عواطف الجماهير وأخلاقيّاتها


فئة :  مقالات

عواطف الجماهير وأخلاقيّاتها

الحديث عن سيكولوجية الجماهير، من المواضيع المهمة أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا؛ ثورات الربيع العربي، والثورات المضادّة، والحشد، والحشد المضادّ، الكلّ يسعى إلى جذب الجماهير إليه، واعتبار فكره أو توجّهه هو الأصل والمعقول، وغيره هو الضّال الذي تجب إزالته من الوجود، حتى لو تطلّب ذلك اللجوء إلى العنف؛ لذلك ارتأيت أن أتوقف في هذا المقال عند "سيكولوجية الجماهير" كما تناولها (غوستاف لوبون Gustave LEBON) والذي أبدع إبداعًا كبيرًا في مقاربة الموضوع من كلّ جوانبه، واقتصرت هنا على نقطة رئيسة؛ وهي عواطف الجماهير وأخلاقيّاتها.

- سرعة انفعال الجماهير وخفّتها ونزقها:

من الخصائص الأساسية للجماهير؛ أنّها مقوّدة من قبل اللاوعي؛ فأعمالهم، حسب غوستاف لوبون، واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي، أكثر مما هي واقعة تحت تأثير المخّ أو العقل، ونكون هنا؛ أمام جمهور يتحرّك وفق التحريض في القيام ببعض الأعمال، يقول لوبون: "إنّ الجمهور، الذي يمثل لعبة واقعة تحت تأثير كل المحرّضات الخارجية، يعكس متغيّراتها التي لا تتوقف، وبالتالي؛ فهو عبد التحريضات التي يتلقاها، والفرد المعزول يمكنه أن يخضع لنفس المحرّضات المثيرة، كالإنسان المنخرط في الجمهور، ولكن عقله يتدخّل ويبيّن له مساوئ الانصياع لها، وبالتالي فلا ينصاع، ويمكننا أن نحدّد فيزيولوجيا هذه الظاهرة عن طريق القول؛ إنّ الفرد المعزول يمتلك الأهلية والكفاءة للسيطرة على ردود فعله، هذا في حين أن الجمهور لا يمتلكها"[1]؛ أي إنّ الفرد له سلطة اتخاذ القرار بعقله، بخلاف الجمهور كما سيتّضح أكثر.

إنّ الناظر في الانفعالات التحريضية، كيفما كانت، سواء نبيلة أو العكس، يدرك أنّ تأثيرها قويّ للغاية على نفوس الجماهير، فتصبح هذه الأخيرة مستعدّة للموت في سبيل ما حُرِّضت من أجله، وهنا يقول لوبون: "وبما أنّ المحرضات القادرة على تهييج الجماهير متنوّعة ومتعددة، وبما أن الجماهير تنقاد لها دائمًا؛ فإننا نجدها حيوية ومتحركة إلى أبعد حدّ؛ إذ نجدها تتحرّك في لحظة من مرحلة الضراوة الأكثر دموية، إلى مرحلة البطولة المطلقة، إنّ الجمهور يمكنه بسهولة أن يصبح جلّادًا، ولكن يمكنه بنفس السهولة أن يصبح ضحيةً وشهيدًا، فمن أعماقه سالت جداول الدم الغزيرة الضرورية لانتصار أي عقيدة، أو إيمان جديد"[2].

هكذا تكون الجماهير، لا شيء مدروس عندها، تستجيب لأنواع العاطفة، فتصبح مثل الأوراق التي يعلب بها الإعصار، ومن ثم؛ إنّ هذه الحركية المتغيرة لدى الجماهير، يصعب التحكّم فيها، خصوصًا عندما يسقط جزء من السلطات العامة، وقد أشار لوبون إلى نقطة جدّ مهمة؛ وهي قوّة الجماهير، قال: "ولكن الجمهور ليس فقط انفعاليًّا ومتقلبًا؛ وإنما هو كالإنسان الهمجي؛ لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته، وبين تحقيق هذه الرغبة، نقول ذلك خصوصًا؛ أنّ عدده الكبير يشعره بامتلاك قوة لا تقاوم؛ فمفهوم المستحيل لا معنى له بالنسبة للفرد المنخرط في الجمهور، والإنسان المعزول يعرف جيدًا أنه لا يستطيع أن يحرق قصرًا أو ينهب مخزنًا، وبالتالي؛ فإنّ مجرّد التفكير بذلك لا يخطر على باله، ولكنه ما إن ينخرط في الجمهور، حتّى يحسّ بالقوة الناتجة عن العدد والكثرة"[3].

