عقلانية الرهان على "وئام" خطابات الإسلاميين والعلمانيين


فئة :  قراءات في كتب

عقلانية الرهان على "وئام" خطابات الإسلاميين والعلمانيين

يواصل المفكر فهمي جدعان حفرياته المعرفية في "العقل العربي الإسلامي"، موسعّاً أفق المفاهيم التي كان طرحها في كتبه منذ "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" 1979، حتى كتابه الجديد "تحرير الإسلام – ورسائل زمن التحولات" الصادر عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" في بيروت.

في "تحرير الإسلام" يتحدث جدعان عن (الحداثة والحداثات العربية) وعما يشبه أن يكون تاريخاً مفهومياً للحداثات العربية، بدءاً من "الحداثة النبوية" إلى المنعطف العقلي واستقلال العقل الإنساني عند المعتزلة والفلاسفة، ثم بزوغ الحداثة "العلمية"، فتفجر "الذات الشخصانية" في الفضاءات الصوفية ... إلى عصر التنوير العربي الحديث.

ويميز في مبحث (السلفية: حدودها وتحولاتها) بين ثلاثة أنواع من السلفية: السلفية التاريخية - أعني سلفية الجيل الإسلامي الأول- ، والسلفية المُحدَّثة، أعني سلفية "الإصلاحيين" المسلمين: جمال الدين ومحمد عبده والطهطاوي وخير الدين...، والسلفية المتعالية، التي يمكن اعتبارها "تمهيداً" لما يسمى اليوم "السلفية الجهادية"، وهي جميعاً تنسب نفسها إلى "السلف" لكنها جميعاً "مواقف تعكس عقول أصحابها" وظروفهم وأوضاعهم التاريخية.

وكان جدعان قد طرق هذه الأفكار في كتابه "في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، مسائلاً الغايات والأهداف التي يتوخاها الإسلاميون والعلمانيون والليبراليون العرب، ويرنو إلى ما سمّاه "رهاناً" يقوم على "استنطاق النوى الجوهرية القاعدية لكل نظام من هذه النظم (الثلاثة) من أجل إدراك حالة من التضافر بين هذه النوى".

ويعتبر هذا الرهان الذي يعتقد أنه "ليس بالضرورة خاسراً" غاية عليالما يقصد إليه من كتابه/ مقاله. يقول: "إن قصارى ما أقصد إليه هو أن أستنطق هذه النظم الثلاثة، وأن أذهب إلى ما وراء مزاعمها الظاهرة، وأن أتبيّن منطقة قوية في كل نظام، بل أن أتبين الغائية النهائية والأساس القاعدي الذي يقوم عليه هذا النظام، وأن أزيح جانباً ما أعتقد أنا شخصياً أنه أساس لا يمكن البناء عليه في الفضاءات العربية الحالية والمنظورة، وأن أعاود بناء النواة القاعدية السديدة لهذا النظام، ثم أن أقول إن كانت مبادئ هذه النظم يمكن أن تلتقي معاً، وأن تعمل وتفعل بتضافر ونجوع في فضاء ديمقراطية - اجتماعية إنسانية، هو الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي، وفي الفضاء الكوني الذي لا قبل لأحد بأن يغفل عن أحكامه أو أن يحتقرها" ص 11-12

وبعد أن يستعرض جدعان سريعاً الكتب والمؤلفات التي صدرت في الغرب خلال الخمسين سنة الماضية، والتي تتحدث عن النهايات: نهايات الأيديولوجيا، نهاية الله، نهاية الإنسان، نهاية الدين، نهاية التاريخ، ينظر إلى هذه الدعاوى، باعتبارها تمثل قضايا وهواجس أساسية ليس العرب بمنأى عنها.

