فلسفة الاعتراف: في دلالات المفهوم وراهنيته


فئة :  مقالات

فلسفة الاعتراف: في دلالات المفهوم وراهنيته

فلسفة الاعتراف: في دلالات المفهوم وراهنيته

محمد العربي العياري

ملخص:

تبحث هذه الدراسة في فلسفة الاعتراف من جانب كونها تُعد من الأطروحات الراهنة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية المعاصرة؛ وذلك من خلال تتبع الأثر الفلسفي الذي مهد لبروز هذا المفهوم وتأصيله، ثم إعادة تحيينه وإغنائه عبر مقاربات فلاسفة مدرسة فرانكفورت ومفكري ما بعد الحداثة. فتوقفنا مع "يورغن هابرماس" و"أكسل هونيث" لنكتشف راهنية هذا الطرح، ومدى قدرته على التصدي لمشاكل المجتمعات المعاصرة. لذلك قمنا بتقديم المقاربة التي قدمها "هابرماس" في مسألة التذاوت ومشكلات التواصل، ثم الطرح الذي صاغه "أكسل هونيث" حول مفهوم الصراع من أجل الاعتراف، وتقديمه لأشكال وصيغ جديدة من الاعتراف.

أردنا من خلال ذلك، أن نقدم قراءة قد تساهم في مزيد من الكشف عن أهمية مفهوم الاعتراف، وإرفاقه بجملة الآليات الممكنة التي ترنو نحو حل تناقضات وإشكاليات الدولة الليبرالية الحديثة بتداخل مكوناتها وتعدد ميكانيزمات اشتغالها.

مقدمة:

يُمثل مفهوم الاعتراف أحد الأطروحات المهمة التي تُحاول الفلسفة السياسية المعاصرة، تنزيله كأحد الحلول المُمكنة أمام موجات الصراع الاجتماعي والسياسي. لذلك، تتعدد المقاربات التي تناولت فلسفة الاعتراف بوصفه بديلا نظريا عن مُقاربات الهيمنة والغلبة، وحتميات التدافع الاجتماعي والإخضاع. فنقف مع مقاربة "يورغن هابرماس" (1929-...) حول الفضاء العمومي، باعتباره إعادة هندسة للشرط المكاني للتواصل، ومطارحات "أكسل هونيث" (1949-...) في رؤيته لمآلات عملية التواصل الهابرماسي، باعتبارها إحدى القراءات السوسيو فلسفية لعملية معقّدة وعميقة من جانب ممكناتها النظرية، لكنها تُلامس من جانب قُدراتها العملية، ممكنات شاسعة من جانب ما يُمكن أن تُقدمه من حلول.

نشير إلى أن ما طرحه "هابرماس" و"هونيث"، كانا نتاجا لقراءة تعود جذورها التأسيسية إلى موروث فلسفي غزير ومتعدد، يمر على الرؤية الهيغلية لعملية التذاوت، وصولا إلى نقد الليبرالية السياسية المعاصرة مع "أكسل هونيث". وبقدر عُمق ما تراكم من مقاربات، وما تعدّد من رؤى، تُوضع فلسفة الاعتراف في مجملها في خانة البراديغم الجوهري، باعتباره خُلاصة عملية التّذاوت وسيرورة بناء الذات واكتشاف عقلانية بديلة عما قدمه العقل الحداثي. هذا العقل الموسوم بالأداتية المُفرطة التي أخضعت كل مخرجاته إلى منطق المصلحة والغاية، والتي تجد في الوسيلة تبريراتها ومُسوّغاتها. من هذا المنطلق، يتموضع العقل الحداثي داخل إطار من الهيمنة والإخضاع والسيطرة التي قطعت مع مشروع التحرر الأنواري وعمّقت تناقضات الإنسان ذاته كمشروع وهدف. أمام هذه الإشكاليات السوسيوسياسية التي تنخر جسد الدولة الديمقراطية الحديثة، يُستدعى مفهوم الاعتراف باعتباره حلّا للتناقضات والإشكاليات المُشار إليها، هذا مع التنّبه إلى ضرورات معالجته بما يتماشى مع ما تعيشه الدولة الحديثة من تمفصلات بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي وما هو اجتماعي، في مستوى العلاقات والأشكال الفكرية والتعبيرية الجديدة. من هذا المنطلق، يتحول براديغم الاعتراف كإشكال فلسفي يتطلب التساؤل على الجدوى من تنزيله كحل، ويفرض البحث في قدراته وراهنيته. فتتكثف إشكاليتنا في التساؤل عن الحدود الممكنة لقدرات مفهوم الاعتراف على الاستجابة لشرط التحرر، باعتباره جوهر عملية سيرورة الحداثة. لذلك سوف نعتمد في هذه الدراسة على المحاولات التي قام بها "يورغن هابرماس" و"أكسل هونيث" في سياق المجهود الفكري الذي حاولا مراجعته وتأصيله، سعيا نحو تنزيل فلسفة الاعتراف كحل ممكن نظريا وعمليا لسد الثغرات التي تساوقت مع العقل الحداثي في مستوى عجزه على حل المشكلة السياسية للحداثة، ألا وهي مشكلة التحرر باعتبارها تكثيفا لمعاني الحرية، وتتويجا للعلاقات السوسيو سياسية القائمة على العلاقة السوية بين الأنا والآخر.

