حوار مع المفكِّر الإيراني سيّد حسين نصر


فئة :  حوارات

حوار مع المفكِّر الإيراني سيّد حسين نصر

حوار مع المفكِّر الإيراني سيّد حسين نصر[1]

عن الطائفيَّة والدّين والحداثة*

الحوار من إعداد: عيسى جابلي

ترجمة وتقديم: سعيد البوسكلاوي

تقديم:

نقدّم للقارئ العربيّ مكتوباً نصَّ حوارٍ أجراه عيسى جابلي مع الفيلسوف سيّد حسين نصر[2]، باللغة الإنجليزيَّة، حول موضوعات آنيَّة شتّى تغطّي خاصةً موضوعات الطائفيَّة والحداثة والحوار الدينيّ والتعدُّديَّة الدينيَّة وعلاقة المسلمين بالحداثة، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن يضطلع به الدّين في بناء السلم وتكريس التعايش بين الناس، وهو نصّ مفيد يعكس عصارة تجربة روحانيَّة وفلسفيَّة طويلة من جهة، ويأتي في سياق عالميّ اتَّسم بالعودة إلى الدّين، وفي الوقت نفسه تُرتكب الحماقات باسم الدّين نفسه، من جهة ثانية، وإن كانت أسباب ذلك ليست هي التأويل الدّينيّ بالضرورة. ومن ثمَّ، سيكون مفيداً جدَّاً أن يستنير الناس اليوم بأفكار سيّد حسين نصر في موضوعات ساخنة مثل هذه، وفتح إمكانات الحوار بين الأديان والطوائف وتأويلات الجماعات المختلفة للدّين والعلم والحداثة وغيرها.

لقد طرح المحاور أسئلة ذكيَّة وهادفة، وجاءت أجوبة سيّد حسين نصر، على عادته، دقيقة وشاملة، نظريَّة وعمليَّة، أكاديميَّة وعموميَّة. إنَّها أجوبة صادرة عن فيلسوف موسوعيّ عاش في بلاد إسلاميَّة وغربيَّة في آن واحد، خبر الفكرين الغربي والإسلامي على حدٍّ سواء، وتاريخ العلوم والفلسفة معاً. إنَّه رجل علم ودين معاً، خبر التاريخ والعلم والإيمان على امتداد عمر حافل بالعلم والعبادة والتأمُّل والتنقُّل والحوار مع الناس في مختلف الأوساط. وقد تركَّز الحوار أكثر على المشكلات المطروحة اليوم على المسلمين من حيث كيفيَّة تعاملهم مع دينهم من جهة، وما تقدّمه الحداثة من رؤية للعالم من جهة أخرى. فمن حيث علاقتهم بالدّين والتراث، يؤكّد سيّد حسين نصر ضرورة التشبُّث بالإسلام التقليدي الذي يسع جميع التأويلات، وتمييزه عن مصالح الجماعات المختلفة، مع الأخذ بأسباب العلم الحديث وتطوير الذات. أمَّا الرؤية العلمويَّة للعالم، فهي نتاج خلط بين العلم والعلمويَّة؛ ففي الوقت الذي يرفض فيه العلماء أنفسهم العلمويَّة، نجد بعض المسلمين يدافعون عن العلمويَّة بشراسة.

وعن أصل الصراع بين الطوائف الدينيَّة والحلّ الممكن، يرى سيّد حسين نصر أنَّ اختلاف التأويلات واقع لا يرتفع. لكن ينبغي التركيز على ما يجمع الناس، لا على ما يفرّق بينهم. أمَّا الحداثة فقد أضعفت الدّين وساهمت، بشكل أو بآخر، في إذكاء الصراعات الطائفيَّة في العالم الإسلاميّ وغيره، وخاصَّة بسبب إضعاف الصوفيَّة والحياة الروحيَّة بشكل عامّ، التي كانت عامل توحيد في العالم الإسلاميّ. ولا يغفل عن ملاحظة أنَّ معاداة الحياة الروحيَّة أمر تشترك فيه الحداثة والحركات الأصولويَّة المتعدّدة رغم تباينها الشديد. والاستعمار استغلَّ، ولا يزال، هذا الوضع من أجل زرع الفتن في المجتمعات الإسلاميَّة. والحلُّ الذي يقترحه سيّد حسين نصر هو التشبُّث بوحدة الأمَّة الإسلاميَّة وقيمة الأخوَّة التي تجمع الطوائف المختلفة سُنَّة وشيعة وغيرهما، من أجل بناء فضاء للتعايش المشترك، ومواجهة التحدّيات التي تواجه الجميع. ففي الإسلام التقليديّ متَّسع لجميع التأويلات والطوائف والمدارس السنّيَّة والشيعيَّة والصوفيَّة، ولا بدَّ من قبول كلّ طرف للآخر من أجل تحقيق التعايش والسلام. فالمشكلة ليست في الإسلام التقليديّ الذي هو كونيّ؛ بل في الأرثوذكسيَّات الطائفيَّة الإقصائيَّة.

