استرجاع الهويات ومستقبل التعايش


فئة :  مقالات

استرجاع الهويات ومستقبل التعايش

استرجاع الهويات ومستقبل التعايش([1])

لم تكن الدول "الجديدة" أو الناشئة بعد الاستعمار الغربي الشامل، التي هي في أغلبها صنيعة التوافقات التي كانت بين القوى المستعمرة الكبرى، قادرة على تأسيس البناء الاجتماعي لها بالقدر الذي استطاعت، لاعتبارات كثيرة منها طبيعة منظومة الصراع شرق غرب نفسه، أن تبني مؤسسات، صورية في أغلبها، تؤطر الفعل السلطوي الآمر الذي كانت آليته الأساسية، في نماذج سياسية متعددة، قائمة على العنف المشروع لهذه المؤسسات والذي تتسيده الدولة نفسها، في حين أن الدولة والمؤسسات كانت رهينة لتراتبية تتجاوز مصالحها الآنية لتصب في مصالح قوى متعددة تشابكت بين المكونات الداخلية والخارجية.

وفي سياق آخر، عرت الأنساق الجديدة للمصالح الاقتصادية والثقافية بالخصوص في "العالم الجديد"، عالم ما بعد انهيار الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، الغطاء الذي كانت ترتديه الدول في مقابل المجتمعات، وأصبحت النزعة الثقافية الجديدة المرتبطة بالهويات غير الناضجة داخل كلا المنظومتين تُسائل الوجود الفعلي للدولة أو طبيعتها أو أدوارها. إن النزعات شديدة الذاتية أصبحت ظاهرة عامة ساهمت في انبثاقها الكثير من العوامل، وهي تطرح سؤال الوجود الحضاري الهوياتي بالتوازي مع الوجود المؤسساتي للدول، وتعتبر أن هناك سقفا يمكن قبوله باعتبارها كذلك، لأنها في الأخير يجب أن تستجيب لحاجيات الطوائف أو الكتل التي تشكلها، لكن ذلك لا يجتمع حقيقة إلا من خلال منسوب الوعي بالدولة نفسها، وهنا يمكن أن تنطلق بنية وبناء التحليل من افتراضين:

الافتراض الأول، يقوم على كون الدولة في كل الأحوال هي سقف اجتماعي مقبول، باعتبارها بناء متوافقا عليه، حددته عوامل التاريخ أو الزمن والقبول الاجتماعي، وهذا السقف يوجد في كل المجتمعات الساعية إلى التآزر في إطار الدول الغربية، لكن ليس ضد الدولة نفسها، بل ضد السعي نحو البناءات المهددة لها، وهي الاندماجات الاقتصادية كما هو حال الاتحاد الأوروبي، لأن الهوية لا يمكن أن تتجاوز الدولة، ولأن الاندماج ليس سوى مصالح غير مسترسلة ومحصورة في الزمان، وباعتبار المصالحة يمكن بناؤها من خلال الدولة نفسها؛ أي إن الاندماج هو بالضرورة على حساب بنية الدولة الوطنية التقليدية، وهذا يوجب قبولا نفسيا وتحوّلا مؤسساتيا في بنية السلطة والمصالح المرتبطة بها. والأمر نفسه ينطبق على النموذج الأمريكي الذي يعد بناء تاما غير قابل للمساءلة الاجتماعية، إلا من خلال نماذج غير ناضجة أو معزولة اجتماعيا؛ أي بنيات ما تحت دولتية Infra Etatique / Infra state وجماعات متشرنقة بناء على انتماءات دينية أو طائفية، أو من خلال تهديد موجود أو مفترض قادم من الخارج.

أما الافتراض الثاني، فهو أن القيم التي يمكن أن تختزلها الدولة في علاقتها بمفهوم المواطنة، كما هو حال النموذج السابق، محصورة وغير كافية للاستمرار في أنساق مؤسساتية وترابية جغرافية محددة في الدولة في المنظومة المقابلة للمنظومة الأولى (الدول الغربية)، وهي في جل الحالات تقريبا دول خرجت من استعمار الدول الغربية الأوروبية بالأساس، وكانت لمدد متراوحة تسعى إلى تطابق بين القبول الاجتماعي والبناء المؤسساتي التي تشكله.

إن هذين الافتراضين يدفعان للتطلع إلى مستقبل العلاقة بين المنظومتين، فلئن كان من الواضح أن التشرنق يعد ظاهرة جديدة وجدية في عالم اليوم، فإن المستقبل يبدو تصادميا بشكل يسمح بتراجع قيم التعايش على المستويات الكبرى من قبل البنى الاجتماعية الصغرى في عالم يعج بالتناقضات الهوياتية.

وبذلك، يكون الإشكال الرئيس الذي يدور حوله البحث هو فرص التعايش والتصادم، انطلاقا من المقومات الثقافية للعودة إلى الهويات في المنظومتين الغربية والإسلامية، مع الاهتمام بالعالم العربي كعينة للدراسة.

ويتفرع هذا البحث بذلك، إلى:

أولا: بنية الكراهية في الفكر والممارسة بين اليمين الأوروبي والخطاب الإسلامي العنيف

ثانيا: مستقبل التعايش الصعب؛ الإسلام غير المناسب والإسلام العنيف

أولا: بنية الكراهية في الفكر والممارسة بين اليمين الأوروبي والخطاب الإسلامي العنيف

يصعب تركيز البحث والدراسة في شق سياسي صرف ارتباطا بمفهوم اليمين الهوياتي الأوروبي[2]، الذي يسمى أيضا يمينا متطرفا، أو يمينا وطنيا، أو يمينا أوروبيا جديدا[3]، ولاسيما مقاربته كظاهرة انتخابية صرفة، فهو أعمق بذلك بكثير. اليمين الهوياتي الأوروبي هو انعكاس ثقافي صرف مرتبط بقناعات سلوكية على مستويات الممارسة المتعددة، يعد السياسي جزءا منها وأحد تجلياتها وليس منتهاها، وهو يمين لا يمكن جمعه على المستوى الجغرافي في أوروبا إلا من الناحية المجالية أو الجغرافية، ذلك أنه متعدد ولا يقوم على نفس الأسس ويتباعد أحيانا في التصور والموقف. إنه مجموعة أصبحت تعبر بطريقة سياسية أكثر منذ ظهورها عقب محطات متعددة بعد الحرب العالمية الثانية، وتقوم على افتراض وجود مجال مجتمعي حي؛ أي إن المجتمع كائن حي، وبالتالي فالأولوية للوطني على حساب أية جهة أخرى، وتتغذى وتقوم على نقط أساسية أبرزها مطلب التنظيم والليبرالية بشكل يختلف عن النموذج التاريخي المتوافق عليه بعد الحرب العالمية الثانية اعتبارا لأولوية دور الدولة، وكذا رفض الهجرة أو بمعنى آخر تعدد الهويات والثقافات.

لدى اليمين الهوياتي مؤشران كبيران يقوم عليهما، ويستعملهما استعمالا متكررا بعيدا عن النماذج المتفردة على مستوى كل دولة؛ المؤشر الأول هو المنطلق الثقافي الذي يعد محددا للانتماء، والذي تعد الدولة محوره لكن في الأصل هو مرتكز بناء هذه الدولة، وبذلك فالمؤشر الثقافي الذاتي هو محور الوجود، وبه يتم التمييز مع الآخر الذي يمكن أن يدنس نقاء الانتماء وصفاء الولاء للدولة من خلال ذلك.

أما المؤشر الثاني، فهو عبارة عن محرار يعد عاملا لتفوق العامل الأول أي العامل الثقافي، وهو مؤشر مادي صرف، أو بالأحرى مؤشر تنموي اقتصادي، ذلك أن هذا اليمين هو بديل تنموي أيضا، يجمع بين النقاء الهوياتي والاستئثار بالتنمية؛ أي إن فشل المشروع الوحدوي جزء من قوة المشروع الهوياتي، ومن هنا يفسر العداء الكبير لأوروبا الموحدة، والإبقاء على روابط تقليدية للفصل بعيدا عن العمل المشترك الذي يمكن أن يجمعها، باعتبارها كتلة متجانسة ساعية نحو الوحدة. إن المؤشر الاقتصادي عامل أساس للتعرف على المحددات التي من خلالها يمكن أن يقع فيها الانتقال من الوضع الوحدوي إلى الوضع الهوياتي الدولتي؛ أي ارتباطا بالأزمة الاقتصادية والمالية نفسها، وهو تفسير تقليدي لظاهرة التطرف عموما، ذلك أن التشرنق على الذات هو رد فعل طبيعي من ظاهرة الخوف من المجهول المرتبط بعدم الثقة في الأداء الاقتصادي عموما.

