قانون الإيمان المسيحي: دراسة نقديّة


فئة :  مقالات

قانون الإيمان المسيحي: دراسة نقديّة

مقدّمة:

يعتبر قانون الإيمان أساس العقيدة المسيحية، لكونه قانونًا يشمل العقائد المسيحية كلها؛ الإيمان بالله والتثليث والصلب والقيامة. ويحتج المسيحيون بهذا القانون في معرض حديثهم عن تأصيل العقائد المسيحية بقولهم مثلاً: لقد ورد ذلك في قانون الإيمان، في حين أنّ الأصل هو الاعتماد على الكتاب المقدس بدل هذا القانون، لكنهم متشبثون به، ولذلك فإنّي سأقدم في هذا البحث دراسة نطمح إلى أن تكون علمية لهذا القانون لمعرفة هل فعلاً يُعدّ هذا القانون دليلاً وبرهانًا تنبني عليه العقيدة المسيحية أم هو قانون فيه نظر؟

أسباب وضع قانون الإيمان المسيحي

إنّ وضع قانون الإيمان المسيحي جاء بمثابة ردّ فعل على القس الليبي أريوس، الذي رفض القول بأنّ المسيح هو الخالق واعتبره مخلوقًا، فكان يقول: "إنّ الله واحد فرد غير مولود ولا يشاركه أحد في ذاته تعالى، فكلّ ما كان خارجًا عن الله الأحد إنّما هو مخلوق من لا شيء بإرادة الله ومشيئته"[1].لكن هناك من يريد تحريف الحقائق ليؤكد أنّ أريوس يؤمن بأنّ المسيح هو الخالق، وهذا ما ذهب إليه جوش مكدويل بقوله: "آمن أريوس وأتباعه بوجود المسيح السابق لولادته، وبأنّه هو خالق العالم"[2].

إلا أنّ المتتبع لأقوال المسيحيين حول أريوس يجد عكس ما قاله مكدويل، وأذكر بعض الأقوال التي تؤكد اعتقاد أريوس بأنّ المسيح ليس إلها وأنّه مخلوق. يقول البابا شنودة تحت عنوان هرطقة أريوس: "كان أريوس ينكر لاهوت المسيح، ويرى أنّه أقل من الأب في الجوهر، وأنّه مخلوق"[3]. وهو قول القمص الأنطوني نفسه إذ قال: "وتنحصر تعاليمه في إنكار لاهوت السيد المسيح وادعائه أنّه مخلوق"[4].

وبهذا يكون قد اتضح أنّ أريوس قد أنكر لاهوت المسيح واعتبر المسيح مخلوقا وليس خالقًا، وهذا هو سبب انعقاد مجمع نقية سنة 325م الذي كان من نتائجه صياغة قانون الإيمان المسيحي. يقول منسى يوحنا: "مجمع نقية ويسمى المجمع المسكوني الأول. وكان الداعي لانعقاده انتشار بدعة أريوس الهرطوقي واضطراب الكنيسة وانزعاج المؤمنين بسببها، فكتب القديس الأكسندروس إلى بابا الإسكندرية الملك قسطنطين الكبير طالبًا منه عقد مجمع مسكوني... وذهب أوسيوس أسقف قرطبة إلى الملك وطلب منه الطلب نفسه. فارتضى قسطنطين وكتب منشورًا يستدعي فيه أساقفة المملكة للاجتماع في مدينة نقية"[5]. وبعد نقاش طويل في هذا المجمع تم وضع قانون الإيمان المسيحي وهو كالتالي:

"نؤمن بإله واحد الله الأب ضابط الكل خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى. نؤمن بربّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد. المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حقّ من إله حق مولود غير مخلوق مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كل شيء هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس وصلب في عهد بيلاطس البنطي تألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء"[6].