من المؤكَّد أنَّ الدّين، في حدّ ذاته، ليس مشكلة؛ بل هو حلّ، في نظر سيّد حسين نصر. ولا يمكن إلَّا أن يكون كذلك، إذا استطعنا تجاوز الخلافات الملّيَّة والطائفيَّة؛ فـ«لكي يكون المرء في سلام على الأرض، يجب عليه أن يكون في سلام مع السماء»، بعبارته؛ إذ لا بدَّ من تحقيق السلام بين الأديان والطوائف المختلفة، ولا بدَّ من تمييز مصالح الجماعات وانتماءاتها العرقيَّة والسياسيَّة عن انتماءاتها الدينيَّة؛ فهذا هو السبيل إلى تحقيق الأمن والعيش المشترك. فما يحدث من حروب ليس بسبب الدّين بالضرورة؛ فقد تخلّى الأوروبيُّون عن الدّين بسبب الحروب التي كانت بين الكاثوليك والبروتستانت، لكن مع مجيء العلمانيَّة حدثت أكبر الحروب العالميَّة وأخطرها.

وفي الوقت الراهن، يلاحَظ عودة الدينيّ إلى الساحة بوصفه عنصراً لا محيد عنه، في الشرق كما في الغرب. لقد عاد الدّين إلى حياة الناس في الغرب بقوَّة، وبدأ الغربيُّون يهتمُّون لا بالديانة المسيحيَّة فحسب، بل صاروا يعتنقون ديانات أخرى، ومنها الإسلام. وما حدث من تحوُّلات في العالم الإسلاميّ، بالإضافة إلى فشل الإيديولوجيَّات القوميَّة العربيَّة والاشتراكيَّة، دعا الناس إلى العودة إلى الإسلام؛ بل إنَّ بعضهم حوَّل الإسلام إلى إيديولوجيا. وفي كلّ الأحوال، عاد الإسلام بقوَّة إلى مسرح الأحداث.

ويرى أنَّ الأديان متعدّدة، لكنَّ التوحيد واحد؛ إذ «في قلب كلّ الأديان الأصيلة يوجد التوحيد»، بحسب تعبيره. والتعدُّديَّة لا تضعف الإسلام؛ بل تقوّيه. وهو لا يخفي انخراطه في التجربة التي دعا إليها المفكّر الألماني السويسري عيسى نور الدين (Frithjof Schuon) في شكل «وحدة متعالية للأديان»، وهو توجُّه لا يخالف التوجُّه الكونيّ للقرآن الكريم الذي يتميَّز به من غيره من الكتب السماويَّة. و«كلّ ما على المسلم الصادق أن يقوم به اليوم هو العودة إلى رؤية القرآن العالميَّة؛ حيث مصطلح الإسلام نفسه لا يقتصر على الدّين الذي أُوحي به إلى النبيّ محمَّد، عليه السلام، الذي أطلق عليه اسم مسلم في القرآن. وأعتقد أنّ إبراز البُعد العالميّ للإسلام له أهمّيَّة خاصَّة في هذه الظرفيَّة التاريخيَّة، وأنَّ قدر الإسلام أن يحافظ على الدّين الأصيل ويحميه على المستوى العالميّ».

وتجدر الإشارة، في الأخير، إلى أنَّ سيّد حسين نصر ينتقد الحداثة من موقع الاتّجاه التقليدي (الفلسفي والصوفي أساساً) الذي لا ينكره؛ بل يدافع عنه توجُّهاً أصيلاً وبديلا للعلمويَّة والحداثة. وهذا لا يعني أنَّه يرفض العلم؛ بل إنَّه ينتقد العلمويَّة أساساً. إنَّه لا يرفض المنهج العلميَّ في ذاته؛ بل يرفض رؤية العالم التي حصرت في منهج علميّ يلغي البُعد الإلهيَّ والروحانيَّ في الإنسان. وكذلك، هو لا يرى أنَّ كلَّ ما يوجد في التراث الإسلاميّ إيجابيّ؛ بل لا بدَّ من العمل على الاستفادة من العلم وتطوير الذات، مع استثمار المفاهيم الإسلاميَّة للعلم والعقل، على سبيل المثال، التي هي أوسع دلالة من مفهومهما الحديث.

حوار طائفيّ

عيسى جابلي: كثيراً ما نشهد صراعات طائفيَّة تهدّد وحدة المجتمع الإسلاميّ. وهذه الصراعات تتَّخذ شكلها العنيف في الهجوم المتبادل على دور العبادة والرموز الدينيَّة لكلتا الطائفتين المتصارعتين. فما الجذور العميقة لهذه الصراعات؟ وكيف يمكن وضع حدٍّ لها، في نظركم؟

سيّد حسين نصر: على مرّ العصور، وُجِدت في الإسلام، كما في كلّ ديانة أخرى كبيرة لها أتباع كثيرون، تأويلات مختلفة لجوانب كثيرة من الدّين، فقهيَّة وكلاميَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة. فبما أنَّ الجماعة الإنسانيَّة متنوّعة، هناك دائماً تنوُّع في التأويلات في كلّ ما يشترك فيه الناس، لا في الدّين فحسب؛ بل حتَّى في الإيديولوجيات الحديثة التي حلّت محلَّ الدّين، في أغلب الأحيان، بالنسبة إلى كثير من الناس في العالم الحديث. أمَّا في العالم الإسلامي التقليدي، فرغم وجود الانقسامات فيه، كانت تحكمه أصول التوحيد والنبوَّة، وحقيقة القرآن الكريم، بطبيعة الحال، الذي قبلت جميع المدارس الإسلاميَّة بنصّه بوصفه كلام الله. ومن أجل رؤية هذه الوحدة رغم الخلافات، كلُّ ما ينبغي علينا القيام به هو أن ننظر في جميع حالات الزواج، التي لا تُحصى عبر العصور، بين السنَّة والشيعة؛ حيث تعيش كلتا المجموعتين في لبنان واليمن والهند المسلمة على سبيل المثال.

