علم الآخرة ونهاية التاريخ


فئة :  مقالات

علم الآخرة ونهاية التاريخ

لقد شغلت فكرة الموت والانتقال إلى الآخرة معظم الحضارات البشرية القديمة، ولا يبدو أنّ الأمر يتعلّق فقط بهذه الحضارات، وإنّما يؤكّد بعض الباحثين أنّ الأديان ذاتها نشأت بدافع الخوف اللاّواعي من فكرة الوفاة والرغبة العميقة بوجود حياة أخرى بديلة، كما أنّ الفنون والآداب والأفكار العظيمة مدينة لهذه الفكرة المخيفة والضاربة في أعماق العقل البشري، إذ لولا الخوف من الموت ما كتب دانتي كوميدياه الإلهية، ولا رسم أنجلو لوحة يوم القيامة، ولا سمعنا بهيكل سليمان، ولا شاهدنا تاج محلّ أو أهرامات الجيزة، وبطبيعة الحال لا يمكن القول إنّ هذا الشعور اختفى في العصر الحديث، وإنّما حلّ محلّه تسمية الميادين وإقامة التماثيل وإبراز النصب التذكارية، بل وحتّى تحنيط الزعماء وإنشاء المكتبات الرئاسية كوجه عصري للخوف من الوفاة والنسيان والانتقال إلى عالم الآخرة، وفي ظلّ هذه الفوضى والخوف من الموت والآخرة، وما يسبقهما من حوادث تنبئ "بنهاية التاريخ" ظهر علم جديد يقوم على دراسة هذه الظواهر، إشباعا لرغبة الناس في معرفة ما سيكون قُبَيل وبعد هذه الحياة، هذا العلم هو الإسكاتولوجيا موضوع دراستنا هذه، والتي سنبيّن فيها مفهومه، وعلاقته بالأديان، ونظرته إلى المخلّص المنتظر وأحداث نهاية التاريخ.

فالإسكاتولوجيا (Eschatology)[1] هو اصطلاح برز خلال القرن التاسع عشر، مكوّنا من كلمتين يونانيّتين في الأصل: إسكاتوس (أو إسخاتوس) ومعناها "أخير"، و"لوغوس" ومعناه الكلمة أو الكلام، والمقصود به العلم المختصّ بالكلام في الأخرويّات، وهو يقوم على البحث في المسائل المتّصلة بنهاية العالم ومصير الإنسان ومآل النّفس البشريّة، والنّظر في يوم القيامة والحساب، وما يتبعه من عذاب في النّار أو نعيم في الجنّة. ويستعمل هذا الاصطلاح خاصّة لدى اللاهوتيّين أو علماء اللاهوت في بحثهم عن "الدّينونة الأخيرة" أو المصير الأخروي، أو الحالة الأخيرة أو الهيئة التي يتعيّن أن يستهلّ عليها اليوم الآخر (يوم القيامة)، حيث يعاقب المخطئون ويجازى الصالحون، ونجد مثل هذه الأفكار مفصّلة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ولكنّنا لا نعدم استعمالات أخرى لهذا المصطلح نظفر بها لدى عدد من الفلاسفة الذين يلجؤون إلى استخدام عبارات، مثل "الإسكاتولوجيا الكونية" و"الإسكاتولوجيا الأخلاقية"[2].

الإسكاتولوجيا هي العلم المختص بالكلام في الأخرويات.

ويعرّفه المسيري في موسوعته بالقول: "هو الفكر الأخروي، ويشار إليه في الإنجليزية بكلمة "إسكاتولوجي" من الكلمة اليونانية "إسكاتوس" ومعناها "آخر"، أو "بعد". ويشير المصطلح إلى المفاهيم والموضوعات والتعاليم الخاصّة بما سيحدث في آخر الزمان، وإلى العقائد الخاصّة بعودة الماشيَّح، والمحن التي ستحلّ بالبشرية بسبب شرورها، والصراع النهائي بين قوى الشرّ وقوى الخير (حرب يأجوج ومأجوج)، والخلاص النهائي، وعودة اليهود المنفيّين إلى أرض الميعاد، وإلى يوم الحساب، وخلود الروح، والبعث، وهي الموضوعات التي تظهر أساسا في كتب الرؤى التي تعود جذورها إلى الحضارات البابليّة والمصريّة والكنعانيّة، وخصوصا الفارسيّة الزرادشتيّة"[3].