1- الجذور الفلسفية لمفهوم الاعتراف

يفرض البحث الفلسفي في فلسفة الاعتراف، أن نحاول تأصيل المفهوم؛ بمعنى أن نتتبع- قدر الإمكان- الجذور الفلسفية التي تكشف عن بدايات تموضعه كمبحث فلسفي. إنّ التعدد والكثافة في علاقة بالأطروحات التي تناولت هذا المفهوم، فرضت على الباحثين، تكثيف فلسفة الاعتراف في اتجاهين أو رؤيتين؛ الاتجاه الأول يُرجع تكوُّن وتطور فلسفة الاعتراف إلى المثالية الألمانية ممثلة في "فيخته" (1762-1814) كمؤسس وفي فلسفة "هيغل" (1770-1831) كاكتمال لهذا التأسيس. أما الاتجاه الآخر، فإنه يعود إلى لحظات تأسيسية سابقة وبالتحديد إلى "أفلاطون"(427 ق م- 347 ق م) و"كانط"(1724-1804) و"ديكارت" (1596-1650) مثلما هو الشأن مع "بول ريكور"(1913-2005). وفي مقابل هذين الاتجاهين، تبرز قراءات أخرى تجمع مفهوم الاعتراف من جانب لحظاته التأسيسية بمفكرين مثل "جون جاك روسو"(1712-1778) كأول من أصّل للاعتراف كفلسفة متكاملة. لتتبع معاني الاعتراف عند "روسو"، نقرأ ما كتبه "حسام الدين درويش": "يمكن أن نميز بين ثلاث دلالات أساسية لكلمة الاعتراف في النصوص الروسوية: الشعور بالعرفان أو الامتنان أو التعبير عن هذا الشعور ...الاعتراف أو الإقرار بحقيقة ما والتعرف إلى شيء أو شخص ما أو إعادة معرفته؛ فالمفهوم المركزي في فلسفة الاعتراف عند روسو هو مصطلح "الحب الشخصي".([1])

في تناول مفهوم الحب الشخصي عند "روسو"، نلاحظ الإحالة إلى حاجة الذات وسعيها ورغبتها في الحصول على استحسان الآخرين أو إعجابهم وتقييمهم الإيجابي. مسار جديد لفلسفة الإنسان يلخص بمقولة "غوته"(1749-1832): "مع فولتير انتهى العالم القديم، ومع روسو فإن عالما جديدا يبدأ". المفكر الآخر الذي اقترنت أعماله الفكرية بموضوع الاعتراف هو "هيغل" ليصبح موضوع الاعتراف "موضوعا مألوفا في الفلسفة الأوروبية". لقد عمق "هيغل" البحث في مفهوم الاعتراف حتى أصبح المرجع الرئيس والأكثر استنادا على فلسفته وخاصة مع "يورغن هابرماس" و"أكسل هونيث" من خلال تجربة التذاوت وديالكتيك التفاعل. هذا الدور الذي يلعبه المفهوم والمتمثل في خلق إمكانات واقع مغاير، كان العنوان الأبرز في الجهد الذي قام به "أكسل هونيث" من خلال اشتغاله على فلسفة الاعتراف.

2- الفلسفة الهيغلية: ديالكتيك التفاعل ومفهوم الاعتراف

يُحيلنا البحث في فلسفة "هيغل"، إلى التوقف عند موضوع الذات والصراع من أجل تشكّل الوعى (وعى الذات بذاتها)؛ فبين الذات كإرادة عند "فريدريك نيتشه"(1844-1900)، والذات كعقل عند "ديكارت"، نقف إزاء مقاربة خاصة عند "هيغل" لنتداول في مفهوم الذات كسيرورة تكوّن من خلال فعل التواصل مع ذوات مغايرة تحت عنوان: الصراع، والذي يرنو إلى تحقيق الاعتراف.

في هذا المعنى، يكتب "هابرماس" في: "العلم والتقنية كإيديولوجيا"([2]): "هيغل لا يربط تأسيس الأنا بتأمل أنا منعزلة على ذاتها، وإنما يدركه من سيرورات تكوّن وتحديدا تكوُّن الوحدة التواصلية لذوات متعارضة."

يُقيم "هابرماس" تمييزا بين العقلانية الأداتية والعقلانية التواصلية، حيث ينطلق من نقد معادلة "ماكس فيبير"(1864-1920) التي تتكثّف في مفاهيم "فقدان الحرية وفقدان المعنى" التي كانتا نتاجا لسيطرة نوع واحد من العقلانية وهي العقلانية الأداتية، حيث يتبنى المقاربة التي قدمها "جورج لوكاتش"(1885-1971)، والتي تتمثل في اعتبار أن الأداتية ليست سوى شكل من أشكال العقلانية وليست ممكناتها الوحيدة. من هذه الزاوية، أعاد "هابرماس" النبش في فلسفة "هيغل" بحثا عن أدوار ممكنة ومغايرة للذات.

هذه الإحالة المباشرة إلى الفلسفة الهيغلية وإحياء قراءتها مع "هابرماس"، تعود إلى أمرين: أولا، أن "هابرماس نجح في ما فشل فيه رواد مدرسة فرانكفورت الأوائل، "ماكس هوركهايمر"(1895-1973) و"تيودور أدورنو"(1903-1969) و"هربرت ماركوز"(1898-1979)، وقدم نموذجا نظريا جديدا لم يتجاوز به الماركسية فقط، وإنما تجاوز به النموذج السائد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة منذ "ديكارت" وإلى ما قبل النظرية النقدية، والذي يسميه بنموذج فلسفة الوعى بنموذج جديد هو فلسفة الذات."([3])

هذا المنعطف النقدي للنظرية الكلاسيكية، قام "هابرماس" بتوظيفه في سياق إعادة استنطاقه للعلاقات الممكنة للذات داخل حدود عالم العقلانية. وقد اعتمد في بحثه هذا على الرؤية الهيغلية لما يسمى بالتذاوت، حيث تخوض الذات صراعا من أجل الاعتراف.

التقط "هابرماس" هذه الأطروحة انطلاقا مما يعرف عند "هيغل" بديالكتيك التفاعل، وقام بقلب شروطه(الصراع) من خلال الاعتماد على فلسفة اللغة سعيا نحو تحقيق العقلانية التواصلية وحتى يكون الحاصل ممثلا في التفاهم كبديل على مآلات ونتائج جدلية السيد والعبد كما حددها "هيغل".

الأمر الثاني الذي يبرر تناولنا لمسألة الذات من خلال الربط بين "هيغل" والشروحات الذي قدمها "هابرماس"، يتمثل في المقاربة التي اعتمدها "أكسل هونيث"، والتي تتمظهر في انطلاقه من البراديغم الهابرماسي ونعني به التفاهم، واستبداله ببراديغم الاعتراف، معتمدا في ذلك على قراءة للذات كما صاغها "هيغل" ولدور فلسفة اللغة كما حددها "هابرماس".

