فلسفة التعددية الدينية


فئة :  مقالات

فلسفة التعددية الدينية

فلسفة التعددية الدينية

بقلم: كمال طيرشي*

حقيق بنا الاعتراف بأنّ مدلول التعددية الدينية في عالمنا اليوم، يتلاحم مع مفاهيم فلسفية عميقة ترتكز في جوهرها على تقبل الآخر المختلف عني عقدياً، والمتمايز عني دينياً ولاهوتياً، ربما نتفق في معبودية الإله الأوحد، ولكننا نختلف حول طبيعة هذا المعبود؛ فذاك يتصوره مفارقاً للطبيعة بقيوميته السرمدية الأحدية، وهذا يتصوره ثالوثاً مؤقنماً، والآخر يحايثه بالطبيعة أو بالكيانات البشرية أو الحيوانية أو التمثالية. والمدلول الجوهراني للتعددية الدينية ليس يعني بالضرورة أن يكون دين شخص واحد مصدراً للحقيقة المطلقة[1].

ومن الواضح أنّ الحوار بين الأديان لن يقتدر بمفرده حلّ المشاكل الأساسية، بيد أنه قد يكون الخطوة الأولانية في الطريق الصحيح، كما أنّ الحوار بين الأديان لا ينبغي أن يكون عملية فكرية ودينية فقط، بل ينبغي كذلك أن يحث الأغلبية الصامتة على البحث عن استراتيجية مشتركة بشأن السبل الكفيلة بتهدئة التوترات وإحقاق التسامح الكوني، وينبغي أن تشمل عمليات تبادل الآراء كذلك المؤمنين غير المتحيزين لمعتقداتهم ومعتنقي الديانات غير التوحيدية وأعضاء الأقليات الدينية، وسيستفيد أي حوار فائدة كبيرة من آراء الجميع الذين يقطنون في مجتمع كوني واحد[2]، فكيف يتأتى لنا في عالمنا الحياتي اليوم إحقاق مفهومية التعددية الدينية؟

1- التعددية الدينية كإشكالية:

إنّ التعددية الدينية فكرة لم تتلاحم تصوراتها مع اللاهوت المسيحي الكلاسيكي، بل هي إشكالية معاصرة، وتمخض عن الأنتلجنسيا المعاصرة وعي بضرورة التعدد الديني، وأنّ هناك أمرين دفعا إلى التوغل في غياهب مسألة التعددية الدّينية.

أولهما: التجارب الفلسفية الخاصة للباحثين والمفكرين، التي شجعتهم على تحريك السؤال الأخلاقي والذهاب به إلى نهايته الطبيعية.

ثانيهما: تجارب في التعددية الدينية، التي عرفته على عالم ديني متنوع وغني بالوقائع والمعطيات الجديدة، وأول ما أثارته التعددية الدينية في مخيال الباحثين اليوم معضلة محبة الله الشاملة واللانهائية للبشر، ومدى انسجامها مع عقيدة حصرية الخلاص، كما دعانا هيك إلى النحو بالمنحى الكوبرنيكي في مجال اللاهوت كوسيلة للنأي بأنفسنا عن الإشكالات التي تثيرها معطيات التعددية الدينية في العالم، حيث تقدر فرضية التعددية أن تستوعب الغنى الماثل في واقع متعدد المناهل، ومعها لا يبقى أي دين مركزاً حصرياً كبديل أوحد للخلاص والانعتاقية، بل تصبح أديان الكون برمتها استجابات متعددة ومتنوعة لحقيقة لاهوتية سمحة واحدة.[3]

2- التعددية الدينية بين السياسي والواقعي:

إنّ الحرية والتعددية هي الدواء الأهم، وهي وحدها التي تكفل لكل الناس أن يعبدوا ربهم بحرية، وأن يختاروا من يمثلهم بحرية أيضاً، ويحكموا على سلوكه وكذلك خطابه بحرية أيضاً، ما يعني أنّ معركة الحرية هي الأهم. الحرية من استبداد الداخل ومن التبعية للخارج في آن واحد، والأخيرة لا تقل أهمية عن الأولى، بل هي مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً في واقع الحال.