نقد قانون الإيمان:

قانون الإيمان هذا يحتاج إلى تحليل لأنّ فيه مجموعة من الأمور تحتاج إلى توضيح، وبيان ذلك على النحو التالي:

- "نؤمن بإله واحد الله الأب": يتضح من هذا أنّ هناك إلهًا واحدًا هو الله الأب، وبالتالي فقولهم الله = الآب+ الابن + الروح القدس، وهؤلاء الثلاثة واحد مردود عليه بقانون الإيمان، الذي اعتبر أنّ هناك إلهًا واحدًا هو الأب، أي ليس هناك إله آخر، والمسيح كما في إنجيل يوحنا قال: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ"[7]. هذا النصّ يوجد في ترجمة قديمة تعود إلى سنة 1591 بصيغة أكثر تعبيرًا:

- "وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنّك أنت الله الحقّ وحدك"

فالمسيح قال أنت الله الحق وحدك ولم يقل أنت الأب. وهذا تعبير دقيق لأنّه لو قال الأب فإنّ ذلك يعتبر حجّة لدى المسيحيين باعتبار أنّ الآب هو أقنوم من الأقانيم المكوّنة لله. لكن النصّ لم يترك لهم هذه الإمكانية.

- ضابط الكل خالق السموات والأرض: يعني الله الحق كما سماه المسيح هو الذي ضبط الكل وخالق السموات والأرض، وهذا في الحقيقة رد قوي على قولهم إنّ المسيح هو الخالق.

- نؤمن برب واحد يسوع: الرب حينما تطلق على المسيح تأتي بمعنى سيد أو معلّم، كما يطلق لفظ الرب على الله، جاء في أعمال الرسل: "الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ هَذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"[8]، فالله سُمّي هنا ربّ السماء والأرض ولا يمكن ربط هذا بالمسيح. فالله هو رب وخالق السماء والأرض كما شهد قانون الإيمان. والمسيح نادى الله باسم الرب فقال في إنجيل متّى: "فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"[9]. أمّا إطلاق لقب الرب على المسيح فكان بمعنى معلّم أو سيّد، وأوضح نصّ في ذلك هو: "فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: "مَاذَا تَطْلُبَانِ؟" فَقَالاَ: "رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ"[10].

- المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور: ويستدلون على كون المسيح ابن الله الوحيد بما جاء في إنجيل يوحنّا: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر"[11]. وهذا النص قد تعرّض للتحريف. فقد جاء في الترجمة العربية المشتركة هكذا: "ما مِنْ أحدٍ رأى الله. الإلهُ الأوحَدُ الذي في حِضنِ الآبِ هوَ الذي أخبَرَ عَنهُ". هذا التغيير في النص يتصادم مع الكتاب المقدّس. فالمسيح كما مرّ قال: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ".

لكن ما هو سبب هذا التغيير؟ يجيب بارت إيرمان: مصطلح الإله الوحيد لابد وأنّه يشير إلى الله الآب نفسه ـ وإلا فهو ليس فريدًا من نوعه. إلا أنّه لو كان التعبير يشير إلى الآب، فكيف يتم استخدامه للدلالة على الابن؟ لو سلّمنا بأنّ عبارة إنجيل يوحنا "الابن الوحيد" هي الأكثر شيوعًا (وقابليةً للفهم)، فمن الواضح أنّ تلك العبارة هي التي كان عليها النص المكتوب في يوحنا1: 18 في شكله الأصلي. هذا النص بحدّ ذاته ما يزال يمثل رؤية أكثر تمجيدًا للمسيح ـ فهو "الابن الوحيد الذي في حضن الآب". وهو الشخص الذي يجعل الله ظاهرًا لكل إنسان آخر. يبدو، مع ذلك، أنّ بعض النسّاخ لم يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية الممجدة للمسيح، ولذلك جعلوا منها أكثر تمجيدًا من ذي قبل، من خلال تحريف النص. الآن المسيح ليس ابن الله الوحيد فحسب، بل هو الإله الوحيد نفسه[12].