من المهم أن نطرح، بنية النظام الفلسفي وفق المقاربة الهيغلية، فنشير إلى ثلاثية: المنطق وفلسفة الروح المطلق ومبدأ الجدل، حيث يحيل المنطق على الأنطولوجيا، في حين تشير فلسفة الروح المطلق إلى الله والدين. أما عن الجدل، فقد قدّم "هابرماس" من خلال قراءته لرسائل "يينا" ل "هيغل" الشاب، الأنماط أو التفريعات الكبرى له والمتمثلة في: ديالكتيك العمل والذي يعني علاقة أداتيه بين الإنسان والطبيعة، ثم ديالكتيك التمثيل، والذي يرتبط بالذات، وأخيرا ديالكتيك التفاعل والذي يتمظهر من خلال العلاقة بين الذوات، والتي تبرز من خلال ديالكتيك الصراع من أجل الاعتراف والاعتراف المتبادل.

في كتاب "فينومينولوجيا الروح"([4])، يحلل "هيغل" جدلية الصراع بين السيد والعبد، حيث يأخذ هذا الصراع أهمية محورية في علاقة بتشكل الوعى بالذات. ووفق ما تقدم، تطرح هذه الأهمية دورا مزدوجا: من جانب أول، فالوعي يبحث عن نفسه داخل ذات أخرى وبذلك تنشأ علاقة التواصل. ومن جانب آخر، تجد الذات نفسها في الآخر. ومن هنا يولد الصراع الذي ينتهي بطرف منتصر (السيد) وطرف منهزم (العبد). ويبقى شرط الحصول على الاعتراف مُتوقفا على عدم موت أحد الطرفين؛ لأن ذلك يعني فقدان الوعى الذاتي لفرصته في الحصول على الاعتراف، مما يجعل الاعتراف والبقاء أو الحضور كمتلازمة شرطية أحدها غاية والآخر نتيجة.

حسب هذا الطرح الهيغلي، يكون السيد هو ذاك الذي يدمر الاعتماد على الحياة، في حين أن العبد هو ذاك الذي يفضّل الحياة على الموت ويمتنع عن تدميرها. في هذا المعنى، يكتب "هابرماس": "يعتمد "هيغل" ديالكتيك الأنا والآخر في إطار التفاعلات الذاتية للروح. في حين لا تتواصل الأنا مع ذاتها بوصفه آخرها، وإنما أنا مع أخرى بوصفها آخر."([5])

من خلال هذه المقولة، نتبين أن مفهوم الاعتراف يُعبّر عنه من خلال تفاعلات الذات والمتمثلة في تواصل الأنا مع ذاتها ومع أنا مغايرة، حتى يتحقق وعى الذات بذاتها. هذا التفاعل يرنو نحو تحقيق الاعتراف من خلال جدلية السيد والعبد التي عبر عنها "هيغل".

إذا كان التأسيس لفلسفة الأخلاق وفق الرؤية التي قدمها "ايمانويل كانط"، تستند إلى العقل الترنسندنتالي مع التنصيص على التمييز بين الواجب الشرطي والواجب الأخلاقي، مثلما بيّن ذلك في "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"([6])، فإن فلسفة الأخلاق الهيغلية تأسست على معنى الصراع من أجل الاعتراف، حيث يعني "مفهوم هيغل عن الأنا بوصفها هوية العام والمفرد، إنما هو نقيض الوحدة المطلقة للوعى الخالص العائد إلى ذاته للإدراك الأصلي الذي ثبت عليه "كانط" بالإجمال هوية الوعى. لم تنشأ الخبرة الأساسية للديالكتيك التي أطلقها "هيغل" في مفهوم الأنا أصلا كما نرى من مجال خبرة الوعى النظري، وإنما العملي."([7])

بهذا الشكل، أصبح القول في الذات مع "هيغل" متمركزا في معنى وعيها بذاتها الذي تجده في الآخر حتى تؤسس لمقومات إدراكها للوجود في بُعديه المجرد والمشخص. ومن خلال مسلسل تشكل الروح عبر عملية التذاوت بفعل ديالكتيك التفاعل، يتحقق الاعتراف بالذات عبر جدلية السيد والعبد.

3- يورغن هابرماس والتفاهم كغاية للفعل التواصلي

نقرأ في مقدمة كتاب "نظرية الفعل التواصلي"([8]) ما يلي: «عرض هابرماس نظرية نقدية عن الحداثة تسمح بتشخيص أمراضها وتحليلها على نحو يعيد توجيه مشروع الأنوار الجهة الواعدة عوض التنكر له والتخلي عنه."([9])

نلمس من خلال هذه المقولة، مع استرداد توابعها التفصيلية، كيف تعامل "هابرماس" مع الموقف الذي يقول بانتهاء الحداثة وزوال سطوتها، وبين الرؤية التي لازالت عالقة في قلب الحداثة وتستعرض سلبياتها استنادا إلى العقلانية المفرطة التي تُميزها.

يعتبر "هابرماس" أن الحداثة مشروع لازال يبحث على اكتماله، وهو بذلك ينفتح على ممكنات أخرى اعتبارا إلى أن للعقلانية أشكالا متعددة، وبالتالي مآلات مغايرة. وقد تركز بحثه على نقطة مفصلية تتمثل في قلب معادلة الصراع داخل الفضاء العمومي. وللإشارة، فإن سيرورة بناء مفهوم الفضاء العمومي عند "هابرماس"، قد مرت بمحطات عديدة منها ما اتصل بمقاربة "حنا أرندت"(1906-1975) ومنها ما كان عامل تأثير فكري على "هابرماس" مثل الماركسية الأوروبية والانغلاق السياسي. كذلك ظهور الفاشية في جزء من أوروبا، والتأثير العميق للنقد الذي وجهته "نانسي فريزر" (1947-...) للفضاء العمومي بمميزاته الهابرماسية، ثم قراءته المعمقة للمفهوم الكانطي للفضاء العام. وأخيرا، تعاطيه مع الديمقراطية الغربية من خلال نقده للديمقراطية التشاركية.