فمنذ سنوات، وتبعاً لاتساع نطاق الظاهرة الدينية وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية لم يعد بالإمكان تبسيط المشهد الديني والمذهبي وفق التصنيفات التقليدية؛ سني وشيعي، وسلفي وصوفي، إخواني، تحريري، تبليغي أو مستقل، أزهري وغير أزهري، إلى غير ذلك من المترادفات؛ ذلك أنّ داخل كلّ تيار قدراً كبيراً من التباينات لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، الأمر الذي يبدو أكثر وضوحاً في سياق المواقف المتعلقة بالشأن السياسي والعام، لكنه لا ينحصر في ذلك، بل يمتد ليشمل المواقف الفقهية المتعلقة بمستجدات القضايا، بل حتى بعض القديم منها، كما هو حال قضايا المرأة والموسيقى والتصوير، وصولاً إلى استعادة بعض الخلافات القديمة فيما يتصل بقضايا الفقه والاعتقاد، وحيث يرى كل فريق أنه الأقرب إلى الكتاب والسنّة، أو الأصول الصحيحة من الآخرين.[4]

3- التعددية الدينية (كيف بدأت الفكرة؟):

إنّ مفهوم التعددية الدينية تجلى في الصراعات القائمة بين أرباب الديانات، وإذا كان غالباً ما يركز أرباب الديانات على المناوشات اللاهوتية لوضوحها، فإنهم غالباً ما يهملون بدرجة أو في التمايزات التاريخانية، على الرغم من أنّ هذا النوع من التمايزات له الدور الأبرز في عدم التسامح، ففكرة الاختيار الإلهي الموجودة في كل الأديان (في اليهودية، مثلاً أنّ اليهود شعب الله المختار، وفي المسيحية أنّ الله قد تجسد في ابنه الوحيد لإنقاذ البشرية. وفي الإسلام أنّ المسلمين خير أمّة أخرجت للناس)، عادة ما تستثمر للاحتراب في الصراع السياسي والاجتماعي. في القرن الثامن عشر، كان المجتمع الأوروبي قد أعياه الصراع الديني والمذهبي والعرقي، فظهرت التعددية الدينية في عصر الإصلاح الديني، وكانت محاولة لوضع أساس نظري في العقيدة المسيحية للتسامح تجاه الأديان غير المسيحية، مثلت عنصراً من عناصر حركة التجديد الديني أو الليبرالية الدينية التي حدثت في المسيحية البروتستانتية في القرن التاسع عشر الميلادي بقيادة ف. شلايرماخر، التي اشتهرت فيما بعد بالبروتستانتية الليبرالية.

الفضل الأكبر في ترويج ونشر فكرة التعددية في العصر الحديث ليس لهؤلاء العلماء الغربيين وحدهم، فقد كان للحكماء والفلاسفة ورجال الدين الهنود دور مهم في ذلك، مثل رام موهن راي (1772 - 1833) مؤسس حركة براهما ساماج (أي المجتمع الإلهي)، الذي كان هندوكياً، ثم تعلم الإيمان بوجود إله من المصادر الإسلامية، وهو يؤمن كل الإيمان بوحدانية الإله وبتساوي الأديان كلها.

وبعده كان الصوفي البنغالي سري راماكريشنا (1834 - 1886) الذي انتهت به رحلته الروحية المتنقلة أو العبورية (بدءاً من الهندوكية مروراً بالإسلام والمسيحية وانتهاء إلى الهندوكية مرّة أخرى في نهاية المطاف) إلى الاعتقاد بأنّ الاختلافات المتعارضة الموجودة بين الأنظمة والطرق الروحية (الأديان) لا معنى لها. هذه الاختلافات عنده ما هي إلا اختلاف في التعبير فقط، فكل الأديان توصل الإنسان إلى الغاية الواحدة، ومن هنا - بحسب كريشنا - فإنّ محاولة تحويل الشخص من دين إلى آخر أمر لا مبرر له، إضافة إلى أنه تضييع للوقت.

