فِي العَلاقَة بين الإِتِيقَا والأَخْلاَقِ


فئة :  مقالات

فِي العَلاقَة بين الإِتِيقَا والأَخْلاَقِ

فِي العَلاقَة بين الإِتِيقَا والأَخْلاَقِ

مَا العَلاقَةُ بين الإِتِيقَا éthique والأَخْلاَقِ morale؟ أَهي عَلاقَة تطَابُق أم اختلاف؟ ومَا الرهانات الفلسفية التِي قد ينطوي عليها استشكالُ العلاقة بين التصورين؟ لا تكاد تخلو دراسة هذِه العلاقة من تعقيد، لأنها تحتلّ تقاطُعا متوتّرا بين خطابين، خطَاب الإِتِيقَا أو الحكمَة من جهة، وخطاب الأَخْلاَق من جهة ثانية؛ إذ يشهد كل خطاب منهما على مرجعيات متباينة وخصائص متنافرة. وإذا سلمنا ابتداء بِالقول إِنّ خطاب الأَخْلاَق وخطاب الحكمة يسيران فِي اتجاهين متوازيين، طَالما أن الأول يسلُكُ وفق مبادئ متعالية وأن الثاني يسلك وفق ما تمليه الحياة، فإن الغرض من هذه الورقة يتمثل فِي الانفتاح على أفق معاصر، يميلُ إلى إحداث نحو من الجمع الذي يجسد صورة حديثة لحكيم مبال بمجتمعه.

ولأن ذَلك كذلك، تجدر الإشَارة، فِي بداءة التحليل، إلى أن الفصل بين الأَخْلاَق والإِتِيقَا ليس من باب المسلم به فِي الفَلسَفة، طالما يرفضه العديد من الباحثين فِي الفلسفة اليوم، مستدلين على موقفهم بالعودة إلى الأصل الاشتقاقي المشترك للمصطلحين. فِي هذا السياق، لا يلاحظ لوك فِيري أي فرق جوهري - من حيث المضمون - يمكن تبينه بين الإِتِيقَا والأَخْلاَق. فلئن كان هناك اختلاف يمكن أن نلمع إليه بين ذينك اللفظين، فإنه يرجع، حسب لوك فِيري، إلى أنهما يعودان إلى جذرين لغويين مختلفين؛ إذ بينما يعود لفظ أخلاق إلى اللفظ اللاتيني moralis، فإن لفظ إيتيقا مشتق من اللفظ اللاتيني ethicus الذي يعود بدوره إلى اللفظ الإغريقي êthikós. تبعا لذلك، ليس ثمة مبرر لوضع فروقات جوهرية بين اللفظين، وبالنتيجة فإنهما يشتركان فِي نفس المعنى، رغم اختلاف الاسم والمنطوق[1]. لكن، هل تكفِي العودة إلى مجرد علم الاشتقاق حتى نحسم فِي الأمر؟ قد لا تفِيد العودة، والحال هذه، إلى الاشتقاق من أجل التمييز بين التصورين، بل إن سبونفِيل يرى أن الاشتقاق لا يفِيد أبدا فِي صناعة المفهوم[2]. وعلى أي، فما الفرق بين اللفظين؟

ثمة اختلاف أساسي ما يلبث يشير إليه "فلاسفة الإِتِيقَا "، ونخص بالذكر منهم سبينوزا، ونيتشه، ودولوز؛ ذلك أن التصور الرافض للفصل بين الأَخْلاَق والإِتِيقَا لا ينتبه إلى أن لفظ إيتيقا نفسه، يرتبط بلفظ إغريقي آخر: إيتوس éthos، الذي يدل على البحث فِي كيفيات الحياة، أي على ما يتجاوز كل أخلاقية تحاكم الحياة بمنطق الواجب. والواقع أنه يمكن أن نضع تمييزات على مستوى الاستعمالات المعرفِية للغة، حيث تكون الألفاظ المشتقة من اللغة الإغريقية مرتبطة باللغة العلمية أكثر من الألفاظ المشتقة من اللاتينية، بل إن من الممكن وضع تمييز سوسيولوجي بين اللفظين، يجعل من الإِتِيقَا "أخلاقا رفيعة"[3]. زد على ذلك، وهو ما يهمنا، أن مسألة الفرق بين ميداني الأَخْلاَق والإِتِيقَا، تنطوي على مواقف فلسفية عميقة، حيث يبدو أن فلاسفة الإِتِيقَا يرفضون التيار السائد فِي تاريخ الميتافيزيقا الغربية الذي يرسخ، فِي نظرهم، سجن الحياة فِي النفس ولواحقها عند القدامى، أو الذات وقوالبها عند المحدثين.