تجليات الهوية الثقافية في خطاب اليمين الهوياتي الجديد الأوروبي لها أسس خاصة، وتستهدف فئتين اثنين؛ فئة المهاجرين عموما، وفئة المسلمين والإسلام كمحور للعداء.

1- أسس الخطاب: الآخر، القومية والوطنية

يمكن التساؤل أولا هل خطاب اليمين عنصري، وهل يحتوي على قدر من الكراهية، وهل هو تعبير خفي عن تدرج في ترتيب المجتمع بناء على خلفيات إثنية أو مرجعيات مشابهة، بمعنى الطائفية المتفوقة؟

يمكن البدء بمفهوم القومية التي تطالب بها المجموعات الألمانية والفرنسية اليمينية بقوتها المستمدة من مجموعة متنوعة من المفاهيم التي تغطيها. العنصر الرئيس الذي يجمع جميع الشعارات أو مقترحات هذه الأحزاب هو القومية المتطرفة التي تجمع بالفعل بين الإحساس التقليدي للأمة، بناء على رؤية الأحزاب اليمينية منها وموضوعات أوروبا في التأصيل والتراث، مع المفاهيم العضوية وبما له علاقة بالأنثروبولوجي أو الأصلي (Raciological). هذه المفاهيم، التي تبدو واضحة في خطاب الجماعات النازية أو ذات الرؤوس الحليقة، يمكن اكتشافها بسهولة في برامج الأحزاب ذات الخلفية القانونية، على الرغم من العمليات الخطابية المتمثلة في تعبير المصطلحات والاستبدال المعجمي (التصريحات العنصرية تتحول إلى عبارات "تفاضلية"). مع هذا التعبير بين ما يسمى القومية الكلاسيكية، الحامل بالفعل للإقصاء، والقومية المختلطة - الأيديولوجية أو القومية العنصرية المناهضة للحق في الاختلاف؛ فللخطاب المتطرف سجل واسع، ويرتوي من الدوائر التي كانت مقيدة ومحصورة حتى الآن.

إننا لا نريد أن نعود إلى النقاش السابق حول الهوية الوطنية، بل التمعن في القومية الجديدة القديمة لليمين الهوياتي، حيث يبدو أن الخطاب يتسع في اتجاهين، يتكاملان في الحقيقة رغم وجود حواجز قانونية في الخطاب السياسي، والذي كثيرا ما يتم تجاوزه أيضا، وهو خطاب قومي عنيف وفيه قدر غير محتمل من الكراهية تصرف في الغالب تجاه فئات اجتماعية هي من منظومة الدولة بمفهوم المواطنة، وليس بمفهوم القومية.

توضح الإستراتيجية الخطابية للجبهة الوطنية السابقة، أو حزب التجمع الوطني الفرنسي، تماما هذه الظاهرة المتمثلة في إطلاق الاختلاف والتطرف في الدفاع عن الهوية الوطنية. في البداية، تم تعريف الأمة في عناصرها التأسيسية وفقا لمركزية إثنية ترسم إشاراتها في نوع من التوفيق بين أعمال باريز Barrès وتين Taine ورينان Renan، الأمة، تبعا لذلك إذن، هي "كائن حي كامل يدمج بين الماضي والموت والحاضر والمعيشة والمستقبل ووعوده"، أو حتى "أرض آبائنا، الأرض التي تم تطهيرها والدفاع عنها على طول قرون، وتشكلت البلاد في مناظرها الطبيعية، ومدنها، ولغتها، وتاريخها المخصب من خلال جهودها، المخصبة بعرقهم ودمائهم". أو مجتمع القدرة القائم على ذاكرة جماعية متجانسة وتراث ثقافي، والأمّة ليست، في هذه المرحلة، كيانا مغلقا بإحكام.

من المسلّم به أن الجبهة الوطنية تمسك بالتجانس من أجل تبريرات مصطنعة وتعارض "الفعل الذبيحة: أو سفك الدم"، رغم أن الفعلين معا يمكن أن يكونا متجانسين لاعتبارات يمكن أن تحرك الأول في اتجاه الثاني، فلا أحد يستطيع أن يعرف المدى الذي يمكن أن تتخلص فيه الكراهية من فعل دموي أو أن ترتبط به. ويضيف الخطاب اليميني الهوياتي تصريحات متكررة حول "الدم" بمعنى الانتساب، و"الغريب"، حسب هذا الخطاب دائما يصبح فرنسيا "ليس بالدم الذي يتم استلامه بل بالدم المعطى"؛ أي إن الدولة تضحي من أجل أشخاص لا يستحقون ربما الوضع الذي يوجدون فيه باعتبارهم مواطنين. ويستمر هذا الخطاب موجّها سهامه لطقوس توحيد الوطن لأبنائه. ومع ذلك، يعتقد عن صواب أو عن خطأ، أنه يتم دعم الهوية الوطنية، في جرعات محدودة، لوصول الأجانب إلى المجتمع الأصلي شريطة أن يقبلوا الاستيعاب أو الاندماج: "أن يصبحوا فرنسيين بالكامل أو يغادروا، ولقد فشلوا في الموت من أجل الوطن الأم". لمعرفة فرنسا وحبّها واعتماد قيمها وقانونها المدني، لا تستبعد أن تظل مخلصة لأصولها وتقاليدها إذا كانت لا تتعارض مع القواعد القانون الثقافي والفرنسي"[4].

إن هذا الخطاب العنيف يمكن أن يكون بدائيا، وهو كذلك، لا بد أنه انتقل مع الخوض الفعلي في الساحة السياسية لفرنسا، باعتبارها نموذجا، ويمكن أن يكون قد أصبح أكثر تزكية لمفهوم العرق و"الدم"، لكن في كل حال هناك قومية لا يمكن أن يتخلص منها اليمين الهوياتي، لأنها أساس وجوده السياسي وأساس ازدهاره كذلك، إلى حين أخذ زمام الأمور نحو مسار خاص مرتبط بالآخر الذي يجب أن تضاف له شروط خاصة غير تلك الخاصة بالمواطنة، شروط خاصة بالقومية والانتماء إليها والولاء لها على الأقل.

هناك تعدٍّ صارخ على مفاهيم الدولة الوطنية، بمعنى أن هناك اعتداء على قيم الجمهوريات أو المؤسسات كيفما كانت، لكن هل يبدو أن هذا الاعتداء مشروع نوعا ما؟

نعم، لأن هناك تباينا صارخا لقيم القومية حتى من قبل أحزاب "أقل يمينية"، هناك سعي وتكالب لاستمالة الناخبين من أجل تثبيت الأفكار المتناسبة مع القوميات وليس مع الجمهوريات.

بهذا المفهوم، والذي يتماشى جزئيا فقط مع الأيديولوجية الجمهورية، يتم استبداله تدريجيا بمزج رهابي خالص وبسيط. في البداية، تعتبر فئات معينة من الأجانب غير قابلة للتعويض بطبيعتها، هؤلاء "من العالم الثالث" بسبب "خصوصياتهم الدينية-الثقافية". وبعد ذلك، يفسح الخطاب حول التراث التاريخي والثقافي الطريق لتمجيد روابط الدم، بينما يتحول الاعتراف بتنوع الكائنات إلى حجة شبه بيولوجية حول التسلسل الهرمي للأجناس.[5]

هل يحمل اليمين مشروعا مناهضا للجمهورية، أو للدولة الوطنية القابلة للاندماج، لأن الدول الأوروبية التي استطاعت أن تبني الفضاء الاندماجي الأوروبي هي محط تهديد من هذا اليمين، لأنها جعلت السيادة تمتد خارج حدودها، وهي بذلك كسرت مفهوم القومية التي تبنى عليها قيم اليمين الهوياتي، السيادة لا يجب أن تتجاوز المحيط الداخلي المبني على الفئوية الضيقة المنغمسة في مشروع داخلي قومي خالص.