هكذا يتضح أنّ النُسّاخ لم يجدوا في نص يوحنا التعبير الأدق لاعتقادهم بألوهية المسيح، فقاموا بتحريف النص من الابن الوحيد إلى الإله الأوحد. وهذا منهج غير علمي فكيف يتم تغيير النص ليتماشى مع الاعتقاد؟، فالأصح أن يبنى الاعتقاد على النص الأصل دون تغيير.

- إله حق من إله حق: وهذا لا يستقيم مطلقًا، فكيف يكون إله ولد إله؟ وكيف يكون هناك إلهان؟، والمسيح نفسه نادى الله باسم: أنت الإله الحقيقي وحدك.

- مولود غير مخلوق: هذا التعبير مردود عليه، لأنّ المسيح مخلوق. يقول الأسقف غريغوريوس: "نعم إنّ جسد المسيح مخلوق، وهو حادث في الزمن، وذلك لأنّه لم يكن سابقًا موجودًا ثم وجد في زمن التجسد فجسد المسيح ليس أزليًّا، أما الأزلي الأبدي فهو لاهوته...فالجسد إذن مخلوق، لأنّه لم يكن موجودًا من قبل ثم أوجده الله في الزمان المحدود"[13]. وعلى هذا القول تكون مريم ولدت بشرًا وليس إلهًا متأنسًا.

وللتهرب من السقوط في التناقض بين القول إنّ المسيح مخلوق وبين قانون الإيمان القائل مولود غير مخلوق يقولون: "لعل يا صديقي مازال أحد يتساءل: أليس القول بأنّ جسد المسيح مخلوق يتعارض مع ما جاء في قانون الإيمان الذي يقول "مولود غير مخلوق"؟: فنجيبه بهدوء شديد قائلين: إنّ قانون الإيمان يحدثنا عن طبيعتَيْ المسيح، فتكلم أولًا عن لاهوت المسيح قائلًا "نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء"، فهذا ينطبق على اللاهوت الأزلي المولود من الآب والمساوي له ولا ينطبق على الناسوت"[14].

إنّ هذا القول زاد في تناقض قانون الإيمان فيما يخص هذه الجزئية، فالكاتب لم يقدم الدليل على أنّ ذلك – مولود غير مخلوق- خاص باللاهوت. فكيف أنّ اللاهوت يكون مولودًا غير مخلوق؟ فهل هناك أكثر من لاهوت؟ وهل يستقيم القول إنّ اللاهوت ولد اللاهوت؟ طبعًا لا؛ لأنّهم يقولون إنّ اللاهوت اتحد بالناسوت وهذا يعطي طبيعة واحدة للمسيح أي الإله المتأنس. وعليه يكون القول إله حق من إله حق ناطقًا بالتناقض. والحلّ الوحيد هو أنّ المسيح مخلوق، وبهذا فقولهم مولود غير مخلوق لا معنى له.

- مساوي للآب في الجوهر: دليلهم في هذا قول المسيح: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ"[15]. يبدو هذا النص لإنسان بسيط حجة قوية، إلا أنّ قراءته في سياقه الذي ورد فيه توضّح الأمر، يقول عزت الطهطاوي: أصل القول المنقول عن المسيح بإنجيل يوحنا 10عدد 30 ينقصه جزء آخر مكمل له لا يتم المعنى إلا به، ألا وهو ما ورد بنفس الإصحاح 10 من إنجيل يوحنا عدد 27 وهو هكذا: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. 28 وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. 29 أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطفَ مِنْ يَدِ أَبِي. 30أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ".

يعلّق عزت الطهطاوي قائلاً: فقوله: "أنا والآب واحد، يقصد به في إرادة الخير والهداية لهؤلاء الخراف، وفي عدم مقدرة المضلين أن يخطفوا الخراف المذكورة، لا من يد الله ولا من يد المسيح، حيث إنّ المسيح أيضًا قوي بربه عز وجل. وهذا هو المعنى الذي يرمي إليه المسيح من كلامه المذكور لأنّه نفى:

أوّلاً: خطف الخراف من يده.

ثانياً: ثم نفاه من يد الله.

