في شأن تدريس الفلسفة


فئة :  ترجمات

في شأن تدريس الفلسفة

في شأن تدريس الفلسفة[1]

يَحِقُّ لأساتذة الفلسفة أن ينتظروا من المدرسة أن تجعل، على الأقل، تدريس الفلسفة أمرًا ممكنا؛ شريطة أن يتكلفوا، من جهتهم، بمهمة جعل تدريس الفلسفة أمرًا حيًّا. صحيح أن هذه المهمة الملقاة على عاتقنا بصفتنا أساتذة للفلسفة تصطدم بالتدريج، في الأقسام النهائية وغيرها، بالعديد من التحولات المقلقة، من قبيل: تنامي افتقار التلاميذ للثقافة، سوء تمكنهم من اللغة المكتوبة، تبخيسهم للتجريد والعمل المفهومي (وهو ما نجده، مع الأسف، عند كُثُر من الزملاء الأساتذة أيضا)، افتتانهم الساذج بالمعيش والملموس والعفوي، وغير ذلك. والحق أن كل هذا قد يُعجِّل بِجعل تدريس الفلسفة أمرًا شبه مستحيل - أو بلا آثار في جميع الحالات - مثلما يُعجِّل بتصيير أقسامنا مكانًا، لا للتفكير والعمل، بل مكانًا لما نصطلح عليه اليوم بالتبادلات échange، والتنشيط animation، والتواصل communication، إلخ. بهذا ستعوض نقاشاتُ الآراءِ دِرَاسَةَ النصوص، وسيتفوق التسرع المختال للمعارف الزائفة على رزانة المفهوم، وستنمحي الفلسفة، في الأخير، أمام محبة الرأي[2] إلخ. سيشكل ذلك كله انتصارا للسفسطائيين وللحيوان الكبير[3].

ذلكم هو الخطر الذي يتهددنا ويجمع بيننا اليوم، وإنني أتفق معكم في هذا الأمر، بيد أن هذا لا يمنع من أن يطربنا كل واحد بنغمته في محفلنا هذا، لا سيما إن كان من الممكن أن تكون نغمته أكثر نشازا. وإذن، فلتسمحوا لي بأن أثير فضلا عن ذلك ما يفرق بيننا، وأن أعبر فيما يخص نقاشنا هذا عن انزعاج وقلق من جهة، وعن نقد من جهة ثانية.

حينما أنصت إليكم، أشعر بشيء من الانزعاج. ينتابني هذا الانزعاج من أنني ولئن كنت أرى بوضوح أننا نخوض نفس المعركة (التي تتعلق بالدفاع عن المدرسة وعن تدريس الفلسفة)، فإنني أرى بنفس القدر من الوضوح أننا لا نمتلك نفس الأفكار. فأنا لا أدافع، بالخصوص، عن التوجه الغائي، الكوني، أو لنقل باختصار التوجه المثالي المميز لمعظم مداخلاتكم؛ ذلك أنني وبدلا من هذا التفكير في غايات (أكانت كونية أو غير كونية) تدريسنا ومدرستنا، أُفَضِّلُ المعرفة الصحيحة بعلل (ليست الغائية وإنما الفاعلة efficientes دائما، كما يقول سبينوزا) الأزمة التي نشهد عليها اليوم. يسعفنا هذا الأمر في أن نتجنب، من بين ما ينبغي تجنبه، الخطابات الساذجة والمغرضة التي سمعتها هنا وهناك؛ أي الخطابات التي ترمي إلى الكشف عن وجود "خطة" أو "إرادة متعمدة" لـ "تدمير المدرسة"، و"تجهيل الشباب" ونشر الظلامية وتغييب العقل. والواقع أن هذه الخطابات ما كانت إلا خطابات ناقمة وحاقدة. فعلاوة على ذلك، يعلمنا سبينوزا أن الناس يكرهون بعضهم البعض بقدر ما يتصورون أنهم أحرار، ولا يعتقدون أنهم أحرار إلا عن طريق جهلهم بالعلل (الفاعلة) التي تجعلهم يرغبون ويتصرفون. ومن هنا نتبين عواقب هذا الأمر: إن الوهم الغائي ذاك، وبما أنه "يقلب تماما" نظام الأشياء، فإنه يحمل المدرسة مسؤولية الأزمة التي تعانيها بنفسها أساسا. ينتج عن هذا القلب لنظام الأشياء ظلم وخطر. وإذن، يكون ثمة ظلما طالما أننا نمارس الحيف على مدرسين يعملون، رُغم كل شيء، على بذل كل ما في وسعهم، سواء بصورة جيدة أو سيئة، في سبيل تجاوز وضعية صعبة لم يختاروها ولم ينتجوها أساسا. كما يكون ثمة خطرا لأن المثالية، في حالتنا هذه أو في غيرها، تعمق الضغائن بدل أن تشحذ الطاقات، وتدفع إلى عقد محاكمات بدل اتخاذ أفعال ملموسة.