إنها الدولة القومية ضد الدولة الوطنية، تشكيل جديد في خضم أزمة الديمقراطية الغربية والنموذج التنموي الليبرالي في ظل الأزمة الاقتصادية، وهذا يعني أن اليمين الهوياتي ينتعش من خلال مصدرين؛ الأول اقتصادي تنموي، والثاني سياسي مرتبط بأزمة الديمقراطية الغربية[6].

ومن هنا جاءت ضرورة لفظ الآخر المهاجر، ويتم التعبير عن ذلك بطرق ووسائل متعددة، لكنها تحاول في كل مرة أن تستبعد البعد العنصري الصرف. إنها محاولة يائسة لتمرير فكرة الذاتي على حساب المبدأ العام الذي يتعارض مع الكراهية، كراهية الأجانب، باعتبارهم قوم لا يمكن أن يتم استيعابهم ثقافيا في الدولة القومية، وذلك كله بادعاء أن للأمر علاقة بما هو اقتصادي أو تنموي.

تمرّ المعركة من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية عبر رفض الاختلاط[7]. إنها بنية من النقاء تمتد على المستويات الجغرافية القومية التي تشكل الوحدة، والتي لا يمكن أن تمتد إلى أكثر من الدولة الوطنية نفسها، ومن ذلك جاء العداء لأوروبا الموحدة أيضا.

تؤكد العديد من الأمثلة أن الخطاب القومي "الشعبوي"، الذي يتم تقديمه على أنه تعبير بسيط عن "الفطرة السليمة" الشعبية وليس له أي غرض سوى الدفاع عن مصالح المواطنين (الفرنسيين مثلا)، أنه يؤدي إلى أصولية الهوية، القائمة على "العنصرية المناهضة للفرنسية" وعلى "رد الفعل للدفاع عن النفس" ضد الغمر/ التخريب. ويمكن العثور على نفس التناقض في دعاية يمينيي جمهورية التشيك، على الرغم من الجهود التي بذلها في السابق Waffen SS Franz Schönhuber لاحترام حركته وكسره، على الأقل ظاهريا، بخطاب رفضه الرأي العام الألماني بشدة... ولكن، هذا الموقف جعله يواجه تحدّيا من جانب بعض مندوبي حزب REP))، حيث لم ينجحوا في توحيد ناخبيهم، وتخفي هذه الإستراتيجية الخطابية ذكريات مريبة بشكل سيّء منها بنية التشكيلات اليمينية المتطرفة؛ أي برنامجهم.

وباتباع مثال "جان ماري لوبان"، رفض "فرانز شونهوبر" دائما أن يتم تصنيفه في أقصى اليمين، علامة يعتقد أنه ستنطبق فقط على أحزاب DVU أو NPD، ويعتبر أن الممثلين يعبرون عن "حق وطني ووطني وليبرالي، له اهتمامات اجتماعية وبيئية ذات أولوية"، مع التركيز على تمجيد القيم الألمانية، وعلى إعادة تقييم مسؤولية ألمانيا في اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتجنب بعناية أية إشارة مباشرة إلى الأساطير الآرية، فإن خطاب هذه الاتجاهات يحتوي على عناصر تشير إلى تصور العضوية الأنثروبولوجية Raciological للأمة. لذا يؤمن "فرانز شونهوبر" بالكفاح من أجل "إدامة الشعب الألماني من أجل الحفاظ على صحة البشر والبيئة" و"الصحة البدنية والمعنوية والروحية للشباب الألماني". علاوة على ذلك، في حجته ضد الهجرة، لا يتردد في تقديم مفاهيم حول الشعب Völk و[8]Völk und Staat باستمرار. وبالتالي الاشتراك في معظم المذهب العقائدي لليمين الجديد (معاداة المساواة، بيولوجيا المجتمع، تثمين التراث الهندي-الأوروبي، المحافظة). وأخيرا، مثل الجبهة الوطنية الفرنسية السابقة، يستفيد المندوبون اليمينيون من تخيلات الهوية والذهان الأمني​​، والتي يترجمونها إلى صور ذات تأثير رمزي وعاطفي قوي[9].

هذه الصور المعبرة عن الهوية تجعل من شبه المستحيل قبول الاختلاط بين الفئات، وليس بين الجماعات البشرية المختلفة كما يتصورها اليمين الهوياتي الأوروبي الجديد، لكن ليس كل اليمين الأوروبي له مواقف عملية متشابهة من مفهوم القومية وامتداداتها النفسية والتاريخية، هناك تباين على مستوى الممارسة، لأن الخطاب يصعب أن يكون عقلانيا لاعتبارات انتخابية وسياسية عامة. وتعتبر الحركات اليمينية السياسية تعبيرا أقل تطرفا في علاقتها بهذه الخصوصيات الهوياتية المنافية لوجود بدائل إثنية على مستوى القارة، هناك امتعاض من تعاظم فرص نجاح الاختلاط أو حتى الاندماج، وهناك من يرفض أن تستفيد الحرية من إمكانية الانتقال نحو مجتمعات لا وجود فيه للبنية الاجتماعية التقليدية، وهنا تتباين التوجهات والاتجاهات.

من جانب آخر، أحيانا يكون التمييز بين الحركات اليمينية والأحزاب اليمينية الهوياتية أمرا ضروريا على مستوى الخطاب على الأقل، لكن لا يمكن إثبات الاختلاف بين الطرفين، سواء في اتجاه التوحيد أو في اتجاه الفصل، فالحركات غير الحزبية أكثر حرية، وبالتالي فإنها تجد مجالا أوسع للتعبير عن الموقف من الأجانب، بالمعنى الذي يجعل الأجنبي منافيا للتصور الذاتي المتشرنق المنزعج من التواصل أو التغيير أو الانفتاح[10].

الخطاب السياسي له أهداف معينة، والتساؤل حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه خطاب "الكراهية" العام أو خطاب "الانتقاء" الخاص بالمجموعات الهوياتية الأوروبية، سؤال مهم، فهل هو مسار داخلي بمعنى أنه غير تدخلي، أم إنه مسار له أفق توسعي، حيث يتناسب مع الحركة الاستعمارية التي بدأت إبان القرن التاسع عشر، واستمرت إلى النصف الثاني من القرن العشرين، معطلة بنية إنسانية جامعة على حساب مصالح محددة لقوى أكثر قوة من الناحية العسكرية؟

إن الجواب قد يبدو واضحا، لكن في النسق العام الإنساني هناك مساران متلازمان؛ الأول يعبر عن تكامل والثاني عن تفاضل، والنتائج التي تنجم عن كليهما هي تبعات تستجيب للمحددات الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية أيضا، وهو أمر لا يستبعد معه أن تكون الظروف مناسبة، مع امتلاك قوة عسكرية غير عادية، للتوجه نحو "تنقية" بناء على أسس هوياتية، هي فرص للتجابه والصّراع على الأقل في عالم يعرف أزمة مفاهيم، ويتراجع بقوة نحو القيم التقليدية للتجمع وإنشاء مجتمعات.

في أوروبا اليوم[11]، وربما بقدر متناغم مع فضاء "غربي" عام متناسب وملائم، يتمثل في القوة الأمريكية الحالية، والتي لا زالت تحوز قيم التفوق منذ نهاية الحرب الكبرى الثانية أواسط القرن العشرين، تتجه مسارات واتجاهات المجابهات نحو أفضية أخرى متنافية مع القيم "الغربية" التي تحوز قدرا من القداسة في المتخيل ذي المرجعية الهوياتية، وهو أمر تعززه انتكاسة المفاهيم التقليدية التي كانت محورا عالميا قبل أن تتراجع أمام قيم ذاتية ضيقة، وعلى رأس هذه القيم العالمية قيمة العيش المشترك أو المشترك الإنساني. إن ذلك نتيجة أيضا لترهل مفهوم ومستقبل الديمقراطية كبنية سياسية جامعة، وهو أمر يحيك بمستقبل العالم نسجا قد تكون قاتمة ومظلمة.

