فكر سلامة موسى بين السياسة والعلم


فئة :  مقالات

فكر سلامة موسى بين السياسة والعلم

الكاتب الجيد هو الذي تشعر بعد أن تقرأ له بأنّ ثمة تغييراً إلى الأفضل قد طرأ على عقلك ووجدانك، وتشعر أيضاً بعد قراءته أنّك أصبحت إنساناً جديداً مختلفاً عما كنته قبل قراءته. وإذا صدق هذا المعيار على بعض المفكرين والكتّاب مرةً، فإنّه يصدق على سلامة موسى مرات ومرات.

كان قلم سلامة موسى أشبه بالمحراث الذي يشق الأذهان ويحفرها ويهيئها للزرع الجديد، كانت أفكاره – على حد تعبير كامل الشناوي - أشبه بمطرقة.. تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.

ولعل هذا هو سبب اختياري لسلامة موسى، ليكون موضوعاً لهذه الورقة التي أطرحها على حضرتكم الآن. فالقضايا التي أثارها سلامة موسى منذ أوائل القرن العشرين، وخاض في سبيلها شتى المعارك: كالدعوة إلى التقدم الحضاري، والعدالة الاجتماعية، وإقامة مجتمع الحرية والديمقراطية والرخاء، والعمل على سيادة التفكير العلميّ والخروج من عالم الخرافة إلى عالم العقلانية والتحرر الفكري.

كل هذه القضايا التي ناضل في سبيلها سلامة موسى لا يزال أكثرها مطروحاً الآن، وبعضها مطروح ربما بإلحاح أشد مما كان عليه الحال في زمن سلامة موسى نفسه.

ولكن من هو سلامة موسى؟

سؤال يجب ألا يستغربه أغلب المثقفين الذين تأثروا بالرجل وكفاحه، وتابعوا بالقراءة وأحياناً بالكتابة مسيرته الفكرية.

إنّ غرضي من طرح هذا السؤال هو الإشارة إلى مدى الغبن الذي وقع على هذا المفكر الكبير، فلقد تعرض في حياته وبعد مماته لمؤامرة هدفها تغييبه عن عقول الناس ووجدانهم.

ولا أدل على ذلك من أنّك إذا قلت طه حسين والعقاد، لما استعصى عليك أن تجد لدى محدّثك فكرةً عن مثل هذين العملاقين مهما كانت ثقافة محدّثك، حتى ولو كان من الأجيال الجديدة التي لا تكاد تعرف شيئاً عمن سبقهم. ولكنك إذا أردت أن تحدثه عن سلامة موسى، فلابد أن يواجهك بهذا السؤال:

من هو سلامة موسى؟

ينتمي سلامة موسى إلى تيار حداثي يكاد يركز اجتهاده على تغيير البنية الفكرية والثقافية وتجديدها أساسًا للتحديث الشامل، وهذا التيار في معظمه عصري، يرتبط بالمفاهيم والقيم الأساسية للحضارة العصرية. وهو لا يدعو إلى حضارة أخرى متميزة شأن التيار الديني والقومي، وإنّما يدعو إلى الامتزاج في هذه الحضارة العصرية، مع مراعاة خصائصنا الذاتية والقومية سبيلاً لتنمية هذه الذاتية والارتفاع بها إلى مستوى العصر. وقد بدأ هذا التيار الفكري - كما يقول الأستاذ محمود أمين العالم - مع بداية القرن العشرين متمثلاً في الجهود التنويرية الكبيرة التي قام بها "شبلي شميل" و"فرح أنطون" و"إسماعيل مظهر" و"يعقوب صروف" وغيرهم. وسوف نتناول فكر سلامة موسى أنموذجاً لهذا التيار الحداثي. وسيقتصر حديثنا على الطابع العلمي لفكر سلامة موسى.

آمن سلامة موسى بقيمة العلم، فهو يقول في كتابه التثقيف الذاتي (ص192):

"متى استطعنا أن ندرك أنّ كثيراً من الارتباط الذهني، في السياسة والدين والاقتصاد وغيرها، إنّما يعود إلى أنّنا لا نعالج هذه الموضوعات بالطريقة العلمية، بل نتركها بما تراكم عليها من تقاليد وعادات تحول دون تطورنا ورقينا، عرفنا قيمة العلم".

لذلك أنفق سلامة موسى عمره كلّه في تقريب الثقافة العلمية من مواطنيه وإيضاح أوجه الإفادة منها والانتفاع بها. وكانت الصحافة واحترافها وسيلته المثلى التي استطاع من خلالها التأثير في محيطه، وحافظ على الطابع العلمي التثقيفي لمجلته الشهرية "المجلة الجديدة". وقد قام الزميل الدكتور مجدي عبدالحافظ في كتابه "سلامة موسى بين النهضة والتطور" (ص ص 20-21) بإحصاء محتويات المجلدين الأول والثاني من (السنة الأولى) من المجلة الجديدة من نوفمبر سنة 1929 إلى مايو 1930. ولاحظ أنّ "الثقافة العلمية" تحتل المركز الأول، إذ بلغ عدد المقالات المتعلقة بالثقافة العلمية 70 من أصل 366، بنسبة مئوية بلغت 20.8%، وقد زادت مقالات الثقافة العلمية في الجزء الثاني بنسبة 1.6%.