ويتبين المنظومات الثلاثة التي تقدم وعود الخلاص العربي، إذ تقوم الأولى على تمثّل دين الإسلام وجعله "مبدأ لأيديولوجيا الخلاص النهائي أو الحاسم"، فيما يتمسك العلمانيون في المنظومة الثانية "بإزاحة دور الدين من الشؤون العامة للمجتمع والدولة، أو بـ "الحياد العقيدي والأخلاقي". أما الخلاص في نظر الليبراليين أصحاب المنظومة الثالثة، فلا يمكن أن يتحقق "إلا بعملية إصلاح شامل تتخذ من (الحرية) سبيلاً وحيدة للخروج من المأزق؛أي أن الخلاص النهائي والحاسم يكمن في الليبرالية التي تريد أن تقترن بالديمقراطية" ص19. ويزيد بأن "هذه النظم جميعا تجسد في طبيعتها وماهيتها فكراً (أحادياً)؛أي أن أيّاً منها لا يرضى بغيره بديلاً، وأنه يزعم أنه الطريق الأوحد للخلاص". ص23

ويستثني جدعان من مقاله الأيديولوجيتين القومية العربية والاشتراكية، إذ يرى أن القومية "فقدت قدراً كبيراً من فاعليتها وحيويتها"، بينما باتت الاشتراكية "عاجزة عن أداء دور وظيفي مؤثر في الحياة العامة". بيد أنه يستدرك، فيقول: إن إخفاق هذين النظامين "لا يعني أن الأفكار والنزعات والمفاهيم التي ينطويان عليها قد تبددت، فحقيقة الأمر أن قدراً عظيماً منها ما زال ماثلاً حياَ في جملة الأفكار والنظم الثقافية"، وأن أفول هاتين المنظومتين "هو عندي وجه مركزي من وجوه الانحطاط العربي المعاصر الشامل". ص22

وفي سياق ملاحظته النزعة الأيديولوجية في النموذجين العلماني والليبرالي وفي ما يسميه "النموذج الإسلامي المتصلب"، يرى المؤلف أن النماذج الثلاثة هذه تشترك في أنها "منظومات تفسر وتقترح وتغيّر"، وبالتالي فإنها "ترنو إلى مسار تاريخي نهائي وتتطلع إلى (وضع بشري) ينظر إليه بما هو بديل أحق أو خير أمثل؛ أي بما هو بديل مطلوب أو مرغوب فيه؛ أي بما هو صيغة (مستبدة)(يجب) الأخذ بها لا بغيرها، وذلك برغم أن بعضها يسلم بأنه يظل (عملية تاريخية)" ص24-25

ويكشف جدعان خشية "الإسلاميين" من الديمقراطية التي ترد في بعض أدبياتهم باعتبارها "كفراً"، على الرغم منأن حركات إسلامية في فلسطين ومصر والجزائر، خاضت الانتخابات على أساس الديمقراطية. ولا يؤمن "الإسلاميون المتصلبون" بمبدإ الديمقراطية الذي يجعل السيادة للأمة وللإرادة الشعبية، ويرون أن السيادة، إنما هي لله وحده، تأكيداً لمبدإ "الحاكمية الإلهية".

ويلفت جدعان، بعد تناوله جملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، إلى أن "الأصول الإسلامية لا تحمل، في ذاتها وفي ماهيتها، نزوعاً صدامياً مع الديمقراطية بما هي تكنولوجيا سياسية في تحديد الإرادة الشعبية". ص41

ومثلما يلحظ المؤلف بأن "جمهور المسلمين" يقبل بالانخراط في التكنولوجيا الديمقراطية، فإنه يدعو العلمانيين إلى القبول بالآخر في سياق العملية الديمقراطية، وعدم إقصائه؛ فالقول باستقلال العقل الإنساني، والذي يعد المبدأ الأصيل في العلمانية، "لا يمكن أن يعني بالضرورة أن (لإيمان الديني)أمر (مستحيل) بالنسبة للعقل الإنساني". ص42

وبحكم طبيعة منطلقاتها، فإن الليبرالية مضطرة أن تقرّ نظاماً ديمقراطياً منفتحاً "لا يقوم على مبدإ (إقصاء)أحد من الحياة السياسية والاجتماعية ولا يناهض على وجه التحديد نظاماً سياسياً يستلهم الدين أو يجعل لنفسه مرجعية دينية، إذا ما اتجهت (الإرادة الشعبية) إلى اختيار ممثلي هذا التيار" ص45