على أنني أتفق معكم، في الأخير، في القول بأن هذه الأزمة قائمة، وفي القول بأننا لن نتخطاها، بوصفنا أناسا ومجتمعا، دونما معركة. ومن يقول معركة يقول أعداء، وبهذا إذن أعود إلى الحديث عما يساورني من قلق.

يكمن قلقي هذا في أنه عندما ندقق النظر في تعيين العدو، فإننا نضيف إلى قائمة الأعداء أفرادا آخرين، وبهذا نخطئ، ابتداء، في تحديد الحلفاء، مثلما نخطئ، انتهاء، في الانتماء إلى المعسكر. فمن المؤكد أننا نكون على صواب حينما ننتقد ما أسميناه بـ "النزعة البيداغوجية pédagogisme"؛ ومن هنا يتوجب علينا أن نفهم ما تعنيه هذه النزعة، وما مصدرها. لقد تقدم معنا القول في معنى النزعة تلك وتكرر، وإننا على اتفاق حول هذا القول: تكمن النزعة البيداغوجية في الميل إلى تفضيل التربية على التعليم l'instruction، لدرجة أن هذه النزعة تصهر كل مضمون ومعرفة في بوتقة بيداغوجيا عامة pédagogie générale (كما لو أن هذا التصور ليس متناقضا!) تفترض أنها تتأسس على علوم الإنسان (ومن هنا تعبر النزعة البيداغوجية عن نفسها عبر التوسل بالألفاظ الرنانة والباطلة من قبيل: "السيكوبيداغوجيا psychopédagogie" أو "علوم التربية")، فتزعم تشكيل المعرفة من خلال تجميع للجهل (وهو تجميع يتم تحت غطاء تعدد الاختصاصات). والحق أنكم كنتم على صواب في تنبيهكم إلى هذا النوع من النظريات، التي لا ينبغي لعدم اتساقها النظري أن يحجب عنا آثارها أو مَخاطِرها المؤكدة. لكن، لا ينبغي أيضا أن نتعامى عن واقعة ساطعة برغم أن التنبيه إليها لا يمر دونما إزعاج: إن هذه النزعة البيداغوجية كانت وما تزال محمولة على متن العديد من القوى - الإيديولوجية، المهنية والنقابية - الموجودة بداخل الوسط التعليمي الذي يمثل، على مستوى وزاوية نظر مغايرين، الجزء الأكثر تقدما من هذه النزعة. لكي نوجز القول ونوضحه، إن اليسار السياسي، الإيديولوجي والنقابي، في مجال التربية الوطنية، هو الذي يتحمل مسؤولية ثقيلة عن هذا النزوح إلى الخلط الديماغوجي الذي يخدم في الواقع مصلحة المدرسة الخصوصية ويحرك، كما بدأنا ندرك ذلك، رد الفعل عليه. يبدو أن عقدة المشكلة، والحالة هذه، تكمن في تصور النزعة التقدمية البيداغوجية progressisme pédagogique. فبقدر ما نريد أن تقوم المدرسة بتحرير، لا الفرد (وهذا بديهي بذاته)، وإنما المجتمع عينه، فإننا نجبرها على أن تسعى إلى أن تكون دائما متقدمة على زمانها - حيث ستغدو المدرسة هنا محل بروز المستقبل! - وعندما نفشل في تحقيق هذه الإرادة، فإننا نجعلها تتخلى، شيئا فشيئا، عن مهمة الحفاظ على الماضي وتمريره، برغم أنهما يشكلان (الحفاظ والتمرير)، كما سنرى، الوظيفة الحقيقية للمدرسة. ينتج عن هذا الأمر هروب إلى الأمام، من خلاله تنتهي الحداثة البيداغوجية إلى الإقرار بما هي عليه: إنها تلك اليوتوبيا (لا ينبغي أن نترك المجال لألوان ما بعد مايو 68، أن تخفي الأصل الاجتماعي - الديموقراطي لهذه اليوتوبيا) التي وإن عجزت عن تغيير المجتمع، فهي تدعي تغيير المدرسة، وبالتالي تدعي، عبر "تجديد" المناهج البيداغوجية، الاستغناء عن ثورة اجتماعية لا نستطيع امتلاك وسائل تحقيقها خارج المدرسة. وهكذا تعمل هذه النزعة التقدمية البيداغوجية، التي تتسم بالكرم في مبادئها ومحفزاتها، على الإسهام بأحجارها (بل تسهم في الأغلب برَملِها وبَلاطِها) في بناء المدرسة كما نعرفها اليوم، هذه المدرسة التي تخضع لنوع من الأنتروبيا[4] entropie الذي من خلاله يصير كل تقدم واقعي احتماليا بالتدريج.