بالإضافة إلى ما تقدم يمكن القول إنّ أبسط الطرق لمعرفة الاتجاه العام لفكر أي كاتب أو مفكر هو النظر إلى عناوين مؤلفاته، وعلى ذلك فإنّ إلقاء نظرة سريعة إلى عناوين أهم الكتب التي وضعها سلامة موسى تكشف عن غلبة الطابع العلمي لفكره، فمن أبرز مؤلفاته:

- مقدمة السوبرمان.

- نشوء فكرة الله.

- الاشتراكية.

- أحلام الفلاسفة.

- حرية الفكر وأبطالها في التاريخ.

- العقل الباطن ومكنونات النفس.

- نظرية التطور وأصل الإنسان.

- السيكولوجية في حياتنا اليومية.

- ما هي النهضة؟

- الدنيا بعد 30 عاماً.

- الشخصية الناجعة.

- حياتنا بعد الخمسين.

- التثقيف الذاتي.

- عقلي وعقلك.

- تربية سلامة موسى.

- محاولات سيكولوجية.

- هؤلاء علموني.

- كتاب الثورات.

- دراسات سيكولوجية.

- برنارد شو.

- مقالات ممنوعة.

- الإنسان قمة التطور.

هذه المؤلفات وغيرها تكشف عن الحرص الشديد من جانب سلامة موسى على نشر الثقافة العلمية.

ولكي نستطيع استيعاب الطابع العلمي لفكر سلامة موسى والذي ساد كتاباته طوال خمسين سنة، وجب علينا قبل كل شيء أن نشير إلى العصر الذي عاش فيه، وندرس الأحداث العلمية التي شهدها، وتأثر بها، فهذه الأحداث تكشف لنا عن مصادر فكره.

عاش سلامة موسى في النصف الأول من القرن العشرين، وهو قرن كثرت فيه الكشوف العلمية والاختراعات، فظهرت النسبية الخاصة والعامة "لأينشتين" وميكانيكا الكم "لبلانك". أما في الميدان السياسي، فقد طغت الدعوة إلى الحرية والاشتراكية والتحرر والبعث القومي.

ولكن أبرز الأحداث التي وقعت في النصف الأول من القرن العشرين هو نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعلى الرغم من الطابع السياسي والعسكري البارز لهذين الحدثين فإنّ سلامة موسى يفسرهما بطريقة خاصة تنم عن عمق إيمانه بالعلم وأهميته وتأثيره البالغ، إذ يقول في كتابه "هؤلاء علموني" تحت عنوان المؤلفون يغيرون الدنيا:

"عندما نتأمل ونتعمق الأسباب والبواعث لهذه الحروب نجد أنّها كانت ثمرة أو نتيجة لابتكارات علمية قام بها مفكرون اخترعوا الآلات أو ابتكروا الأساليب أو ألفوا الكتب لإعلان نظريات جديدة"، ثم يستطرد قائلاً:

"إذا تأملنا هاتين الحربين الكبريين الأخيرتين، فإنّنا نسمع فيهما عن رجال السياسة ورجال الحرب. ولكن هؤلاء الرجال قد باشروا هاتين الحربين فقط ولم يكونوا السبب في إثارتهما، لأنّ السبب يرجع إلى الآلة البخارية التي أخرجها رجل مفكر هو "جيمس واط" في 1776".

ولا ننسى أنّه في مجال العلوم الطبيعية أيضاً ظهرت كشوف هائلة بالنسبة إلى الإنسان، كشوف تبحث عن أصله وارتقائه وتقدمه. وظلت هذه الأفكار الجديدة تشغل أوربا، وكثر حولها الجدل والنقاش بين العلماء والمفكرين والفلاسفة. هذه الأحداث التي شهدها سلامة موسى – علمية كانت أو سياسية – والتي أثرت فيه تأثيراً بالغاً لم يشهدها في مصر، ولم يتعرف إليها في أي بلد عربي، إذ إنّ مصر في ذلك الوقت، بل الشرق كله، كان يعيش في حالة تخلف، لقد شهد سلامة موسى كل هذه الأحداث العلمية في الغرب، فأحب ثقافته وحضارته ورقيه، وأبغض الغرب المستعمر الغاصب المتجني على الحريات.

لقد وجد في الغرب الإنسان القادر المنتصر الذي يؤمن بالعلم والتطور والاختراع.

وتطلع إلى الإنسان الشرقي فوجده يرسف في أغلال الجهل والفقر والمرض غارقاً في أجواء الخرافات والتقاليد والتعاويذ.