فالإسكاتولوجيا هو مصطلح لاهوتي يطلق على علم الآخرة الذي هو جزء من علم اللاهوت، كما ينصّ على ذلك عبده الحلو في معجمه، محدّدا مجال بحثه إذ يقول: وهو" يبحث في أمر الآخرة إن بالنسبة إلى الإنسان أو بالنسبة إلى الكون"[4].

وقد يطلق أيضا على النظريات التي تبحث في مصير الإنسانية بعد اجتيازها مرحلة الوجود الفعلي، أو على النظريات التي تبحث في الحدّ النهائي الشرطي لوجود إنساني ليس بعده تاريخ، وعلم الآخرة مرادف لعلم المعاد[5].

فالإسكاتولوجيا إذن، كما يتبيّن هو علم الموت والنّهاية والآخرة، يتضمّن أساطير وعقائد الموت وما بعد الموت من حساب وعقاب، وثواب وجنّة ونار، ويمكن أن يكون الإسكاتولوجيا امتداداً لمثولوجيا الموت والفناء، لأنّها تتناول هي الأخرى الأساطير المتعلّقة بمصير الروح والجسد، والحساب والعقاب، والثواب والجنّة والنّار، وهي أمور درجت الأديان القديمة والموحِّدة على ذكرها كلٌّ حسب طريقته، فالإسكاتولوجيا مصطلح لاهوتي لاتيني معناه علم الآخرة، وموضوعه هو دراسة نهاية الحياة الدّنيا وعلامات القيامة، ثم امتد المصطلح إلى خارج الإطار اللاهوتي، حيث يستعمل للتعبير عن كلّ حديث عن النهايات.

 

ومن النهايات والمواضيع التي تشغل بال هذا العلم هو ظهور المسيح، أو الميسيا، أو المرجع، أو الغائب، أو المهدي، وسائر هذه الأسماء تعود إلى ذلك النبيّ الذي ينتظره العالم بصفة عامّة واليهود بصفة خاصّة منذ زمن بعيد، حيث جاء ذكره عند حديث المرأة السامرية مع السيّد المسيح[6]، ويطلق عليه في اللّغة العبرية المشيح (המשיח)، وهو في اللاتينية والعربية المسيح، ومعناه الممسوح بالزيت على عادة شعوب الشّرق القديمة في تعميد ملوكهم وكهنتهم، وتطوّر المعنى بعد السبي ليعني "المخلّص المنتظر"[7]. هذه الفكرة في حدّ ذاتها هي فكرة ملهمة، فقد نبعت بين أوساط الأنبياء المتّصلين بالقصر، إذ إنّها كانت عبارة عن وعد إلهي بإقامة العدل على يد شخصيّة من نسل داود يكون خادما ليهوه[8]. ويعتقد اليهود أنّ الملك المسيح سيقتل النصارى والمسلمين في حرب طاحنة بين الخير والشرّ، أو ما صار يعرف بمعركة "نهاية التّاريخ"، ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل، فيصبح اليهود بذلك سادة العالم[9].

ويؤمن اليهود في "نهاية التاريخ" بظهور نبيّ مثل موسى، ويقولون بأنّه لم يظهر حتّى الآن، وكان منطلقهم في هذا الاعتقاد ما جاء في التّوراة من بشارات تؤكّد على ظهوره، حيث ورد فيها ما يلي: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي، لهُ تَسْمَعُونَ، حَسَبَ كُلِّ مَا طَلبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاِجْتِمَاعِ قَائِلاً: لا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلا أَرَى هَذِهِ النَّارَ العَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلا أَمُوتَ، قَال لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلمُوا، أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ، وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ"[10]. فهذا النصّ هو منطلق عقيدتهم في المخلّص المنتظر، وقد فسّر اليهود المثلية الواردة في النصّ، على أنّ المقصود بها مماثلة هذا النبيّ لموسى في كلّ شيء.

وأمر المخلّص المنتظر عند اليهود لم تهتم به التّوراة لوحدها، وإنّما أبدت أسفار التّلمود هي الأخرى اهتمامها بهذه الفكرة، حيث تحوّلت على أيدي الرّبيّين إلى عقيدة شاملة في أعقاب الصّدام الدّموي بين عصاتهم والسّلطات الرّومانية، ويشغلون أنفسهم بإجراء الحسابات التي تنبئ عن موعد قدومه، كما يزداد تطلّعهم إلى مجيء ذلك المخلّص من نسل داود، لكي يتبوّأ الملك وترتفع به إسرائيل إلى سدّة السّلطنة على العالم بعد اندحار المملكة الرّابعة[11].

من المواضيع التي تهتم بها الإسكاتولوجيا ظهور المسيح، أو الميسيا، أو المرجع، أو الغائب، أو المهدي.