بخلاف ذلك، ينبغي أن نعمل على التذكير دونما توقف بأن المدرسة مكان، لا لإبداع المستقبل (وهو ما ينبغي أن يتكلف به المواطنون لا غيرهم)، وإنما للحفاظ على الماضي وإعادة إنتاجه انطلاقا من الحاضر. علينا أن نقول الأمر بوضوح: قبل كل شيء، إن للمدرسة وظيفة محافظة؛ إذ لا تستطيع المدرسة أن تُقدِمَ على ممارسة الفعل السياسي، أو أن تعوضه، ولا بالأحرى أن تعمل على تغيير مجتمع، طالما أن وظيفتها تتمثل في إعادة إنتاجه. وبما أن النزعة التقدمية البيداغوجية تخلط بين نظامين مختلفين (من أجل التبسيط، لنقل: نظام السلطة ونظام المعرفة)، فإنها تقوض في الواقع عين التقدم الذي تخوض معركتها في سبيله.

لكنني ما أفتأ أحس بالقلق من هذا الأمر أيضا؛ ذلك أن خطأ الأوساط التقدمية ذاك يميل، بالتساوق، إلى إثارة خطأ آخر عند المدرسين أو أولياء أمور التلاميذ المنتمين إلى المعسكر السياسي المعارض. فتارة، سيؤاخذ هؤلاء على المدرسة إعدادها السري لثورة لا يريدونها، وسيطالبون، تارة أخرى، برد فعل بيداغوجي يسمح برد فعل اجتماعي أو يفترضه. يعني هذا الأمر أنهم يقترفون نفس الخطأ بالتحديد (أي نفس الخلط بين المستويات)، فيؤاخذون أو يطالبون المدرسة بفعالية سياسية لا يمكن لها، بأي معنى من المعاني، أن تمتلكها بصورة مشروعة. بعبارة أوضح، يبدو أن ثمة ما يهدد معركتنا المناصرة للمحافظة conservation المدرسية، بجعلها تنقلب إلى مساندة النزعة المحافظة السياسية، فيصير عملنا مشابها لمشروع رجعي؛ وهو المشروع الذي يظل كل واحد منا حرا في القيام به طالما يرغب هو في ذلك، غير أنني أرفض من جهتي أن أنضم إليه؛ ذلك أنني أعتقد مع حنا آرنت أنه إذا كانت "النزعة المحافظة conservatisme، بمعنى المحافظة conservation، تشكل ماهية التربية، (...) فإن هذا الأمر لا يستقيم إلا في ميدان التربية". والحال أنه في ميدان السياسة، لا يمكن للنزعة المحافظة "أن تفضي إلا إلى الدمار، لأن العالم، في خطوطه الكبرى كما في تفاصيله الصغيرة، سيكون معرضا، بشكل لا رجعة فيه، إلى الفعل التدميري للزمان دون تدخل الكائنات البشرية