بالعودة إلى مسألة الحداثة وفق رؤية "هابرماس"، نلمس أثر الفكر الذي قدمه "تالكوت بارسونز" (1902-1979) في علاقة بمخرجات الحداثة أو بما انبثق عنها، حيث سيطرت ثلاثة أنساق، وهى: النسق الاقتصادي، النسق الثقافي والنسق السياسي. ويعتبر "هابرماس" بأن الحداثة السياسية بمعنى هيمنة النسق السياسي مكّن من بروز هيمنة عَلموية على الفعل الإنساني. لذلك وجب حل الإشكالية السياسية للحداثة عن طريق إحلال نموذج العقلانية التواصلية محل العقلانية الأداتية التي أنتجت فعل الهيمنة والإخضاع.

من هذه الزاوية، زاوية عالم الهيمنة، يبحث "هابرماس" عن العوالم التي تُموضع الانسان داخلها ويتأثر بزوايا تفاعلاتها وخصائصها، فيعود إلى مقاربة "إدموند هوسرل" في الجانب المتعلق بالحديث عن العالم المعيش أو عالم التجربة الذاتية. هذا العالم الذي يلح "هابرماس" على عقلنته دون الاعتماد في ذلك على آليات عقلنة النسق كما تظهر في الاقتصاد والسياسة مع "ماكس فيبير".

يخلص "هابرماس" إلى المعادلة التي تقول بأن العلاقة بين الذات والموضوع هي جزء من العلاقة بين الذوات، أو ما يُعبر عنه بالتذاوت، وفي هذا إحالة مباشرة إلى "هيغل" وفعل التذاوت.

من هذه العلاقة (بين الذات والموضوع)، يقيم "هابرماس" تمييزا بين ثلاثة عوالم: العالم الذاتي، العالم الموضوعي المشترك والعالم الاجتماعي المشترك.

العالم الذاتي هو عالم العقل التأملي التحرري. أما العالم الاجتماعي المشترك، فهو عالم العقل التواصلي بتمظهراته كعقل استراتيجي وعقل تواصلي. فيما يخص العالم الموضوعي المشترك فهو عالم العقل الأداتي كما يبدو عليه هذا العقل بصيغته التقنية الأداتية والتجريبية.

من جانب آخر، يعتبر "هابرماس" أن مواطن القصور في فكر "ماكس فيبير"، هو عدم التفريق بين الأنظمة الثقافية للفعل وبين الأنظمة الاجتماعية، واستنادا إلى تمايز هذه الأنظمة وهذه العوالم، وعلى أنقاض الرؤية التي يقدمها "ماكس فيبير" إلى الحداثة باعتبارها عقلنة للمقدس، يطرح "هابرماس" مقاربته التي تقول بأن الحداثة هي لغونة للمقدس.

بهذه الكيفية، ينزاح القول الهابرماسي نحو الاعتماد على اللغة كأساس للفعل التواصلي نظرا إلى الأدوار التي تضطلع بها والتي يحددها ب: الحقيقة والصواب المعياري وصدق التعبير عن الذات، فيستنطق منجزات فلسفة اللغة مع "تشارلز موريس"(1903-1979)، "ساندرز بيرس"(1839-1914)، "رودولف كارناب"(1891-1970)، "لودفيغ فيتغنشتاين"(1889-1951)، "جون أوستن"(1911-1960)، "جون سيرل"(1932-...) وغيرهم ممن أسبغوا على اللغة معاني وممكنات جديدة لم تكن متداولة داخل المبحث الفلسفي.

إن الغاية من الفعل التواصلي هو الوصول إلى التفاهم، "يحيل مفهوم الفعل التواصلي على التفاعل الذي ينشأ بين ذاتين على الأقل، قادرتين على الكلام والفعل ومنخرطتين في علاقات شخصية، سواء كانت هذه العلاقات بوسائل كلامية أو غير كلامية. وينبغي أن يكون هدف الفاعلين هو بلوغ التفاهم حول الوضع الذي يتناوله فعلهما وحول الخطط التي يصدران عنهما في إنجاز هذا الفعل للوصول سويا إلى تنسيق أفعالهما بطريقة توافقية."([10])

بهذا المعنى، يصبح الفعل التواصلي سبيلا إلى التفاهم بعد توسّط التوافق بين الذوات المتكلمة أو غير المتكلمة. نشير في هذا السياق إلى التأثر المعرفي ل"هابرماس" بمقولات "كارل أوتو آبل" (1922-2017)حول الحجاج والتواصل([11]).

على الرغم من النقد الذي وجهته "سيلا بن حبيب" (1950-...) نحو مقولات "هابرماس" حول الحجاج ([12])، فإن نظرية الفعل التواصلي، والتي ترتقي عند "هابرماس" إلى سلطة تقابل السلطة الإدارية؛ وذلك في خضم عرضه لفلسفته السياسية ودراسته للعلاقة بين القانون والديمقراطية، بصورة تصبح معها سلطة التواصل إحدى الممكنات الضرورية التي يُنتجها، بل وتُنتج الفضاء العمومي، باعتباره مسرح عمليات التواصل وإنتاج براديغم التفاهم.

هذا الجمع بين عالم النسق وعالم الحياة، مع المحافظة على مميزات كل واحد على حدة، والاعتماد على فلسفة اللغة، مكّن من إنتاج الفعل التواصلي الذي يُحيل على التفاهم. وبهذا الشكل، تصير فرضية تحقيق التحرر كغاية للحداثة السياسية أو بما هي حل لمشكلة الحداثة السياسية، تتمتع بنسبة عالية من حظوظ التحقق.