ويروم جدعان، من خلال إيراد مثال الديمقراطية، إلى البحث عن العناصر المشتركة لدى النظم الإسلامية والليبرالية والعلمانية، تعميقاً لأطروحته التي ينبني عليها خطاب الكتاب برمته، وهي تجريد تركيب متناغم من جملة هذه الأفكار أو القيم او الرؤى. وينشد هذا "التجريد التركيبي" حزمة من المبادئ "التي تصلح إجرائياً وعملياً لأن تسهم في إحداث شيء من التحول عن الخلل القارّ في حياتنا الفكرية والعملية، وهو خلل لم يفلح أي نظام من النظم الأيديولوجية الأحادية أن ُيجري فيه أي تقدم أو تحول نافع أو مجد". ص57

ويتناول المؤلف وعود الإسلاميين منذ أطلق أبوالحسن الأشعري كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"، وهو الكتاب الذي انطوى على تمييز واضح بين "الإسلام" و"الإسلاميين". ويقسم جدعان الوعود التي قدمت في التجربة التاريخية الإسلامية إلى ثلاثة وعود أساسية:أوّلها الخلاص بالطاعة والاستقامة الدنيوية "السنة والشيعة..."؛ وثانيها الخلاص بالعقل والحرية "المعتزلة"؛ وثالثها الخلاص بالفعل العملي الدنيوي المباشر "الخوارج"، وكان قدرها جميعاً "الانتهاء إلى طرق مسدودة".

وبعد إلقائه الضوء على أبرز مقولات هذه الفرق أو التيارات وما جابهه بعضها من عنت، يتساءل: ما الذي يعدنا به "الإسلاميون والمصلون" في التجربة الحديثة والمعاصرة، وأين يقع الإسلام نفسه من وعود القدماء ومن وعود المحدثين"؟

وتستوقف المؤلف "جماعة الإخوان المسلمين" التي يقول: إنها "تجسد (على الأرض)أقوى وأبرز الحركات "الخلاصية" الإسلامية الحديثة والمعاصرة" ص84 ،لافتاً إلى أمر جدير بالانتباه، وهو أن "فكر (الجماعة) في صورته التقليدية (الكلاسيكية)؛أعني تلك التي تتمثل في المؤسس (حسن البنا) كان في أعماقه استئنافاً مطوراً لما كان محمد عبده قد انتهى إليه من أن الخلاص يتم بإصلاح الذات وبتوفير الشروط العامة لهذا الإصلاح، وهي شروط تربوية وأخلاقية واجتماعية ومادية وقانونية". ص85

وفي ضوء ذلك، يعود المؤلف، فيسأل: ما هي طبيعة الوعود التي قدمتها وما زالت تقدمها "جماعة الإخوان المسلمين" من أجل خلاص الإسلام والمسلمين اليوم وغداً؟

وبعد أن يعرض للتطورات السياسية والتفاعلات الحزبية التي طرأت على جماعة الإخوان، يرى المؤلف أن وعد الخلاص الذي نادت به هذه الجماعة التي تعد كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة "لا يجيء إلا من باب الدولة الإسلامية"؛ أي من باب (السياسي) النضالي" ص89 . بيد أن هناك حركات تدور في فلك الإسلام السياسي تقترح حلولاً خلاصية قائمة مرة على العنف، وأخرى على انتظار المهدي "المنتظر".

أما الإسلام نفسه في نصوصه الأصلية وفي فضاء "التيار الأغلبي" العمومي الذي يمثله، فإنه بحسب جدعان، "يعرض خلاصاً أرضياً مباشراً قائماً على (العدل) و(المصلحة) في سياق رؤية حضارية وقيم إنسانية رحيمة".ص112

ويبحث جدعان، لدى مناقشته وعود العلمانيين، عن العناصر المشتركة بين خطابهم وخطاب الإسلاميين تدعيماً لرهانه القاضي بعدم استحالة التوصل إلى (توليفة) فكرية (تركيبية) تجمع النظم الثلاثة في إطار (متناغم).