إن العداء للآخر والأجنبي قد يكون جوابا مبسطا على قضايا مرتبطة بالرفاهية والوضع الاقتصادي[12] وفقدان التفوق الاستراتيجي المحسوس من خلال تدني المستوى المعيشي "للأصليين" على حساب "الآخرين" أو الوافدين، لكن ذلك بالنسبة إلى اليمين، رغم بساطته الشديدة قد يكون مضللا بشكل لافت، لأن الخطاب يتجاوز البعد الذاتي أو المحلي باعتبارهم آخرين وافدين، ليصل إلى مستوى الحفاظ على الرفاهية، وهذا يستتبع تصورات أخرى للاستغلال باسم الهوية، عرفه العالم باسم الاستعمار "الغربي"، ويمكن أن يتنكر في أشكال استغلالية متعددة وجديدة.

كما أن انعدام الأمن في المناطق الحضرية يعد أحد النقاط الرئيسة في الخطاب الذي يدعو إلى كره الأجانب ضد الهجرة والاندماج، حيث تجتر جميع الأحزاب اليمينية "المتطرفة" مرارا وتكرارا نفس الثالوث المتمثل في "الجنوح وانعدام الأمن والهجرة". وتسعى هذه الأطراف إلى إثبات وجود صلة سببية بين الزيادة في الهجرة وتزايد الجريمة، وبالتالي تنشأ كدعاية للنظام والأمن، وتؤيد سياسة عدم التسامح "ضد الهجرة والجنوح".

لكن في الحقيقة هذا موضوع قديم، موروث من فاشية فترة ما بين الحرب، التي استخدمت الخوف من الصراعات العمالية وصعود الشيوعية لتعبئة قطاعات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة الحجم لصالحهم. وتقديم الترياق "للفوضى والثورة"، مثل أحزاب "القانون والنظام". لقد تم ببساطة استبدال العدو الشيوعي والخوف من الثورة في خطابات وخيال اليمين المتطرف الجديد بالهجرة والجنوح. عدو يقوم بتعبئة جمهور كامل من الناخبين المتأثرين بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية، ويخشى من التغيرات المتسارعة للعولمة الرأسمالية[13].

إضافة إلى هذا العامل المهيج، والذي يجد له صدى في صناديق الاقتراع، يعد الفعل المنافي لما يمكن أن يكون "اندماجا" بالفهم الطبيعي للكلمة في مجتمعات "غربية" ذات نمط ثقافي خاص فعلا مساعدا على تقديم صورة نمطية للمهاجر والآخر بصفة عامة، حيث توجد بيئة سوء فهم واسعة لتمطيط قيم اليمين الهوياتي الجديد، رغم أن المسؤولية في عدم القدرة على الاندماج يمكن أن تكون مسؤولية مشتركة اعتبارا للأنماط الإقصائية المتعددة التي تتضمنها منظومات حكومية وغير حكومية في الوسط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للدول الغربية[14].

وفي هذا الخضم، يمكن طرح إشكالية العلاقة بين الدولة، وبين الهوية في مستوى قانوني صرف، وهو الجنسية، حيث إن الكثير من الحكومات ذات النزعة اليمينية، أو في إطار التصعيد ضد اليمين الهوياتي، تجنح نحو حسب الجنسية من المواطنين الذين يتورّطون في أعمال إرهابية.

الحقيقة أنه يصعب استيعاب فكرة سحب الجنسية وتبعاتها من دول لطالما دافعت عن حقوق الإنسان، واستطاعت أن تصل إلى مستويات جدّ دقيقة في هذا المستوى، لكنها لا زالت تفكر في سحق حق أساسي له تبعات قانونية وسياسية واجتماعية خطيرة، وطبعا لا يتعلق الأمر بتفهم للفعل الإرهابي كيفما كانت صيغته، لكن بكيفية محاربته المتمثلة في سحب الجنسية، وهي تعبير واضح عن انشطار قيم الحقوق بين مستويين من المواطنة؛ المواطنة الأصلية، والمواطنة المكتسبة.

لقد سارعت الكثير من الهيئات السياسية لدحض اللجوء إلى سحب الجنسية، لكنها تشبه عقوبة شنق العبيد الفارين من "أسيادهم" في مراحل تاريخية سابقة، حيث كان يبدو الدفاع عن إبقائهم على قيد الحياة مجرد عبث في بيئة نفسية واجتماعية مجمعة على كون الفعل هو عين الصواب.

وحتى محاولات الدفاع عن الحق في الجنسية والاحتفاظ بها في خضم صعود متزايد للقوى اليمينية أصبحت خجولة وغير متوازنة ومترددة.[15]

يمكن أن يعبر عن أشكال كثيرة من الانشطار في المجتمعات الأوروبية ذات النزعة الهوياتية، ويبقى من تعابير ذلك أن يتم التشبث بالمنطق الاقتصادي فيما يخص المشاكل التي تربط بين خطاب اليمين بمسألة التعدد الهوياتي، لكن ذلك يبدو ضعيفا في تحديده جوهر المشكل الذي يبدو أنه يتناسل مع قيم ثقافية عميقة، هناك أعمال عنف وقتل أحيانا باسم الهوية واسترجاع المعطيات وقراءة متجددة للتاريخ في حرب يبدو أنها اندلعت على مستويات أقل من أن تستعمل فيها الدول الوطنية، لكن الانتقال من الفعل الخاص إلى فعل الدولة سيكون حتما بانتقال السلطة إلى هذه المجموعات ذات النظرة المتعمقة في الذاتية تجاه الآخر، والتي يلعب فيها الدين دورا محوريا، أو استعاد مكانته في هذه اللعبة.[16]

2- خطاب الإسلام العنيف: فرصة معززي التباعد

أحيانا يصعب الإقرار بواقع الخطاب العنيف الذي يتشكل من خلال بنية تنسب للدين الإسلامي، لكنها في الحقيقة أمر واقع، وهي موجهة في اتجاهات متعددة منها:

- ما هو تكفيري خاص بالمنتسبين للدين أنفسهم، حيث لا يستوعب المخاطِب فرص ومجالات الاختلاف في فهم فقه وعقيدة الإسلام؛ أي إن هذا المستوى هو نوع من الانغلاق في الفكرة، وتجسد حركات ذات نزعة ماضوية هذا التوجه، وتنسب تعسفا للسلف، فتدعى أحيانا، من بين ما تدعى به، السلفية.

- وفي هذه البنية، يكون أصل الخلاف سياسيا في الغالب، لكنه لا بد أن يتأطر بالغلاف الفكري الفقهي للدفاع عن فكرة التفرد، المرتبطة في جوهرها بفكرة ممارسة السلطة، وهي منظومة تدخل نظريا في جانب الفتنة أو الصراع الداخلي الإسلامي، لكن الخطاب يتمتع بقدر كبير من الكراهية والتقابل في مستويات متعددة منها:

+ مستوى المذهب

+ مستوى الانتماء العقدي

+ مستوى الأحزاب والطوائف

عموما، يبدو أن مستوى التعايش تبعا لبنية المؤسسات التابعة للدولة ضعيف في منظومة تقوم على الولاء للديني على حساب الوفاء للمواطنة؛ ففي مصر مثلا، كانت هناك دعوات كثيرة، مع تصاعد التنافر بين الحركات الإسلامية والدولة، إلى تبني مفاهيم تغيب الانتماء للوطن على حساب الفهم السلفي للعقيدة الإسلامية، وهكذا مثلا، وجدت فتاوى تشير إلى ضرورة تقديم الجزية من مسيحيي مصر، وكذا عدم الإشراك في الجيش المصري، وهي دعوات تنم عن وفاء منفرد للمجموعات ذات الفهم الخاص للدين على حساب قيم الدولة والمواطنة.

تكفير الآخر غير المسلم، الذي ينبع عنه الدعوة لفكرة الجهاد، والتي تعد أساس التصادم المادي الحديث في بنية تتسم بالتعدد الفكري في الجانب الإسلامي، والانفلات من القيود المؤسساتية نظرا لضعف مؤسسات الدولة في الكثير من المجالات الإسلامية.

تتلازم ثنائية دار الإسلام ودار الكفر، باعتبارها الأصل النظري لتفسير الجهاد ضد "الكفار"، مع ثنائية مماثلة هي دار السلم ودار الحرب، وقد أثر بشكل كبير هذا الطرح الفقهي على تحليل العلاقات الخارجية في نسق السلطة في الثقافة الإسلامية، لأنها مرتبطة بالغزو والحرب أكثر من ارتباطها بمفاهيم سياسية أقل استعمالا للقوة؛ فدار الإسلام، بالفهم الجامد لها، لا يجوز فيها الحرب وهي دار سلم. أما دار الكفر، فهي مجال مفتوح للفتح أو الحرب. وقد ذهب معظم من قارب مفهوم العلاقات بين الأمم من الباحثين في المسلمين إلى تبني الفكرة بطريقة مباشرة لا اجتهاد فيها، وهي قائمة في هذا التصور على بديهيات مستوحاة من النص القرآني.

