غياب الفنون أو تحريفها مستدلا بهما على تشوه الفهم للدين وسوء تطبيقه


فئة :  مقالات

غياب الفنون أو تحريفها مستدلا بهما على تشوه الفهم للدين وسوء تطبيقه

"من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج"

أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين.

قد لا نوافق أو لا نجرؤ أن نوافق هيغل في قوله إن التجريد والتنزيه الذي يحكم إيمان المسلمين بالله يجعل فنونهم مشوهة؛ ولكنا يمكن أن نتعلم منه فيما دون ذلك في ملاحظة التشوه في فهم الدين وتطبيقه وتقديمه وتمثله بسبب غياب الفنون أو تحريمها؛ فالأمم كما يقول هيغل تضع في الفنون أسمى أفكارها، وبالفنّ يشخص الإنسان الفكرة ويقترب من المثال بما هو الصواب أو الحقيقة أو القيمة العليا.. وفي ذلك، فإن غياب الفن يعني ضياع الأفكار السامية أو عدم القدرة على معرفتها واستيعابها، ثم غيابها عن الفهم والتطبيق والسلوك، فيكون ذلك كله بلا فكر سام يقوده أو يرشده، وسيكون متوقعا في ظل هذه الحالة (غياب الفنون أو ضعفها أو تشوهها) غياب البوصلة وعدم القدرة على الاستدلال على الأهداف والمعاني السامية والجوهرية للدين والحياة.

لا يمكن الاستدلال على الأفكار من غير تشخيصها، ولذلك كان الرسل بشرا يراهم الناس ويستمعون إليهم، وعندما تساءل العرب لماذا لا يرسل الله مَلَكاً بدلا من أن يرسل إليهم بشرا منهم أجابهم الله "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون"[1] فلن يستطيع البشر إدراك الملائكة والتواصل معهم، وهم على هيئتهم الملائكية، وإن تمثلوا بشرا سوف يلتبس عليهم الأمر، فلا يدركون إن كانوا يخاطبون ملاكا أو بشرا يدعي أنه ملاك! وعندما أرسل الله روحه إلى مريم تمثل لها بشرا سويا "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا"[2]، وهكذا فإننا في إدراكنا أن الله بما هو القدرة الكلية والعدل المطلق وكل الصفات والأسماء التي وصف بها نفسه أو تسمى بها، نفهم ونستوعب هذه المثل بمدى قدرتنا على تمثلها بتشخيصها والتعبير عنها وفهمها، وفي حياتنا اليومية والعملية نستلهم الطبيعة والكون ونستودع فهمنا وإلهامنا في رموز وأفكار قابلة للصياغة، وبطبيعة الحال فإن عجزنا عن "ترميز" هذه الأفكار والمثل يعني بالضرورة عجزنا عن الهداية ومعرفة الصواب أو الاقتراب منه.

إن وظيفة الفنّ هي التعبير عن النفس على النحو الذي يجعل المثال أو الفكرة في شكل خارجي، شعرا أو موسيقى أو لوحة فنية أو كلمات وأصوات نستدل بها أو عمارة ومنحوتات نهتدي بها، ونحول أفكارنا المشوشة أو بحثنا وتوقنا للارتقاء والمعرفة إلى نماذج واقعية نحسها ونحياها، ويذكر هيغل في ذلك مثالا عميقا وجميلا في قصيدة "المثال والحياة"، إذ يعارض شيلر الواقع بآلامه وصراعاته بـ"جمال بلد الأشباح الهادئ الساكن" بلد الأشباح هذا هو بلد المثال، بلد الأرواح، المتعذرة عليها الحياة في المباشر، المنعتقة من الحاجات الوضيعة التي منها نسج الوجود الطبيعي، المتحررة من الروابط التي كانت تبقى عليها في حالة تبعية للتأثيرات الخارجية المنعتقة من جميع الانحرافات، والتسويات الملازمة لتناهي عالم الظاهرات، لا شك في أن المثال لا يستطيع أن يستغني عن أن يطأ بقدمه دائرة الحسي بأشكاله الطبيعية.[3]

والإنسان فنان بفطرته وطبيعته، وهو بما اقتبسه من الطبيعة عالم بكامله متراكم ومتشكل في مملكة التصور والحدس الرحيبة الشاسعة، ليجعل منه كنزا يطهره للخارج بملء الحرية من دون أن تكون به حاجة إلى الشروط والاستعدادات الكثيرة التي يخضع لها الواقع، ويشغل الفن في هذه المثالية نقطة الوسط بين الوجود الضيق الموضوعي الصرف وبين التصور الداخلي المحض، فهو يقدم لنا الأشياء ذاتها لكن مستنبطة من الداخل، وهو لا يضعها تحت متناولنا برسم هذا الاستعمال أو ذاك، بل يكتفي بإثارة اهتمامنا بالتجريد الذي يعرضه الظاهر المثالي للتأمل النظري البحث.[4]

هذه الملكات التي وهبت للإنسان هي أيضا أداته في فهم وتمثل الحقائق والقيم واستيعاب وتقديم المعاني الروحية العميقة التي يريدها الله للبشر، فالفن ليس مجرد تعبير او تشخيص للطبيعة أو الروح أو الأفكار والمثل، بالرغم من أنه كذلك بالفعل ولكنه في انبثاقه من الروح وفي قدرته على التصور يتبدى مشبعا بالكونية الشمولية.[5] وهكذا، فإننا نقدر إن لم نطمئن إلى أننا نسير في الاتجاه الصحيح لاستيعاب الحقائق والمعاني وتطبيقها في عالمنا الواقع وفي حياتنا اليومية.