لم تُسمع أصداء النظرية التعددية الدينية في العالم الإسلامي إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ وذلك عندما أتيح لبعض أبنائه فرصة التعلم والدراسة في الجامعات الغربية والاحتكاك مباشرة بالحضارة الغربية، إضافة إلى مساهمة بعض الصوفية الباطنيين الغربيين الذين أعلنوا إسلامهم أمثال رينيه جينو (عبد الواحد يحيى)، وف. شوون (عيسى نور الدين أحمد)، إذ كانت حافلة بالأفكار والأطروحات التي تنبع من فكرة التعددية الدينية، ولعل من أبرز المسلمين الذين اشتغلوا تحت مظلة التعددية الدينية الشيعي سيد حسين نصر.[5]

4- الصوابية في التعدد:

يرتجي كل بشري التوصل إلى توافق كوني شمولي، ولكن قد تزاحمه بعض المعوقات وبالخصوص التطرف الديني الذي يمحق كل ما يمكن أن يسمح بتعددية رحبة على منحى كلي، فكل تطرف ديني يؤجج نار الفتنة داخل العالم الأوحد، ممّا يولد سبل التنافر الطائفي والعقدي، وتبدأ معه حالات الاختزال الطائفي والمذهبي على أساس شخصي أو مللي هدفه ادعاء الحقيقة الذاتية المطلقة والنأي عن كل طائفة دينية تعانق بمفاهيمها سبلاً تحررية.[6]

إنّ الصواب قد لا يتحقق مع الرؤية الأحادية لمفهوم التدين، فقد يضيع المعنى وتتشذر المفاهيم، فالتعدد يضمن اللحمة المتنوعة، فأنفاس البشر متعددة وفهومهم متنوعة، وقراءاتهم للكون متمايزة، وحبهم لله متغاير، وهذا ما يفتح سبلاً مهيبة للتنوع العرقي والطائفي بتعدد أنفاس البشر، ممّا يفتح عالماً هادئاً نابذاً لكل سبل التناحر والتقاتل على أساس عرقي أو طائفي، ويجب أن نحذق قضية مهمة مفادها أنّ كل إنسان فرد يتعلم من ديانة الآخر، فالوضع الراهن مختلفٌ قليلاً عن الماضي؛ ففي السابق كان المتبعون لتقاليد مختلفة منفصلين إلى حدٍّ ما، فالبوذيون مكثوا في آسيا، والمسلمون في الشرق الأوسط وفي بعض بقاع آسيا، وفي الغرب بقيت الأغلبية من المسيحيين. ومن هنا فقد كان الاحتكاك ضئيلاً جدًّا. أمَّا اليوم فقد اختلف الحال، فهناك موجات من الهجرة الجديدة، وهناك عولمة اقتصادية، وكذلك صناعة سياحية متزايدة، والكثير من المعلومات أصبحت اليوم في متناول البشر، بما في ذلك معلومات حول البوذية نفسها. وبفعل هذه العوامل المختلفة تحوَّلت مجتمعات عالمنا إلى ما يشبه الوحدة الواحدة؛ وحدة منفردة متعدِّدة الثقافات، متعدِّدة الديانات. كما أننا نعيش عالماً تشترك فيه المعرفة مع العلم، فمن بين التَّقاليد الدينيَّة المتعددة في عالمنا اليوم، هناك فئتان: فئة قائلة بوجود الإله، وأخرى لا تؤمن بوجوده. والبوذيَّة هي واحدة من التَّقاليد الدِّينيَّة التي لا تؤمن بوجود الإله. ووفقَ هذه النوعية من الدِّيانات يكون التّركيز على قانون السَّببيَّة. لهذا، فمن الطبيعي أن تقدِّم البوذية عدة تفسيرات لقانون العلة والمعلول، وهو أمر من المفيد معرفته؛ لأنه يساعدنا على معرفة أنفسنا وأذهاننا بشكل أفضل.[7]

5- موقف جون هيك من التعددية الدينية:

يعتقد جون هيك أنّ التفسير الأمثل للتعددية الدينية الماثلة في عالمنا اليوم، هو الإقرار جزماً بأنّ الأديان جميعها تتبلور حول حقيقة لاهوتية واحدة هي ''الحق'' في ذاته المتواري عن أن تدركه الأبصار والمجاوز لأي نعت أو توصيف، ولكل هذه الأديان تاريخانيتها الاستجابية الخاصة لله وموروثاً روحانياً خالصاً، وإرثاً دينياً متميّزاً، يعبر البشري من خلاله عن تكهنه لحقانية الله وإدراكه لسمات الكمال والتمام فيه وتجربة الاتصال به، لكنّ هذه الاتصالية به تختلف بحسب الأسماء المتعددة للمعبود الواحد، وتاريخ الأديان حافل بعدد عظيم من أسماء الكيانات اللاهوتية، لكن الأديان تتفق على وقائعيتها، وأنّ الناس على اختلاف نحلهم يعبدون معبوداً واحداً، رغم اختلاف إشاراتهم وتنوعها، فهم كلهم يتفقون حول "الحق في ذاته"، وأنّ التقليد الديني لجميع الأديان يحرص بشدة على تعالي الحقيقة الإلهية عن كل نعت أو فهم، ومع ذلك فإنه يحرص على توكيد أنّ ما نحذقه عن الله، إنما هو في حدود تجليه سبحانه وتعالى، وحدود التجربة والاختبار البشريين. كما أنّ معرفتنا بالله ليست مجرد استجابة اعتباطية، بل يكمن وراء معرفته سبحانه وتعالى إرثٌ ثقافي وحضاري مهيب.[8]

ويرى جون هيك أنّ التجربة الدينية هي عبارة عن استجابة عفوية حرة للحق المطلق، وذلك عبر ترجمة المعطيات، جوانية كانت أم برّانية، إلى حقائق تتبلور حول الإله، وهذا يعني أنّ الحقائق الإيمانية ليست في مقدور العقل ولا يدان له بتكهنها بسهولة، بل تتطلب جهداً جهيداً وانعتاقية انبجاسية للأفئدة، لإدراك الحقائق العلوية اللدنية وحذقها، نحوّل عبرها ما نتبصره في العالم البرّاني وما نسمع حسيسه في كوامننا إلى حالة اختبار روحاني ومحذوقية لاهوتية، وبالتالي يكون الله معروفاً بالنسبة لأولئك الذين يسعون وراءه بأفئدتهم التواقة المخلصة، حيث أعطاهم الله إشارات مرئية يراها فقط أولئك الذين خلصوا له نجيّاً.

كما حاول هيك ألا يحدث القطائعية مع التقليد المسيحي، بل عمل على تحريك الدياليكتيك من داخل بؤرة التقليد المسيحي، وأعاد تأويل الكثير من مفاهيم اللاهوت بما يتناسب ومقتضيات العصر الحالي وواقعه التعددي، مؤكداً أنّ إسقاط ألوهية المسيح لا تعني بتاتاً ضياع جوهر المسحية، بل إنها ما تزال طريقاً لخلاص البشرية، وقوة دافعة لها نحو الخير الأسمى، وأنّ جوهر المسيحية ليس لاهوتياً أو عقائدياً، بل هو سبيل حياة تختصرها موعظة الجبل بكثافة، وأنّ جوهر تعاليم المسيح هي أن تطبق كما تجسدت في حياة المسيح نفسه وأعماله من دون حاجة إلى أن ندثرها بعقائد ونحصرها في دوائر ضيقة، وعلينا أن ننقل فهمنا للدين إلى منطقة حصيفة واعية متزنة، تتركنا ننفتح على حياة دينية تتسع لكل البشرية، وتتصف بالغنى الكبير في تلقي الحقيقة اللاهوتية، وتتحرر بذلك المسيحية من أغلال الضيق والحصرية، لتنفتح على عالمنا المعاصر الذي لا بدّ لها أن تقول له الكثير والكثير.[9]

* باحث أكاديمي جامعة الجزائر.

2 تعددية_دينية- ar.wikipedia.org/wiki

[2]- سعد سلوم، العنف ومستقبل الدين في العالم المعاصر (نحو حوار يعزز التعددية الدينية)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، المملكة المغربية، ص 5

[3]- وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك (المرتكزات المعرفية واللاهوتية)، المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، ط1،2007، ص 11

[4]- http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/12/7

http://www.alwasatnews.com/2443/news/read/52494/1.html-[5]

[6]- حازم الطاوابي، التعدد والإرهاب (الأزمة بين الحتكار والتعميم)، دار الحكمة، بيروت، لبنان، ط1، 2001، ص 14

[7]- http://www.berzinarchives.com

[8]- وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك (المرتكزات المعرفية واللاهوتية)، المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، ط1،2007، ص 77

[9]- مرجع سابق، ص 77