فِي هذا الصدد، يقول أندري كونت سبونفيل فِي التمييز بين تصوري الإِتِيقَا والأَخْلاَق: "أسمي أخلاقا الخطاب المعياري والأمري الناجم عن التعارض بين الخير والشر، من جهة كونهما قيمتين كونيتين ومطلقتين. إن الأَخْلاَق هي مجموع واجباتنا. تجيب الأَخْلاَق عن سؤال: "ما الذي يجب فعله؟". إنها تسعى إلى أن تكون واحدة وكونية. تتوجه الأَخْلاَق نحو الفضيلة وتنتهي إلى القداسة. بالمقابل، أسمي إتيقا كل خطاب معياري غير أمري [...] ناجم عن التعارض بين الحسن والقبيح من جهة كونهما قيمتين نسبيتين. إن الإِتِيقَا هي المجموع المفكر فيه لرغباتنا؛ وتجيب عن سؤال: "كيف نحيا؟". إنها دائما خاصة بفرد أو جماعة. إنها فن للعيش، إنها تميل فِي الأغلب نحو السعادة وتفضي إلى الحكمة"[4].

الظاهر أن هذا التعريف يضع أربعة فروقات بين الأَخْلاَق والإِتِيقَا. يتمثل الفرق الأول فِي أن الأَخْلاَق تدور حول قيمتي الخير Bien والشر Mal، فِي حين تدور الإِتِيقَا حول قيمتي الحسن bon والقبيح mauvais. ويكمن الفرق الثاني فِي أنه لما كانت الأَخْلاَق نزاعة إلى الإطلاقية، فإن الإتيقا تميل إلى النسبية. وأما الفرق الثالث، فيتجلى فِي أن الأَخْلاَق ميل إلى تحقيق الكونية، فِي حين تميل الإِتِيقَا إلى أن تتعلق بالأفراد. ويبقى فرق رابع يتبدى فِي أنه لما كانت الأَخْلاَق تسعى إلى بلوغ الفضيلة، فإن الإِتِيقَا هي دائما إتيقا للحكمة وإتيقا للفرح كما هو الحال عند سبينوزا[5].

من هنا، يبدو أن مكمن الاختلاف بين الإِتِيقَا والأَخْلاَق، يتمثل فِي أنه بينما ترجح الأولى كفة الحياة والجسد، فإن الأَخْلاَق ترجح كفة الفكر والواجب، ولربما هذا ما يشير إليه جيل دولوز بالقول: "ضدا على القيم (خير - شر)، تقيم الإِتِيقَا الاختلاف الكيفي بين أحوال الوجود (حسن - قبيح). وهم القيم يصير حينها متوحدا بوهم الوعي؛ إذ إن الوعي أعمى بطبيعته؛ لأنه يجهل نظام العلل والقوانين؛ أي نظام العلاقات وتكوينها، ويكتفي بتلقي آثارها، إنه يجهل كلية الطبيعة. هكذا، فإنه يكفِي ألا نفهم شيئا ما حتى نضفي الطابع الأَخْلاَقي عليه. فمن الواضح أننا عندما لا نفهم قانونا ما فإنه يبدو لنا فِي صورة "يجب أن" الأَخْلاَقية"[6]. ولأن الأمر كذلك، ترفض الإِتِيقَا أولية الوعي الذي يغفل عن دور الجسد فِي الحياة، فيعمد إلى خنقه بأوامر "ما ينبغي أن يكون"؛ أي بمبدأ الواجب. لا شك فِي أن خطاب الأَخْلاَق مهدد بالانزلاق إلى ثرثرة أخلاقوية، باطنها الجهل بالأشياء فِي مفارقاتها وحيويتها، وظاهرها ادعاءات ما تنفك تغلف الأشياء بإسقاطات الما يجب أن يكون؛ إن الأَخْلاَق هي ميدان الماهية والقيم، حيث يتم تعريف الإنسان بماهية متعالية على الشرط الإنساني. ومن ناحية أخرى، لا يعسر علينا معاينة أن هذه الفروقات تسمح، عموما، بتمييز خطابين لا ينبغي الخلط بينهما: خطاب الحكمة (الإِتِيقَا) الذي ينشد السعادة من جهة، وخطاب الأَخْلاَق الذي ينشد الفضيلة من جهة ثانية؛ فما هي مميزات الخطابين فِي علاقتهما ببعضها البعض؟