ومن ذلك مثلا التركيز على ما جاء في القرآن والسنة وتبنيهما بطريقة لا تراعي التحول لا في الزمان ولا المكان، ولا في مسار الفكر الإنساني، ويرى الكثير من الفقه السني والإسلامي عموما، أنه لا يمكن الاختلاف في تقسيم العالم إلى دارين دار إسلام ودار كفر، وهذا التقسيم تقسيم أصيل مبني على كتاب الله وسنة رسول الله.

والحقيقة أن هذه البديهية، قد أثرت بشكل كبير على الموقف العام من "غير المسلم" وبلاد غير المسلمين، ولا شك أنها تحتاج إلى تمحيص أكبر.

تعبير "الدار" دليل على غموض في تحديد المفهوم المكاني للمجال في هذا التصور؛ فنظرا لظهوره المبكر في التراث الإسلامي استعصى على المسلمين تكييف المجال بالدولة أم الأمة أو غيرها من المفاهيم المشابهة، لكن مفهوم الدار يشير إلى عدة خصائص:

+ عنصر الاستقرار والثبات، حيث الدار مكان ثابت لا ينتقل أو يتحول يأتمر بمجموعة من الضوابط الاجتماعية والثقافية التي تؤطر السير الطبيعي له؛

+ عنصر السلطوية التي تتمثل مثلا في الأسرة، باعتبارها محاكاة لمفهوم الدار في السلطة الأبوية أو الولاية التي يأتيها شخص على باقي الأفراد، وطبيعة السلطة التي تقوم على القيمة الإنسانية والترابط العاطفي، وليس فقط عامل المصلحة الذاتية في توافقاتها وعدمها في إطار الدولة مثلا؛

+ عنصر الحميمية في إطار قيم اجتماعية الذي يعتبر أن الدار كنف متناغم ومنسجم لثبات التأثيرات المتحكمة فيه؛

+ عنصر الاستقلالية الذي يضمن للدار خصوصية، لا يمكن انتهاكها إلا بالأساليب غير السلمية.

وقد اختلفت الرؤى الفقهية الإسلامية حسب طبيعة المهام التي تأتيها "الدار" من زاويتين:

+ زاوية عقدية؛ تعتبر أن دار الإسلام مرتبطة بطبيعة التصرفات التي يؤتى بها، باعتبار أن هذه التصرفات تنم عن الإسلام حتى لو كان أغلب ساكنيها غير مسلمين، والعبرة في دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جل أهلها من الكفار، وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين[17].

+ زاوية سلطوية؛ ترى أن العبرة بوجود المسلمين بعيدا عن المستوى العقدي لهم؛ فدار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، أحكام أهل الذمة[18]. ويمكن أن تصير دار الكفر دار إسلام، حيث إنه "لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها".[19] وبنفس المنطق تخرج الدار من دار الإسلام وتدخل دار الكفر بشروط حددها بعض الفقهاء في ثلاثة شروط؛ أولها ظهور أحكام الكفر فيها، والثاني أن تكون متاخمة لدار الكفر، والثالث أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول، وهو أمان المسلمين[20].

إن الخطاب الإسلامي العنيف، نظريا وممارسة، يحمل في طياته أسس التقابل الحاد ضد الغرب أو "دار الكفر"، وهي إشكالات تمت معالجتها نظريا وتصوريا، لكنها لا زالت تعاني من صعوبة في تعميم المعاني والمفاهيم على المستوى الاجتماعي، نظرا لوجود العديد من الإشكالات الواقعية، ونظرا لتوافق ذلك مع مصالح على المستوى الاستراتيجي العام.

ثانيا: مستقبل التعايش الصعب؛ الإسلام غير المناسب والإسلام العنيف

لا يمكن تحديد الفاصل بين لفظ الأجنبي المهاجر ولفظ المسلم الأجنبي المهاجر في خطاب اليمين الهوياتي الأوروبي؛ فالفواصل بين الجانبين تبدو متداخلة إلى حد يصعب تحديد كل عامل منها تجاه الآخر، وفي هذا الخضم يمكن التساؤل عن الكيفية التي خلقت بها العداوة مع "الإسلام"، وعن البيئة الثقافية المناسبة لتفعيل العداء عمليا والغايات منه؟

الحاجة لعداء المسلم تختلف منهجيا وثقافيا واستراتيجيا عن حجج عداء الأجانب غير المسلمين عموما، ذلك أن العداوة على هذا المستوى تجد تأصيلا نظريا وتفسيرات متعددة، منذ أن كتبت ووجدت كتب تمجد القيم الليبرالية و"الغربية" بعد نهاية الحرب الباردة. ففي نهاية الحرب الباردة، احتاجت القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى عدو عالمي جديد ليحل محل الشيوعية، ولم يكن سوى الإسلام. لقد تم تطوير خطاب كامل يعرض العالم الإسلامي ككل متجانس ورجعي، غير قادر على التقدم نحو الحداثة، على عكس الغرب - أو جزء من الغرب – الذي تم تقديمه باعتباره الممثل الجدير الوحيد بـ "الحضارة". نظريات مثل "صراع الحضارات" صموئيل هنتنغتون، والتي لها تأثير كبير بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، تعرف الثقافة الإسلامية بأنها: "في كل مكان، والعلاقات بين المسلمين والشعوب كانت عدائية مع الحضارات الأخرى بشكل عام؛ فقد كانت معظم هذه العلاقات عنيفة في الماضي، وبعضها كان عنيفا في فترة التسعينيات، فكلما نظرنا في طريقنا عبر حدود الإسلام، يواجه المسلمون صعوبة في العيش بسلام مع أسرهم والجيران (...). إن حدود الإسلام دموية، وكذلك مناطقها وأقاليمها الداخلية".

وهذا المنطلق في فهم الحضارة يبدأ حسب هنتنغتون باعتبار أن: "الحضارة والثقافة كلاهما يشير إلى مجمل أسلوب الحياة لدى شعب ما، والحضارة هي الثقافة على نطاق أوسع وكلاهما يضم المعايير والقيم والمؤسسات وطرائق التفكير التي علقت عليها أجيال متعاقبة أهمية أساسية في مجتمع ما"[21].

إن الحواجز النظرية التي وضعت أمام كتلة واحدة، باعتبارها فهما نهائيا للإسلام شكل الثقافة "الغربية" المضادة له، وهذا دليل أن هناك فرقا بين الثقافة والحضارة، ذلك أن مزج الجانبين أدّى إلى خلق الأحكام الثابتة، بينما يمكن أن يصرف في الثقافة ما لا يمكن أن يصرف في الحضارة، حيث تبقى الحضارة مجالا مشتركا إنسانيا، بدل أن تتقوقع في انتماءات واختيارات ثقافية هي ضحية سوء قبول التنوّع أكثر مما هي محور للعداوة.

وبعيدا عن التبرير الخاص بالحضارات والثقافات، يبدو أن هناك جاهزية لفهم الواقع الأوروبي (الغربي) من خلال الآخر، هناك أزمات متعددة ويتم تصريفها في تقابلات خاصة مع الإسلام والأجانب مثلا، لكن لا يطرح أبدا موضوع بنية الحضارة "المتفوقة" ومستقبلها.

موضوع الحرب، أو العداء على الأقل، ضد الأسلمة، رغم أن مفهوم الأسلمة هو موضوع غير مطروح على المستوى الاجتماعي إلا في علاقته بالمستوى السلمي، فيصبح بذلك العداء إلى الإسلام أقرب إلى الحقيقة، العداء أو بمعنى آخر، رهاب الإسلام، هو موضوع موحد على نطاق واسع لدى اتجاهات عديدة في أوروبا والفضاء "الغربي" عمومًا. إنه في البداية اتحاد للتيارات القومية المختلفة القائمة على كره الأجانب و"الرجعية"، منها (الجبهة الوطنية وحزب الحرية وفلامس بيلانغ وليجا نورد وFPÖ والنمساوي BZÖ ...)، ولكن أيضا هناك الحركات المؤسسية أو مجموعات تتبنّى الأيديولوجية النازية الجديدة أو الفاشية بوضوح، والذين يدورون في دائرتهم.