ولئن كان صعود التيار الديني - السياسي الإسلامي، وهو ما يطلق عليه تيار الصحوة، وما سمي فيما بعد بـ "تيار الأصولية الإسلامية" ولّد بعثاً جديداً للعلمانية وتقابلاً حاداً بين "الإسلاميين" من طرف وبين "العلمانيين" من طرف آخر، ولئن ظل هذا التقابل الحاد، وما برح، "يمثل أحد الوجوه الأساسية للدعوات الأيديولوجية المرتبطة بتأسيس الحاضر وبناء المستقبل، وتقديم وعود حاسمة للخلاص" ص124، فإن المؤلف ما انفك يعوّل على تخلص العلمانية من صيغتها الراديكالية المغلقة، سبيلاً إلى الولوج في الفضاءات العربية، حيث تطور "فهماً للعلمانية الحيادية المنفتحة، المتوافقة مع نظام سياسي حر يعتمد الديمقراطية بما هي تكنولوجيا سياسية ذات قيم ثقافية مصاحبة". كما أنه يعوّل على توجيه العلمانية لمبدإ "استقلال العقل الإنساني"، حيث يجري الاعتراف في هذا الاستقلال "بشرعية (الأوامر) و(المطالب) و(الحقوق) التي تلزم بها القوى (الأنثروبولوجية) الأصيلة في الإنسان" ص198

ويقرّ جدعان بصلابة الأفكار والأسس الفلسفية للعلمانية وتشدد غالبية المنادين بها عربياً على فكرتيْ فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، واستقلال العقل الإنساني عن أية سلطة، وبالتالي رفض اشتقاق المعرفة العملية من المعرفة الدينية، ورفض كل ادعاء معرفي يقوم على حدس أو وحي.

ويرى جدعان أن المواقف من العلمانية التي يعبر عنها عبد الوهاب المسيري، وعزيز العظمة وعادل ضاهر تتسم بـ"وثوقية صلبة"، حيث يتصورها المسيري "رؤية مادية أحادية شاملة للعالم"، ويراها العظمة "عملية تاريخية طاردة للدين، فيما يتبين منها ضاهر "موقفاً صريحاً في استقلال العقل الإنساني وإطلاق مرجعيته"، وجميع هذه المواقف "يقيم تعارضاً بين العلمانية وبين الدين، بما هو حامل لغائية سياسية، إما على جهة التناقض، وإما على جهة الطرد، وإما على جهة الفصل" ص187

ولا تقلّ هذه المواقف صلابة من صلابة "الرهان الجدعاني"الناهد إلى تحقيق تصور متناغم يصهر تناقضات العلمانية والليبرالية والتصورات الإسلامية في بوتقته.

واذا كان جدعان جوبه بمشقة، وهو يبحث عن المشترك بين التيارين العلماني والإسلامي أو "الإسلاموي"، فإن قدراً أكبر من المشتركات سيتسنى له، وهو يعاين تمثلات التيار الليبرالي وامتداداته في الفضاء العربي. فبعد أن تناول جملة من المفاهيم والصيغ الأساسية لليبرالية في الفضاءات الغربية الأصلية التي نشأت فيها وتطورت إلى أن أدركت آخر أشكالها في الليبرالية الجديدة والليبرتارية؛ يحاول أن يرى الأثر الذي تركه هذا التيار في سياق الفكر العربي، ملاحظاً أن مفهوم الحرية، وتحديداً "الحرية السياسية هو ما توجهت إليه التجربة الليبرالية الحديثة في مبدإ نشأتها، وفي ما غلب عليها من تطورات". ص245

ويلاحظ جدعان خلو المجال الثقافي العربي الإسلامي من مفهوم الحرية، وفق ما جرى عليه الاستخدام الحديث للكلمة. بيد أنها (الحرية) تتجلى في تعبيرات أخرى ترد في سياقات الفقه والأخلاق وعلم الكلام والتصوف والمجتمع. وبالرغم من ذلك، فإن "الليبرالية، بما هي (فلسفة الحرية) قد فرضت معناها (الأصلي) و(الجوهري) على الفضاءات جميعاً"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن "الليبرالية ليبراليات، وأنه لا يجوز إطلاق المصطلح بدون تحديد، لأن طبيعة المضمون الذي نحمله على المصطلح وحدود هذا المضمون توجه الآخذين به توجيهاً حاسماً في هذه الطريق أو تلك، وأن هذه الطرق يمكن أن تكون متباعدة، بل متنافرة، بعضها رحيم وبعضها غير رحيم. ذلك أن المصطلح (متشابه)، (حمّال للوجوه)، ومن الضروري على كل من يستخدمه أو ينسب نفسه إليه أن يقول على الفور أية ليبرالية يعني وأي مضمون" ص310