ينهض خطاب الحكيم على أساس اللامبالاة l'indifférence، وهو أساس يتيح إمكانية حياة بسيطة لا تقلقها أهوال العالم، وهي حياة بوسعنا بلوغها عبر تبني نحو مزدوج من النزعة العدمية nihilisme: عدمية أنطولوجية من جهة، وعدمية أخلاقية من جهة ثانية. إننا لا نستطيع أن نفهم العالم كما هو، كما نعجز عن قول ما توصلنا إليه بخصوص هذا العالم، وبالتالي فلا داعي للإقدام على فهمه والفعل فيه، ولذلك كان فيرون (مؤسس المدرسة الشكية القديمة)، دائم التأكيد على أنه لا وجود "للجميل أو القبيح، العادل أو الظالم"[7]. ومن جهتها، ترى الرواقية - بما هي خطاب للحكمة - أنه لا وجود، فِي حقيقة الأمر، للفوضى فِي الكون (الكوسموس)، بل إن ثمة فقط "أثرا للفوضى" فِي العقل المضطرب، غير المتعقل والأحمق؛ إن الكوسموس قائم بصورة متقدمة على وجود الإنسان، وفق قوانين منظمة وتبعا لكيفية منسجمة[8]. ولعله لهذا السبب يقول إميل برييه: "توجد الرواقية خارج نطاق ما نسميه عادة بأخلاق"[9]؛ إذ إن الأَخْلاَق تفترض عالما لا أخلاقيا، ظالما ومزريا، ينبغي تغييره، لا كونا هو على على شاكلة "أفضل الأكوان". على النقيض من ذلك، تنشأ الأَخْلاَق من الإقرار بوجود الشر، ووجود شروط ووضعيات حاطة من الكرامة وغير متوافقة مع الاحترام الواجب للإنسان. إن الأَخْلاَق هي رد فعل ضد البؤس والظلم[10]. لذلك، يفترض الخطاب الأَخْلاَقي الواجب والإرادة لأجل الحد من الوضعيات السالبة للكائن والكرامة الإنسانيين؛ إنه خطاب تحركه إرادة تغيير عالم جائر وفوضوي، لا الكوسموس الرواقي، الذي يتمتع بالانسجام القبلي.

إن هذا ما يمكن تبينه، مع نيتشه، عبر العودة إلى مدرستين كبيرتين للحكمة: الرواقية والأبيقورية. يرى نيتشه أن الأخيرة تلائم اللحظة التراجيدية الأقصى والأقسى، فهي تلبس الفرد جلدا شائكا وسميكا، يمكنه من تجاوز أحلك الظروف وعدم المبالاة بها، إن الرواقية، شبيهة بالطائفة العيساوية التي يأكل أفرادها الزجاج والحجر والعقارب[11]. وأما الأبيقورية، فهي حكمة حياة لا تحرم الفرد من الحس المرهف والرقيق، فمن الصحيح أنها تنطوي على موقف لا مبالاة للحكيم اتجاه العالم، لكن هذا لا يمنعه من أن يستمتع باللحظة العابرة ومن أن يتحكم فِي رغباته واحتياجاته[12]. بالتالي، يتمكن للرواقي من العيش وسط الأشياء والأحياء والأحداث، دون أدنى حرج، وأما الأبيقوري فينسحب إلى حديقته، بغاية تحقيق حالة الأطاراكسيا التي لا يمكن أن تتحقق بين الحشود والأذواق الرديئة. وبين غلظة الرواقي ورقة الأبيقوري، يتحدد وجود الحكيم فِي المدينة بكونه لا يكون نهبا لسلطان الحاجة تماما؛ إذ يقلل الكلبي من احتياجاته إلى الحد الأدنى، ويتحكم الأبيقوري فِي رغباته، ويخضع الأبيقوري للفضيلة وحسب، وهذا ما كان فِي نظرهم كافيا لبلوغ السعادة[13].