ثالثًا: ثم سوَّى بينه وبين الله، علمًا أنّ هذه التسوية هي موضوع عدم خطف الخراف"[16]. وبالتالي فالنص ليس له علاقة بالمساواة في الجوهر، لذلك عمد المسيحيون إلى بتر جزء من النص للتأكيد على اعتقادهم، إلاّ أنّ سياق النص لم يترك لهم ذلك.

- الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء: ودليلهم على نزول المسيح من السماء هو قول يوحنا: "وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ"[17]. يعلق يعقوب ملطي على النص بقوله: "من هو ابن الإنسان الذي نزل من السماء؟ بالـتأكيد اللاهوت، الذي ينسب لنفسه إنّه ابن الانسان كعلامة وحدة طبيعته"[18]، الكاتب حصر النص هنا فقط على اللاهوت مع العلم أنّ النص لا يخول له ذلك بل قال ابن الإنسان. وذهبت الموسوعة الكنسية إلى تفسير النص على أساس التجسد قائلة: "هو أنّه الإله المتجسد، النازل من السماء والصاعد إلى السماء في نفس الوقت"[19].

إلا أنّ كلا التفسيرين غير صحيح، لأنّ اللاهوت في اعتقادهم موجود في كل مكان. يقول شنودة: "أما اللاهوت، فإنّه لا يرتفع إلى السماء ولا يصعد، إنّه موجود في السماء، وفي الأرض، وما بينهما، ولا ينتقل من مكان إلى مكان، لأنّه موجود في كل مكان، في نفس الوقت.. فإن قيل عن الناسوت إنّه صعد جسديًّا، وقيل عن اللاهوت إنّه لا يصعد، فلا يعني هذا إطلاقًا انفصال اللاهوت عن الناسوت! فلاشك أنّ السيد حينما صعد إلى السماء بالجسد، كان لاهوته متحدًا بناسوته بغير انفصال، ولكن نسب الصعود إلى الناسوت فقط، لأنّ الصعود ليس من خواص اللاهوت الموجود في كل مكان"[20]. كلام البابا يدحض قول يعقوب ملطي وتفسير الموسوعة الكنسية، بدليل أنّ اللاهوت غير محدود، وبالتالي فإنّ النص يتعلق بالناسوت. إلا أنّ البابا نفسه وقع في خطأ، عندما قال: فلاشك أنّ السيد حينما صعد إلى السماء بالجسد، كان لاهوته متّحدًا بناسوته بغير انفصال. فبناء على قوله هذا يجوز أن ينسب إلى اللاهوت النزول والصعود نظرًا لاعتقاده بعدم انفصال الناسوت عن اللاهوت.

وخلاصة التعليق على هذه الأقوال هي أنّ المفسرين المسيحيين يحاولون ربط أي نص بالمسيح ليثبتوا أنّه هو الله، إلا أنّ المشكل في هذا هو اعتماد منهج غير سليم في التعامل مع النصوص والمتمثل في التفسير التعسفي للنص. فلم يفلحوا في فهم النصّ الوارد أعلاه، لأنّ المسيح عليه السلام لم ينزل من السماء وإنّما ولدته مريم العذراء وبالتالي فهو مخلوق.

- تأنّس وصلب في عهد بيلاطس البنطي. تألَم وقُبِر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب: لكن الحقيقة أنّ المسيح لم يصلب أصلاً، ومن يرجع إلى الأناجيل يكتشف ذلك؛ فروايات الأناجيل عن (صلب) المسيح هي روايات متناقضة إلى الدرجة التي يستحيل الجمع بينها ولو عن طريق التعسف في ذلك. بل إنّ المسيحيين أنفسهم لم يتفقوا على يوم (صلبه)، فهناك من يرى أنّه صلب يوم الأربعاء وهناك من حدد ذلك بيوم الخميس وأيضًا هناك من قال إنّه صلب يوم الجمعة وهذه الأقوال هي:

- يوم الأربعاء: يقول القس اسبر عجاج: "يوم الأربعاء صلب المسيح ودفن"[21].