ولمّا يأتي هذا المخلّص كما يدّعي التّلمود "ستطرح الأرض فطيرا، وملابس من الصّوف، وقمحا حبّه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة، وفي ذلك الزّمن ترجع السّلطة لليهود، وكلّ الأمم تخدم ذلك المخلّص وتخضع له، وفي ذلك الوقت يكون لكلّ يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه، ولكن لا يأتي المخلّص إلاّ بعد انقضاء حكم الأشرار؛ أي الخارجين عن دين بني إسرائيل. ويستمرّ ضرب الذلّ والمسكنة على بني إسرائيل حتى ينتهي حكم الأجانب. وقبل أن يحكم اليهود نهائيا على باقي الأمم يلزم أن تقوم الحرب على قدم وساق ويهلك ثلثا العالم، ويبقى اليهود سبع سنوات متوالية يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النّصر، ويعيش اليهود في حرب طاحنة مع باقي الشعوب منتظرين ذلك اليوم، وسيأتي المخلّص الحقيقي ويحصل النصر المنتظر، ويقبل المخلّص حينئذ هدايا كلّ الشّعوب، ويرفض هدايا المسيحيّين، وتكون الأمّة اليهودية إذاك في غاية الثروة، لأنّها تكون قد تحصّلت على جميع أموال العالم، وأنّ هذه الكنوز ستملأ سرايات واسعة لا يمكن حمل مفاتيحها وأقفالها على أقلّ من ثلاثمائة حمار، وترى النّاس كلّهم حينئذ يدخلون في دين اليهود أفواجا، ويقبلون كلّهم ما عدا المسيحيين، فإنّهم يهلكون لأنّهم من نسل الشّيطان، ويتحقّق منتظر الأمّة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون تلك الأمّة هي المتسلّطة على باقي الأمم عند مجيئه"[12].

فهذا المخلّص وفقا لنصوص العهد القديم مهمّته الأصلية والحقيقية هي خلاص الشّعب اليهودي، وإقامة مملكة الرّب على الأرض لا في السماء، وحكم العالم بشريعة صهيون، فقد ورد في سفر أشعيا: "وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ الْجِبَالِ وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ، وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ وَيَقُولُونَ: هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ إِلَى بَيْتِ إِلَهِ يَعْقُوبَ فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ، لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ، فَيَقْضِي بَيْنَ الأُمَمِ وَيُنْصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكاً وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ، لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفاً وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْد"[13].

إنّ عقيدة المخلّص المنتظر وما يرتبط بها من حوادث، من قبيل "نهاية التّاريخ"، هي عبارة عن فكرة تصف اللّحظة التّاريخية التي تسود فيها الواحدية (الرّوحية أو المادّية) في بساطتها واختزاليتها التي تحوّل الإنسان إلى شيء طبيعي أو طبيعي/مادّي، فلا يبقى سوى مبدأ الواحد، الذي يستوعب الإنسان تماما فتختفي كل الثّنائيات، ويختفي الزمان والتدافع، ويختفي معها الإنسان المركّب، بل الحيّز الإنساني ذاته، "وبما أنّ ما يسود في العصر الحديث هو الواحدية المادّية، فإنّ عبارة "نهاية التّاريخ" تعني في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني، وبداية التاريخ الطبيعي، وفي العصر الحديث ترتبط فكرة "نهاية التّاريخ" باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية، وبالفردوس الأرضي، وبفكرة العودة إلى صهيون"[14].

أمّا في المسيحية، فإنّ فكرة المخلّص المنتظر كثيرا ما نقرؤها في أسفار الرّؤى (Apocalypses)، التي أراد منها كاتبوها أن تضيء للمؤمن المسيحي الطريق ليعرف حقيقة ما ترتهن به تقلّبات الحاضر، وهذا الكشف يقوم مقام تنبيه، فهو يحفظ رجاء المضطهدين، وينعش شجاعة الفاترين، ويدعو الضّالين إلى التوبة والوفاء[15]. فموضوع الرّؤى إذن لا يكاد ينزاح عن الدعوة إلى تقوية وتعليم المؤمن المسيحي، ليتمكّن من مجابهة عذابات الأيّام الأخيرة، إلّا أنّه مع بداية القرن الثاني طغى على هذه الرّؤى موضوع شرح تأخير عودة المسيح، وموضوع نهاية العالم، "ومع بداية القرن الرّابع تحوّل اهتمام الرّؤى إلى وصف السّماء وجهنّم، وإلى تقوية المسيحيين في أخلاقهم وحسن سلوكهم، لتتحوّل مواضيعها بعد ذلك إلى عطش لا يروى لمعرفة الدّقائق في الدّينونة الأخيرة ونهاية العالم"[16] .

