فكرة الخلاص الديني وأبعادها الأنثروبولوجيَّة عند جوستافو جوتييريز


فئة :  مقالات

فكرة الخلاص الديني وأبعادها الأنثروبولوجيَّة عند جوستافو جوتييريز

فكرة الخلاص الديني وأبعادها الأنثروبولوجيَّة عند جوستافو جوتييريز([1]*)


مقدمة

يُعَدُّ "جوستافو جوتييريز"([2]) من أبرز وأهم لاهوتيي التحرير في أمريكا اللاتينيَّة، وأوَّل من طرح رؤية فكريَّة مُتَكَامِلَة الأبعاد حول هذا التيار اللاهوتي.

وإذا نظرنا إلى منهج "جوتييريز" اللاهوتي فسنجده ذا صبغة تاريخيَّة واضحة، حيث يركز على قراءة نصوص الكتاب المقدَّس في سياقها التاريخي والاجتماعي، وربطها بالخبرات التاريخيَّة والأوضاع السائدة في المجتمعات المُعَاصِرة. ويَذكر بعض الباحثين أنَّ منهجه في دراسة الكتاب المقدَّس قد نبع من ذلك الفهم التقليدي الذي اكْتَسَبَه في بادئ الأمر، عندما كان طالباً في اثنتين من الجامعات الكاثوليكيَّة الأكثر شهرة وتأثيراً في أوروبا: جامعة "لوفان" في بلجيكا (1951-1955)، والمعهد الكاثوليكي في "ليون" بفرنسا (1955-1959). وقد مرَّ هذا الفهم التقليدي بتحوُّل جذري، عندما جاء على عكس الخبرات التي عايشها عندما كان كاهناً في (ليما) على مدار عام 1960. ومنذ تلك اللحظة بدأ في إعادة قراءة كلّ ما تعلمه، بما في ذلك الكتاب المقدَّس نفسه، من منظور اجتماعي تقدُّمي([3]).

وقد تركزت رؤيته حول التغيير على الربط بين العقيدة المسيحيَّة في الخلاص، والتحرير الإنساني الشامل.

أولاً: المُستَويات الثلاثة للتحرير

طبقاً لجوتييريز فإنَّ التحرير الإنساني لا يقتصر على التحرير المادي وحده؛ فذلك تحرير غير مكتمل، والتحرير الشامل ينبغي أن يتضمن ثلاثة مستويات أساسيَّة:

1ـ التحرُّر الاجتماعي والسياسي: ويُعْنَى بتغيير المؤسسات الاجتماعيَّة القائمة، بما يتضمنه من تحرير الطبقات الفقيرة والمُهمَّشة، وإزالة العلل المباشرة للفقر والقمع، من أجل تأسيس مجتمع تتحقق فيه مصالح جميع الطبقات، ولا تحتكر فيه طبقة منافع اجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة على حساب الطبقات الأخرى.

2- التحرُّر الإنساني: ويُعْنَى بتحرير الأفراد من كلّ ما يعيق حركتهم وحريتهم في المجتمع، وذلك يتطلب ثورة ثقافيَّة تعزز حريتهم الذاتيَّة ومشاركتهم في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وتُنمِّي قدرتهم على تطوير أنفسهم بحريَّة وبكرامة.

3- التحرُّر الديني: ويُعْنَى بالتحرُّر من الخطيئة؛ لأنَّها الأصل في حالة اللاعدالة القائمة. والخطيئة هنا لا تقتصر على الخطيئة الفرديَّة، وإنَّما تمتد لتشمل (الخطيئة الاجتماعيَّة) المتمثلة في الاستغلال، والظلم، والقهر، وبذلك يمكن أن نصل إلى مرحلة الأخوَّة الإنسانيَّة القائمة على الإيمان المشترك بين الجميع([4]).

ويؤكد "جوتييريز" على التكامل بين المستويات الثلاثة في عمليَّة التحرير، دون الخلط بينها، كما يؤكد على عدم إمكانيَّة اختزال مستوى أو أكثر منها إلى غيره، وأنَّه لا أحد بمفرده يكفي لإحداث التحرير الحقيقي الشامل، بل هي تُشَكَّل عمليَّة مركَّبة، وليست مراحل مُتعاقِبة، أو مُتزامِنة([5]). ولعل "جوتييريز" مُتَأثِّر هنا بما ذهب إليه البابا "بولس السادس"، فقد ذهب إلى أنَّ (التحرير) لا ينبغي أن يقتصر على الأبعاد الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة وحدها، وإنَّما ينبغي أن يتعداه إلى الجوانب الأخرى في حياة الأفراد والشعوب الإنسانيَّة.