- يوم الخميس: يقول جيمس د. طابور "كان يسوع ميتًا مع الساعة الثالثة مساءً من يوم الخميس"[22].

- يوم الجمعة: يقول جونجلكريست: "من المتفق عليه عالمياً بين المسيحيين أنّ المسيح صُلب يوم الجمعة، وقام من بين الأموات يوم الأحد التالي له مباشرة"[23].

- صعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه: الذي صعد إلى السماء هو المسيح بناسوته ولاهوته، وقبل الردّ على هذا الجزء من القانون، أدع الأسقف غريغوريوس يشرح ذلك إذ يقول: "إنّ الكتاب المقدس يبين لنا أنّ المسيح له المجد بعد أن صعد إلى السماء جلس على العرش في السماء.. والجلوس على العرش ينسب إلى المسيح لا من حيث لاهوته، فاللاهوت غير محصور وغير محدود بعرش أو كرسي، كذلك فعل الجلوس لا ينسب إلا لمن له جسد"[24]. ودليله في ذلك ما جاء في كل من لوقا وأعمال الرسل، فقد ورد في لوقا القول: "ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ"[25]. وجاء في أعمال الرسل: "وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ"[26]. يعلّق الأسقف على النصّيْن قائلاً: "والجلوس عن يمين الله معناه الجلوس على عرش الله في الملكوت، لأنّ اللاهوت غير محدود فليس له يمين أو شمال"[27].

إنّ "المدقّق في النصوص وتعليق الأسقف يكتشف ما يلي:

- أنّ هناك حمل النص على غير محمله، فالنصوص واضحة تقول جلس على يمين الله وليس على يمين العرش.

- قوله جلس بناسوته وليس بلاهوته يطرح مشكلاً له – أي للأسقف- الذي قال في أحد كتبه: "إنّ الاتحاد بين لاهوت المسيح وناسوته أي إنسانيته، اتحاد تام وحقيقي وكامل فإنّه لا يقبل المفارقة أو الافتراق لحظة واحدة أو طرفة عين"[28]. وبالتالي فإذا جلس بناسوته فقط يعني أنّ هناك افتراقًا، وهذا يُعدّ طعنًا في إيمان المسيحيين.

- قانون الإيمان قال بصراحة: صعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه. فهل العرش يعتبر أب المسيح؟ طبعًا لا. فليس هناك نص يقول بهذا. وتعبير قانون الإيمان هو أيضًا غير منطقي فكيف يجلس المسيح وهو الله المتجسد على يمين الله أبيه، فهل هناك إله بجانب إله؟ هذا ما على المسيحيين الإجابة عليه.

مجمع القسطنطينية وإضافة أقنوم الروح القدس لقانون الإيمان:

إنّ الإضافة التي أدخلت في قانون الإيمان كان سببها بدعة مقدونيوس حسب قول المسيحيين، وقد كان مقدونيوس أسقفًا للقسطنطينية من سنة 342م إلى سنة 346م، ومن سنة351 إلى سنة 360م[29]. وكانت عقيدته: "الروح القدس ليس بإله ولكن مخلوق مصنوع"[30].

يضيف ابن البطريق: "ثم إنّ الوزراء والقواد اجتمعوا إلى ثاوذوسيوس الملك وقالوا له: "إنّ مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومقالة مقدونيوس فتنظر في هذا وتذبّ عن أمانة النصرانية وتوضّحها وتكتب إلى جميع البطاركة والأساقفة أن يجتمعوا وينظروا في هذا ويوضّحوا دين النصرانية. فكتب ثاوذوسيوس إلى ثيموثاوسيوس بطرك الإسكندرية وإلى ملاتيوس بطريك أنطاكية وإلى دامسيوس وإلى كيرلس أسقف بيت المقدس. واجتمع في القسطنطينية مائة وخمسون أسقفًا"[31]، وذلك في مايو 381[32].