بيد أن المشاريع الأَخْلاَقية لا تنهض إلا على قاعدة التخلي عن كل فلسفة خاصة أو إيتيقا؛ وذلك من أجل كونية تتجاوز كل فلسفة خاصة. فمن الواضح أن خطاب الحكمة ليس خطابا كونيا، طالما أن الأطفال والحمقى، مثلا، ليسوا حكماء ولن يقيض لهم استيعاب خطاب الحكيم. لكن، إذا كان الطفل والأحمق غير قادرين على فهم خطاب الحكمة، فهل بمقدورهما صياغة خطاب حول الأَخْلاَق أو حتى فهمه؟ لن يبلوراه كما لن يفهماه، إلا أنهما يؤخذان فِي الحسبان من وجهة النظر الأَخْلاَقية. كيف ذلك؟ تتجلى الإجابة، حسب كونش، فِي مسألة التعويض أو النيابة substitution؛ ذلك أن الأَخْلاَق تقتضي منا أن نقوم بواجب التحدث بلسان من لا صوت له، لسان العاجز عن قول: "أنا أيضا إنسان"[14]. من هنا، يبدو أن كونش لا يرهن الأَخْلاَق بأي فلسفة أو ديانة أو أنانية، بقدر ما يجعل منها خطابا إنسانيا، بل عبئا بدونه يعيش الإنسان بلا مسؤولية. فِي هذه النقطة نقترب من إحدى الاستعارات الشهيرة لنيتشه، حيث يرمز الأَخْلاَقي للجمل[15]. إنه حيوان أخلاقي لا يستنكف عن تحمل العبء والمسؤولية الأَخْلاَقيين. صحيح أن الجمل يحيل، عند نيتشه، إلى فكر يحكم على الحياة، بله يحاكمها، لأجل أن يفرض عليها قيما متعالية، إذ ما كانت الفلسفة التي يرمز إليها الجمل "سوى تعدادا للمبررات التي يختلقها الإنسان لكي يخضع. وإذا كان الفيلسوف يستدعي هنا حب الحقيقة، فإن هذه الحقيقة لا تؤذي أحدا [...] يُقيِّمُ الفيلسوف الحياة تبعا لقدرته على تحمل الأثقال وتقلد الأعباء. إن هذه الأعباء وتلك الأثقال هي بالتحديد القيم المتعالية"[16]. بهذا المعنى، يستشعر نيتشه الحاجة إلى تجاوز هذا "الحيوان المسيحي" (يسميه فِي بعض المرات بالحمار) الذي يحمل أثقال القيم المتعالية على الحياة"[17]، بغاية تحقيق وحدة الحياة والفكر، الحياة النشطة والفكر التأكيدي[18].