ثانياً: تجديد عقيدة الخلاص في المسيحيَّة

تركزت رؤية "جوتييريز" بالنسبة إلى عقيدة الخلاص في المسيحيَّة حول الدعوة إلى تجديد فكرة الخلاص حتى تتفق مع المستويات الثلاثة السابقة للتحرير. ويُلاحِظ أنَّ أحد أوجه القصور الكبيرة التي تتخلل اللاهوت المسيحي، هو غياب التفكير العميق والواضح حول موضوع الخلاص([6]). لأنَّ عقيدة الخلاص قد اعتُبرت منذ عهد بعيد، وحتى الآن، خاصَّة بخلاص المؤمنين في الحياة الآخرة، ومنها تفرَّعت مسائل من قبيل: عدد الأشخاص الذين يتمُّ لهم الخلاص، وإمكانيَّة خلاصهم، والدور الذي تمارسه الكنيسة في هذه العمليَّة...إلخ([7]).

ولكنَّ "جوتييريز" يرفض قَصْر عقيدة الخلاص على الخلاص الأخروي، أو على هذه المسائل المحدودة. ففي تصوره، أنَّ الخلاص - الذي هو في أساسه انخراط البشر وتكاملهم مع الله، ومع بعضهم بعضاً - عمل مشترك بين الله والإنسان، وهو يتعامل مع الواقع البشري، ويُشَكَّله، ويوجّهه، ويقوده إلى الكمال([8]).

ولكي يُبرهن على صحَّة رأيه، يذهب إلى أنَّ عقيدة الخلاص تتضمن أبعاداً زمنية، وقد تمثلت في أربعة مسارات في التاريخ البشري:

1ـ خلق العالم كأوَّل أعمال الله الخلاصيَّة

يُعَدُّ خلق الكون - كما جاء في سفر التكوين - هو أوَّل عمل خلاصي قام به الله. فالله قد خلق العالم من العدم، أو فلنقل حرَّره، ونظم عالم الأشياء. ومع بداية خلق العالم بدأ التاريخ، وبدأ النضال الإنساني، وبدأت عمليَّة الخلاص التي قادها الإله يهوه. ولأنَّ الإنسانيَّة هي مِحْوَر الخلق، فإنَّها تشترك مع الله في توجيه مسيرة التاريخ([9]).

2ـ خروج شعب إسرائيل من مصر كثاني أعمال الله الخلاصيَّة

يُعَدُّ حدث خروج شعب إسرائيل من مصر - كما يرويه سفر الخروج - ثاني عمل خلاصي قام به الإله يهوه، ذلك أنَّ الإعلان الإلهي للخروج كان يتعامل مع الظلم التاريخي الذي وقع على شعب إسرائيل. والخلاص هنا هو عمل سياسي قام به الإله يهوه لخلاص شعبه وتحريره من أرض الذل والعبوديَّة إلى أرض الحريَّة التي وعدهم بها([10]).

وفي رأي "جوتييريز" أنَّ "خلق العالم"، و"التحرير من مصر" ليسا سوى عمل خلاصي واحد، والمصطلح الأصلي (للخلق) في سفر التكوين قد استُخدم مرَّة أخرى في سفر الخروج لكي يُشِير إلى إعادة خلق شعب إسرائيل، أي تحريرهم من الظلم والاستغلال والاستعباد. ومن ثَمَّ فإنَّ العمل التاريخي الذي قام به الإله نيابة عن الشعب يُعَدُّ عمل خلق، والله الذي حرَّر شعب إسرائيل هو نفسه خالق العالم. والفرق بين الاثنين يكمن فقط في أنَّ العمل الأوَّل هو عمل وجودي تمثل في إيجاد البشريَّة من العدم، أمَّا العمل الثاني فهو عمل سياسي تمثل في التحرُّر من البؤس والتعاسة والشقاء، أو هو - بعبارة أخرى - تحطيم للَّانظام، والمتمثل في الظلم والاستغلال، وخلق نظام آخر جديد يقوم على العدل والحريَّة([11]).