المخلّص وفقا لنصوص العهد القديم مهمّته الأصلية والحقيقية هي خلاص الشّعب اليهودي، وإقامة مملكة الرّب على الأرض لا في السماء، وحكم العالم بشريعة صهيون.

هنا يأتي سِفْر الرّؤيا أو رؤيا يوحنّا، السِفْر القانوني في العهد الجديد، ليردم الهوّة بين كلّ هذه الانتظارات، ويعلن إسكاتولوجيا واحدة تتخطّاها كلّها، وتلخّصها كلّها برجاء واحد، هو رجاء مجيء المخلّص المنتظر. فسفر الرّؤيا هو رمز للدّمار الآتي، وأنّ الإسكاتولوجيا الواردة فيه هي "نهاية العالم"، فهذا السّفر يأتي ليمحور كل خوف البشر ورغباتهم حول المخلّص المنتظر، القادر وحده على إعطاء الإنسان الشّجاعة ليعيش الرّجاء في غمرة الموت، والعزاء في خضمّ الحزن القاتل. فالإسكاتولوجيا المسيحيّة إذن حسب هذه الرّؤيا هي تلك الشّراكة التّامة التي يحياها الأحياء والأموات مع المسيح[17].

ويعتقد المسيحيون أنّه بمجيء المخلّص المنتظر، والمتمثّل في المسيح بعد نزوله من عرشه، ستقوم تلك المعركة الطّاحنة التي يعتقدها حتّى اليهود، والمتمثلة في مجزرة بشرية هائلة، أو حرب نووية تباد فيها معظم البشرية، والتي ستقع بين قوى الشرّ من جانب، ممثلة في الشّيطان وجنوده، يعاونه المسلمون وبعض الرّوس وبعض المنشقّين على الكنيسة وبعض اليهود أيضا، وبين قوى الخير من جانب آخر، ممثلة في المسيح وقوّاته من الملائكة التي سترافقه في عودته، وعقب نهاية المعركة بانتصار المسيح يقبض هذا الأخير على الشّيطان، ويأسره، ويسجنه. وأثناء المعركة سوف يٌرفَع الأبرار من النّصارى المؤمنين بهذه العقيدة إلى السماء لمراقبة أحداثها من خلال السحاب، ثم يعودون سالمين إلى الأرض ليعيشوا مع المسيح لمدّة ألف سنة في "الفردوس الأرضي"[18].

بعد وقوع هذه الحرب وانتصار المخلّص المنتظر وأتباعه المؤمنين يعتقد المسيحيون أنّه سيتم القبض على الشّيطان وتقييده في آخر الزمان، حتّى لا يكون له سلطان على أتباع المسيح المنتصرين؛ وهو ما نقرؤه في رؤيا يوحنا ذهبي الفم: "وَرَأَيْتُ مَلاَكًا نَازِلاً مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ مِفْتَاحُ الْهَاوِيَةِ، وَسِلْسِلَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى يَدِهِ. فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشّيطان، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ لِكَيْ لاَ يُضِلَّ الأُمَمَ فِي مَا بَعْدُ، حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ. وَبَعْدَ ذلِكَ لاَبُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَانًا يَسِيرًا"[19].

وهذا معناه "أنّه في نهاية التّاريخ حسب التّصور المسيحي سيأتي المخلّص المنتظر، ليحكم الأرض لمدّة ألف سنة، يكون خلالها الشّيطان مقيّدا، وتفيض الأرض بخيراتها، حيث نسمع أنّ الذّئب يسكن مع الخروف دون أدنى أذيّة"[20].

أمّا في الإسلام، فترتبط الإسكاتولوجيا ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية، وقبل كلّ هذا يؤكّد الإسلام على ظهور إرهاصات وعلامات تنبئ بنهاية التّاريخ أو نهاية العالم، من قبيل ظهور المسيح الدّجال، والإمام المهدي ثمّ النّبي عيسى الذي سيجمع قوى الخير ضدّ قوى الشرّ.

ترتبط الإسكاتولوجيا في الإسلام ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية.