وقد أدَّى ظهور الحداثة إلى إضعاف الدّين وزيادة الطائفيَّة في آن واحد، لأسباب كثيرة منها إضعاف الصوفيَّة التي كانت دائماً قوَّة موحّدة في التاريخ الإسلاميّ. ويجب ألَّا ننسى أنَّ الحداثة وأشكال الأصوليَّة المختلفة، التي يعارض بعضها بعضاً في مجالات عدَّة، متّفقة في معارضتها للصوفيَّة والروحانيَّة. وقد استغلّت القوى الاستعماريَّة هذا الوضع، وسعت إلى إشعال نار المعارضة بين مختلف الجماعات الإسلاميَّة، وما زالت تتبع السياسة نفسها. كلُّ هذه العوامل، التي ينبغي أن تضاف إليها العوامل العرقيَّة والطبيعيَّة، أدَّت إلى الوضع المأساوي الذي نرى أسوأ مظاهره، اليوم، في اليمن وسورية والعراق وباكستان إلى حدٍّ ما.

ما ينبغي القيام به هو أن يعيد المسلمون الحقيقيّون تأكيد حديث «المسلم أخو المسلم»، وأن يتصرَّفوا وفقاً لذلك، مؤكّدين أنَّ كلَّ المسلمين، رغم الاختلافات، يوحّدهم قبول التعاليم الإسلاميَّة الأساسيَّة في التوحيد والنبوَّة والمعاد، وفي امتلاك كتاب مقدَّس واحد. ففي بعض البلدان الإسلاميَّة مثل مصر وإيران وتركيا ولبنان والهند المسلمة، الوضعُ، من وجهة النظر هذه، أفضل ممَّا هو عليه في معظم المناطق الأخرى؛ حيث يوجد كلّ من السنَّة والشيعة معاً بأعداد كبيرة، وإن كان على نحو غير مثالي بعد. ومن المهمّ جدَّاً، بالنسبة إلى جميع المسلمين الذين يهمُّهم مستقبل دينهم ومجتمعهم وحضارتهم، تأكيد وحدة الأمَّة، ومعارضة مختلف أشكال الطائفيَّة والإقصائيَّة التي تسعى إلى تمزيق نسيج المجتمع الإسلاميّ، وعزل كلّ واحد منه عن الآخر.

عيسى جابلي: بعض الطوائف الإسلاميَّة تقدّم نفسها تحت شعار «نحن نمثّل الإسلام الحقيقيّ والباقي مخطئون». في رأيكم، من يمثّل «الإسلام الحقيقيّ»؟ وما الأصول التي يمكن أن تساعد على بناء قاعدة مشتركة بين الطوائف المسلمة، وبناء فضاء سلميّ تعيش فيه جميع الطوائف معاً في سلام؟

سيّد حسين نصر: من الطبيعي أن يدَّعي الإنسان أنَّ فهمه للدين هو الحقيقة، وأنَّه الأفضل، وإلا فلن يتبعه أحد. ومن المهمّ أن نتذكَّر، مع ذلك، أنَّ أشكال الفهم الأخرى للدّين ليست على ضلال بالضرورة. ألم يكن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: «الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»؟ الإسلام الحقُّ هو الإسلام الذي يقوم على الشهادتين، ويقرّ بأنَّ القرآن كلمة الله، وأنَّ الشريعة قانون إلهيّ. أمَّا كيف تؤوَّل هذه الحقائق من قبل الجماعات الإسلاميَّة المختلفة، فيجب أن تقبلها الجماعات الأخرى، مادامت تلك الجماعة باقية في إطار كونيَّة الإسلام التقليديّ، لا مجرَّد أرثوذكسيَّة طائفيَّة وإقصائيَّة، الذي يشمل جميع المدارس السنيَّة والشيعيَّة والصوفيَّة أيضاً. إذا كان جميع المسلمين، الذين يخشون الله ويحبُّونه في آن واحد، يظلّون مخلصين للحقائق والممارسات الأساسيَّة التي توحّد المسلمين، فإنَّ المسلمين، الذين يولّون وجوههم إلى القبلة نفسها خمس مرات في اليوم، يظلّون على وعي بأنَّ ما يوحّدنا أكثر ممَّا يفرّقنا، ينبغي علينا أن نكون قادرين على خلق فضاء من السلام، يمكننا أن نعيش فيه في وئام بعضنا مع بعض وفقاً لمشيئة الله تعالى.