ومن هنا فإنَّ (الخلق)، كما جاء في سفر الخروج، هو واقع خلاصي- تاريخي زمني أسَّس لإيمان شعب إسرائيل، وهو أيضاً تحرير سياسي عبَّر الإله يهوه من خلاله عن محبته لشعبه([12]). ويضيف "جوتييريز" أنَّ العهد الذي قطعه الله مع شعب إسرائيل منحه التحرير الشامل، ذلك أنَّ العهد حدث تاريخي وقع في لحظة اضطراب للشعب اليهودي، وفي أجواء تحريريَّة وحالة ثوريَّة كامنة كانت ما تزال مسيطرة. ولذلك فإنَّ (العهد) و(التحرير) وجهان مختلفان لعمليَّة واحدة، وهي عمليَّة الخلق. ومن هنا، كان الأفق الأخروي موجوداً في جوهر عمليَّة الخروج. وقد ذَكَّر الإله شعب إسرائيل عبر تاريخه بهذا العمل التحريري الذي يراعي تاريخه، وهو تاريخ إعادة الخلق([13]).

كما يذهب "جوتييريز" إلى أنَّ العهد الذي قطعه الإله يهوه مع شعبه يقتضي التزامَيْن متبادَليْن: التزام الله تجاه الشعب اليهودي (التزام إلهي- إنساني)، والتزام الشعب اليهودي تجاه الله (التزام إنساني- إلهي). وإذا كانت محبَّة يهوه تجاه شعب إسرائيل قد تجسَّدت في تحريره من الاستغلال والعبوديَّة، فإنَّه في المقابل يطلب من الشعب أن يحمل الشهادة له في التاريخ، بمعنى إبراز الجهود البشريَّة للتحرُّر من هذا الظلم([14]). وإنَّ وظيفة الطقوس التي يؤديها اليهود ليست لتخفيف الغضب الإلهي فحسب، بل لشكر الله من أجل التحرير، ولرجاء الله على القيام بتدخلات جديدة في التاريخ([15]).

ومن هنا، لا ينبغي النظر إلى الإله على أنَّه كشف عن ذاته في التاريخ فحسب، وإنَّما يجب النظر إليه نظرة شموليَّة، بمعنى أنَّه ليس إلهاً يحكم التاريخ فحسب، ولكنَّه يوجَّهه نحو تأسيس العدالة والحريَّة، فهو أكثر من مجرَّد إله يحمي، وإنَّما هو إله ينحاز إلى جانب الفقراء ويحرَّرهم من العبوديَّة والظلُّم. والتحرير الحقيقي هو معنى تدخُّلات يهوه في التاريخ([16]).

ولعلَّ "جوتييريز" مُتَأثِّر في ذلك بما ذهب إليه القديس "أوغسطين"، و"بوسويه"، والفيلسوف الألماني "مارتن بوبر" Martin Buber (1878-1965) الذين أكدوا جميعاً على أنَّ الله هو بداية التاريخ ونهايته، والقوَّة التي تَدْفع حركة التاريخ، وأنَّ التاريخ هو خطة إلهيَّة رسمها الله وخطها بقدرته المطلقة([17]). كما يتفق "جوتييريز" مع "شُول"، الذي أكد على أنَّ أفضل السبل لتحقيق العدالة يتمُّ عن طريق فَهْم الطابع الثوري لعقيدة الخلاص التوراتيَّة، الذي يتمثل في العمل الخلاصي الديناميكي لله في التاريخ والمجتمع.

3ـ خلق "يسوع" المسيح كثالث أعمال الله الخلاصيَّة

يعتبر (الخلق الذاتي) ليسوع المسيح ثالث أعمال الله الخلاصيَّة، وأوَّل عمل خلاصي بشَّر به الإنجيل. ومِحْوَر الوضع الخلاصي هنا هو "يسوع" المسيح، حيث كشف الله عن ذاته من خلاله، وحوَّل الكون بفضل موته وقيامته، وجعله ممكناً كي يصل الشخص إلى الكمال الإنساني. وهذا الكمال لا يقتصر على جانب واحد فقط، بل يتعداه إلى كلّ جوانب الإنسانيَّة: الجسد والروح، الفرد والمجتمع، الإنسان والكون، الزمان والأبديَّة. وإنَّ المسيح الذي أخذ صورة الأب والإنسان قد جسَّد ذلك في جميع أبعاد الوجود الإنساني([18]).