يقدم هابرماس تحديدا علائقيا لبراديغم التواصل، حيث يكتب: "إن لنظرية التواصل علاقة وثيقة جدا بالمسائل التي تطرحها نظرية التطور الاجتماعي".([13])

قام أكسل هونيث بفحص مخرجات النظرية التواصلية عند هابرماس دعاوى الصلاحية والقيم المعيارية التي أصّل بمقتضاها لنظرية الفعل التواصلي ومفهوم الفضاء العام، وكشف من خلالها عن قصور الديمقراطية التشاركية التي أحل محلها نموذج الديمقراطية التداولية. كما بحث في تفكيك النصوص الما بعد حداثية مثلما هو الشأن مع بيير بورديو (1930-2002) وميشال فوكو (1926-1984) مستعينا في إعادة تحيينه للمفاهيم بمدارس أخرى نذكر منها مدرسة علم النفس الاجتماعي ممثلة في التفاعلية الرمزية.

4- مفهوم الاعتراف عند أكسل هونيث وإعادة بناء النظرية النقدية

انطلاقا من الإرث الفلسفي والسوسيولوجي للجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، واستنادا على ما تطرحه التغيرات البنيوية من احتدام الصراعات وتعددها، يشتغل "أكسل هونيث" على ما يمكن تسميته بإعادة تأصيل مفهوم الاعتراف وتجذيره من خلال إغنائه بمعطيات التحليل السياسي للواقع على ضوء متغيراته وتطور أنماط وأشكال الصراعات.

بهذا الشكل، تحصّل مفهوم الاعتراف على مدلول أكثر التصاقا بالمعنى الجذري لتمظهراته الاجتماعية والسياسية. وفي هذا الإطار، نقرأ التمهيد الذي كتبه أكسل هونيث لكتابه "الاجتماعي وعالمه الممزق، مقالات فلسفية اجتماعية "([14]) ما يلي: "طريق المجابهة الفكرية تمتد من مؤلفات لوكاتش ما قبل الماركسية عبر النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت والأنثروبولوجيا البنيوية لكلود ليفي ستراوس وصولا إلى الأوضاع المعاصرة لنظرية المجتمع الفرنسية ".([15])

يدل المعنى المُشتق من هذا القول، أن عملية المراجعة ستأخذ طريقها انطلاقا من منجزات مدرسة فرانكفورت وصولا إلى أطروحات فلسفات وسوسيولوجيا ما بعد الحداثة أساسا فلسفة "ليفي ستراوس"(1908-2009) البنيوية، "ميشال فوكو" كممثل لنظرية السلطة و"بيير بورديو" كمبدع للأشكال الرمزية في علاقة بالثقافة والمجتمع.

هذه الاستعادة للمفاهيم والتعامل النقدي مع مخرجات (مقاربات ما بعد الحداثة)، مثلت الخط الفكري الذي اتبعه "هونيث" في بحثه عن راهنية مفهوم الاعتراف وتقديمه كحل لصراعات الواقع وفك الهيمنة بتمظهراتها المعرفية والسياسية.

هذه المراجعة النقدية، كانت تهدف إلى كشف قصور هذه النظرية ومواطن الخلل التي استوطنتها، والتي يمكن أن نختزلها في ثلاث نقاط من وجهة نظر "أكسل هونيث".

النقطة الأولى تتمثل في أن النظرية النقدية حاولت استبدال نظرية الحداثة بالليبيرالية الجديدة؛ النقطة الثانية تتمثل في إغفال النظرية النقدية للبعد الاجتماعي والسياسي للسيطرة والصراع، بدعوى تقديم فكر جديد ينتصر إلى الحرية السياسية ويُغفل الصراع الاجتماعي والهيمنة. أما النقطة الثالثة، فتتمثل في حصر النظرية النقدية في مبحث مستقل ومنعزل وعدم تكثيف الجهد النظري للنظرية النقدية في موقف سياسي حاسم من أجل الكفاح ضد ما يحصل في العالم الاجتماعي.

بهذا الشكل، أصبحت مهام النظرية النقدية، في نظر "هونيث"، متمثلة في: "مهمة وصفية وتقوم على تشخيص وفهم العمليات الاجتماعية المرضية على مستوى التجارب الفردية والجماعية والتي تعرقل من الناحيتين الاجتماعية والأخلاقية تحقيق الأفراد والجماعات لحياة طيبة. ومهمة معيارية تقوم على تحديد ومعرفة معايير أشكال الحياة الاجتماعية الناجحة.([16])

وفيما يلي إطلالة على التجديد والتحيين الذي صاغه "أكسل هونيث" لمفهوم الصراع من أجل الاعتراف.

5- أكسل هونيث والتحيين الفلسفي لمفهوم الاعتراف

حتى نتتبع البناء الفكري الذي اعتمده "أكسل هونيث" لنحت مفهوم الاعتراف، نقرأ نص الحوار الذي أجراه مع الفيلسوفة والمؤرخة "ألكسندرا لافاستين" في سنة 2011 تحت عنوان: "الصراع مع القيم العالمية مغامرة ناقصة"([17])، وفيه حديث عن المجتمع الجديد وأزماته وعن الصراعات التي تشقه وعودة على كتابه "مجتمع الاحتقار".

يجيب أكسل هونيث بصورة واضحة على ما يمكن اعتباره الأسئلة التي تختزل البناء المنهجي لمفهوم الاعتراف، حيث يعود إلى الأطروحات التي أجبرتنا على الانتقال إلى الحديث على أنماط جديدة من الصراعات الاجتماعية والأشكال التي اتخذتها الثقافة السياسية في ظل الليبيرالية الجديدة.

فنجد أنه يحدد خصوصيات المجتمع الحديث، من خلال توفر شروط تحقيق الذات والاستقلالية.

كما يعتبر أن مشكلات المجتمعات الغربية في ظل العولمة والرأسمالية المتوحشة، لم توجد بسبب انتهاك مبادئ العدالة، بل بسبب الإضرار بشروط تحقيق الذات والتي أصبحت تفكر في نفسها كمادة معرضة للبيع.