فِي المقابل، لا يضفي فيلسوف الأَخْلاَق على استعارة الجمل وتصورات رد الفعل réaction التي تنفر منها "إيتيقا نيتشه"، معاني إيجابية؛ ذلك أن المقام أخلاقي يقتضي تحمل مسؤولية الوضع البشري، ويستدعي رد فعل ضد كل ما من شأنه أن يمتهن كرامة الناس جميعا. إننا فِي حضرة موقف أخلاقي من العالم، موقف لا يتطلب النظر إلى أوضاع الناس والشروط الملازمة لها بعين الحكيم المتوحد اللامبالية، بل بعين منخرطة وإنسانية. قد لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن للإتيقا قيمها، فالطفل يعقب الأسد من أجل خلق قيم جديدة، وما الفيلسوف فِي المطاف الأخير سوى خلاق ممكنات فِي الكتابة والقيم المعبرة عن الحياة، إلا أن قيم إتيقا نيتشه تقع "ما وراء الخير والشر"، فتتعدى من ثم قيم الأَخْلاَق إلى قيم الإِتِيقَا: الحسن والقبيح. هكذا ما كانت قيم الإِتِيقَا قيما للإنسانية جمعاء، بقدر ما كانت قيم فرد أو جماعة، إنها قيم الأقوياء والأسياد، لا قيم الضعفاء والعبيد؛ إنها ليست قيما كونية لأنها إيتيقا الأقوياء، بل إن نيتشه لا يتردد عن قول: "علينا أن نحمي الأقوياء من الضعفاء"[19]. على أنه لا ينبغي أن نغفل، كما ينتبه كونش، عن أن ثمة سوء فهم للعلاقة القائمة بين الضعيف والعبد، إذ ينصرف الذهن دائما إلى الخلط بينهما، والحال أن الضعيف هو الطفل، مثلا، الذي يضحي القوي، عن طيب خاطر، بسلامته وحياته فِي سبيل رعاية هذا الكائن الهش والضعيف. بالتالي، تغيب المسؤولية فِي خطاب الحكيم اللامبالي والمتوحد الذي يفضل أن يصيخ السمع إلى الطبيعة والكون، عوضا عن الإصغاء إلى لوعة الإنسان وتظلمه. خلافا لخطاب الحكمة أو صمتها، ينطوي الحديث عن الأَخْلاَق على نزوع كوني وإنساني، يقتضي الانكباب على بلورة شروط أفعال تراعي كرامة الإنسان. ولهذا، تكون الأَخْلاَق فِي مسيس الحاجة إلى أساس كوني يأخذ فِي الحسبان الإنسان بما هو إنسان: القوي والضعيف معا.

بعدما وضعنا هذه الفروقات بين خطابي الحكمة والأَخْلاَق، بقي علينا أن نتساءل: هل بالوسع التّبلّغ إلى تقاطع بين الإِتِيقَا والأَخْلاَق؟ وهل بمكنة الحكيم أن ينشغل بأسئلة الإنسان الأَخْلاَقية؟ لقد ركزنا أعلاه على سمة أساسية تطبع الحكيم، وتكمن فِي "اللامبالاة"، حيث يكون الحكيم فِي حل من كل عبء، فيحيا وفق ثنائية "الحسن - بالنسبة - له" و"السيء - بالنسبة - له"[20]. ولهذ كانت مختلف الصور التي نسجت حول قدامى الحكماء تبرزهم وقد تخففوا من كل جدية تفرضها عليهم من ثقل المهام الاجتماعية. ولقد كانت الحكمة تعد فِي العصر القديم بحسبانها نمطا فِي الوجود مختلفا عن وجود كافة الناس، بل كان وجود الحكيم نحوا من الإنسان الأعلى[21]. تتفق المدارس الفلسفية القديمة على النظر إلى الحكيم بوصفه مكتفيا بنفسه، ومن ثمة لا يمكن لأهوال "العيش بالمعية" أن تدفعه إلى الاضطراب والهلع، فالحكيم يحيا حياة التأمل؛ لأنه ليس فِي حاجة إلى الأشياء الخارجية، ذلك لأن التأمل ليس فِي حاجة لشيء خلاه، وبالتالي يعيش الحكيم سعيدا مستقلا[22]. فكيف تتقاطع الحكمة والأَخْلاَق؟