ومن هذا المُنْطَلَق فإنَّ خلق "يسوع" المسيح هو عمل من أعمال الخلاص الذي قام به الله؛ وذلك لتحرير البشريَّة من الذنوب والخطيئة بجميع أشكالها ومن كلّ تبعاتها. ومن ثَمَّ، فإنَّ (الخلق) و(الخلاص) يتضمنان هنا معنى كريستولوجياً واحداً في المقام الأوَّل: ففي المسيح «الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ([19])»([20]).

ومن ثَمَّ فإنَّ "يسوع" المسيح الذي تمثل في كلمة الله المعلنة هو المحرّر الأعظم. فمن خلاله تجسَّد الله، وأصبح إلهاً لكلّ الأمم، بعد أن كان إلهاً لليهود فقط، وأصبحت البشريَّة أبناءه. وفيه تتمُّ الخليقة الجديدة، ومن خلاله تتمُّ الدائرة الأساسيَّة لكلّ التأويلات: من البشر إلى الله، ومن الله إلى البشر؛ من التاريخ إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى التاريخ؛ من محبَّة إخوتنا إلى محبَّة الآب، ومن محبة الآب إلى محبة إخوتنا؛ من عدالة البشر إلى قداسة الله، ومن قداسة الله إلى عدالة البشر؛ من الفقير إلى الله، ومن الله إلى الفقير([21]).

4ـ الوَعْد بالخلاص في الآخرة بوصفه التحقق الكامل للتاريخ

يُعَدُّ الوعد بالخلاص في الآخرة ثاني عمل خلاصي رئيس بشَّر به الإنجيل. وما تاريخ البشريَّة في الحقيقة إلا تاريخ تحقيق الوعد الإلهي بالخلاص. وإنَّ الوعد بالخلاص في الآخرة، وتحقيق مملكة الله يتطلب منَّا جميعاً العمل على تقويض الظلم، وإعادة خلق الإنسان من جديد([22]).

من هنا يتبيَّن لنا، كما يقول "جوتييريز"، خطأ من يختزل عقيدة الخلاص الدينيَّة في البُعد الديني وحده. ومن يفعل ذلك فإنَّما يغيب عنه شموليَّة هذه العقيدة. وهو ما يقوم به أولئك الذين يعتقدون أنَّ عمل المسيح يمسُّ النظام الاجتماعي الذي نعيش فيه بشكل عَرضي، ولا يتوغل في جذوره، وفي بنيته الأساسيَّة، ومن ثَمَّ يرفضون اعتبار الخلاص الذي جاء به المسيح تحريراً جذرياً من كلّ أشكال الظلم، والاستغلال، والاغتراب([23]).

ولكنَّ السؤال الذي يَطْرَح نفسه هنا: ما علاقة عقيدة الخلاص، التي هي الموضوع الرئيس للأسرار المسيحيَّة، بعملية التحرير الإنساني في التاريخ؟ أو على نحو أكثر تحديداً: ما معنى النضال ضدَّ مجتمع غير عادل وخلق إنسانيَّة جديدة في ضوء البشارة الإنجيليَّة؟

لقد بحث "جوتييريز" عن الدلالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والإنسانيَّة لعقيدة الخلاص الدينيَّة. ومن خلال هذه المحاور الأساسيَّة الأربعة لعقيدة الخلاص، حاول أن يُعيد تفسير عقيدة الخلاص بشكل مختلف تماماً عمَّا هو سائد في اللاهوتيات المسيحيَّة التقليديَّة، وقد تركَّزت إعادة تفسيره لها بوصفها عمليَّة متكاملة للتحرير الإنساني. وهو يذهب إلى أنَّ (التحرير) هو مفهوم لاهوتي أصيل وليس فقط مفهوماً سياسيَّاً أو اقتصاديَّاً، وهو جُزء من عمليَّة الخلاص التي جاءت في الكتاب المقدَّس، وأنَّ أعمال الخلاص هي ذاتها أعمال تحرير، وأعمال التحرير هي أعمال خلاص. كما يذهب إلى أنَّ الخلاص الفردي يتضمن دلالات اجتماعيَّة وسياسيَّة عينيَّة في المجتمع، ذلك أنَّ الفرد لا يعيش منعزلاً، وإنَّما يعيش في مجتمع تاريخي عيني([24]).