كل هذا سيجعل من الجمهور مجرد آلة لا غير، يقول لوبون: "وفي أية فرصة تسنح للقتل أو النهب، فإنه ينصاع فورًا ولا يتردد في اقتراف ذلك، وكل عقبة مفاجئة تعترض طريقه يكرسها بجنون كبير، وإذا كان الجسم البشري يسمح بتأبيد الهيجان، فإنه يمكننا القول: إنّ الحالة الطبيعية للجمهور المغيط هي الهيجان"[4]، مبينًا أن كل الجماهير تتسم بالنزق والانفعالية، إلا أن ذلك يكون بدرجات متفاوتة ومتغيّرة.

- سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأيّ شيء:

يرى لوبون؛ أنه أيًّا كانت حيادية الجمهور، فهو في حالة مهيأة لتلقي أي اقتراح، وأي اقتراح يظهر يفرض نفسه مباشرة على كل الأذهان، فينخرط الجمهور بكل سهولة، سواء أكان هذا الفعل حرق قصر، أم القيام بعمل جليل. يقول لوبون: "إنّ الجمهور يشرد باستمرار على حدود اللاشعور، ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والأوامر، كما أنه مليء بالمشاعر الخاصة بالكائنات غير القادرة على الاحتكام للعقل، ومحروم من كل روح نقدية، وبالتالي فهو لا يستطيع إلاّ أن يبدي سذاجة وسرعة تصديق منقطعة النظير، والمستحيل غير موجود بالنسبة إليه، وينبغي التذكير بذلك، من أجل أن نفهم كيف تخلق الأساطير والحكايات الأكثر غرابة وشذوذًا، وكيف تشيع وتنتشر بسهولة"[5]، كما يرى أن الأساطير وتصديقها لدى الجمهور، يرجع إلى مخيلة هذا الأخير؛ فالحدث البسيط يتحول إلى حدث آخر لدى الجمهور، لكونه يفكّر عن طريق الصور المتشكّلة في ذهنه، وهي بدورها تثير صورًا أخرى بدون أية علاقة منطقية مع الأولى؛ إذ إنّ العقل يغيب، فما أن يجتمع حشد حتى يصبح الجاهل والعالم عاجزين عن الملاحظة والنظر، يوضح لوبون قائلًا: "إن خلق الأساطير التي تنتشر بسهولة في أوساط الجماهير، ليس فقط ناتجًا عن سرعة كاملة في التصديق؛ وإنما عن تشويه هائل أو تضخيم هائل للأحداث في مخيّلة الأفراد المحتشدين/الجمهور؛ فالحدث الأكثر بساطة يتحوّل إلى حدث آخر مشوّه، بمجرّد أن يراه الجمهور؛ فالجمهور يفكّر عن طريق الصور، والصور المتشكّلة في ذهنه تثير بدورها سلسلة من الصور الأخرى، بدون أية علاقة منطقية مع الأولى"[6]، إنّ الجماهير، إذن، بمثابة آلة سهلة الاستخدام في أيّ وقت وفي أيّ مكان، سواء للبناء أو للتخريب.

إنّ الجمهور ليس بحاجة لعدد كثير، فيكفي اجتماع بعض الأفراد فيشكّلون جمهورًا، حتى لو كان أولئك علماء متميزين؛ إذ "ليس الجمهور بحاجة لأن يكون كثير العدد لكي تدمّر إمكانيته؛ فيكفي أن يجتمع بعض الأفراد لكي يشكلوا جمهورًا، وحتى لو كانوا علماء متميزين، فإنهم يتحلّوْن بكل صفات الجماهير، فيما يخص الموضوعات الخارجة عن دائرة اختصاصاتهم؛ ذلك لأن مَلَكَة الملاحظة، والروح النقدية التي يمتلكها كلّ واحد منهم تضمحلّ وتتبخّر"[7].

- عواطف الجماهير؛ تضخيمها وتبسيطها:

يقول لوبون: "العواطف التي تعبّر عنها الجماهير، سواء أكانت طيبة، أم شريرة، تتميز بطابع مزدوج، بمعنى أنها؛ مضخّمة جدًّا ومبسّطة جدًّا، وفيما يخص هذه النقطة وغيرها من النقط، نجد الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيرًا من الكائنات البدائية؛ فهو غير قادر على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وبالتالي؛ فهو ينظر للأمور ككتلة واحدة، ولا يعرف التدرّجات الانتقالية، وفيما يخص الجمهور، نلاحظ أن؛ المبالغة في العاطفة مدعمة من قبل الحقيقة الآتية؛ بما أن هذه العاطفة تنتشر بسرعة شديدة، عن طريق التحريض والعدوى؛ فإن الاستحسان والقبول الذي تلقاه، يزيد من قوّتها إلى حدّ كبير"[8].