الحوار الدينيّ والتعدّديَّة الدّينيَّة

عيسى جابلي: عندما نلقي نظرة على ما يحدث في عالمنا الحديث من الصراعات الدامية، فإنَّنا قد نتساءل: ألا يزال الدّين يقوم بدوره الأساسيّ في بناء تعايش سلميّ بين البشر؟

سيّد حسين نصر: إنَّ قابيل لم يقتل أخاه هابيل بسبب خلافات دينيَّة ولاهوتيَّة؛ ولا رمى إخوة يوسف أخاهم في البئر بسبب دينيّ. والهبوط يعني الهبوط من حالة الكمال في الجنَّة إلى حالة وجود ملأى بالصراع والعدوان الأناني الذي عارضته جميع الأديان. لقد لُقّب المسيح بأمير السلام، والمسلمون واليهود يحيُّون بعضهم بعضاً بقول «السلام» أو «شالوم»، والهندوس ينطقون عبارة «شانتي»، التي تعني الشيء نفسه. غير أنَّ الدّين، عبر كلّ مراحل التاريخ البشريّ قبل ظهور الحداثة، كان العامل المركزيَّ في هويَّة الشعوب؛ حيث إنَّ كلَّ شيء يمارس باسمه، حتَّى لو كانت دوافع الفتنة دوافع عرقيَّة، ديموغرافيَّة، سياسيَّة، اقتصاديَّة، أو غير ذلك. بل حتَّى الحروب التي كانت تجري صراحة باسم الدّين مثل الحروب الصليبيَّة كانت تحرّكها دوافع أخرى في الغالب. حتَّى الفتوحات العربيَّة لم تتمَّ خارج حدود الجزيرة العربيَّة بغرض حمل الناس على اعتناق الإسلام بالقوَّة، وإلا فإنَّ الكثير من غير المسلمين ما عاشوا في دار الإسلام بعد الانتصار الكامل للمسلمين في كلّ العالم الذي أصبح يُسمَّى العالم العربيَّ، كما في بلاد فارس، حيث ظلَّ ما يقارب نصف السكان على الدّيانة الزرادشتيَّة، والمجوسيَّة بدرجة أقلّ، بعد ثلاثة قرون من الغزو العربي.

والدرس المهمُّ، الذي ينبغي أن نتذكَّره، أنَّ الكثيرين في أوربا، بعد حروب المئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت، تخلّوا عن الدّين، وانتشرت العلمانيَّة أكثر. واعتقد كثيرون بأنَّ الدّين لمَّا كان سبب الحرب، فإنَّ تهميشه سيؤدّي إلى السلام. ولكن ما حدث هو أنَّه في القرنين التاسع عشر والعشرين، انخرط الأوربيُّون في حروب، ربَّما باستثناء الغزو المغولي، أدَّت إلى قتل أكبر عدد في تاريخ البشريَّة. وكان الفرق أنَّه الآن بدلاً من أن تُشنَّ الحروب باسم المسيحيَّة، صارت تتمُّ باسم الآلهة الجديدة مثل «الأمَّة» أو «الحضارة الغربيَّة»، وكلتاهما استخدمت غطاء للاستغلال الاقتصاديّ، أو باسم الإيديولوجيَّات العلمانيَّة الجديدة أو الديانات الزائفة مثل الشيوعيَّة والفاشيَّة أو الليبراليَّة العلمانيَّة.

وفي الظرفيَّة الراهنة من تاريخ البشريَّة، من الجوهريّ أن تحتفظ الأديان باستقلالها عن مصالح أتباعها العرقيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، لا الاكتفاء بتعريف أنفسهم مع هذه المصالح فقط. وينبغي لجميع الأديان أن تدعو الناس إلى السلام والوئام بين الشعوب والأمم. وليس ثمَّة سلام ممكن، إذا لم يكن ثمَّة سلام بين البشر والشعوب. ولا يمكن تحقيق هذا السلام إلا إذا كان ثمَّة سلام بين الأديان وبين مختلف المذاهب داخل الدّين الواحد، سواء كانوا من الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا، والكرواتيّين الكاثوليك والأرثوذكس في صربيا، أم السنَّة والشيعة في العراق وسورية والجزيرة العربيَّة واليمن. فلكي يكون المرء في سلام على الأرض، يجب عليه أن يكون في سلام مع السماء.

عيسى جابلي: يتّجه العالم، في الوقت الحاضر، نحو القضاء التامّ على الدّين من الحياة اليوميَّة، ويضعه في منزلة أدنى على مستوى التأثيرات الكونيَّة في التاريخ. في رأيكم، ما القيم التي حلّت محلَّ الدّين في عصرنا؟ وكيف يمكن للدّين أن يستعيد دوره الإيجابيَّ في صنع التاريخ؟

سيّد حسين نصر: إنَّ الطبيعة الأساسيَّة لرؤية الحداثة للعالم، التي قامت على النزعة الفرديَّة والعقلانيَّة والعلمانيَّة، هي تهميش الدّين إلى أكبر حدٍّ ممكن. لقد حدثت هذه العمليَّة في أوربا الغربيَّة وأمريكا لأوَّل مرَّة، وإن كانت بدرجات متفاوتة، ثمَّ انتشرت في القرن العشرين إلى مناطق مختلفة خارج الغرب، مثل روسيا والصين واليابان وكثير من البلدان الأخرى. ولكن في القرن العشرين، وخاصَّة بعد الحرب العالميَّة الثانية، تسبَّب حدث آخر حاسم في إحياء الاهتمام بالدّين في أجزاء كثيرة من العالم، حتَّى في الغرب العلمانيّ على نحو مبالغ فيه، على الأقلّ في بعض الأوساط الفكريَّة المهمَّة جدَّاً. وقد بدأت بعض الانتقادات الأكثر عمقاً للحداثة في الظهور في الغرب، ووصلت إلى المفكّرين غير الغربيّين أيضاً. فأعمال مفكّرين أمثال شبينغلر (Spengler) وتوينبي (Toynbee)، التي تحدَّثت عن تدهور الغرب الحديث، والانتقادات المبدئيَّة للحداثة من قبل التقليديّين مثل غينون (Guénon)، وكوماراسوامي (Coomaraswamy) صارت تقرأ على نطاق واسع، وأثَّرت في كثير من الناس. وقد بدأ الاهتمام ينمو في الغرب، بشكل ملحوظ، لا بالديانات الغربيَّة فحسب؛ بل بغير الغربيَّة أيضاً، مثل الهندوسيَّة والبوذيَّة والطاويَّة والإسلام.

وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تصاعداً جديداً في الاهتمام بالدّين في أوساط الطبقات المتعلّمة في العديد من البلدان غير الغربيَّة، وخاصَّة العالم الإسلاميّ والهند، كما في روسيا وأوربا الشرقيَّة بعد سقوط الشيوعيَّة. فلنأخذ حالة عالمنا الإسلامي؛ إذ خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أضحى فقر الإيديولوجيَّات التي هيمنت على العالم العربيّ، مثل القوميَّة العربيَّة والاشتراكيَّة، واضحاً تماماً بالنسبة إلى الكثيرين الذين سعوا بعد ذلك إلى العودة إلى الإسلام بشكل أو بآخر، رغم أنَّ البعض سعى إلى تحويل الإسلام إلى إيديولوجيا. وفي إيران، إنَّ الثورة الوحيدة، التي حدثت في العصر الحديث باسم الدّين، أصبحت ناجحة. وقد تمَّ تقسيم الهند، فنشأ أكبر بلد إسلامي من حيث الكثافة السكانيَّة باسم الإسلام، لا باسم أيَةّ هويَّة عرقيَّة أو لغويَّة أو وطنيَّة، وهذا البلد هو جمهوريَّة باكستان الإسلاميَّة. ومهما كان نجاح مثل هذه الأحداث أو فشلها، فإنَّ النتيجة هي أنَّ الإسلام أعيد إلى قلب المسرح السياسي في العالم الإسلامي مع ديناميكيَّة جديدة لا تزال مفتوحة.

في مثل هذه الحالة، إضافة إلى ما نراه من صعود القوميَّة الهندوسيَّة في الهند، وحتَّى إحياء الكونفوشيوسيَّة في الصين، التي لا تزال ماركسيَّة في الظاهر، ليس ثمَّة شكّ في أنَّ الدّين قد أضحى، مرَّة أخرى، قوَّة فعَّالة على الساحة الدوليَّة، ناهيك عن دوره في الحياة الفرديَّة للرجال والنساء في جُلّ أنحاء العالم. بالفعل، لقد ازداد دور الدّين في الشؤون الإنسانيَّة على الصعيد العالمي بشكل كبير. وفي مثل هذا الوضع، تأتي مسؤوليَّة تاريخيَّة جديدة. يجب على الأديان أن تؤكّد الحياة الأخلاقيَّة واحترام الأديان والثقافات الأخرى. عليها أن تستمدَّ من الجوانب الأكثر كونيَّة في تعاليمها من أجل تقريب بعضها إلى بعض، والسعي إلى حلّ المشاكل التي تواجه البشريَّة ككلّ، مثل مشاكل الحرب والاستغلال الاقتصاديّ والأزمة البيئيَّة التي لا يمكن حلّها إلا إذا تصرَّفت الأديان معاً وفي وئام بعضها مع بعض.

عيسى جابلي: أنتم تؤمنون بالتعدّديَّة الدينيَّة واتّباع ديانات مختلفة من أجل بلوغ الحقيقة. كيف يمكن لشخص مسلم أن يعتقد بذلك؟

سيّد حسين نصر: أوَّلاً، وقبل كلّ شيء، نرى أمامنا بالتجربة إنسانيَّة متنوّعة بتنوُّع الشعوب والأمم، بثقافاتها ولغاتها وأعراقها المختلفة، وغير ذلك. وثانياً نرى أدياناً اتَّبعها مؤمنون مخلصون على مدى آلاف السنين. وثالثاً نرى أنَّ في قلب كلّ الأديان الأصيلة ثمَّة توحيد، حتَّى لو تمَّ تفسيره وصياغته في رموز وأسماء مختلفة. كلُّ هذه الحقائق يؤكّدها القرآن الكريم الذي يفسّر بوضوح عالميَّة الوحي عندما يقول: «لكلّ أمَّة رسول»، ويضيف في سورة المائدة أنَّ الله تعالى كان يمكن أن يخلق شعباً واحداً، ولكنَّه خلق شعوباً مختلفة وأرسل إليها قوانينَ وطرائقَ مختلفة، حيث يمكن أن ينافس بعضها بعضاً في الخير. إنَّ استجابتي لما أطلق عليه الشيخ عيسى نور الدين (Frithjof Schuon) «الوحدة المتعالية للأديان» قامت على التوجُّه الكونيّ الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بوضوح تامّ، وبشكل أكثر صراحة من أيّ كتاب مقدَّس آخر. كلُّ ما على المسلم الصادق أن يقوم به اليوم هو العودة إلى رؤية القرآن العالميَّة، حيث مصطلح الإسلام نفسه لا يقتصر على الدّين الذي أُوحِي به إلى النبيّ محمَّد، عليه السلام، الذي أُطلِق عليه اسم المسلم في القرآن. وأعتقد أنَّ لإبراز البُعد العالميّ للإسلام، في هذه الظرفيَّة من التاريخ، أهمّيَّة خاصَّة، وأنَّ قدر الإسلام أن يحافظ على الدّين الأصيل ويحميه على المستوى العالميّ. وعلاوة على ذلك، إنَّ هذا التأكيد على عالميَّة التوحيد لن يضعف الإسلام؛ بل سيقوّيه.