ويقتضي التحرير الشامل، الذي جاء به السيد المسيح إلى البشر أجمعين، تغيير الظروف الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي يعيش فيها البشر تغييراً جذرياً. وتغيير هذه الظروف يتطلب المشاركة في عمليَّة تاريخيَّة للتحرير، ومن ثَمَّ، فإنَّ إزالة (الخطيئة الاجتماعيَّة) يقتضي تحرير سياسي واجتماعي جذري، وهذا التحرير الجذري هو الهِبة التي منحنا المسيح إيَّاها. فقد افتدانا بموته وقيامته من الخطيئة الفرديَّة والاجتماعيَّة ومن جميع عواقبها([25]). وهذا هو السبب في أنَّ أيَّة محاولة لبناء مجتمع إنساني عادل هي محاولة للتحرير والخلاص معاً، حيث تساعد على القضاء على الاغتراب الأساسي الكامن في الخطيئة الاجتماعيَّة([26]). ومن ثَمَّ، فإنَّ لاهوت التحرير يمكن اعتباره على أنَّه (لاهوت للخلاص) Theology of Salvation في واقع تاريخي واجتماعي وسياسي معيَّن([27]).

ومن هذا المُنْطَلَق، فإنَّ التحرير الشامل يتطلب ثورة لتقويض بنى الظلم والقمع والقهر، وفي ذلك يقول "جوتييريز": «عندما نحاول أن نحقق ذلك، فلا بُدَّ من القطيعة الثوريَّة مع طريقة الحياة، والفكر، وكلُّ هذا يتطلب منا أن نتحول إلى عالم مختلف، وإلى فَهْم للإيمان بأسلوب جديد»([28]).

ويتفق "بوف" مع "جوتييريز" في ربطه بين عقيدة الخلاص الدينيَّة والتحرير الإنساني الشامل، وفي تبريره للثورة كسبيل للتحرير، حيث يذهب "بوف" إلى أنَّ مملكة الله تتحقق عن طريق الثورة في فكرنا وفعلنا، وتتطلب التوبة. والتوبة تَعْنِي تحوُّل فكْر الشخص، ومواقفه لكي يتفقا مع فكْر الله وأفعاله في التاريخ، وذلك يتطلب ثورة باطنيَّة في المقام الأوَّل. وهذا ما بدأ به "يسوع" بشارته([29]). والتوبة لا تتألف من أعمال البر والتقوى، ولكنَّها تتألف في الأساس من وضع جديد للحضور أمام الله وفي ضوء البشارات التي أعلنها يسوع. كما يَذكر أنَّ التوبة تتضمن دائماً نضالاً من أجل الحريَّة والعدالة، بما يتضمنه هذا النضال من تَمَزُّق وتشتُّت، كما جاء على لسان السيد المسيح: «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَاماً. لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ([30])»([31]).

ولكن: هل يعني ذلك أنَّ "جوتييريز" يختزل الإنجيل في البُعد السياسي وحده؟

في الحقيقة إنَّ "جوتييريز" لم يرد عقيدة الخلاص إلى التحرير السياسي أو الاقتصادي وحده أو اختزلها فيه، كما ذهب بعض النقاد حين رأوا أنَّه ساوى ببساطة بين "الخلاص" و"التحرير"، وإنَّما فسَّر الخلاص في نهاية المطاف على أنَّه عملية إنسانيَّة نشارك بها أعمال الله في الخلق، كما نشارك بها بعضنا بعضاً في التاريخ الإنساني([32]). وبعبارة أخرى، إنَّه ينظر إلى عقيدة الخلاص، بوصفها "واقعة حدثت داخل التاريخ الإنساني" “intrahistorical reality”، وبوصفها إحدى العمليات الأساسيَّة التي تُسهم في تحوُّل التاريخ، فتسيّره وتوجّهه إلى التحقق الكامل([33]). وقد أوضح "جوتييريز" نفسه في إجابته عن هذا السؤال قائلاً:

إنَّ هذا صحيح عند الذين يوظفون الإنجيل ويستغلونه لخدمة ذوي السلطة ومصالحهم، وهو صحيح أيضاً عند الذين يتمسَّكون حرفياً بالإنجيل، ويسجنونه لخدمة أفكار تُقوِّي النظام الرأسمالي، أو تُبرِّر وضعاً اجتماعياً ظالماً، وهو صحيح كذلك عند الذين يريدون أن يبطلوا أثر التحرير الذي أتمَّه "يسوع" المسيح، فيُقصرونه على البُعد الديني وحده، من دون الانخراط في العالم الذي يعيش فيه البشر. ولكن هذا غير صحيح عند الذين ينطلقون من رسالة الإنجيل التحريريَّة، لكي يُندّدوا بالاستغلال الواقع في مجتمعات العالم الثالث، وعند الذين يتشبّهون بالمسيح الفقير، ويتضامنون مع المحرومين والمظلومين في العالم الثالث، وعند الذين يحاولون تحرير الإنجيل من هذا السجن بعد أن حرَّروا أنفسهم بالإنجيل، وعند المؤمنين الذين يوقنون بأنَّ خلاص المسيح جذري وشامل، لدرجة أنَّه لا شيء يخصُّ خلاص الإنسان يقع خارج نطاقه([34]). ويضيف "جوتييريز":

إذا كانت قراءة الإنجيل انطلاقاً من التضامن مع الفقراء والمُهمَّشيّن تسمح لنا أن نستنكر استغلال ذوي السلطة للإنجيل، لكي يضعوه في خدمة مصالحهم، فإنَّ هذا الاستنكار لن يتَّم بطريقة كاملة، إذا لم نعِ أهميَّة النقد والإبداع لرسالة الإنجيل التحريريَّة. وهذه الرسالة لا ينبغي اختزالها لأيّ نظام اجتماعي مُعَيّنٍ، مهما كان صحيحاً في هذه اللحظة. ذلك أنَّ كلام الرَّب يُسائل كلَّ التجارب التاريخيَّة الإنسانيَّة، ويضعها في الرؤية الأوسع للتحرير الجذري والشامل للمسيح([35]).

ومن هذا المُنْطَلَق، فإنَّ "جوتييريز" لا يفصل بين مملكة السماء ومملكة الأرض، ومن ثَمَّ لا يفصل بين الخلاص، كمفهوم ديني، والتحرير الاجتماعي والإنساني بالمعنى الواسع. ذلك أنَّ الخلاص من المنظور المسيحي، بوصفه تحرُّراً من الخطيئة، يتضمَّن أيضاً التحرُّر من الخطيئة الاجتماعيَّة، المتمثلة في الظلم والاستغلال والقهر الاجتماعي([36]).

وهكذا فإنَّ تفسير "جوتييريز" لعقيدة الخلاص بأنَّه خلاص إنساني، دنيوي، اجتماعي، هو تفسير معاصر لا نجد له أصولاً في التفسيرات التقليديَّة لعقيدة الخلاص المسيحيَّة. ومن ثَمَّ يمكن القول: إنَّ أهمَّ إنجازات لاهوت التحرير هي أنَّه تجاوز المسافة ما بين المقدَّس والدنيوي، ما بين مملكة السماء ومملكة الأرض، وجمع بين الخلاص الديني والخلاص الدنيوي.

 

قائمة المصــادر والمراجـــع

أ- مراجع باللغة الإنجليزيَّة:

1- Boff, Leonardo: Jesus Christ Liberator: A Critical Christology for Our Time (1971), tr., Patrick Hughes, Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1980.

2- Dupertuis, Atilio René: “Liberation theology's Use of the Exodus as A Stereological Model”, Ph. D., Andrews Univ., 1982.

3- Figueroa-Villarreal, Victor: “Gustavo Gutiérrez's Understanding of the Kingdom of God in the Light of the Second Vatican Council”, Ph. D., Andrews University, 1999.

4- Gutiérrez, Gustavo: A Theology of Liberation: History, Politics and Salvation, tr. and ed.: CaridadInda and John Eagleson, 15th ed. Maryknoll, N.Y., Orbis Books, 1988.

5- Gorman, Rosemarie E.: “The Contributions of Gustavo Gutierrez and Juan Luis Segundo to a Theology of Social Sin”, Ph. D, the Catholic University of America, 1996.

6- Murray, Joyce: “Liberation for Communion in the Soteriology of Gustavo Gutiérrez”, Theological Studies, Vol. 59, (Mar. 1998).

7- Siker, Jeffrey S.: Scripture and Ethics: Twentieth-Century Portraits, New York Oxford: Oxford Univ. Press, 1997.