هكذا تلعب العاطفة في الجمهور لعبتها؛ فالجماهير كالنساء (على حد تعبير لوبون) فبالعاطفة يزداد يقين الجماهير، ولا مجال للشك، فيتحوّل الشعور البسيط بالنفور من الشيء، إلى حقد هائج خطير، وتجدر الإشارة إلى أن عنف عواطف الجماهير، يكون أخطر عند الجماهير غير المتجانسة؛ لانعدام المسؤولية، وبالتالي؛ تكون لها الثقة بالنفس، وأنها في منأى عن المحاسبة، مما يزيد همجيتها؛ "ففي الجمهور يتحرّر الأبله، والجاهل، والحسود من الإحساس من دونيتهم، وعدم كفاءتهم، وعجزهم، ويصبحون مجيّشين بقوّة عنيفة وعابرة، ولكن هائلة، للأسف؛ فإن حس المبالغة والتضخيم لدى الجماهير، يتركز غالبًا على العواطف الشريرة التي تمثل بقايا وراثية عند الإنسان البدائي، ومن المعروف؛ أنّ الخوف من العقوبة يجبر الإنسان الفرد والمسؤول، على قمع هذه العواطف، وهكذا، يمكننا تفسير السبب في استسلام الجماهير لأبشع أنواع الممارسات، وأكثرها تطرّفًا"[9]، وتحرك الجماهير لا يكون إلا بالعواطف المتطرفة؛ لذلك يكون لزامًا على قائد تلك الجماهير، أو الخطيب فيها، استخدام شعارات عنيفة، مع العلم، أن القائد يكون نموذجًا لهم، كي يكون تحركهم بقوة أكبر.

ينبه لوبون إلى نقطة مهمة وهي؛ أنه بمجرد انخراط الفرد في الجمهور، فإنّ مستواه الفكري ينخفض إلى حدّ بعيد.

- تعصّب الجماهير، واستبداديتها، ونزعتها المحافظة:

معلوم أنّ الجماهير، حسب لوبون؛ لا تعرف إلاّ العواطف، بسيطةً كانت أو متطرفةً، وبالتالي؛ فالأفكار، والآراء، والعقائد التي يحرضونها عليها، إمّا أن تقبلها، أو ترفضها دفعة واحدة، وذلك لغياب التعقّل والمحاجة العقلية. يقول لوبون: "بما أن الجمهور لا يشك لحظة واحدة فيما يعتقده، الحقيقة أو الخطأ، وبما أنه واع كل الوعي بحجم قوته؛ فإن استبداده يبدو بحجم تعصبه، وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة؛ فإن الجمهور لا يحتملها أبدًا، وفي الاجتماعات العامة، نلاحظ أن؛ أقل اعتراض يصدر عن خطيب ما، سرعان ما يقابل بالصياح والغضب والشتائم العنيفة، ثم بالضرب والطرد، إذا ما أصرّ الخطيب على موقفه. ولولا وجود قوّات الأمن لذبحوه في غالب الأحيان"[10]؛ وذلك لكون الاستبداد والتعصّب يشكّلان بالنسبة إلى الجماهير عواطف واضحة؛ فهي تحترم القوة، وترى الاحترام ضعفًا.

الجماهير ما دامت مستعدة، حسب لوبون، دائمًا للتمرّد على السلطة الضعيفة؛ فإنها لا تحني رأسها إلاّ للسلطة القوية، يقول لوبون: "إذا كانت هيبة السلطة متناوبة أو منقطعة؛ فإنّ الجماهير تعود إلى طباعها المتطرفة، وتنتقل من الفوضى إلى العبودية، ومن العبودية إلى الفوضى"[11]، كما يذهب لوبون إلى أن: "الاعتقاد بهيمنة الغرائز الثورية على الجماهير؛ يعني الجهل بنفسيتها، فعنفها وحده؛ هو الذي يوهمنا بخصوص هذه النقطة؛ فانفجارات الانتفاضة والتدمير التي تحصل من حين لحين، ليست إلا ظواهر عابرة ومؤقتة؛ فالجماهير محكومة كثيرًا باللاوعي، وبالتالي؛ فهي خاضعة، أكثر مما يجب، لتأثير العوامل الوراثية العتيقة التي تجعلها تبدو محافظة جدًّا، فإذا ما تُرِكت لنفسها، تملّ من فوضاها، وتتّجه بالغريزة نحو العبودية"[12]، وهكذا؛ فإنّ الجماهير بحاجة ماسة يومًا بعد يوم إلى قائد، حتّى لا تعيش في فوضى، فتجد نفسها تحت قبضة العبودية.