هذا الاهتمام بمسألة العدالة، يحيل بشكل من الأشكال، في علاقة بالمجتمعات الليبرالية، إلى القراءة التي قدمها "جون راولز"(1921-2002) في سعيه إلى البحث عن تصور ملائم للديمقراطية والقطع مع النفعية. وفي هذا السياق، يكتب "جون راولز": "إن نظرية العدالة كإنصاف، هي تصور ملائم للديمقراطية، وهي في ذات الوقت تصور مُمنهج ومعقول بشكل كاف ومؤهل لأن يقدم بديلا عن النفعية التي هيمنت في إطار تقليد فلسفتنا السياسية."([18])

يعتبر "جون راولز" أن النفعية التي ميزت الفلسفة السياسية، لم تفلح في صياغة تصور شامل للعدالة، وبهذا الشكل لازال التصور الديمقراطي للمجتمعات مبتورا من جانب تعبيره على العلاقات القائمة وسياقات التفاعل بين الذوات. للإشارة، فإن هذا البعد النفعي لا يهتم بالأقليات، بل يأخذ بمبدأ الأكثرية، وهذا ما يرفضه "راولز" بشدة في إطار صياغته لنظريته في العدالة.

للإشارة، فإن هذا الموقف المتمثل في معادلة (الأقلية والأغلبية)، يُعتبر قاعدة أساسية في الممارسة السياسية للديمقراطيات المعاصرة، وهو بلغة "جيل دولوز"(1925-1995)، مجرد تعبير عن أرقام. والأخطر من ذلك، هو تشريع للهيمنة في صورة ما.

في الجزء المتعلق بشكل الثقافة السياسية والأخلاقية القادرة على مجابهة مشكلات الإقصاء والانغلاق، تحيلنا إجابة "أكسل هونيث"، على الطرح الذي قدمته "جوديث بتلر"(1956-...) في معنى أن الديمقراطية يجب أن تكون صراعية تماما، حتى تعطل قوة السيطرة والهيمنة التي تؤدي إلى الإجماع الذي يمنع النقد. بهذا المعنى، تصبح السياسة الديمقراطية مجالا للنقد من خلال الصراع والتعارض تساوقا مع المعنى الذي يقصده "جون فرانسوا ليوتار"(1924-1998). وفي جانب آخر، تفتح هذه المقاربة في جزء ما، مجال التطابق مع رؤية "إدغار موران"(1921-...) في علاقة بتعريفه للذات الفاعلة التي تتصف بالتمرد بما هي نتاج للتاريخانية وتعبير على قدرتها على إدراك العالم، هذا الإدراك الذي لا يكون إلا من خلال فعل الصراع من أجل الاعتراف.

بصورة أكثر عمقا، يصبح الواقع الاجتماعي بحد ذاته هيمنة. لذلك على هذه الذات الفاعلة أن تعمل على تعزيز مبدأ الحرية أولا، وتدخل في نزاع مع القوى المهيمنة.

ينتقل الحوار مع "هونيث" في سؤال آخر إلى الحديث عن الذاكرة ودورها في بناء الهوية الجمعية.

هذه الهوية التي يرفض "هونيث" بناءها استنادا إلى أرضيات الثقافة المسيحية. وفي هذا، نستحضر موقف "هابرماس" من الاتحاد الأوروبي، والذي يعتبره أسسا لهوية وطنية قائمة على قاعدة اقتصادية، حيث كان وفيّا إلى المقاربة التي قدمها "فيبير" في علاقة بالعقل الأداتي وسيطرة عقلانية ذات طابع واحد..

في نفس السياق، نقف على المعطى المثمثل في تسييس الهوية الجمعية، حيث يُعاد إنتاج المواطنين بطرائق باهتة ومملة مثلما فسر "مايكل بيليغ" (1947-...)؛ وذلك من خلال التعويل على السياق الاجتماعي الذي تتكون من خلاله وعبره ما يسمى بالهوية الجمعية.

6- أكسل هونيث ونماذج الاعتراف

مثلما كان "أكسل هونيث" ناقدا للأطروحات الحاملة لمدلولات الاعتراف بأشكال متنوعة، فإنه لم يقف عند حدود عملية المراجعة والتفكيك لمنطلقات هذه التصورات من جانب علاقتها بالذات وتفاعلاتها فقط، بل قام بتوظيف ما يعتبره غير مكتمل أو الجزء المبتور من النظرية الاجتماعية الرامية نحو تأصيل وتحيين مفهوم الاعتراف، حيث قدم ثلاثة نماذج للاعتراف اعتبرها من جانب علاقتها بالذات، معبرة بشكل عميق على انتظاراتها من عملية التذاوت. وأفضل ترجمة ممكنة لشرط تحقيق الاعتراف من جانب علاقتها (ونقصد النماذج الثلاثة) بالمعايير الإيتيقية للاعتراف.

في مقدمة الترجمة العربية لكتاب "التشيؤ دراسة في نظرية الاعتراف"([19]) نقف على معاني النماذج الثلاثة المشار إليها، وهى:

أ- الاعتراف في الحب: من أولى العلاقات التي يقيمها الطفل مع ذات خارجية، هي علاقته بأمه. هذه العلاقة التي تنطبع بمعاني الليبيدو، والتي تسمح له بما يسميه "هونيث" بـ "الأمن العاطفي".

نقرأ في الكتاب المذكور أعلاه: "الحب علاقة تفاعلية مؤسسة على نموذج خاص للاعتراف المتبادل"([20])

هذا النموذج الخاص بالاعتراف يحيلنا إلى الأطروحات التي تُعلي من شأن مدارس التنشئة الأولى مثلما هو الحال مع مقاربات "هربرت ميد"(1863-1931) (الميكرو). من خلال هذا الشكل من الاعتراف، وعن طريق ما أسماه "هونيث" ب"الأمن العاطفي"، يمكن للذات أن تتعرف على المشاعر والعواطف وإمكانية إظهارها للآخرين. وتكون بذلك أول محطة في سيرورة الاعتراف.

ب- الاعتراف في القانون: إذا ما اتفق أن المجتمعات الحديثة بأساليبها الديمقراطية وتشريعاتها، تنطلق من حاجيات الفرد، بصرف النظر عن منطلقات هذه الحاجيات، فإن القانون يصبح، بل يُختزل في كونه الضامن لحرية واستقلال الذات، "يضمن الاعتراف في القانون للأفراد حريتهم واستقلالهم الذاتي."([21])

إن المعنى من الاستقلالية والحرية، إنما هو تعبير على ما كانت تنادي به الحداثة السياسية، بل قبل ذلك ومنذ السؤال الكانطي الشهير: ما الأنوار؟ والذي كثّف إجابته في: الجرأة والاستقلالية والحرية في استخدام العقل.