ب ـ مراجع باللغة العربية:

1- جوتييريز، جوستافو: قوة الفقراء في التاريخ (1979)، ترجمة دار روز اليوسف، القاهرة: دار روز اليوسف، 2006.

2- علي حسين قاسم: الله والإنسان في الفكر اليهودي المعاصر: دراسة في فلسفة الدين عند مارتن بوبر، القاهرة: المكتبة المصرية، 2004.


(*)نشر هذا البحث في الملف البحثي "جدل المقدس والتاريخ"، بتاريخ 30 دجنبر 2016، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تقديم ربوح البشير.

[2]. هو القسُّ البيروفي "جوستافو جوتييريز"، لاهوتي وراهب دومينيكاني من بيرو. ولد في (ليما)، عاصمة جمهورية (بيرو)، في الثامن من يونيو عام 1928. ومن أهمّ أعماله: "لاهوت التحرير: التاريخ والسياسة والخلاص" عام 1971، الذي يُعَدُّ دستوراً للحركات الثوريَّة والتحريريَّة في العالم الثالث بصفة عامة، وأمريكا اللاتينيَّة بصفة خاصة.

[3]. Jeffrey S. Siker: Scripture and Ethics: Twentieth-Century Portraits, New York Oxford: Oxford Univ. Press, 1997, PP. 126-127.

[4]. Gustavo Gutiérrez: A Theology of Liberation: History, Politics and Salvation, tr. and ed.: CaridadInda and John Eagleson, 15th ed. Maryknoll, N.Y., Orbis Books, 1988, PP. xxxviii, 16-24.

وحول هذه النقطة بالتفصيل، انظـر:

(Rosemarie E. Gorman: “The Contributions of Gustavo Gutierrez and Juan Luis Segundo to a Theology of Social Sin”, Ph. D., The Catholic University of America, 1996).

[5]. Gutiérrez: A Theology of Liberation x l.

[6]. Ibid. P. 83.

[7]. Ibid. P. 84.

[8]. Ibid. P. 85.

[9]. Ibid. P. 86-87.

[10]. Ibid. P. 87.

[11]. Ibid. P. 88.

[12]. Ibid. P. 89.

[13]. Loc. Cit. See also: Atilio René Dupertuis: “Liberation theology's Use of the Exodus as A Stereological Model”, Ph. D., Andrews Univ., 1982.

[14]. جوستافو جوتييريز: قوة الفقراء في التاريخ (1979)، ترجمة دار روز اليوسف، القاهرة: دار روز اليوسف، 2006، ص 18.

[15]. المصدر السابق، ص 22.

[16]. المصدر السابق، ص 14.

[17]. علي حسين قاسم: الله والإنسان في الفكر اليهودي المعاصر: دراسة في فلسفة الدين عند مارتن بوبر، القاهرة: المكتبة المصرية، 2004، ص ص 91-92.

[18]. Gutiérrez: A Theology of Liberation, P. 85.

[19]. [كولوسي 1: 16].

[20]. Gutiérrez: A Theology of Liberation, P. 90.

[21]. جوتييريز، مصدر سابق، ص ص 26، 27.

[22]. Gutiérrez: A Theology of Liberation, PP. 91Ff.

[23]. Ibid. P. 104.

[24]. جوتييريز، مصدر سابق، ص 33.

[25]. Gutiérrez: A Theology of Liberation, P. 103.

[26]. Ibid. P. 104.

[27]. Ibid. xxxix.

[28]. جوتييريز، مصدر سابق، ص 30.

[29]. وذلك حين قال: «تُوبُوا؛ لأنهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ». [متى 3: 2، 4: 17].

[30]. [لوقا 12: 51-52].

[31]. Leonardo Boff: Jesus Christ Liberator: A Critical Christology for Our Time (1971), tr., Patrick Hughes, Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1980, P. 64.

[32]. Joyce Murray: “Liberation for Communion in the Soteriology of Gustavo Gutiérrez”, Theological Studies, Vol. 59, (Mar. 1998), P. P. 52, 58.

[33]. Victor Figueroa-Villarreal: “Gustavo Gutiérrez's Understanding of the Kingdom of God in the Light of the Second Vatican Council”, Ph. D., Andrews University, 1999, P. 79.

[34]. جوتييريز، مصدر سابق، ص 33.

[35]. المصدر السابق، ص 34.

[36]. Figueroa-Villarreal, op. cit., PP. 199-200.