة. وقدم في الدراسة الثانية صورًا تاريخية من مدينة القدس من خلال تجارب صليبية وصهيونية وعربية، وعالج في دراسته الثالثة إشكاليات الحروب الصليبية على مستوى مضامين خطاباتها وامتداداتها في الزمن الراهن. أما الدراسة الرابعة، فقد تناولت العلاقة بين "الأنا" و"الآخر"، وكان للتأثير الذي خلفه العرب في أوروبا خلال العصر الوسيط حضور في الدراسة الخامسة التي جاءت تحت عنوان "عندما أثر العرب في أوروبا". أما باقي الدراسات الأخرى، فقد تناول فيها المؤلف مواضيع "المسلمون يتعرفون على الآخر" و"الوجه الآخر للحروب الصليبية" و"دموع المعتدين ومخاوفهم" و"أوربا والمسلمين...التطور التاريخي لصورة الآخر"، و"عن الشعر والحرب أغاني الحروب الصليبية"، و"التتار والعالم العربي: الوجه الآخر"، وأخيرًا "المسلمون في عيني أسير صيني".

إن أهمية كتاب "إعادة قراءة التاريخ" تدفع المؤرخ العربي إلى استحضار ضرورة إحداث القطيعة المعرفية مع التناولات التي تبسط القضايا والإشكاليات التاريخية، وتبلد حس السؤال التاريخي النقدي، ويقتنع أن الكتابة التاريخية لن تستطيع تحقيق القدرة على التجدد إلا إذا طورت آليات التقدم فيها، من مثل النقد والمراجعة والتسلح بحس السؤال وغيره كثير، ولن يكون هذا الأمر متاحًا إلا بالانفتاح على التيارات الراهنة في الكتابة التاريخية الغربية، وبشكل خاص أدواتها المنهجية وتطوير مسارها الإسطوغرافي من خلال التناول الجريء لكل القضايا التاريخية الراهنة.


[1] خالد طحطح، عودة الحدث التاريخي، ط1، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2014، ص 6

[2] محمد حبيدة، كتابة التاريخ: قراءات وتأويلات، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، 2013، ص 25

[3] التاريخ الجديد، إشراف: جاك لوغوف، ترجمة وتقديم: محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، يوليوز 2007، ص 21

[4] المرجع نفسه، ص 23

[5] قاسم عبده قاسم، إعادة قراءة التاريخ، سلسة كتاب العربي، العدد 78، ط1، الكويت، الناشر: وزارة الإعلام - مجلة العربي، أكتوبر 2009، ص 9

[6] قاسم عبده قاسم، إعادة قراءة التاريخ...م.س، ص ص 7- 8

[7] المرجع نفسه، ص 9