هناك بالطبع أمثلة واضحة عند ملاحظة الفنون الشعبية واستيعابها للحياة اليومية، وتمثل قيمها ودوافعها النبيلة والواقعية في العمل والتقدم والتحرر والانتماء والمشاركة، .. ويستدل هيغل بالفن الشعبي الهولندي، والذي ألهم الهولنديين قيم التحرر ومقاومة الاحتلال وإعمار الأرض، بل وتوسعتها وتطويرها بطمر البحار وتحويلها إلى أراض زراعية، وما زالت هولندا من أهم دول العالم في مجال الزراعة وأكثرها تقدما، .. يقول هيغل: إن الفن الشعبي بمعنى الفن الذي يصور الحياة اليومية والعائلية وضع مفاهيم المثال والمضمون وتجسيدها موضع تنفيذ، وقد رفعه الهولنديون إلى أسمى درجات الكمال، فما الذي جذب الهولنديين إلى هذا الفن؟ وما المضمون الذي تعبر عنه تلك اللوحات التي تتمتع بجاذبية لا تقاوم مع أنها تستأهل في ظاهر الأمر أن تنحى جانبا أو تنبذ وتطرح لأنها تحاكي الطبيعة المبتذلة؟ سر ذلك أن الموضوعات الحقيقية لهذه اللوحات لو قلّبنا فيها النظر عن كثب أقل ابتذالا مما كان يسود الاعتقاد.

لقد وجد الهولنديون مضمون لوحاتهم في أنفسهم، في راهنية حياتهم بالذات، ولا مجال للومهم كونهم أعطوا هذه الراهنية واقعا جديدا عن طريق خلقها من جديد بالفن، وما يعرض لأنظار المعاصرين ولروحهم لا بد أن يكون قد خصهم مسبقا وإلا لتعذرت إثارة اهتمامهم، والحال أننا إذا أردنا أن نعرف ما الذي كان يثير اهتمام الهولنديين يومئذ فلا بد من أن نسائل تاريخهم.

خلق الهولنديون بأنفسهم القسم الأعظم من الأرض التي يحيون عليها، واضطروا إلى الدفاع عنها بلا انقطاع ضد هجمات البحر، وقد استطاع بوروجوازيو المدن والفلاحون بشجاعتهم وبسالتهم وجلدهم أن يطوحوا بالحكم الإسباني في عهد فيليب الثاني ملك العالم القوي آنئذ، وفازوا بالحرية السياسية والحرية الدينية. هذه الغيرة الوطنية وهذه العقلية المغامرة في صغائر الأمور كما في كبائرها في داخل بلادهم كما في عرض البحر، هذا الازدهار اليقظ والمستقيم، هذا الوعي الطافح والفرح للذات، هذا كله ما دانوا به لأحد غير أنفسهم، ولشيء غير نشاطهم، وهذا ما يؤلف المضمون العام للوحاتهم.[6]

ما يعنينا أكثر في هذا المقام وكما يقتضي عنوان المقال، هو أن الفن ربما يكون مصدرنا الوحيد أو أداتنا الوحيدة في تمثل السمو والمثالية العظيمة للدين، وكما أرادها الله أو لاستيعاب وتمثل صفات الله التي دعا البشر لتمثلها، فالفن كما يقول هيغل يأخذ على عاتقه مهمة تمثيل هذا المضمون الأسمى والأرفع.[7]

ولأجل ذلك يمثل الفن ضرورة دينية كما هي حياتية ووجودية لتمثل المضمون الروحي في نماذج وأفكار واقعية، وبطبيعة الحال فإن عجز المتدين عن ذلك يوقعه في الحيرة والتيه ويفقده الطريق، .. يجب أن يكون المتدين فنانا مبدعا، ليقدر على الفهم والتصرف كما أراد الخالق، وبغير المعرفة العميقة في الفن والحساسية التي يعتمد عليها في الادراك والفهم وتطوير الخيال والابداع لن يدرك المدلول والمعنى الذي أراده الخالق، ولن يجد لهذا المعنى تمثيلا عينيا مشخصا يمكن ملاحظته وتطويره وتصحيحه ... ومن ثم الارتقاء بالذات وتصحيح الفهم وترشيده وترقيته وتلطيف التوحش فيه أو مقاومة نوازع الشر والتدمير والكراهية والتعصب، ...