ولكي يزلزل سلامة موسى هذه الخرافات والعقائد في عقول الشرقيين لجأ إلى "نظرية التطور" فهو يؤكد في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "نظرية التطور وأصل الإنسان" (ص9):

"إنّ المستوعب لهذه النظرية - إذا كانت قد استحالت في نفسه مزاجاً ومذهباً - يشعر بتحرره من أغلال التقاليد، ويستطيع لذلك أن ينظر النظرة البكر لشؤون هذا العالم. وهو يسمو على الاختلافات الدينية التي مزقت أوربا في القرون الماضية ولا تزال تمزق أقطاراً عديدة في آسيا وأفريقيا".

صحيح أنّ سلامة موسى لم يكن أول من كتب في نظرية التطور وأصل الأنواع، إذ سبقه إلى ذلك "شبلي شميل"، لكن سلامة موسى كان أول من كتب عن "داروين" و"لامارك" كلاماً مفهوماً ليست فيه فقاهة العلماء، كلاماً يفهمه طلاب الجامعة، بل وحتى القارئ العادي، ولم تكن بساطته في العلم فقط، بل بساطة في التعبير هي ثمرة التفكير الواضح المرتب والبيان الدقيق. أما اللغة التي كان يعبر بها عن علمه وفكره، فكانت لا تقل جدة عما كان ينشره من علم وفكر، فعباراته قدت على قد المعنى،إنّ حب سلامة موسى لداروين، وتحيزه لنظرية التطور منذ نشأته الثقافية، قد تركا أثرهما في أسلوب الكتابة عنده، فالأسلوب يدل على الاتجاه الفكري للكاتب، وها هو يقول[1]:

"أنا أوثر أسلوب داروين: أسلوب المنطق الصارم، والحذر والاعتدال على أي أسلوب آخر يوصف بأنّه أدبي".

كما يقول[2] واصفاً كتاباته بأن "ليس فيها أقل عناية بالصناعات البديعية أو البيانية" بل هي مكتوبة بما اعتقد سلامة موسى "أنّه سيكون أسلوب المستقبل وهو الأسلوب "التلغرافي" حيث لا تزيد الألفاظ على المعاني".

أخذت نظرية التطور عند سلامة موسى مكاناً دينياً، فنظر إليها بوصفها دينه الجديد، حيث لم تكن بالنسبة إليه نظرية علمية فحسب، بل كانت في تصوره فكرة كفاحية، استطاعت أن تتصدى للجمود والعقائد والتقاليد الموروثة[3]، إذ يؤكد قائلاً:

"عندما أستبطن إحساسي الديني أجد أنّ بؤرة هذا الإحساس هو التطور[4]".

وهذا الإحساس الديني عند سلامة موسى هو فهم وممارسة.. ولذلك يقول:

"إنّي أفهم أنّنا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النبات، وأنّ الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل قبل 700 مليون سنة هي عنصرنا الأول. وأنّنا مازلنا ننبض ونتغير في تجارب لا تنقطع. وأنّ سنتنا هي لذلك سنة التغير، وجريمتنا هي لذلك جريمة الجمود"

هذا هو السبب الذي دفع سلامة موسى إلى تأليف كتاب "نظرية التطور وأصل الإنسان"، ليكافح الغيبيات الشائعة عند الجمهور. ولهذا نشره مقالات في جريدة "البلاغ" قبل طبعه كتاباً كي يصل إلى أكبر عدد من القراء. ولهذا أيضاً كان يسعى إلى إيجاد حركة علمية شعبية في مصر، فأنشأ عام 1930 - مع فؤاد صروف وآخرين - "المجمع المصري للثقافة العلمية" بغية نشر الثقافة العلمية بين الناس.

ولنستمع إليه يقول[5]:

"نحتاج إلى ثقافة علمية تعم الشعب حتى يترك غيبياته وينزل على قوانين المادة في الزراعة، والصحة، والصناعة، حتى تعمه العقلانية العلمية، فيحل مشكلات الزواج والطلاق، والعائلة، والجريمة، والتربية والسياسة، بأساليب العلم، وليس وفقاً وخضوعاً للتقاليد والعقائد".

ويستطرد قائلاً[6]:

"وهذه النزعة العلمية في الشعب هي التي تحفز على التخصص العلمي، وعلى مكافأة العلميين، والاستماع لهم في نصائحهم وتوصياتهم بشأن الارتقاء المادي لبلادنا".

وهذا الارتقاء المادي - كان في نظره - هو أساس الارتقاء الاجتماعي والثقافي والفني.

لم يطلب سلامة موسى، إذن، العلم من أجل العلم، بل كان هدفه هو تحويل العلم إلى ثقافة، وكان همه أن تكون هذه الثقافة جماهيرية.


[1] أنظر كتابه، تربية سلامة موسى، ص 118

[2] أنظر، مختارات سلامة موسى، ص 6

[3] دكتور مجدي عبد الحافظ، المرجع السابق، ص 28

[4] أنظر كتابه، تربية سلامة موسى، تحت عنوان "تربيتي العلمية" ص 121

[5] أنظر كتابه، البلاغة العصرية واللغة العربية، ص ص 182-183

[6] المرجع السابق، ص 183