وبعد أن يتنقل في أقاليم المذاهب العلمانية والليبرالية ومذاهب الإسلاميين المعاصرين، وبعد أن يحفر في الجذور المؤسسة لهذه النظم مستعرضاً آراء أبرز مفكريها والمعبرين عنها، يشرع فهمي جدعان في إقامة معماره التركيبي من جماع المشتركات والمؤتلفات بين هذه النظم. ويتخذ من الديمقراطية "الفضاء الذي يدعو جملة النظم الحية لأن تتقلب فيه على سبيل التلاقي والتضافر". ص382

وفي هذا الفضاء الديمقراطي "تستطيع نواة الإسلام الجوهرية؛ أي العدالة المقترنة بالمصلحة وقيمها المجاورة، والنواة العلمانية الجوهرية؛ أي العقلانية التكاملية، ونواة الليبرالية التضامنية؛ أي الحرية الإيجابية أن تتضافر وتلتقي عند مركب شامل يوجه ثقافة وحراك جميع هذه النظم" ص385 . كما أن من شأن هذا التلاقي أن يأذن "بإدراك نتائج واقعية ذات أداء عال وجدوى حقيقية في الحياة الشخصية الحاضرة والمنظورة للمجتمعات العربية، (فضلاً عن كونه) يأذن ببناء عالم عربي إنساني، حامل لمقومات التقدم وقادر على البقاء والعيش في العالم الكوني المعقد الذي يتشكل أمام أعيننا وتعجز نظمنا، حتى الآن عن مضاهاته والاستجابة لأحكامه ومتطلباته" ص385-386

ويقصد جدعان بالديمقراطية هاهنا "الديمقراطية في نواتها الأصلية الصافية؛ أي بما هي تقنية في الحكم تتوخى الكشف عن الإرادة التمثيلية للمجتمع َوفق ثقافة إنسانية قوامها العدل والخير العام والكرامة الإنسانية والعقلانية والحرية". ص386

وبالرغم من إقراره بأن الديمقراطية ليست عصية على النقد، وأنها لا تشكل إجماعاً لا ينفذ إليه الشك والتقويم، فإنها "تظل مع ذلك كله أنجع (تقنية) إنسانية يمكن التوسل بها لإقصاء الاستبداد ولتمكين المجتمعات من قيادة أنفسها بأعظم قدر ممكن من الحرية والفاعلية والسداد، وهي مع ذلك جهاز إنساني يظل على الدوام خاضعاً للاختبار والمراجعة والإصلاح وتحسين الأداء، بل والتجاوز إلى ما هو خير منه، إن توافر أو حين يتوافر". ص386-387

لقد تنكّب د. فهمي جدعان مصاعب كبيرة، بدا بعضها وكأنه عقبات كأداء، وهو يحاول أن يلمّ شتات ثلاثة مذاهب أمضى سنوات في البحث عن مرجعياتها والنظر في خطاباتها ونواها الجوهرية الثاوية من أجل الوصول إلى كسب "الرهان" الذي كان أعلنه في بداية كتابه، والقائم على التجريد التركيبي الذي يروم إنشاء منظومة مفاهيمية تنشد الجوهري المشترك بين هذه النظم الثلاثة على امتداد خلافاتها واتساع تناقضاتها.

ويعد جهد جدعان في هذا المضمار عملاً ابتكارياً، بل إنه مغامرة معرفية لا تتأتى إلا لنفر قليل من المفكرين العرب الذين يربطون سياقاتهم الفكرية والنظرية بعجلة التحولات المأمولة في مجتمعاتهم.