الدّين والحداثة

عيسى جابلي: ما الأسباب الكامنة وراء انتقاداتكم الحادَّة للحداثة في كتبكم ومقالاتكم؟ أَهي أسباب موضوعيَّة أم ذاتيّة؟ وهل من الممكن أن ننسى ما سبق أن منحَته لنا الحداثة مثل الحريَّة والمسؤوليَّة والعقلانيَّة؟

سيّد حسين نصر: التقليديُّون، أمثالي، يعارضون الحداثة في أساسها وجذورها وافتراضاتها حول طبيعة الواقع، والله، والكون، والإنسان. وقد قُدّمت انتقادات مفصَّلة للحداثة من قبل مؤلّفين تقليديّين مثل رينيه غينون (René Guénon) في كتبه «النبويَّة» أزمة العالم الحديث (The Crisis of the Modern World)، وعصر سيادة الكمّ (The Reign of Quantity). ولا يمكن أن ألخّص كلَّ تلك الانتقادات هنا، ما عدا أن أضيف فقط أنَّ الحداثة باعتبارها رؤية للعالم تهمّش الله، ومن ثمَّ إنَّها تهمّش البعد الرُّوحيَّ للإنسان. كما أنَّها تختزل الطبيعة في شيء «مبنيّ للمجهول»، إلى واقع مادّي محض من أجل الاستغلال؛ بل حتَّى الاغتصاب من قبل الإنسان المعاصر بغرض تلبية رغباته المتزايدة، دون أن يكون للطبيعة أيُّ حقٍّ في ذاتها، ناهيك عن حقوق الله على خلقه.

بطبيعة الحال، نحن، بوصفنا تقليديّين، لسنا غير واعين ببعض المزايا النسبيَّة في العالم الحديث. نحن نعلم أنَّ طبَّ الأسنان أكثر نجاحاً اليوم في علاج أسناننا المسوّسة ممَّا كان عليه في العصور الوسطى، ولا نحن غير واعين بوجود عيوب في المجتمعات التقليديَّة. فلا يوجد أيُّ شيء هو شرّ كامل. حتَّى الشيطان، الذي هو مثال الشرّ، خلقه الله؛ والله لا يخلق الشرَّ بما هو كذلك. غير أنَّ النقطة المهمَّة التي ينبغي تذكّرها هي غلبة الخير أو الشرّ، والحقيقة أو الباطل في أيّ شيء. لقد كانت المجتمعات التقليديَّة خيراً في الجوهر وشرَّاً بالعرض. أمَّا العالم الحديث فهو شرّ في الجوهر (وقد بدأ عدد متزايد من الناس في معرفة ذلك، خاصَّة مع ظهور الأزمة البيئيَّة التي تهدّد الآن حياة الإنسان نفسه على وجه الأرض)، وهو خير بالعرض. إنَّ انتقادنا الحداثة لا يقوم على المشاعر أو الحنين إلى الماضي المفقود، ولكنَّه يقوم على حقيقة من نحن، وماذا ينبغي علينا أن نفعله هنا على الأرض، وأين نحن سائرون، وأين ينبغي لنا أن نسير؟ إنَّ انتقادنا للحداثة لا يقوم على حقد أو غضب بسيط، بل على دقّة فكريَّة وتحليل موضوعيّ. وفي معنى أعمق، إنَّ انتقادنا هو عمل من أعمال المحبَّة أيضاً، محبَّة الله، الذي هو الحقُّ ومصدر كلّ حقّ، ولما أوحى به لخلقه وخاصَّة إلى الإنسانيَّة.

عيسى جابلي: يعتقد بعض العلماء والفلاسفة أنَّ الدّين فكرة تنتمي إلى عصر ما قبل الحداثة، وينبغي التخلّص منها من أجل إرساء القيم العقلانيَّة والقواعد العلميَّة. هل تعتقدون بأنَّ هذا ممكن؟

سيّد حسين نصر: إنَّ فكرة إرجاع الدّين إلى أثر تاريخيّ، والاعتماد على العقل والعلم فقط، ليست جديدة في الغرب بطبيعة الحال. إنَّها تعود إلى عصر ما بعد القرون الوسطى، عصر الثورة العلميَّة، عقلانيَّة القرن الثامن عشر، وما يُسمَّى عصر التنوير، واستمرَّت في أشكال جديدة في القرن التاسع عشر مع الماركسيَّة وغيرها من إيديولوجيَّات العصر، واكتسبت حياة جديدة في القرن العشرين مع انتشار صور مختلفة من الوضعيَّة العلميَّة التي ارتبطت بدائرة فيينَّا، في البداية، ومن خلال الفرويديَّة والوجوديَّة الإلحاديَّة مع أمثال سارتر، رغم ما شابها من عنصر اللَّاعقلانيَّة، وأخيراً في الموجة الجديدة من الإلحاد التي شاعت في أواخر القرن العشرين على يد أمثال داوكينز (Dawkins) وهيتشنس (Hitchens). وإنَّ كثيراً من الفلاسفة الغربيّين المعاصرين المشهورين، مثل هابرماس (Habermas)، ينتمون بوجه من الوجوه إلى هذه الفئة، رغم اختلاف فهمه للعقل والتاريخ عن العقلانيّين الأوربيّين السابقين.