التي تعتزم تعديل مجرى الأشياء وخلق الجديد". تختم حنا آرنت حديثها فتقول، بحق، "لكي نحافظ على الجديد والثوري في كل طفل، يتعين على التربية أن تكون محافظة"[5]. بعبارة أخرى، ليس علينا أن نخطئ في تعيين الأعداء أو الحلفاء؛ إذ حينما نصارع "النزعة البيداغوجية" ونزعتها التقدمية المدرسية، ليس علينا أن نضيف الماء إلى دقيق النزعة المحافظة السياسية.

أخيرا، بقي علي أن أتقدم إليكم نقدي. يبدو لي أن من بين أسباب المصاعب التي تعترضنا، ثمة سبب تستبعدونه، ويتمثل في الحالة الراهنة للفلسفة. أن تكون ثمة أزمة للعقل، كما يقال، فهذا يبدو أمرا مشكوكا فيه، ولنقل بصراحة إنه أمر بلا معنى. لكن، أن تكون ثمة أزمة للفلسفة، فمن ذا الذي يكون بمكنته أن ينكر هذا الأمر؟ إذ كيف لا نعجب من أن يفقد تلامذتنا الشغف بنشاط - الفلسفة - لا نقدم لهم منه سوى وجهين، وكلاهما لا يغري: نقدم لهم، من جهة، ما نسميه بالحداثة أو بالأحرى تلك الحرتقة المعرفية أو الإعلامية التي غالبا ما تعوض الحداثة نفسها؛ ونقدم لهم، من جهة ثانية، تلك المماحكة العقلية العالمة وغير ذات جدوى، التي تتمثل في ما يمكن تسميته بالمثالية الأكاديمية. فلتسمحوا لي بأن أقول لكم: غالبًا ما تولد لدي انطباع، وأنا أستمع إليكم، بأنني أنصت إلى فلسفة ميتة لا تعارض النزعة البيداغوجية السائدة، إلا بنزعة فلسفية philisophisme قديمة وسخيفة. يمكننا أن نحدد هذه النزعة الفلسفية من خلال الاعتقاد - الخاطئ في نظري - أن الفلسفة تحمل بداخلها موضوعها وغايتها معا. بالتالي، ليس بوسعنا أن نقبض عليها إلا بوصفها كلا، وإلا فلن نقبض عليها أبدا: إذ يتعين إما أن نكون سقراط أو نكون كاليكليس.

تتعارض فكرتي معكم تماما. على النقيض منكم، أعتقد أن الفلسفة تمتلك في خارجها موضوعها (الواقع) وغايتها (الحكمة). وإنه لمن النافل ادعاء إثارة اهتمام الشبيبة - كافة الشباب - بخطاب لا يقدم سوى نفسه. ذلك أن هذا الخطاب logos لن يكون، تبعا لذلك، عدا ثرثرة لا تعدو عن كونها نحوا فريدًا من الجنون، وذلك بالرغم من أنها قد تتوفر على معقولية ما.

