غاستون باشلار والمعرفة - الضد


فئة :  مقالات

غاستون باشلار والمعرفة - الضد

ينطلق باشلار من التأكيد على أن الفكر يسلك في بنائه للمعرفة العلمية مسالك متعثرة ودروبًا ملتوية وطرقًا غير مباشرة. إن كانت فلسفات العلم التقليدية، في صيغتها الوضعية خاصة، تعد المعرفة العلمية امتدادًا للمعرفة العادية، فتكتفي بأن تنصح الدارس بـ "الإصغاء لما تقوله الطبيعة"، وتحدّد الموضوعية بأنها نفي للذاتية، بل تجعلها مقابلاً لها، فإن إبستمولجية باشلار تحدّد الموضوعية على أنها "موْضَعة"، وتَدَخُّل في الطبيعة وتحويل للمعطى المباشر، وترى أنها نفي للتلقائية، وطعن في المباشرة. فيقول صاحب "العقلانية التطبيقية": "إن كل موضوعية، مهما كانت شدة التحقق منها، فهي تكذب الاتصال الأوّل مع الموضوع. إن عليها أوّلاً أن تنتقد كل شيء: الإحساس وبادئ الرأي والممارسة العادية".

لا تصف المعرفة العلمية واقعًا معطًى ولا تصف "طبيعة"، بل إنها تتعامل مع "واقع" صُنْعي؛ فملاحظة الطبيعة لا تتمثل في أن يتحول العالم إلى آلة فوتوغرافية. الملاحظة ليست هي، كما كان يقول كلود برنار: "أن يكون الملاحظ مصوّرًا محايدًا للظاهرة، وأن تكون ملاحظته تمثيلاً دقيقًا لها، وأن يكون منفعلاً لا فعالاً، مصغيًا للطبيعة ليسجل ما تمليه هي عليه". في المعرفة العلمية المعاصرة تغدو الملاحظة مشروعًا نظريًا، "فالواقع بالنسبة للعالم لا يتكون إلا بفضل عمليات تعديل متعاقبة ... لقد بلغت المعرفة العلمية مستوى أصبحت فيه الموضوعات العلمية ما نصنعه نحن لا أقل ولا أكثر". فالفكر لا "يصغي" إلى ما يُقال أنّى كان مصدره، وهو لا يقف منفعلاً متلقيًا، وإنما يبدأ بأن يتهم المباشر. وليست بداهاته "أوّليات" ومبادئ؛ فالأوَّليّ موضع اتهام دائمًا، إنه ما ينبغي تحويله واستنطاقه وليس الوثوق به، والبداهات نتائج يُتوصل إليها، وليست منطلقات يعتمد عليها. بهذا المعنى كان باشلار يقول: "ليست هناك حقائق أولى، بل أخطاء أولى"؛ فِـ "بادئ الرأي يكون مبدئيًا دومًا على خطأ، إنه يفكر تفكيرًا سيئًا، أو لنقل بالأحرى إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجيات وينقلها إلى معارف".

المعرفة العلمية هي دومًا معرفة- ضد، لأنها دومًا تصحيح لأخطاء. بهذا المعنى سيسترجع الخطأ قوّته ووجوده الفعلي المتعنت، ولن يعود وجودًا عرضيًا، أو افتراضًا منهجيًا، وإنما سيستعيد صلابته، بل وضرورته إن صح التعبير، مادام يشكل منطلق كل معرفة علمية، إذ إن هذه لن تعود إلا مجموعة من الأخطاء التي قد تم تصحيحها. وذلك، لأن "كل تجربة موضوعية صحيحة ينبغي أن تُحدِّد دومًا كيفية تصحيح خطأ ذاتي".

على هذا النحو، يبدو الكشف عن الواقع دومًا كشفًا متراجعًا إلى خلف، وذلك لأن "الواقع" لا يكون أبدًا ما يمكن أن نظن أنه عليه، بل هو دومًا ما كان علينا أن نعتقده. كل "كشف " لحقيقة يتم في "جو من الندم الفكري" دومًا. في هذا السياق، يؤكد باشلار أن "الفكر وهو أمام المعرفة العلمية، لا يكون قط حديث النشأة، بل شيخًا مثقلاً بالسن، لأنه يحمل من ورائه عمرًا طويلاً يعادل عمر أحكامه المسبقة".

وبناء عليه، ليس الجهل فراغًا معرفيًا، إنه ليس غياب معرفة، بل هو امتلاء معرفي، "إنه نسيج من الأخطاء الإيجابية المتماسكة والملحة"، و"المعرفة لا تصدر عن الجهالة كما ينبثق النور من الظلمات". ليست هناك درجة صفر للمعرفة، كل ما هناك معارف متراكمة، وأخرى مضادة تصحّح مسارها، وتقوّم أخطاءها.

هذه المكانة الأنطلوجية الجديدة للخطأ، لا تغيّر تحديدنا لـ"الواقع" وفهمنا لطبيعة البحث العلمي وحدهما، وإنما تبدّل من طبيعة الفكر نفسه، وتجعله فكرًا "مناضلاً"مقاومًا للأخطاء العنيدة، فاقدًا ثقته في الأوليات، مؤمنًا بأن لا شيء يُعطى إياه، وأن عليه أن يكتسح المجهول، ويقهر "العقبات الإبستمولوجية" المتعددة، فيعلنها حربًاعلى الأخطاء والأحكام المسبقة، ومعرفته غزو وجهاد، وليست مجرد تأمل منفعل. وذلك، لأن المعرفة العلمية تضع الوضوح في التراكيب المعرفية وليس في تأمل منعزل لموضوعات معطاة، كما أنها تؤمن بالوضوح الإجرائي محل الوضوح في ذاته، وبالموضوع المبني بدل الموضوع المعطى، والحدس النتيجة بدل الحدس المنطلق، مؤكدة أن الفكر سلسلة من القطيعات والانفصالات، وأنه دومًا مراجعة ونقد وإعادة نظر.

فليس النقد صفة تُحمل على الفكر. الفكر دوما مراجعة وإعادة نظر، لهذا تبدو عبارة "الفكر النقدي" اليوم من قبيل تحصيل الحاصل، لأن النقد والمراجعة طبيعة الفكر ومحتواه، وليست عرضًا من أعراضه، فلا فكر إلا نقدي. وليست النقدية اليوم اتجاهًا فلسفيًا أو مدرسة فكرية، وهي ليست مرحلة وخطوة يتخذها الفكر تمهيدًا لعمله، إنما هي جوهر الفكر وعمله الأساس، فالتفكير يبدأ حالما يفقد الفكر ثقته بالمعطيات المباشرة ويسيء الظن بها. وحتى الأسئلة التي يطرحها لا تُعطى إياه، وإنما يكون عليه إبداعها وتوليدها. في هذا المعنى يقول صاحب "الروح العلمية الجديدة" بأنه "ينبغي أولاً وقبل كل شيء معرفة طرح الأسئلة"؛ فالأسئلة في الحياة العلمية لا تطرح نفسها، وهي لا تكون، كما يقال، "مطروحة في الساحة"، لأن لا شيء في هذا المضمار "يطرح في الساحة"، ولا شيء يُوهب ويُعطى، ولا ثقة في التلقائية. كل شيء ينبغي أن يُغزى ويُكتسح، وكل معرفة علمية هي، تحديدا، معرفة – ضد .