هذه الطريقة في النظر إلى العلم والعقل بدأت في التأثير أيضاً في العالم غير الغربيّ ابتداء من القرن التاسع عشر فصاعداً، وحتّى في دار الإسلام نفسها، إلى حدّ ما، حيث كان الدّين ولا يزال أقوى ممَّا هو عليه في الغرب. إنَّ المعنى الذي استخدمت به مصطلحَي العقل والعلم في سؤالك، يعكس الفهم الغربيَّ الحديث لهذه المصطلحات، لا معناها الإسلاميّ التقليديّ، ولا كيف فهم شخص مثل ابن سينا ​​أو الغزالي هذه المفاهيم الأساسيَّة.

ففقر المعنى في أغلب المفاهيم السائدة التي تنتهي بـ«ism» من الطبيعانيَّة (Naturalism) والعقلانيَّة (Rationalism) والعلمويَّة (Scientism) إلى التجريبانيَّة (Empiricism) والتاريخانيَّة (Historicism) وتطبيقاتها على المستوى السياسي من الماركسيَّة إلى الفاشيَّة هو واقع صارخ. كلُّ ما علينا القيام به هو أن نفتح أعيننا لنرى ذلك، وندرك أنَّه ليس كلُّ ما «في مملكة الدانمارك» جيّد، كما يقول شكسبير. ينبغي أن نتعلّم من تاريخ الحداثة أنَّه لا يمكن للمرء أن يزيل الدّين جانباً، ويختزل «العقل» إلى (reason) و«العلم» إلى العلم الحديث دون عواقب كارثيَّة على الإنسان ونظام الطبيعة معاً. وفيما يتعلّق بالعالم الإسلاميّ، ينبغي لنا أن ننظر إلى الحداثة لا بوصفها مثالاً ورؤية للعالم من أجل محاكاتها بشكل أعمى؛ بل بوصفها تجربة فاشلة ينبغي أن نتعلّم منها في رسم مسارنا الخاصّ.

ينبغي أن نعود إلى فهمنا الإسلامي التقليدي لمفهومي «عقل» و«علم». علينا أن نتذكَّر أنَّه في المنظور الإسلامي «عقل» هو ما يربطنا بالله والحقيقة، وأنَّه عندما يقول القرآن الكريم: «وهم لا يعقلون»، لا يعني أنَّهم يفكّرون تفكيراً عقلانيَّاً، وأنَّ العلم هو صفة إلهيَّة؛ و«الراسخون في العلم» لا يعني بها البارعين في الفيزياء والكيمياء. وعلينا أن ندرك أنَّ العلم الحديث ليس هو العلم الطبيعي (بألف ولام التعريف)، وإنَّما هو علم الطبيعة الذي يمكننا أن ندمجه من حيث المبدأ في تراتبيَّة المعرفة في الإسلام بعد إزالة زعم الإطلاقيَّة عنها، ومن ثمَّ تفادي خطر العلمويَّة (scientism). ويمكننا أيضاً تطوير فكر عقلانيّ دون أن نكون ذوي نزعة عقلانيَّة (rationalistic). إنَّ خلاص الحضارة الإسلاميَّة يعتمد على قدرتنا على إحياء تراثنا الفكريّ المتكامل، لا على تكرار التجارب الفاشلة التي عرفتها الحداثة.

عيسى جابلي: لقد أكّدتم في أبحاثكم على مفهوم «العلمويَّة» كثيراً. ماذا تقصدون بذلك؟ ولماذا تَعدّونه خطراً؟

سيّد حسين نصر: أفترض أنَّك تقصد (Scientism) بكلمة «العلمويَّة» التي صيغت حديثاً. فإلى هذا السؤال سأنتقل الآن. فالعلمويَّة تعني توسيع رؤية العلوم الحديثة للعالم، وجعلها بمثابة فلسفة كلّيَّة تنطبق على الواقع كلّه. وأنا أرى أنَّ العلمويَّة خاطئة تماماً. وأكثر من ذلك هي أخطر مغالطة، ولكن بسبب النجاح الماديّ للعلوم الحديثة في المجال الماديّ، فإنَّ كثيراً من الناس يطابقون بين العلم والعلمويَّة باعتبارهما شيئاً واحداً، ويتبنَّون ذلك بوصفه يمثّل رؤيتهم للعالم، على الرغم من أنَّ عدداً من العلماء أنفسهم يرفضون العلمويَّة. وخطر العلمويَّة يكمن في كونها تدمّر ثراء خلق الله برفض كلّ ما لا يمكن إخضاعه للبحث من خلال المنهج العلميّ المزعوم، الذي يدمّر البُعد الروحيَّ للبشر والطبيعة معاً، ويخلق رؤية للعالم تنفي وجود حقيقة أسمى، ومن ثمَّ تنفي وجود غاية قصوى في حياة الإنسان. فالجمال والخير والفضيلة ليس لها أيَّة مكانة أنطولوجيَّة، ولا معنى أسمى في فلسفتها وإبستمولوجيَّتها الشموليَّتين. ومن الأهمّيَّة بمكان بالنسبة إلى المسلمين أن يفهموا مخاطر قبول العلمويَّة، بوعي أو من دونه، في حياتهم الدينيَّة والفكريَّة والفنيَّة والرُّوحيَّة.