يتم بناء الإسلاموفوبيا من خلال سلسلة من المغالطات؛ الأولى، هي استيعاب كل الممارسات الدينية في الإسلام العنيف والقديم، ويبدو واضحا أن هناك أزمة في تشكيل الثقافة "الغربية"، الثقافة هنا حسب طرح هنتغتون، والتي لم تستوعب فترات تاريخية، باعتبارها منضبطة لمفهوم الصراع التقليدي حول الريادة، وهو أمر لا يمكن اختزاله في العداء للإسلام، حيث إن الحرب كانت، ولمدة طويلة، بين المسيحيين فيما بينهم، أو حتى بين المسلمين، اتجاهات ومذاهب وطوائف، فيما بينهم. لقد تشكّل وعي خاطئ يبني تفسيراته على التاريخ، وينهل من الصراع مدّعيا واقعية في التحليل، لكن يبدو أن الخلل في "الأنا" المتضخمة لـ "الغرب" في نموذج تعليمي، أو ربما مستوى التنشئة العام اجتماعيا وسياسيا الذي يتنافى مع قيمة العيش المشترك، والتي تخول شرعية البحث عن مكامن التنافي والتضاد بين الاتجاهات المنتسبة إلى "الثقافة" الغربية، وتلك التي تنتسب إلى ثقافة "إسلامية".

التعبير عن الشمولية في رؤية الإسلام تعتبر عاملا أساسيا في القيم المؤسسة للعداء ضده، والحالة الأكثر بروزا هي صعود اليمين في دول الرخاء الأوروبي خاصة الشمالية منها، حيث يعد خطاب اليمين موجّها بشكل لافت إلى كون الدين الإسلامي يشكل، في كليته وبدون استثناء، هاجسا لاستمرار أو استقرار الثقافة "الغربية" المرتكزة على الأسس اليهودية المسيحية.

لقد احتفت العديد من دول شمال أوروبا، مثل السويد والدنمارك وهولندا، تاريخيا بدولة الرفاه، ومنذ فترة طويلة تعتبر نموذجًا يحتذى به في سياساتها المتعددة الثقافات واحترام حقوق المهاجرين، وكذلك السكان "الأصليين". على الرغم من هذا الإرث، على مدى العقد الماضي (بداية الألفية الثالثة ميلاديا)، كان هناك تحول تنازلي، تميز بظهور تشكيلات يمينية متطرفة ذات توجهات معادية للإسلام أو إسلاموفوبية قوية، منها الحالة الهولندية، حيث 8 ٪ من السكان يعتنقون العقيدة الإسلامية، فهي رمز لهذه الظاهرة بعد انتصار قائمة "بيم فورتوين" في انتخابات عام 2002. حزب سياسي يحصل، على الرغم من اغتيال زعيمه، على 17 ٪ من الأصوات ويشارك، حتى لو كان لبضعة أسابيع فقط، في السلطة في حكومة "يان بيتر بالكينيندي"، لقد مثل هذا الحدث الشرعية الرسمية لخطاب كره الإسلام والأجانب.[22]

إن أكبر تعبير عن شمولية الرؤية هي النّعت الذي يصرّ أن يلصقه الهوياتيون الغربيون بالدين الإسلامي في علاقته بالمسؤولية عن الإرهاب، حيث يصبح النعت هو "الإرهاب الإسلامي"، وهذا الإصرار على موازاة الإسلام بالإرهاب ليس عبثا، بل يصب في خانة التضخيم الذي يحدد المجالات الجغرافية للديانات، حيث يجب أن تستثني المجال "الغربي"، وتستقر في مجال "الجنوب" المتخلف. الإسلام بهذا المعنى، ليس فقط ديانة بل مجال العداء.

الثاني، يعرف الإسلام كدين أجنبي، غير قادر ثقافيا على الاندماج في أوروبا "المسيحية" أو "الليبرالية والحديثة"؛ ففي فرنسا مثلا، وهي نموذج فقط لصعوبة الاندماج، يبدو أن هناك حاجة ملحّة للربط بين إشكالات الهجرة والإسلام، يبدو أن الأمر يساعد على السّير بسرعة نحو الهدف الذي يبني عليه اليمين الهوياتي أطروحته؛ أي فكرة الانتقاء.

فإذا بقيت الهجرة في مركز خطابات الجبهة الوطنية الفرنسية (التجمع الوطني)، فإنها تعرض الآن على أنها تهديد خاص، لأنها تشمل المسلمين أو أنها مسلمة، هذا الخطاب يردد بقوة وموثوق به بسبب الإرهاب المنسوب للإسلام منذ الهجمات التي وقعت في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ومدريد (مارس/ آذار 2004)، ولندن (يوليو/ تموز 2005)، وحتى تلك التي مست فرنسا التي كانت في معزل عن ذلك بفضل الإجراء الفعال من DCRI (المديرية المركزية للمخابرات الداخلية وبتعاون مع مخابرات دول إسلامية لها صداقات تقليدية مع فرنسا)، ومع ذلك كان فرنسيون ضحايا في الخارج كرهائن للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي - النيجر، مالي)، وهو سياق يستغلّ دون خجل للإشارة إلى أن أيّ مسلم أو فرنسي أو أجنبي، يعدّ إسلاميا محتملا.

في هذا البلد دائما، مهما كانت طبيعة الهجرة، لأنها ظاهرة معروفة، نعلم أن الانخراط الاجتماعي أو الاندماج لا يتمّ دون عداء ووقت (أحيانا أكثر من جيلين)، وبذلك يعدّ الخطاب حول الاندماج المستحيل للمهاجرين المسلمين ملبّيا لصدى معين، وهو يزداد تفاقما بسبب تداخل المسلم / الإسلامي. لذلك، يمكننا أن نتخيّل أنه في البلدان التي تشكل فيها الهجرة ظاهرة حديثة نسبيا، يمكن أن يجد هذا الخطاب صدى أفضل. هذا هو الحال في البلدان الإسكندنافية أو في البلدان التي كانت بلدانا ينطلق منها المهاجرون، والتي أصبحت بلدان استقبال لهم مثل إيطاليا وإسبانيا[23].

إشكالية الإدماج الخاص بالمسلمين في الثقافة الأوروبية تحتاج إلى إعادة تركيب، ذلك أن المقصود بالثقافة هنا ليس المستوى المرتبط بالقناعات، بل بالمستوى الخاص بالممارسة؛ أي إن المطلوب ليس هو تحول تام لصالح العنصر الأوروبي، وهي في الحقيقة الخلفية التي تحكم الثقافة الأوروبية الاستعمارية، حيث لا يتم التفريق بين العمليتين، لأن الاستعمار الأوروبي لأمريكا تزامن والقضاء على الثقافات المحلية، ناهيك عن القضاء جينيا عن الوجود الأصلي للسكّان، لذلك يعتقد الكثير من الأوروبيين الهوياتيين أن الاحتفاظ بالدين كممارسة هو اعتداء على ثقافة أوروبا التقليدية، وهو أمر لا يساير طبيعة التطور نفسها، لكن مع ذلك يبقى للمسألة مجالات زمنية متراوحة للوصول إلى قدر من الاندماج، وهو ما يتم استغلاله بشكل يربط بين العقيدة الإسلامية والإرهاب.

والثالث يضيف الحرب المقدسة والتهديد الأمني ​​للإسلام، ويصبح "الإسلام" مرادفا للرجعية، والغزاة الأجانب ومضاعفة الإرهاب المحتمل.

تتشكل في الذهنية اليمينية "المتطرفة" علاقة تناسب بين الإسلام والإرهاب والرجعية، والحقيقة أن ذلك راجع إلى رؤية أحادية للصراعات التاريخية بين الفضاءين الإسلامي والمسيحي، والذي لا زال ينعكس في صور متعددة إلى اليوم، وهي متراوحة بين الشق العنيف بالنسبة إلى الحركات المتطرفة غير الممأسسة والعمل السياسي والقانون للأحزاب اليمينية التقليدية والهوياتية الجديدة في أوروبا، فعلى سبيل المثال، يتم التركيز أكثر على ما يسمى "مذابح الأرمن" ضد تركيا في العهد الذي تزامن سياسيا مع استمرار فوز حزب "العدالة والتنمية" التركي في الانتخابات، وكذا صعود الأحزاب اليمينية الهوياتية في أوروبا[24].