الاستقلالية والحرية لا يمكن فهمها إلا في سياق المقارنة بالهيمنة بكافة أشكالها وما يعنيه هذا المفهوم من غياب مطلق للعقل والإرادة بمعاني الذات الحرة والفاعلة، والتي تخوض صراعها من أجل الاعتراف.

ج- الاعتراف في التضامن: هذا الشكل من الاعتراف، إنما هو نتيجة للاعتراف في القانون وبشكل آخر هو نتاج أو تعبير عن التقدير الاجتماعي.

هذا الاعتراف يرتبط بالمسؤولية الأخلاقية للمجتمع، وهو دلالة واضحة على إيتيقا الاعتراف داخل المجتمعات المعاصرة، والتي أصبح فيها تحقيق التقدير الاجتماعي متوقفا على تحقيق الذات للاعتراف. نقرأ في كتاب "التشيؤ دراسة في نظرية الاعتراف": "هذا الشكل من الاعتراف يحقق للفرد تحقيق الذات".([22])

هذه النماذج الثلاثة للاعتراف، تحيل على المعاني المرتبطة بالغاية الأساسية لفعل الاعتراف ذاته، حيث إذا ما تحقق الاعتراف في الحب، فإن الحاصل هو الثقة في الذات. وإذا ما حصل الاعتراف في القانون، فإن ترجمة ذلك هو احترام الذات. أما إذا ما فعلنا شكل الاعتراف في التضامن، فإن المقابل هو التقدير الاجتماعي.

بين الشكل والنموذج، أو بين النظرية والممارسة، أصبح الصراع من أجل الاعتراف هو الوسيلة والغاية في نفس الوقت في علاقة بفك تناقضات المجتمعات المعاصرة؛ وذلك وفق رؤية تُدمج الإيتيقا صلب النظرية السياسية المعاصرة وتقترح للذات أمكنة مغايرة من خارج مربعات الحداثة، هذه التي تُثبّتها في مربعات الذات المقموعة وفق إحداثيات الهيمنة أفقيا والسلطة عموديا.

وهذا ما دفع "أكسل هونيث" نحو البحث في ممكنات الذات الفاعلة التي تخوض صراعها من أجل الاعتراف. هذا الأمر دفعه إلى محاججة فلسفات ما بعد الحداثة التي أعلنت عن موت الإنسان وذوبانه داخل عالم الرموز.

إذا كان "هابرماس" قد انشغل بتحيين المفاهيم المتعلقة بالذات وما تعنيه عملية التذاوت، انطلاقا من المعنى الهيغلي، ومن مقاربات الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت- وفاء للماركسية في مستوى المنهج الاجتماعي- ونقدا للبدايات التأسيسية لمعاني العقل الأداتي والعقلانية المفرطة والبيروقراطية التي أسست للدولة الحديثة، فإنه أراد من خلال ذلك، أن يؤكد على استمرارية الحداثة كمشروع لازال يحمل المزيد من الممكنات، ويعد بالتحرر شرط أن نُحسن جرد ما يعوق هذه العملية التحررية، وأن نفهم نعيد الاعتبار لعملية التواصل التي تُنتج من خلال اللغة ما يسميه بالتفاهم. أما "هونيث"، فعبر عملية التحيين النسقي لمفهوم الاعتراف، فإنه يريد أن يصل بمخرجات هذا البراديغم إلى أقصى ما يمكن أن يُؤديه من أدوار في تتجاوز المعنى التواصلي لهابرماس. فنقطة التوقف عند "هابرماس"، وهى التواصل، تصبح مع "هونيث" بحاجة إلى غايتها أو مبتغاها وما يمكن أن تقدمه، فيجعل من الاعتراف غاية الفعل التواصلي. من "هيغل" كمشترك في عملية البحث والتقصي على مفهوم الاعتراف عند "هابرماس" و"هونيث"، مرورا بنقد الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت، تعريجا على إدماج فلسفة اللغة، ثم وقوفا مع مميزات العقل الأداتي في الدولة الليبرالية الحديثة، كانت سيرورة البحث والتعمق في فحص مدلولات الاعتراف كفلسفة متكاملة وكحل له من الممكنات ما يجعله راهنا وضروريا. هذا، دون أن نغفل ما يعنيه هذا المفهوم من مدلولات اجتماعية ونفسية وقانونية وسلوكية، يمكن إدماجها في عملية تأصيله وإعادة طرحه على محك الاختبار العملي.

خاتمة:

تطرح الأطروحات التي قدمها "هابرماس" و"هونيث" ممكنات جدية وفاعلة تُظهر بصورة واضحة وجلية، أن مفهوم الاعتراف، يُمكن أن يكون من الآليات الرئيسة في علاقة بحل تناقضات المجتمعات المعاصرة، شرط أن يكون مساوقا للتغيّرات والأشكال الجديدة منها. وفي جانب آخر، تتوقف راهنيه المفهوم، على مدى استجابته لشروط إدارة الصراع من جهة، وفهم ارتداداتها من جهة أخرى. ولعل القراءات المتعددة لهذا المفهوم، وتطويعه لفائدة حسم صراعات اللاعدالة واللاتكافؤ، يسمح بتوسيع مجالات استعماله وتنزيله في خط المواجهة الأول ضد الهيمنة والسيطرة ومحاولات الاخضاع. وربما تبدو هذه المصطلحات مشحونة بمفردات المعجم السياسي الفلسفي، لكنها في نفس الوقت، تشمل الجانب المتعلق بالبحث السوسيولوجي الهادف نحو الكشف عن ميكانيزمات الهيمنة مثلما أشرنا. وأمام تناقضات الدولة العربية الحديثة، والإشكاليات التي يواجهها البناء الاجتماعي من جهة، والتداخل الثقافي من جهة ثانية، قد يُسعفنا مفهوم الاعتراف إذا ما أردنا إعادة بناء الهابيتوس الجماعي وتطوير ميكانيزمات اشتغال الذات الفاعلة بعيدا على نزعات الخطابات الخالية من التحيين النظري، واللامتساوقة مع منبتها السوسيولوجي أو مدارها الحديث والإنساني.