عيسى جابلي: كيف يمكننا التخفيف من هذه الظاهرة وتقليص تأثيرها في عالمنا المعاصر؟

سيّد حسين نصر: إنَّ السبيل الصحيح الوحيد المتاح للمسلمين هو العودة إلى التقليد الإسلامي، وفي ضوء تعاليمه الفكريَّة والروحيَّة الأكثر كونيَّة عليهم مواجهة جميع القوى والأفكار التي تغزو العالم الإسلامي في موجات متتالية، وتقييمها. ينبغي ألَّا نكون مثل ركَّاب سفينة بلا مجداف تتقاذفها الأمواج في عاصفة بحريَّة. لا يمكننا أن نكون مجرَّد منفعلين، وطرفاً متلقياً دائماً. ينبغي أن نكون فاعلين في العالم من حولنا، نستجيب للتحدّيات التي تعترض طريقنا على أساس تقليدنا الإسلامي الغني. وأيضاً، ينبغي ألَّا نيأس أبداً، وأن نتذكَّر أنَّ النصر النهائيَّ يكون دائماً للحقيقة. فكما يقول القول الغربيُّ المأثور من القرون الوسطى: (Vincitomnia Veritas) (الحقيقة تنتصر دائماً)، وكما يؤكّد القرآن الكريم: (جاء الحقُّ وزهق الباطل).

[1]- يفكرون العدد11

* العنوان الأصلي الذي وضعه سيّد حسين نصر لهذا النصّ هو «أجوبة عن أسئلة أرسلها السيّد عيسى جابلي»، سيراً على نهج القدامى في التأليف، والعنوان الفرعيّ أعلاه من اقتراح المترجم في ضوء محتوى النصّ..

** كاتب وإعلامي من تونس.

*** أكاديميّ مغربيّ (جامعة زايد، أبو ظبي/ جامعة محمَّد الأوَّل، وجدة).

[2]ـ سيّد حسين نصر: فيلسوف مسلم معاصر، وُلِد عام 1933 في طهران، من عائلة فارسيَّة عريقة في العلم. تلقّى تكويناً تقليديَّاً في بلاده قبل أن ينتقل إلى الدراسة في أمريكا، حيث تدرَّج في تخصُّصات تتراوح بين التكوين العلميّ الدقيق (الفيزياء والجيولوجيا والجيوفيزياء) وتاريخ العلوم والفلسفة والدراسات الإسلاميَّة. فهو ذو تكوين مزدوج علميّ وفلسفيّ من جهة، وإسلامي تقليديّ وغربيّ حديث من جهة أخرى. وقد كان لـ «دي سانتيانا» (Di Santillana) و«روني غينون» (Rene Guenon) أثر كبير في مسار حياته الأكاديميَّة. عاد إلى بلده حيث اشتغل بالتدريس والبحث والإدارة في جامعة طهران، وساهم في إغناء الحياة الأكاديميَّة وتطويرها في إيران قبل الثورة. لكنَّه هاجر بعدها إلى أمريكا مرَّة أخرى، حيث استقرَّ به المقام، منذ عام 1984، أستاذاً للدراسات الإسلاميَّة في جامعة جورج واشنطن، ورئيس مؤسَّسة تحمل اسمه متخصّصة في الدراسات التقليديَّة. وتجدر الإشارة إلى أنَّه يحظى بمكانة مهمَّة جدَّاً في الفلسفة المعاصرة، وخاصَّة في مجال تاريخ الأديان وفلسفة العلوم والميتافيزيقا والتصوُّف، وينتمي إلى ما يعرف، أو ما يسمّيه هو نفسه، المدرسة التقليديَّة. وسيّد حسين نصر غزير التأليف، وله تلامذة كثيرون، كما اشتهر من خلال المحاضرات العامَّة الكثيرة التي يلقيها في مختلف أرجاء العالم. نذكر من أعماله التي حظيت بعناية كبيرة ترجمة ودراسة: (ثلاثة حكماء مسلمين: ابن سينا، السهروردي، ابن عربي) (1964)؛ (مدخل إلى العقائد الإسلاميَّة الكوسمولوجيَّة (إخوان الصفا والبيروني وابن سينا)) (1964)؛ (العلم والحضارة في الإسلام) (1968)؛ (اللقاء بين الإنسان والطبيعة: أزمة الإنسان المعاصر الروحيَّة) (1968)؛ (مقالات صوفيَّة) (1972)؛ (صدر الدين الشيرازي وفلسفته الإلهيَّة المتعالية) (1977)؛ (الفنّ الإسلاميّ والروحانيَّة) (1986)؛ (الإسلام التقليديّ في العالم المعاصر) (1987)؛ (الدين ونظام الطبيعة) (1996)؛ (الإسلام: الدّين والتاريخ والحضارة) (2001)؛ (الفلسفة الإسلاميَّة من أصولها إلى اليوم: الفلسفة في أرض النبوَّة) (2006)؛ (الإسلام في العالم المعاصر) (2012).