للإجابة عن هذا السؤال نسجل، أولا، أن الحكيم[23] هو آخر من يقترف الشر من بين سائر البشر. فلقد فَقَدَ إبكتاتوس ساقه، لكنه لم يتذمر ولم يعاتب سيده الذي تسبب له بفقدانها؛ لأن هذا السيد لا يعدو عن كونه سيدا من ورق، ستمزقه يد القدر لا محالة، ثم إن رجله كانت مذ ألقي بها فِي الوجود قابلة للكسر والبتر. تبعا لهذا الاعتبار، يحرص الحكيم فِي كل وضعية على لا مبالاته وطمأنينته، فإذا لم يستطع المرء المشي، فهو يتمكن من الرؤية، وإذا فَقَدَ البصر، فإنه يستطيع السمع إلخ، وبهذا المعنى لا يمكن للحكيم أن يقترف الشر[24]. إننا لسنا أمام تبريرات، بقدر ما نكون أمام وقائع وحقائق؛ إذ لا ينبغي أن نفهم من هذا أن خطاب الحكمة ما هو إلا نوع من أنواع التبرير، بقدر ما ينبغي أن نفهم أنه سعي نحو توازن يمكن أن نسميه مع أرسطو بالسعادة (الأوديمونيا)، أو نطلق عليه مع سينيكا "طمأنينة النفس"[25]. لا يقترف الحكيم الشر إلا لكونه يستطيع تحصيل التوازن بين النفس والجسد، فالحكيم هو الذي يصل إلى حالة "الاعتدال" التي كانت تيمة مركزية فِي الفلسفة الإغريقية. إن الاعتدال، بما هو توازن بين النفس والجسد، هو ما يحول دون الحكيم والانجرار خلف غرائز الجسد ونوازع النفس، ومن ثمة لا يسمح لانفعالات الضغينة والانتقام بأن تذهب به فِي كل مذهب؛ وعند هذه النقطة بالذات يمكن فهم تقاطع الأَخْلاَق بالإِتِيقَا. فلا مرية فِي أن التوازن أو الاعتدال هو ما يكون شرطا للفكر المستقيم والاستعمال الرصين لملكة العقل، مثلما يكون ضامنا لمساواة الفعل للقصد، الظاهر والباطن، حيث يمكن القول إن خطاب الأَخْلاَق يجد شرطه فِي خطاب الحكمة. بعبارة أوضح، إن الحكمة بما هي توازن بين النفس والجسد، فهي شرط الفكر "المستقيم" والتمرين الجيد العقل من جهة، وشرط الفعل الخير من جهة ثانية، وذلك على الضد من الفكر المتعصب الذي ما كان إلا رد فعل مدفوع بحمأة الانفعال.

تضطلع الأَخْلاَق بمهمة إضفاء الطابع الإنساني على مجتمع يقع دائما تحت طائلة الأهواء الفردية والجماعية، ولذلك، فإن المشروع الأَخْلاَقي مهدد دائما بالفشل وخطر اليأس[26]، لأن الأَخْلاَق لا تمتلك فعالية مباشرة. فهل ينبغي للطبيب أن يمرض بمرض المريض؟ وهل يتعين على الحكيم أن يتألم ويشقى لشقاء الناس؟ لكن الشفقة هي تخوف من أن نصير كمن نشفق عليهم، وهي بذلك انفعال حزين[27]. يمكننا توازن الحكمة من أن نتملك موقفا يسعف على حلحلة المشكلات الشخصية والمجتمعية بيسر؛ فعلى أساس هذا الموقف، يكون بوسعنا الاهتمام بشكل جيد بالآخرين والإنسانية جمعاء، ومن ثم بلورة خطاب كوني يتميز بالصدق والاستقامة.

لذا، يجدر بالموجه إلى مدارج الخير أن يعود إلى ذاته، لكي يجد توازنه الداخلي، فيكون قدوة بحق. فكيف يثور المرء على العالم بغاية تغييره، ولم يسبق له أن ثار على عالم صغير وتافه -بالقياس إلى الكون- يسمى "أنا"؟ وكيف يحق للمرء أن يصلح أخلاق الجماعات دون مراجعة أخلاقه الفردية وتصيير نفسه قدوة؟ زد على ذلك أن الانخراط فِي مشروع أخلاقي ليس معناه نسيان متع العالم، أو نسيان الوجود، أو الامتناع عن تذوق جمال الحياة[28]. إن التقاطع بين الأَخْلاَق والإِتِيقَا هو التقاء بين الالتزام والاستمتاع، الجدية واللامبالاة. إنه فن العيش الحكيم الذي لا يتعامى عن الاهتمام بالآخر. في المقابل، إذا كان الحكيم يستوعب ذاته كأنا متحكم فِي أحكامه، عبر توجيهها أو تعليقها، مما يؤشر على حريته الداخلية واستقلاليته، فإن هذا لا يعني أن هذه الحرية تنفصل عن كل محتوى خارجي، بقدر ما أنها تحيل إلى ما تسميه الرواقية بالعقل النقدي[29]، وهو ما يفصح عن تفاعل لا غنى عنه مع العالم الخارجي.