ويشكل الإلهي المركز الذي نصطف حوله تمثيلات الفن، "لكن الإلهي المتصور كوحدة وككلية لايوجد إلا بالنسبة إلى الفكر، فهو كيان مجرد من الشكل ولا يقع بالتالي تحت عمل الخيال المشكل والمشخص"[8] وهكذا نستعين (بالنسبة للمسلمين) بالفن والشعر لنقترب من الله أو لنتحايل على هذا التشوش في الفكر والتصور والإدراك، ولكن في الأديان الأخرى يحلّ الإلهى كما لو أنه تمثل بشرا في الفنون والرموز والحكايات والقصص، .. ففي هذه الرواية أو التجسيد يلتقط المتدينون الحكمة أو تحلّ فيهم بما هي طاقات ومشاعر إيجابية تدفع الى السلام والخير... أو يمكن التحايل على التجسيد الإلهي بملاحظة وتتبع الإلهي في تتظاهرة وحضوره في ما يرهص به الأنبياء والقديسون وسائر الاتقياء الذين يثق بهم المتدينون ويتبعونهم، و"يكون البشر العامرة أفتدتهم بروح الله مواضيع يضع عليها الفن المثالي يده."[9] فنستعين في مثال القديسين والشهداء والصالحين والعلماء والرواد، لنستوعب روح الله التي وضعها لنا أو نتمثلها .. وبغير ذلك لا يمكن أن نحول الأفكار المجردة والمشوشة إلى منهج عملي متبع، .. ولا يخلو ذلك بالطبع من الخرافة والأخطاء ولكن في إدراكنا أنه ليس الدين وفي إحلاله في الفنّ نجعله مادة للارتقاء والسلام، وفي تمثيل الفن بما هي طبيعة ووظيفته "للنفس البشرية في جملتها وبكل ما يجيش في أعماقها ويؤلف قوتها ومقدرتها وبكل عاطفة وكل هوى وكل اهتمام عميق يضطرم في الصدر، وباختصار كل هذه الحياة العينية تشكل مادة الفن الحية، والمثال هو تمثيلها وتعبيرها."[10] وفي سلوك الدين في تمثل القيم والأفكار التي يدعو أليها أو يدعو أتباعه إلى تحريها والبحث عنها يؤدي الفن دور الدين ووظيفته الأساسية، أو بعبارة أوضح يحولها إلى أوعية مفهومة وملائمة يمكن اتباعها او تمثلها.

ومن الملفت أن الجماعات الدينية برغم عدائها للفن والموسيقى والرسم والتصوير، فإنها الأكثر اهتماما بفنون النشيد والتصوير والتلفزيون والإذاعة والخطابة والكتابة والتصميم. ويمكن ببساطة وبداهة ملاحظة الكم الهائل في شبكات الإنترنت والفضائيات والتسجيلات الصوتية والمرئية الذي تقوم عليه الجماعات السلفية، ويمكن أيضا تقدير مدى التأثير الذي امتلكته وقدرتها على ملء الفضاء وعالم التدين بالكراهية والتعصب والعنف، .. وإنها لمفارقة تحتاج أن تختص بوقفة طويلة أكثر تفحصا، كيف يحول الفن للعمل ضد القيم العليا والمثالية للدين والأخلاق وقيم الحق والخير والجمال، وبالطبع فإن المثال الأكثر حضورا وتداولا هو استخدام الفن في تمثل الشهوات والأهواء ونشرها، حتى صار الفنّ يرتبط في أذهان كثير من الناس بترويج النوازع والرغبات البدائية المفترض أنها تتعارض مع كون الفن ارتقاء وليس هبوطا، ولكنها أمثلة تصلح إيجابيا للتوضيح والاستدلال حول إدراك أهمية الفن ودوره في تمثل القيم الاستهلاكية والترويج للسلع والوصول إلى الربح المادي أو لخدمة دوافع الكراهية والتمرد والفوضى والخروج على القانون، ...

وهي أمثلة وملاحظات تقود إلى ما يمكن أن تختم به هذه المقالة، وهي مقولة هيغل: "إن الإلهى من حيث هو روح محض، موضوع المعرفة المجردة فقط، ولكن الروح المتجسد في الواقع الفعال ينتمي إلى الفن، وهذا من حيث إنه لا يخاطب دوما وأبدا سوى القلب الإنساني. غير أنه سرعان ما تبرز في هذه الحال اهتمامات وأفعال خصوصية وطبائع محددة بحالاتها وأوضاعها الحينية، وبالاختصار كل صنوف التورطات والتلوثات مع الواقعي، حيث إن المهمة الأولى التي تطرح نفسها تتمثل بصورة عامة في تمحيص العلاقات التي تقوم في مواجهة تلك التورطات والتلوثات بين المثال وبين التعيين الذي عنه تتأتى هذه الأخيرة."[11]


[1] الأنعام 6

[2] مريم 17

[3] هيغل، علم الجمال، ص 265

[4] هيغل – 265

[5] هيغل 267

[6] هيغل 271 – 273

[7] هيغل 276

[8] هيغل 284

[9] هيغل 284

[10] هيغل 284

[11] هيغل 284