- أخلاق الجماهير:

يقول لوبون بخصوص هذه القضية المهمّة: "إذا كنا نربط بكملة الأخلاقية؛ معنى الاحترام الحقيقي لبعض الأعراف، والتقاليد الاجتماعية، ثم القمع الدائم للنزوات الأنانية؛ فإنه لمن الواضح أنّ الجماهير صاحبة نزوات، وغرائز شديدة الهيجان، وبالتالي؛ فهي غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية، ولكن إذا كنا نعني بالأخلاقية؛ بعض الصفات كالتفاني، والإخلاص، والنزاهة، والتضحية بالذات، وحسن العدالة؛ فإنه يمكننا أن نقول: إن الجماهير قادرة على أرفع أنواع الأخلاقية، فعلماء النفس النادرون الذين درسوا الجماهير، لم يدرسوها إلا من وجهة نظر أفعالها الجرائمية، ولما رِأوا أن هذه الأفعال عديدة ومتكررة، استنتجوا أن الجماهير ذات أخلاقية منحطّة جدَّا"[13].

هذا الأمر حسب لوبون راجع إلى غرائز التوحش؛ فالجمهور الذي يمزق ضحيته إربًا إربًا، تلك قسوة جبانة، خصوصًا، عندما تكون الضحية لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ويضيف لوبون: "وإذا كان الجمهور قادرًا على القتل، والحرق، ومختلف أنواع الجرائم؛ فإنه قادر، أيضًا، على أفعال التضحية والنزاهة، الأكثر ارتفاعًا بكثير من تلك التي يقدر عليها الفرد الواحد، فالتأثير يتم بشكل خاص على الفرد المنخرط في الجمهور، وذلك عن طريق التركيز على عواطف المجد، والشرف، والدين، والوطن"[14].

لوبون نبّه إلى مسألة في غاية الأهمية؛ وهي "نضال الجماهير" من أجل أشياء، إما لا تفهمها، أو تعرف أن مصلحتها فيها، يقول: "فكم هو عدد الجماهير التي ضحت بأنفسها، بنوع من البطولة، من أجل عقائد وأفكار، لا تفهمها إلا بالكاد! فالجماهير التي تضرب عن العمل، تفعل ذلك من أجل إطاعة الأوامر، أكثر من أن تفعله من أجل الحصول على زيادة الرواتب، ونادرًا ما تكون المصلحة الشخصية محرّكًا قويًّا لدى الجماهير، هذا في حين أنها تشكل المحرّك الكلي، تقريبًا، لدوافع الفرد الواحد"[15]. وهنا؛ نكون أمام استغلال الجماهير من أجل مصالح شخصية، لا مصلحة عامة تعود بالنفع على الجماهير نفسها.

أخيرًا، وليس آخرًا؛ نختم بقول غوستاف لوبون: "إذن إن الجماهير التي تستسلم، غالبًا، للغرائز المنحطة، تقدم أحيانًا عدة أمثلة على أعمال أخلاقية عالية، وإذا كانت قيم النزاهة، والانقياد، والتفاني في سبيل مثال أعلى (وهمي أو واقعي) تمثّل فضائل أخلاقية؛ فإنه يمكننا القول: إن الجماهير تمتلك، أحيانًا، هذه الفضائل بدرجة عالية، لم يتوصل إليها أعظم الفلاسفة والحكماء إلا نادرًا، وهي تمارسها، بدون شكّ، بلا وعي، ولكن لا يهم؛ فلو أن الجماهير قد حكَّمت عقلها غالبًا، واستشارت مصالحها الآنية، لربما انعدمت كل حضارة على سطح كوكبنا الأرضي، وما تطورت، ولما كان للبشرية من تاريخ"[16].


[1]- سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، دار الساقي، ط1، 1991، ص 64

[2]- المرجع نفسه، ص 64

[3]- نفسه، ص 65

 -[4]نفسه، ص 65

[5]- سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ص 64

[6]- نفسه، ص 67

[7]- نفسه، ص 69

[8]- سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ص 74

[9]- نفسه، ص ص 74- 75

[10]- نفسه، ص 76

[11]- سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ص 77

[12]- نفسه.

[13]- نفسه، ص ص 78- 79

[14]- نفسه، ص 79

[15]- سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ص 79

[16]- نفسه، ص 80