إنني أعلم بالتأكيد أن الفلسفة - بل كل فلسفة - تقيم علاقة مع ماضيها، وهي علاقة دائمًا ما كانت تأسيسية وضرورية؛ كما أعلم أن كل فلسفة حية، كيفما كانت، ليست سوى صورة، من بين صور أخرى، للفلسفة الخالدة philosophia perennis، بيد أنه يتعين على هذه الأبدية أن تكون أبدية الحياة، لا كما يكون عليه الأمر عادة حينما نجعل منها أبدية الموت أو النوستالجيا nostalgie. بطبيعة الحال، فلكل واحد منا الحق في اختيار معلميه، وأن يعطي لاجتهاده الحاضر ماضيا يكون في حاجة إليه، بيد أنني أعلم أيضا أن هذا الأمر يفرق بيننا؛ فهل أستطيع قول ما يفرقنا بلا لف أو دوران؟ إن معلميكم، الذين لربما تعرفت عليهم من خلال مداخلاتكم (وهذه قائمة ببعضهم: كانط، وهيغل، وهايدغر، إلخ)، هم بالنسبة إلي معلمون سيئون، ويتحملون نصيبا (وهو نصيب كبير لكونهم يحظون بمكانة اعتبارية كبيرة) من المسؤولية عن أزمة الفلسفة التي نشهدها، حيث يتيه العقل في تأمل مزهو بذاته، أو بحدوده، أو بأفوله.

لقد أحسن أحد المتدخلين اليوم القول، إذ لم يكن خائفا من أن يردد طرح السؤال الكبير التالي: ما الفلسفة؟ أما أنا فإنني أبقى وفيا لتعريف أبيقور الذي ألتمس منكم السماح بالاستشهاد به: "إن الفلسفة نشاط يخلق لنا الحياة السعيدة عبر خطابات وتعقلات". لكن، من يا ترى يأخذ بهذا القول اليوم؟ أفلا يملك هؤلاء الذين لا يأخذون به، سوى تدريس خطاب نافل وتافه برغم مظهره البراق؟ في مقابل هذا الخطاب، سيفضل تلامذتنا عن حق - اليوم حيث لا يمتلك حديث المدرس قوة أخرى غير حقيقته - البداهة الصامتة (أو ما يسميه أبيقور بـ "اللاخطاب" alogos) للجسد ولذاته الخاصة. ستردون علي بالقول: ها أنت ذا تتحدث مرة أخرى عن الملموس، والمعيش، واللامفكر فيه وغير ذلك. إن ما تقولونه غير صحيح. ذلك أننا نعرف - وهذا أيضا ما يعلمنا إياه أبيقور - "أن من المستحيل أن نصل إلى اللذات الخالصة دونما معرفة بالطبيعة". سيكون سبينوزا متفقا مع هذا القول؛ لأنه يرى أن الرضى الحقيقي للنفس (vera animi acquiescentia) يتمثل ابتداء في الرضى في نطاق الحقيقي (in veris acquiescere) أي الراحة الفرحة في نطاق الحقيقة. وإذن، ينبغي أن نعرف، ولكي نعرف ينبغي أن نتعلم s'instruire. إن المدرسة تصلح لهذا الأمر، وكذلك تدريس الفلسفة. لكن، اسمحوا لي بأن أختم بالقول إن هذه المدرسة وهذا التدريس لا يكفيان للحفاظ على ما نراهن عليه؛ أي على حياة العقل. ذلك أنه من غير الصحيح أن العقل خالد، كما أنه من غير الصحيح أن المدرسة التي تعيد إنتاجه من عصر لآخر، قادرة على أن تنقذه لوحدها. بالتالي، يتعلق الأمر اليوم كما البارحة، بأن يعتني العقل بذاته. إن هذا الانشغال الذي يلخص (إذا لم يكن يحدد) المشروع الفلسفي، يحدد أيضا مهمتنا التي لا يعفينا منها التدريس. بما أنه علينا أن ننقذ البيداغوجيا (بحسبانها تطبيقا) من النزعة البيداغوجية (بحسبانها نظرية)، فإن علينا أن ننقذ المحافظة (المدرسية) من النزعة المحافظة (السياسية)، كما يتعين علينا أن ندافع عن الفلسفة ضد النزعة الفلسفية، أو أن ندافع، إن شئتم، عن محبة الحكمة ضد محبة الخطاب: أي عن الصمت الأقصى للحكيم (الأطاراكسيا، والأفازيا، بتعبير فيرون[6]) ضد ثرثرة السفسطائي اللامتناهية.