وقد قاموا بمناقشة فكر مقدونيوس، لكن "إزاء إصراره على التمسك بآرائه، لم يجد المجمع بدًّا من النطق بالحكم عليه. فقضى بحرمه وفرزه كما حكم الإمبراطورُ بنفيه، وقرّر الآباء أنّ الروح القدس هو الأقنوم من الثالوث الأقدس، وأنّه مساو للآب والابن. ثم أكملوا قانون إيمان مجمع نقية كالآتي: "نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي، المنبثق من الآب. نسجد له ونمجّده مع الآب والابن الناطق في الأنبياء وبكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي آمين"[33].

هكذا إذن تمّ الإقرار والتأكيد من خلال مجمع القسطنطينية أنّ الروح القدس أقنوم ثالث ضمن الثالوث الأقدس. وعلى الرغم من هذا فإنّهم يختلفون في مسألة أخرى وهي انبثاق الروح القدس، هل ينبثق من الآب أم من الآب والابن؟ الطوائف المسيحية لم تتّفق فيما يخصّ موضوع الانبثاق: "الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعلّم بأنّ انبثاق الروح القدس من الآب فقط. أما الكنيسة الكاثوليكية وكذلك الكنيسة البروتستانتية تعلّمان بأنّ الروح القدس ينبثق من الآب والابن، وليس من الآب فقط"[34].

يعترض الأرثوذكس على انبثاق الروح القدس من الآب والابن بالقول: "الاعتقاد بانبثاق الروح القدس من الآب والابن معًا في تنافر عظيم مع تسمية الأقنوم الأول بالآب لأنّه ما دام الروح القدس ينبثق من الابن، والابن مولود من الآب إذًا أصبح الآب في هذه الحالة بالنسبة إلى الروح القدس جدًّا. وكذلك يوجد تنافر مع تسمية الأقنوم الثاني بالابن فقط لأنّه إذا كان الروح القدس منبثقًا من الابن فقد صار الابن والدًا، أو بمثابة الوالد للروح القدس إذًا جازت وجبت تسمية الأقنوم الثاني ابنًا بالنسبة للآب وتسميته أبًا بالنسبة للروح القدس، وما أعظم هذا التنافر"[35].

وهذا اعتراض غير مقبول لاعتقادهم بالجوهر الواحد وبالتالي لا يمكن أن يسمى الآب جدًّا ولا الابن أبًا للروح القدس، لأنّ هذا الأخير من الجوهر نفسه الذي للآب والابن.

ويرى الكاثوليك أنّ الانبثاق هو نتاج حبّ بين الآب والابن ويضربون لذلك المثال التالي: "لنخاطر في هذا المَثَال ونقول: عندما يشتدّ الحبّ بين زوجَين يروح الزوجان في الكلام عن حبّهما وكأنّه شيء مميَّز مستقلٌّ عنهما: يتذكّران معاً متى ابتدأ هذا الحبّ، ومتى كبر ونما. ويخشيان عليه من كلِّ خطر يهدّد وجوده. وعندما يعرفان أنّه سيكون لهما، به، فرحٌ بمولود، يشعران وكأنّ هذا المولود هو هذا الحبُّ الذي يتكلّمان عليه. هذا الحبّ هو أفضل تعبير حيٍّ لهما. هو من طبيعتِهما، وكيانهما، وجوهرهما. هُو خارِجٌ عنهما، حاضرٌ معهما. هذا التشبيه، على بعده، يقرّب لنا مفهوم الحبّ القائم بين الآب والابن.

المتأمل في هذا المثال يدرك أنّه يخالف اعتقادهم بالثالوث، فإذا كان الروح القدس هو نتاج حبّ بين الآب والابن لا يصح أن يسمى أقنومًا ثالثًا. وهم أنفسهم يعترفون بأنّ قضية الانبثاق لأمر عويص. يقول: "وبما أنّ موضوع الانبثاق الأزلي عويص جدًّا، فلا يليق بالشرقيين والغربيين أن يحكموا على بعضهم بالهرطقة لعدم اتفاقهما على الانبثاق الأزلي والأولى أن يهتم الشرقيون والغربيون بالخضوع لتوجيه الروح القدس وطاعة إرشاده دائمًا"[36]. إلا أنّ الروح القدس لم يتدخل ليرشدهم إلى الصواب؛ فلو تدخل فعلاً لما كان هناك انقسام للكنيسة ولما بقي الخلاف بينهم إلى الآن.