ويدخل في ذلك التوجه الكبير لإدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" نحو تجديد منافذ العداء للإسلام، باعتباره ديانة إرهاب، بإيعاز من الكثير من المستشارين والقوى السياسية ذات النزعة اليمينية المتطرفة أو الأقرب للفكرة الصهيونية، وهو ما يؤثر على العلاقة مع القواعد الاجتماعية مع التفوق الأمريكي، باعتباره امتدادًا للحرب الصّليبية، وهكذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية في يوليو/ تموز 2017 الإعلان عن شروط جديدة يجب أن يستوفيها مواطنو ستّ دول ذات غالبية مسلمة واللاجئون، منها وجوب أن تكون لديهم علاقات أسرية أو تجارية "قوية" في الولايات المتحدة، وذلك من أجل أن يحصلوا على تأشيرات دخول إلى البلاد، وهو أمر ينم عن إقصاء ممنهج بأبعاد إثنية أو عرقية أو دينية بشكل ينافي كل القيم التي عرفتها الولايات المتحدة منذ نشأتها، حتى اليوم.

يصعب تحديد الأسس التاريخية للعداء بين المنظمات اليمينية وما انسلخ منها من تيارات وأحزاب وبين الإسلام كدين؛ ففرضية الانتماء إلى معاداة السامية لا يمكن أن تختزل التحليل في هذا المستوى، لأن العلاقات بين هذه التوجهات والدين اليهودي بكل تجلّياته المادية والروحية في حالة انسجام، مما يعني أن الارتكاز على الحالة التي كانت تعيشها أوروبا مع النّازية والفاشية لا يجيب عن كل الأسئلة. ولذلك، فالكثير من مظاهر العداء على المستويات الحكومية أصبحت ظاهرة عادية تجاه الإسلام أو المسلمين في الكثير من الدول التي تريد أن تتشرنق ثقافيا ودينيا على نفسها، ومنها مثلا منع بناء الصوامع في سويسرا مثلا أو ظاهرة منع "البوركيني" أو لباس السباحة بالنسبة للمسلمات، أو غيرها من مظاهر استهداف ترتبط بالهوية العلمانية أحيانا للدولة أو بقناعاتها اليمينية الهوياتية أحيانا أخرى.

إن مسألة الهوية الدينية بالنسبة إلى اليمين الهوياتي الأوروبي، على الأقل، صعبة التحديد أو الربط بالمعطيات المسيحية التقليدية نظرا، لتصلب قيم علمانية في المجتمعات الأوروبية عمومًا، وخاصة منها الدول القارية التقليدية، لكن ذلك لا يعني انتفاء التأثير الذي يقوم به العنصر المسيحي في الهوية اليمينية الأوروبية الجديدة بطريقة تصاعدية، وتزايد خطاب الكراهية بناء على مقتضيات ذات خلفية دينية.

الحفاظ على نقاء الفكرة والنوع هو محرّك خلفي لليمين الهوياتي الجديد، رغم ادعاءات كونه بديلا سياسيا واقتصاديا، فإن ذلك لا يمكنه أن ينفي كون الخلاف الأصلي هو حول الثقافة، وتستعمل في ذلك كل الأساليب الممكنة للحفاظ على التميز الهوياتي مقابل المجموعات الأخرى، أو حتى التشكيلات السياسية المقابلة له.

ومن جانبها، تعدّ الثقافة الإسلامية التي تقدس العنف عاملاً مساعدًا على تفتيت التعايش المحتمل والصعب الذي كان متاحا في بيئة وبنية بعيدة عن تقديس الدين في المعاملات الاستراتيجية، وهو ما يعني التأهب للمجابهات على المستويات العسكرية والحضارية في هذه المنظومة، ومن احتمالات ذلك:

- الصدام داخل البيئة الإسلامية بين مختلف التوجهات الدينية والعقدية والمذهبية، حيث يعدّ الصراع حول مفهوم الإيمان والبعثة النبوية أول عامل من عوامل النشأة الخاصة لمفهوم الدارين (دار الإسلام ودار الحرب)، حيث بدأ الإشكال بالصراع الناشئ عن تثبيت الإسلام كديانة وتأسيس تبعاته المنهجية والممارسة العملية المرتبطة بكافة الجوانب، ولاسيما الجانب المالي المرتبط بالزكاة بعد وفاة النبي عليه السلام.

وقد كان من أعظم ما قام به الرسول عليه السلام توحيد القبائل والعرب على منطق واحد قائم على الإسلام، فلمّا توفي أصبح التهديد قائما ليس على الدعوة فقط، بل أيضا على أسس الدولة القادمة ومرتكزاتها، سواء الروحية أو المادية التي نتجت عن التعليمات التي يقوم عليها الدين الإسلامي.[25]

- الصدام العنيف مع ما يصطلح عليهم بالخارجين عن العقيدة، وهو صراع يمكن أن تتحمله الدول أيضا، كما يمكن أن يبقى حبيس التكتلات العنيفة ما دون الدول؛ إذ إن الدولة في الثقافة الإسلامية لا يمكن أن تحوز مشروعيتها، بعد أن حازت شرعية وجودها من تطور تاريخي ناتج عن تدافع بين قوى غير إسلامية غربية في أغلبها، إلا من تعاقد بين المجتمع والسلطة التي من المفترض أن تمثله، وهذه السلطة كانت على مر العصور غايتها هي تطبيق الشريعة وتحقيق الشوكة ونشر الدعوة، وإن كانت هذه الوظيفة الأخيرة هي أساس النزاع التي من خلاله تقوم وتتعاقب الدول في الثقافة الإسلامية، لذلك حرصت الدولة الحديثة على مصادرتها لصالحها.[26]

لقد أثرت السلطة في تصور الدولة وطبيعة الصراع والتدافع خارجيا؛ لقد كانت الثقافة الإسلامية نتيجة ربط فكرة كونية بالمجال الميداني؛ أي إن الدين كان يحتاج لإيصال الفكرة عن طريق العمل الخارجي الذي قامت به "الدولة الإسلامية" على مر العصور، ولقد كانت التفاصيل السياسية الداخلية مؤثرة على نسق إيصال الفكرة (الدعوة)، حيث النموذج السياسي أثر على المقاربة السلمية أو غير السلمية لذلك.

العالم يتجه إلى كثير من التنافر، وهو أمر يبدو أنه يقترب من الحتمية، وأصوات التعايش تتراجع تباعا لتفسح المجال لمدعي الكمال والقائمين عن الألوهية، وهو ما يعني أن المستقبل قاتم أمام هذا المد غير المسبوق، ومع الإمكانيات العسكرية والتقنية الكبيرة المتاحة في كل أنواع المجابهات المفترضة، ويبقى المنفذ الوحيد هو تعزيز التسامح والصدح به والإيمان بعمله الخارق لبقاء الإنسان في مستويات التواصل والتعارف بالمعاني القرآنية الجميلة.

[1] - نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 58

[2] - اخترنا تسميته بالهوياتي Identitaire / Identity بدل المتطرف Extrémiste / Extrimist، وذلك لكون هذا اليمين لا يظهر متطرفا إلا من خلال قضايا ومواقف يتبناها وليس بالنظر إلى جذوره الهوياتية المرتبطة بالدولة التي يرتكز عليها، بعيدا عن أي تقييم غير موضوعي آخر.

[3] - معجم La Rousse يعرف اليمين المتطرف بكونه: "مجموع الحركات التي ترتبط بالأيديولوجيا المعادية للثورات التقليدية، ورافضة أيضا لليبرالية والماركسية، بالإضافة لذلك تعتبر هذه الحركات اللجوء إلى العنف مسألة مشروعة لوضع نظام قوي".