ولعله لهذا السبب يمكن أن نختم بالقول إن محاولتنا هذه تحمل فِي رحمها ممكنا متاحا أخلاقيا، ويتمثل فِي صورة حكيم معاصر ينشغل، عند الضرورة والاقتضاء، بالثورة على العالم، دون أن يفقد طمأنينته الداخلية أو يفلت أفراح الحياة من بين يديه[30]. إن عالمنا المعاصر هو فِي مسيس الحاجة إلى حكيم معاصر، يجمع بين الحكمة والانخراط فِي شؤون المدينة، وهو انخراط يتسم بخاصيتين: تكمن الأولى فِي التأمل فِي شؤون الناس واجتراح حلول لمشكلاتهم بصدق وإخلاص، وتكمن الثانية فِي الحفاظ الطمأنينة ورباطة الجأش، أو ما يعبر عنه إدغار موران بالعيش بمعية الخطر.

 

المصادر والمراجع:

  • دولوز جيل، سبينوزا فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2015.
  • Aristote, Éthique à Nicomaque, trad. J. Barthélemy Saint-Hilaire, revue par: A. Gomez-Muller, Librairie Générale de France, 1992
  • Bréhier Émile, Chrysippe, Paris, Félix Alcan, coll. « Les grands philosophes », 1910
  • Comte-Sponville André, Valeur et vérité, Paris, PUF, 1997
  • Comte Sponville André, Différence entre éthique et morale: https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://nicomaque.files.wordpress.com/2013/09/ethique-et-morale-comte-sponville.pdf&ved=2ahUKEwikmdDzp5r9AhW2i_0HHW0GBYYQFnoECAcQBg&usg=AOvVaw2GB_XOfcSlQl5lRT5D_mt1 [2023-01-10].
  • Comte-Sponville André, Une éducation philosophique, Paris, PUF, coll. « Perspectives Critiques », 1998, 7ème édition.
  • Conche Marcel, Le fondement la morale, Paris, PUF, coll. « Perspectives Critiques », 1993, 3ème édition.
  • Deleuze Gilles, Nietzsche, Paris, PUF, 1965
  • Hadot Pierre, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Gallimard, 1995
  • Nietzsche Friedrich, Le gai savoir, trad. Patrick Wotling, in Œuvres, Flammarion, 2000
  • Nietzsche Friedrich, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. Maurice Betz, Paris, Livre de Poche, 1968
  • Spinoza, Éthique, trad. Charles Appuhn, Paris, Flammarion, 1965

[1] André Comte-Sponville, Valeur et vérité, Paris, PUF, 1997, p. 183

[2] André Comte-Sponville, Une éducation philosophique, Paris, PUF, coll. « Perspectives Critiques », 1998, 7ème édition, p. 87

[3] "ذلك أن الانتماء إلى الإِتِيقَا يقتضي من المرء أن يكون على الأقل طبيبا، أو صحفيا، أو محاميا؛ في حين أن العاطل عن العمل والبقال يكتفيان بامتلاك أخلاق ما" (André Comte-Sponville, Valeur et vérité, p. 183-184).

[4] André Comte Sponville, Différence entre éthique et morale:

https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://nicomaque.files.wordpress.com/2013/09/ethique-et-morale-comte-sponville.pdf&ved=2ahUKEwikmdDzp5r9AhW2i_0HHW0GBYYQFnoECAcQBg&usg=AOvVaw2GB_XOfcSlQl5lRT5D_mt1

اطلعنا عليه بتاريخ 10/01/2023

[5] جيل دولوز، سبينوزا فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2015، ص 40

[6] نفس المرجع، ص 34

[7] Marcel Conche, Le fondement la morale, Paris, PUF, coll. « Perspectives Critiques », 1993, 3ème édition, p. 54

[8] Ibid., p. 60

[9] Émile Bréhier, Chrysippe, Paris, Félix Alcan, coll. « Les grands philosophes », 1910, p. 219

[10] Marcel Conche, Le fondement de la morale, p. 58

[11] Friedrich Nietzsche, Le gai savoir, trad. Patrick Wotling, in Œuvres, Flammarion, 2000, p. 228

[12] Ibidem.