لكي نعبر عن الأمر بكيفية مغايرة نقول: إذا كان من الممكن إنقاذ الفلسفة، فلن يتحقق ذلك بواسطة أساتذة الفلسفة، بل سيتحقق بفضل الفلاسفة.

[1]- من أعمال المؤتمر الفلسفي لمدينة سيفر Sèvres، المنظم في السادس والثامن من شهر مارس سنة 1984 (نشرت أعمال المؤتمر في المنشورات الجامعية الفرنسية، تحت عنوان الفلسفة، المدرسة، نفس المعركة:

Philosophie, école, même combat, Paris, PUF, 1984

[2]- يتكون لفظ فيلودوكسي philodoxie من كلمتين: محبة philo ودوكسا أو رأي doxa؛ وهو ما يدل على "محبة الرأي" عوض محبة الحقيقة والحكمة. (المترجم)

[3]- يوجد لفظ الحيوان الضخم gros animal في محاورة الجمهورية، حيث بعني عنده رأي القطيع والحشود، أي نموذج الإنسان الديموقراطي. ذلك أن ما يحقق رغبات الحيوان الكبير يصير خيرا، وما يعارضها يغدو شرا. وهذا عين رأي العامة التي لا تحتكم إلى معايير العقل، وتنساق خلف ملذاتها ونزواتها ليس إلا. ينظر:

Platon, La République, tr. Dacier et Grou, 1920, livre VIII, 557a à 562a

)المترجم)

[4]- يستعير سبونفيل هذا اللفظ من الديناميكا الحرارية الذي يحيل على كمية الطاقة التي لا تتحول إلى فعل ما (حركة فيزيائية مثلا) كما لا يمكن التخلص منها. ومن هنا يعني سبونفيل أن النزعة البيداغوجية تشحن المدرسة بطاقة لا علاقة لها بها، وبهذا فهي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تقدم احتمالي. إن المدرسة، في نظر سبونفيل، ليست مكانا لخلق الثورة وتجييش الأطفال وممارسة الديماغوجية، بل إنها مكان للحفاظ على المعارف وتمريرها وامتلاك القدرة على الفهم والتفكير. (المترجم).

[5]- Hannah Arendt, La crise de la culture, trad. P. Lévy, «Idées»-NRF, p. 246-247

[6]- تعني الأطاراكسيا ataraxia الحالة التي يشعر بها الحكيم منذ ديموقريطس إلى الرواقيين والأبيقوريين، والمتمثلة في طمأنينة النفس عبر الخلو من الاضطراب والألم، وبالتالي تغدو الأطاراكسيا مبدأ للسعادة التي يتبلغ إليها الحكيم في مقابل الفيلسوف الذي ما ينفك ينشد الحكمة. وأما الأفازيا aphasia فتعني عند مؤسس مدرسة الشك القديمة فيرون: العجز عن قول أي شيء حول الأشياء، طالما أنه يتعذر تحديد ووصف ماهية الأشياء؛ ومن هنا تفضل مدرسة الشك الصمت على الكلام، لأن الأخير يشوه الأشياء عبر إقحامها في نظام معرفي مغاير لنمط المعيش الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الصمت.

. (المترجم)