هكذا إذن سيتم تطهير الأرض من "غير المؤمنين" في أحداث مترابطة ومتسلسلة ومتزامنة، إلاّ أنّ جميع هذه الأحداث تدور حول شخصية المخلّص المنتظر كما رأينا، والذي سيعمل في جميع الديانات على إحلال السّلام والعدالة على وجه الأرض، فعند هؤلاء جميعا نجد الشّخصيات نفسها، والأحداث ذاتها، المتعلّقة بفلسفة نزعة الانتظار وتأويلاتها المتشعّبة. وعند هؤلاء جميعا نرى أنّ أدب النّهاية بني أساسا على مفهوم التّضادّ أو التّقابل بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، الذي تجسّم في تأسيس تقديس قال بحتمية ظهور وجه الشرّ والفساد، استلزم بالتبعية ظهور مخلّص سميّ المسيح عند الأوائل، وسمي أيضا المسيح والمهدي والغائب عند المسلمين، ومن الغريب أيضا أن يتّفقوا جميعهم على عدوّين منتظرين هما يأجوج ومأجوج والدّجال[21].

وختاما يتّضح لنا جليّا أنّ الإسكاتولوجيا أو علم الأخرويات هو جزء من علم اللاّهوت، يهدف إلى دراسة ما يعتقد أنّه الأحداث الأخيرة قبل نهاية العالم، تلك النّهاية العنيفة والدّموية، والتي ستأتي على الأخضر واليابس إيذانا منها بنهاية هذه الحياة والانتقال إلى حياة أخرى.

[1]- الإسكاتولوجیا: وردت مكتوبة هكذا عند جلال الدین سعید في معجم المصطلحات والشواھد الفلسفیة، دار الجنوب للنشر، تونس1998، ص: 44، بینما نقل جمیل صلیبا استعمال الفلاسفة لھا بمنطوق آخر" إشكاتولوجیا كونیة" أو "إشكاتولوجیا أخلاقیة". انظر: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، الطبعة الأولى، 1971، ج.1، ص: 27

[2]- انظر: أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الثانية، 2001، ج.1، ص: 361

[3]- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، مصر، 1999، ج.16، ص: 252

[4]- عبده الحلو، معجم المصطلحات الفلسفية (فرنسي – عربي)، المركز التربوي للبحوث والإنماء، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1994، ص: 57

[5]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، الطبعة الأولى، 1971، ج.1، ص: 27

[6]- إياد هشام محمود الصاحب، السامريون الأصل والتاريخ، مكتبة دنديس الخليل، الطبعة الأولى، 1421هـ، ص: 186-187. وحديث المرأة السامرية مع المسيح ورد مفصّلا في إنجيل يوحنا، حيث خاطبها بالقول: "قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لَا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلْآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا". قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ" يوحنا: 4/21-26

[7]- روهلنج شارل لوران، الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة: حنّا نصر الله، دراسة وتقويم: الحسيني الحسيني معدي، منشورات كنوز للنشر والتوزيع، القاهرة، 2008، ص: 182

[8]- محمد بحر عبد المجيد، اليهودية، سلسلة الدراسات الدينية والتاريخية، القاهرة، العدد 20، 2001م، ص: 29

[9]- جمال محّمد سعيد عبد الغنيّ، أحلام اليهود المنتظرة وتهافت مصادرهم، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، ص: 317

[10]- التثنية: 18/ 15-18

[11]- احمد حجازي السقا، المسيا المنتظر نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1977، ص: 133

[12]- الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص ص: 80-81

[13]- سفر أشعيا: 2/2-4

[14]- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج.8، ص: 94

[15]- الكتاب المقدس، الرهبانية اليسوعية، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1994، المدخل إلى سفر رؤيا يوحنا، ص: 794. بتصرف.

[16]- كيرلس سليم بسترس وحنّا الفاخوري وجوزيف العبسي البولسي، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، كيرلس سليم بسترس وحنّا الفاخوري وجوزيف العبسي البولسي، ص: 77. بتصرّف.

[17]- انظر: باسمة الخوري الأنطونية، مجيء الربّ: إسكاتولوجيا سفر الرؤيا، في أوراق رهبانية، السنة 32، العدد 101، خريف 2009، ص: 33

[18]- محمد الحسيني إسماعيل، البعد الديني في الصراع العربي الإسرائيلي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000، ص: 97

[19]- رؤيا يوحنا: 20/1-3

[20]- أنطونيوس فكري، تفسير سفر الرؤيا، كنيسة السيدة العذراء، الفجالة، ص: 197

[21]- انظر: محمد حسن بدر الدين، إشكالية مفهوم التوراة في الدراسات الإسلامية ودورها في نشأة الإسرائيليات المبكرة، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، 06 نوفمبر 2015، ص: 19