وقد أدى هذا الاختلاف إلى انقسام الكنائس إذ أضاف الكاثوليك الابن أي المنبثق من الآب والابن، يقول موريس تاوضروس: "وبقيت الزيادة بين أيدي البابوات في أخذ وردّ، وقبول ورفض، حتى سنة 1012م وفي سنة 1013م، أدخلها بنديكتوس الثامن في دستور إيمان اللاّتين، وكان أعظم سبب لانقسام الروم من اللاتين"[37].

خاتمة

بعد هذا العرض بالدراسة والتحليل والنقد لقانون الإيمان المسيحي أخلص إلى ما يلي:

- إنّ هذا القانون لا يعود في أصله إلى الكتاب المقدّس وإنّما هو خلاصة مجمع مسيحيّ للردّ على القسّ الليبي الذي نفى ألوهية المسيح.

- فقرات قانون الإيمان تناقض نصوص الكتاب المقدس.

- اختلاف الطوائف المسيحية وعدم اتفاقها فيما يخصّ موضوع الانبثاق.

وأمام هذا التناقض الحاصل بين فقرات قانون الإيمان ونصوص الكتاب المقدّس، فإنّ الباحث يطرح السؤال التالي: أليس هذا القانون قد يكون مستوحًى من الحضارات القديمة؟ والجواب: نعم، فقانون الإيمان المسيحي يرجع إلى قانون الإيمان الهندوسي؛ فلقد "نقل المؤرخ مالفير عن كتب الهنود أنّهم يقولون: "نؤمن بسافستري (الشمس) إله ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، وبابنه الوحيد آني (النار)، نور من نور، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر، تجسد من فايو (الروح) في بطن مايا العذراء، ونؤمن بفايو الروح المنبثق من الأب والابن الذي هو مع الآب والابن يسجد له ويمجد. فالثالوث القديم هو سافيستري (الشمس) أي الآب السماوي، وآنى (النار) أي الابن وهو النار منبعثة من الشمس، وفايو (نفخة الهواء) أي الروح، هو أساس المذاهب عند الشعوب الإريانية أي الهنود القدماء"[38].


[1] كارل، أوتو آبل. التفكير مع هابرماز ضد هابرماز، ت عمر مهيبل، بيروت: الدار العربية للعلوم، ط1، 2005م، ص 34

[2] صائب، عبد الحميد. محمد باقر الصدر، تكامل المشروع الفكري والسياسي، بيروت، دار الهادي، ط01، م2002، ص 29

[3] بول، ريكور. بعد طول تأمل، ت فؤاد مليت، بيروت: الدار العربية للعلوم، ط 01، 2004م، ص 23

[4] زكي، نجيب محمود. حصاد السنين، القاهرة: دار الشروق، ط03، 2005م، ص ص 20-21

[5] عبد الوهاب، المسيري. رحلتي الفكرية، القاهرة: دار الش

[1] لويس غرديه، ج. قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين المسيحية والإسلام، نقله إلى العربية: الشيخ صبحي الصالح، الأب فريد فريد جبر، دار العلم للملايين، ج2، ص 278

[2] جوش مكدويل، بارت لارسون، حقيقة لاهوت المسيح، ترجمة سمير الشوملي، ص 77

[3] البابا شنودة، طبيعة المسيح، ط5، 1995، ص 9

[4] القمص كيرلس الأنطوني، عصر المجامع، دراسة علمية وثائقية للمجامع المسكونية الكبرى الأربعة الهامة، تنسيق وتعليق دياكوند. ميخائيل مكسي اسكندر، نشر مكتبة المحبة، ط1، ص 44

[5] الشماس منسى يوحنا، تاريخ الكنيسة القبطية، نشر مطبعة اليقظة مصر، ط1، 1924، ص 250

[6] نفسه، ص 257، ولمزيد من التفاصيل ينظر أيضًا كتاب: عصر المجامع، مرجع سابق.