بيْد أن إقامة "الوئام" بين هذه النظم المتنافرة، والخلوص إلى الفضاء الديمقراطي، واعتباره منصة لإطلاق ما سميناه "الرهان الجدعاني" يختلط بين النظر الواقعي وتلك النظرة "الطوباوية" الحالمة التي تنال منها أحداثيات الواقع ومجرياته الصلبة وغير المنطقية.

لقد بلغ التفاؤل بالمؤلف مبلغاً كبيراً إلى حد جعله "يتخيل"أن الإسلاميين، سواء أكانوا متشددينأو وسطيين أو متطرفين يناصرون العنف، يمكنهم أن يقبلوا بأفكار العلمانيين التي تعدّ في نظر دعاتهم وفقهائهم وأئمتهم "كفاراً" يحق إقامة الحد عليهم. ثم إن جدعان يفتش في كل مذهب عن أنصار َمرنين يقبلون بفكرة التوافق والتعايش، ولكنّ هؤلاء الأنصار، على قلتهم وتقلّب آرائهم لا يعبّرون عن الأغلبية التي يحق لها إبداء النظر أو السماح بالشروع في التحول الفكري والمفاهيمي. وهذا الأمر نراه لدى الإسلاميين، وخصوصاً تيار "الإسلام السياسي" بالمقدار ذاته الذي نتلمسه لدى العلمانيين والليبراليين.

وإذا كان العالم الغربي لم يستطع أن يصهر هذه الأفكار في منظومة توافقية تلتئم عند الحد الأدنى، وهو "الفضاء الديمقراطي"، فكيف لمجتمع عربي ينوء تحت ثقل التخلف والأمية والفساد والفقر وغياب المرأة عن المشاركة العامة وسيادة الطابع الأبوي في سائر مناشط الحياة، أن يتقبل فكرة التشاركية والتوافقية في الفضاء الديمقراطي بين مذاهب بعضها، كالعلمانية، ذي منحى إلحادي ينكر الوحي ويجعل للعقل أسبقية على الوجود، ويدعو إلىإحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدس؟.

وكيف لهذا المجتمع أن يرضى بالليبرالية التي ترى في الدين شأناً خاصاً ليس له أية أولوية، حيث يتم تقييم الأمور الأرضية وشؤون السياسة، لا انطلاقا من نظام طبيعي مخلوق من الله، وإنما انطلاقا من الإنسان نفسه.

وبالإضافة إلى هذه التناقضات العامودية التي تنسف أي أمل لتلاقي هذه المذاهب "المتطاحنة"، فإن مضاهاة التيارات الإسلامية بالتيارات العلمانية والتيارات الليبرالية في المجتمع العربي، فيه تقليل من حجم النفوذ المتنامي للإسلام السياسي في الأوساط العربية، مقابل تضخيم للنفوذ المنحسر للعلمانية والليبرالية اللتين تعدان حركتين مقتصرتين على النخبة السياسية المثقفة، أو حركة التنويريين العرب الذين ليس لهم امتدادات جماهيرية في أوساط الفئات الاجتماعية العربية المختلفة.

ولا يعني إقرار هذه "الحقيقة" انتقاصاً من هذين التيارين، وإعلاءً لتيار الإسلاميين، بل هذا هو واقع الأمر الذي زاد من تفاقمه عدم قدرة تياري الليبرالية والعلمانية على النفاذ إلى وعي الفئات الشعبية ومخاطبة أشواقهم وتطلعاتهم، كما فعل الخطاب الإسلامي الذي نهض على أرضية مؤسسة يشكل الدين بنيتها القاعدية الصلبة.

كما أن هزيمة المشروع الحضاري العربي، رسّخ حنين مجموع العرب والمسلمين إلى العودة إلى التراث والإقامة فيه، ما عمّق لديهم العزلة وقوّى نزعات الانفصال وإقصاء كل مختلف، حيث المختلف هنا الغرب بصورة أساسية، ثم الأغيار المناوئون في مشروعهم للخطاب الإسلامي في صورته السياسية أو الحركية الحزبية.