[4] - مجموعة تصريحات مأخوذة من خطابات مختلفة منها:

- Programme du Front national, 1984, p. 12

- J.-M. Le Pen, Les Français d'abord, Paris, Carrère/Lafon, I984, p. 75-76

ذكره أيضا:

Arianne Chebel d'Appolonia, Les partis d'extrême droite et l'Europe, Les nationalismes et la construction européenne, La Revue, p 7

[5] - Programme du Front national, op. cit, p 117

ويستفيض اليمين الهوياتي في شرح الأمور بطريقة جينية خشنة لمفهوم الانتماء للأمة، حيث تتوارى قيم الوطنية أمام قيم الانتماء القومي والعرقي كقول جان ماري لوبان؛ إن هذا الاقتراح من نفس الترتيب مثل "لا أستطيع أن أقول أن سويسرا أكبر من الولايات المتحدة".

أو قوله:

"في هذا العالم حيث هناك أعراق مختلفة، ومجموعات عرقية مختلفة، وثقافات مختلفة، وأحيط علما بهذا التنوع (أو التنوعات) أنا بالطبع أميز بين البشر وبين الشعوب أو الأمم لا أستطيع أن أقول إن البانتو (Bantous) نفس المهارات الإثنولوجية مثل سكان كاليفورنيا لأن هذا يتناقض مع الواقع".

- idem.

[6] - يستتبع ذلك بالضرورة فتح نقاش حول أزمة الديمقراطية ومستقبل العالم في خضم تراجع قيم الديمقراطية الغربية، وهو موضوع لاحق في هذا البحث.

[7] - وهو الأمر الذي أوضحه "أندريه فيغيراس" André Figueras بوضوح في RLP-Hebdo، وهي دورية كانت تصدرها الجبهة الوطنية من سنة 1980 إلى سنة 1984، في شرح يربط بين السياسة والكيمياء، دلالة على الأبعاد العلمية للفصل العنصري في مخيلة اليمين اتجاه الأجانب: "إذا كان المرء يدمج آليا وميكانيكيا وإداريا جرعة عالية من مادة غريبة على مادة أساسية، طبيعيا وتاريخيا فرنسية، فإنها ستلفظ هذه المادة".

- RLP-Hebdo, 30 juin 1983

[8] - "الشعب والدولة"، جريدة يومية بلجيكية باللغة الهولندية تم تأسيسها في 15 نونبر/ تشرين الثاني 1936 لتأخذ محل جريدة De Schelde.

[9] - Cf. The week in Germany, 26janvier 1990

[10] - في نفس الاتجاه يمكن الحديث عن ضرورة التمييز بين "الجبهة الوطنية" (التجمع الوطني) وحركات النازيين الفرنسيين من جهة، وبين الجمهوريين الألمان Republikaner والجماعات الألمانية النازية الجديدة (Geselleschaft für biologische Anthropologie Eugenik und Verhaltensforsching، Freundiskreis Ulrich von Hutten، Hamburger) List für Ausländerstopp، National Sammlung، Deutsche Alternative / Die National Protestparteis)، من ناحية أخرى.

ويبدو أنه فيما يتعلق بموضوع الهوية الوطنية، يحدث تقارب واسع بين الطرفين.

راجع:

- Arianne Chebel d'Appolonia, op. cit, p 3

[11] - في مواجهة هذه القومية المتطرفة، فإن أوروبا نفسها في وضع ضعيف، على الرغم من أن لديها، مثل الدول الأعضاء في الاتحاد، مجموعة من الوسائل السياسية والقانونية والاقتصادية لعرقلة الظهور الأصولي للهوية والتنديد بالمنطق الإقصائي.

عن:

- Arianne Chebel d'Appolonia, op. cit, p 8

[12] - يرى البعض أن المواجهة تحولت بين القومية والشعبية وكره الأجانب إلى وصفة سياسية ناجحة في ظل سلسلة من الظروف المواتية.

راجع مثلا:

- M.U. Crespo, L. Sebastiani, J. Pastor, C. Aruzza, F. Mometti, J. Batou, R. Monzat, Droite extrême et extrême droite en Europe, Documents d'Etude de la Formation Léon Lesoil n°3 – Novembre 2010, p 2

وهناك من يرى أن هناك حاجة ملحمية للثقافة المتميزة:

راجع في ذلك:

- Martine Lignières-Cassou, Compte-rendu de la soirée libre-expression, Les Droites extrêmes en Europe, Assemblée Nationale, 11 février 2016 – Billère, p 3

[13] - M.U. Crespo et autres, Op. cit, p 5

[14] - بالنسبة إلى فرنسا بأكملها: سبقت الانفراج الانتخابي لجبهة الجبهة الوطنية ارتفاعا حادا في الجنوح بين منتصف السبعينيات وعام 1983

ذكره:

Bernard Alidières, Les temps du vote Front national et de ses représentations, Hérodote, 2012/1 n° 144, p 22

[15] - تشير الجمعية إلى أن الدول الأعضاء في مجلس أوروبا تتمتع بشرعية السيادة لضمان الأمن على أراضيها، ولكن مجتمعاتنا الديمقراطية، لا يمكن أن يكون محمية فقط إذا كانت هذه التدابير لمكافحة الإرهاب تحترم سيادة القانون. وبما أن الحرمان من الجنسية، في سياق استراتيجيات مكافحة الإرهاب، هو تدبير قد يكون مصدرا للانقسام الاجتماعي، فقد يتعارض هذا الإجراء مع حقوق الإنسان، وفي كل حال، لا ينبغي أن يكون الحرمان من الجنسية ذا دوافع سياسية.

ورد في:

- Conseil de l’Europe, Assemblée parlementaire, Commission des questions juridiques et des droits de l’homme, La déchéance de nationalité comme mesure de lutte contre le terrorisme: une approche compatible avec les droits de l’homme ?, Rapporteur: Mme Tineke STRIK, Pays-Bas, Groupe des socialistes, démocrates et verts, Projets de résolution et de recommandation adoptés à l’unanimité par la commission le 13 décembre 2018, AS/Jur (2018) 49, p 1

[16] - الحاجة إلى الانتماء إلى الجماعة أو المجموعة الغربية ذات التاريخ الخاص تدفع فئات أقل تعلما ومعرفة إلى استعمال أدوات جد عنيفة، كما هو حال الهجوم على مسجدين في مدينة "كنيسة المسيح" النيوزيلاندية أدى إلى مقتل العشرات من المصلين المسلمين المهاجرين.

[17] - محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، المبسوط، دار المعرفة، بيروت، 1993، 144/10

[18] - محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ابن القيم)، تحقيق مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية، دار الهلال، بيروت، 1995، 266/1

[19] - أبو بكر بن مسعود الكاساني، بدائع الصنائع، دار الحديث، 2005

[20] - السرخسي، شرح كتاب السير الكبير، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002، 5/ 2197

[21] - صمويل ب. هنتنغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، تقديم، صلاح قنصوه، مكتب سطور للنشر، 1999، ص25

[22] - Luca Sebastiani, Les politiques migratoires en Europe et le pouvoir d'influence de l'extrême droite, In ; M.U. Crespo et autres, p 10

[23] - Béatrice Giblin, Extrême droite en Europe: une analyse géopolitique, Hérodote, 2012/1 (n° 144), p 5

[24] - أصدر الرئيس الفرنسي، في نهج يتقرب به من الأفكار اليمينية مرسوما رئاسيا يقضي باعتبار يوم 24 أبريل "يوم ذكرى إبادة الأرمن" ضمن قائمة الأيام الوطنية الفرنسية، وهو أمر يعقد فرص التواصل الحضاري بين المسلمين والأوروبيين التقليديين، حيث تلتزم حكومات ذات نفس يميني بالمقومات التي كان يقوم عليها صراع ما قبل الحرب الكبرى الأولى، وهو أمر يعزز الثقافة التي تربط بين الإسلام والإبادة والإرهاب والأعمال العنيفة.

[25] - راجع ما ورد في بعض كتب السيرة والفقه.

من ذلك مثلا: الماوردي، الحاوي الكبير، المرجع السابق، الجزء الرابع عشر، فصل: ذكر حوادث سنة إحدى عشرة تجهيز جيش أسامة، ص ص 91-92

[26] - التلاقي بين تفسير العقيدة وممارسة السلطة اتخذ أشكالا متعددة، من ذلك النقاش حول دور الدولة وعلاقتها بالسلطة والشريعة، ونستنبط من تصور محمد عابد الجابري حول تشكل المثقف في المرحلة الأولى من بناء الدولة وانتقالها من عصبية إلى أخرى؛ ويُحقب ذلك في ثلاثة محطات. المرجع نفسه، ص 79a