[7] يوحنا 17/3

[8] أعمال الرسل 17/24

[9] متى 11/25

[10] يوحنا 1/38

[11] يوحنا 1/18

[12] Misquoting Jesus, the story behind Who Changed the Bible and Why? BART D. EHRMAN, Harper San Francisco, A Division of Hanper Collins Publishers, p: 162

[13] الأنبا غريغوريوس، اللاهوت العقيدي، سرّ التجسد والفداء، نشر مكتبة الأنبا غريغوريوس بمصر، ط2004، ص 166

[14] مار مرقس والبابا بطرس، حتمية التجسد الإلهي، كنيسة القديسين- سيدي بشر - الإسكندرية، ص 33

[15] إنجيل يوحنا 10/30

[16] المستشار محمد عزت الطهطاوي، النصرانية في الميزان، نشر دار القلم، ص ص 161-162

 [17]يوحنا 3/13

[18] القمص تادرس يعقوب ملطي، الاصطلاحان طبيعة وأقنوم في الكنيسة الأولى، ص 30

[19] الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد، الجزء الثاني، بشارتي لوقا ويوحنا، إعداد وتفسير مجموعة من كهنة وخدام الكنيسة، نشر كنيسة مار مرقص القبطية مصر، ط1، نوفمبر 2004، ص 302

[20] البابا شنودة، بدعة حديثة، ط1، 2006 مصر، ص 171

[21] القس اسبر عجاج، أجوبة لأسئلة صعبة حول قضية صلب المسيح، الخدمة العربية للإنجيل، ص 44

[22] جيمس طابور، سلالة يسوع والأسرة الحاكمة، ترجمة سهيل زكار، الناشر دار قتيبة، ص 269

[23] جون جلكريست، صلب المسيح وقيامته، ط1، 2000، ص 3

[24] الأنبا غريغوريوس، موسوعة الأنبا غريغوريوس، اللاهوت العقيدي لاهوت السيد المسيح، مكتبة الأنبا غريوغوريوس، مصر، ط أكتوبر 2004، ص 712

[25] مرقص 16/19

[26] أعمال الرسل 7/55-56

[27] موسوعة الأنبا غريغوريوس، لاهوت السيد المسيح، مرجع سابق، ص 713

[28] موسوعة الأنبا غريغوريوس، سرّا التجسد والفداء، مرجع سابق، ص 146

[29] فلسفة الفكر الديني بين المسيحية والإسلام، مرجع سابق، ج2، 289

[30] البطريرك أفتيشيوس المكنّى بسعيد ابن بطريق، التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، طبع في بيروت بمطبعة الآباء اليسوعيّين، ص 145

[31] نفسه، ص ص 144-145

[32] رأفت عبد الحميد، الدولة والكنيسة، المسيحية الجديدة، الناشر دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط2001، ص 61

[33] عصر المجامع، مرجع سابق، ص ص 177-178

[34] موريس تاوضروس، علم اللاهوت العقيدي، تقديم: الأسقف الأنبا موسى، الناشر مكتبة أسقف الشباب، ط1، سبتمبر1991، ج2، ص 118

[35] الشماس صموئيل عازر، توافق العقائد الأرثوذكسية، مكتبة مارجرجس، ص ص 23-24

[36] القس جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي، راجعه ونقحه وأضاف إليه القس منيس عبد النور، الناشر الكنيسة الإنجيلية مصر، ص ص 180-181

[37] علم اللاهوت العقيدي، مرجع سابق، ص 119

[38] أحمد علي عجيبة، تأثر المسيحية بالأديان الوضعية، دار الآفاق العربية للنشر والتوزيع، ط1، 2006، ص 521 نقلاً عن تاريخ الخلفاء، لمالفير، ص ص 9-10

روق، ط 01، 2005م، ص 06