 

المراجع

باللغة العربية:

1- لالاند أندريه، الموسوعة الفلسفية (بيروت-باريس: منشورات عويدات: 1980).

2- صليبا جميل، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية (بيروت: الشركة العامة للكتاب: 1990).

3- هيغل غيرورغ فلهلم فردريش، فينومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي (بيروت: دار المنتخب العربي، 1994).

4- هيغل غيرورغ فلهلم فردريش، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996).

5- هوركهايمر ماكس وأدورنو تيودور، جدل التنوير، شذرات فلسفية، ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد).

6- هابرماس يورغن، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر (دار الجمل: بيروت 2003).

7- هونيث أكسل، الصراع من أجل الاعتراف، ترجمة وتحقيق جورج كتورة (المكتبة الشرقية بيروت: 2015).

8- هونيث أكسل، الاجتماعي وعالمه الممزق مقالات فلسفية اجتماعية، ترجمة ياسر الصاروط (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: 2019).

9- هونيث أكسل، التشئ دراسة في نظرية الاعتراف، ترجمة وتقديم كمال بومنير (كنوز الحكمة: 2012).

10- بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف (بيروت: منتدى المعارف 2015).

11- البلواني عادل، النظرية السياسية لهابرماس الحداثة والديمقراطية (المغرب: إفريقيا الشرق 2014).

12- راولز جون، العدالة بين السياسة والميتافيزيقا، ترجمة محمد هاشمي (بيروت: مدارات فلسفية 2004).

13- أوتو آبل، كارل، التفكير مع هابرماس ضد هابرماس، ترجمة وتقديم عمر مهيبل (بيروت: الدار العربية للعلوم، المركز الثقافي العربي، منشورات الاختلاف: 2005).

14- هابرماس، يورغن، بعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد (بيروت: دار الحوار 2002).

15- كانط إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي، مراجعة عبد الرحمان بدوي (ألمانيا: منشورات الجمل: 2002).

باللغة الأجنبية:

1-     TAYLOR CHARLES, 1- MULTICULTURALISME, DIFFERANCE ET DEMOCRATIE, FLAMARION 2009,

2-     HABERMAS YURGEN, LA TECHNIQUE ET LA SCIENCE COMME IDIOLOGIE.

3-     MC CARTHY, TRANSLATOR’S INTODUCTION IN HABERMAS, 1984

4-     HABERMAS YURGEN, THE THEORY OFCOMMUNICATIVE ACTION.VOL1. Bacon PRESS.LONDON.

5-     HONNETH AXEL, THE SOCIAL DYNAMICS OF DISRESPECT, SITUATING THEORY TODAY. In DEWS, PETER(Ed) HABERMAS, A CRITICAL Reader. LONDON.

6-     RICOEUR PAUL, PARCOURS DE LA RECONNAISSANCE: TROIS ETUDES, FOLIO. (PARIS: GALLIMARD, 2005).

7-     BOURDIEU PIERRE, LE SENS PRATIQUE, LES EDITIONS DE MINUIT (PARIS: 1980)

8-     SEYLA BENHABIB, SITUATING THE SELF (ROUTLEDGE: 1992).

([1]) حسام الدين درويش: جان جاك روسو والاعتراف، : تمهيد في مشروعية دراسته فلسفيا وعربيا، مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 10 المجلد الثالث، خريف 2014، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص15

([2]) يورغن هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، (ألمانيا: منشورات الجمل، 2003). ص10

([3]) هشام عبد النور، ثقافة المقاومة: نظرية التحرر عند هابرماس(بيروت: 2007). ص 318

([4]) فردريش هيغل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي (بيروت: دار المنتخب العربي، 1994).

([5]) يورغن هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر(ألمانيا: دار الجمل، 2003). ص 10

([6]) إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي، مراجعة عبد الرحمان بدوي (ألمانيا: منشورات الجمل، 2002).

([7]) يورغن هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر(ألمانيا: دار الجمل، 2003). ص17

([8]) YOURGEN HABERMAS, THE THEORY OF COMMUNICATIVE ACTION (BEACON PRESS).

([9]) IBID. p 86

([10]) المصدر السابق، ص86

([11]) كارل أوتو آبل، التفكير مع هابرماس ضد هابرماس، ترجمة وتقديم عمر مهيبل (بيروت: الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي: 2005).

([12]) SEYLA BENHABIB, SITUATING THE SELF(ROUTLEDGE: 1992).

([13]) يورغن هابرماس، بعد ماركس. ترجمة محمد ميلاد (بيروت: دار الحوار، 2002). ص21

([14]) أكسل هونيث، الاجتماعي وعالمه الممزق مقالات فلسفية اجتماعية، ترجمة ياسر الصاروط (بيروت: منتدى المعارف، الطبعة الأولى: 2015).

([15]) المصدر السابق، ص-ص 7-8

([16]) كمال بومنير، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف(بيروت: منتدى المعارف، 2015). ص44

([17]) حوار مع أكسل هونيث، منشور على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود على الأنترنيت، ترجمة نور الدين علوش، 11 يناير 2020

 موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود على الأنترنيت: www.mominoun.com

رابط الحوا رmominoun.com/articles/1541:

([18]) جون راولز، العدالة بين السياسة والميتافيزيقا، ترجمة محمد هاشمي(مدارات فلسفية: 2004).ص99

([19]) أكسل هونيث، التشؤ دراسة في نظرية الاعتراف، ترجمة وتقديم كمال بومنير(كنوز الحكمة: 2012).

([20]) المصدر السابق، ص 10

([21]) المصدر السابق، ص 11

([22]) المصدر السابق، ص 13