[13] Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Gallimard, coll. « folio/essais », 1995, p. 336

[14] Ibid., p. 61

[15] Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. Maurice Betz, Paris, Livre de Poche, 1968, p. 35-36

[16] Gilles Deleuze, Nietzsche, Paris, PUF, 1965, p. 20

[17] Ibid., p. 43

[18] فِي الجزء الأول من كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، يتحدث نيتشه عن تحول الجمل إلى أسد يرفض الاستمرار فِي الانحناء تحت ثقل قيم مفارقة للحياة، تزرع الخوف وتكبت قواه الخلاقة والتأكيدية، ومن هنا يعمل الأسد على تقويض تلك الأثقال والتخلص منها (إعمال المطرقة). لكن، لا معنى لهذا العمل الذي يقوم به الأسد إلا عبر تحول ثالث يصير فيه الأسد طفلا، أي "براءة ونسيانا، بداية جديدة، لعبة، عجلة تدور حول نفسها، وحركة أولى، "نعم" مقدسة":

Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, op. cit., p. 37

تسم هذه التحولات الثلاث الانتقال من مجال الأَخْلاَق، بما هو ميدان الواجب وثنائية الخير والشر والفضيلة، إلى مجال الإِتِيقَا، بما هو مجال يقع "ما وراء الخير والشر"، حيث يمكن للمرء أن يتساءل حتى عن جدوى الأَخْلاَق، فيقول: "ما موقع الأَخْلاَق فِي حياتي من وجهة نظر الحسن والقبيح؟".

[19] Gilles Deleuze, Nietzsche, op. cit., p. 27

[20] Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique, Gallimard, 199.., p. 352

[21] Ibid., p. 334

[22] Aristote, Éthique à Nicomaque, trad. J. Barthélemy Saint-Hilaire, revue par: A. Gomez-Muller, Librairie Générale de France, 1992, p, 116-117

ولذلك ظلت الحكمة، على امتداد تاريخ الفلسفة، معيارا متعاليا لمعظم المدارس والتيارات الفلسفية.

[23] ثمة حملة اليوم على الحكيم، تحاول أن تجعل من خطابه مجرد تبرير وانسحاب من العالم. لسنا فِي سياق دفاعي عن الحكيم ضد خصومه، فهو لا يعبأ لا بهم ولا بنا، إنه لا مبال فِي خلواته وتأملاته. إن ما يهمنا اليوم، هو أننا فِي حاجة إلى لامبالاة الحكيم تلك، إلى موقفه غير الجدي من عالم عابر ومن سردية إنسانية عابرة. فموقف الحكمة غير الجدي من العالم هو، فِي نظرنا، مفتاح التخلص من البلاهات المترسخة والتي تضفي طابع البداهة على العديد من صور الاستلاب والاستعباد.

[24] Marcel Conche, Le fondement de la morale, p. 59

[25] Sénèque, De la constance du sage/De la tranquillité de l’âme, trad. Émile Bréhier, Paris, Gallimard, coll. « folio/sagesse », 2007

[26] يدعو أندري كونت سيونفيل إلى أخلاق تتحدد بتصور فلسفي عن "اليأس" (بما يقتضيه هذا الأمر من أولية الإِتِيقَا على الأَخْلاَق)، ينظر:

André Comte-Sponville, « La morale désespérément », in Une éducation philosophique, op. cit., p. 145-158

[27] Spinoza, Éthique, trad. Charles Appuhn, Paris, Flammarion, 1965, p. 139

[28] Marcel Conche, Le fondement de la morale, op. cit., p. 61-62

[29] Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, op. cit., p. 339

[30] Marcel Conche, Le fondement de la morale, p. 62