قراءة تحليلية- نقدية في الكتاب الخامس من إتيقا سبينوزا


فئة :  قراءات في كتب

قراءة تحليلية- نقدية في الكتاب الخامس من إتيقا سبينوزا

قراءة تحليلية- نقدية في الكتاب الخامس من إتيقا سبينوزا

اعتبارات تمهيدية

مراد ابن الضو[1]

ملخص:

كيف نكتب تلخيصا حول جزء من الإتيقا، ونحن نعلم أن هذا الكتاب يدرك كله أو يترك جله، فما إن نتوجه رأسا نحو جزء منه، حتى نجد أنفسنا مدفوعين دفعا نحو قراءة الأجزاء الأخرى، أولا لكون صاحبه لا يكف عن الإحالة إلى القضايا التي سبق أن برهن عليها سابقا، إذ نجده مثلا في الكتاب الخامس الذي خصصه لدراسة القوة العقلية ووظيفتها في تحقيق التحرر من الانفعالات، يحيل إلى الكتاب الأول الذي خصصه للإله، ثم الكتاب الثالث الذي درس فيه طبيعة الانفعالات وأصلها، وكذا الكتاب الرابع الذي حاول أن يؤصل فيه لعلاج النفس من انفعالاتها. وثانيا لكون الإتيقا ليس مجرد كتاب ذي طابع نظري، فهو لم يُكتب بصيغة إنشائية، بل بصيغة رياضية على شاكلة أصول الهندسة الأوقليدية، الشيء الذي جعله بمثابة بناءٍ مُحكمِ التنظيمِ، فما إن نُسقِط عنه قضية من قضاياه حتى ينهار البناء كاملا. ولعل هذا هو مكمن صعوبته، إذ لا نستطيع أن نفهم اللاحق منه إلا بفهم السابق. وبالتالي، رغم أن قراءتنا ستنصب بالتحديد حول دراسة الكتاب الخامس منه، إلا أننا سنكون مُضطرين من حين لآخر للإحالة على الكتب الأخرى سواء تدليلا أو تعليلا أو إشارة.

تقديم

لقد اعتبر القدامى بما فيهم ديكارت أن الانفعالات والأهواء هي شيء مضاد للعقل وخصما له، وشيئا غير ذي قيمة. لكن سبينوزا كما سنرى، سيجعل من هذه الانفعالات شيئا موضوعيا، فبما أنها موجودة، وبما أنها تفعل في الإنسان وتجعله مُنفعلا بها، فإن لها نفس الحقيقة التي توجد في أية حقيقة معرفية. لهذا ينبغي أن يتم التعامل معها وفق هذا المنطق؛ فلا يمكن للإنسان أن يتحرر منها إلا بقبولها على هذا النحو، فلا وجود لعلاج للانفعالات إلا الانفعالات ذاتها. وهنا تصير هذه الانفعالات والأهواء التي تكبل قوى الإنسان، هي نفسها التي تعمل على تحريره. إن السؤال المُحرك لهذا الكتاب أعني الخامس، إذن، سيكون هو: كيف نحقق خلاصا من الانفعالات والأهواء، ونصل إلى ما يسميه سبينوزا بالحب العقلي للإله؟ بصيغة أخرى، كيف أحقق فهماً حول العالم والانفعالات والإله والإنسان، كي أصل لتحقيق الحرية والسعادة؟ وباختصار: كيف نجعل الناس أحرارا من الأوهام التي يعتبرونها هم أنفسهم سبب سعادتهم؟

1- الانفعالات وسبُل التحرر منها

إن السعي في الاستمرار في الوجود لأطول فترة ممكنة هو ما يوحدنا، وهو ما يجعلنا منفعلين وفاعلين في نفس الآن (حسب تعليق القضية الرابعة من الكتاب الخامس)، لكن بدرجات مُتفاوتة فأحيانا يطغى الانفعال المنفعل على النفس، ويقل الانفعال الفاعل، بفعل تأثير العلل الخارجية على الجسم والذهن، الشيء الذي يجعل الأهواء تهيمن على النفس وتسطو عليها. كيف يمكن للإنسان إذن، أن يتحرر من هذه الأهواء والانفعالات المنفعلة، ويُحل محلها الانفعالات الفاعلة؟ هذا ما يحاول سبينوزا تقديمه في الكتاب الخامس من الإتيقا، حيث يقترح فيه مهمة فلسفية تقوم على الكيفية التي بموجبها يمكن للإنسان أن يعالج نفسه من الانفعالات المُنفعلة، التي تسبب له الشقاء، وينتقل إلى انفعالات الفاعلة التي تكون مصدر سعادة بالنسبة إليه.

في تمهيد هذا الكتاب، أعني الخامس، ينتقد سبينوزا المذاهب الفلسفية التي تُعلي من شأن النفس قياسا للجسم، وفي مقدمتها الفلسفة الديكارتية والرواقية، التي تقر هي الأخرى بسلطان النفس المُطلق على أهوائها وعواطفها وانفعالاتها، والحال أن سبينوزا ينفي هذا الأمر، حيث إن الإنسان حسبه "لا يملك سلطة مُطلقة على انفعالاته وأهوائه."[2] كما ينفي صاحب الإتيقا كل النزعات الإرادية، التي تقول بإمكانية كبح الانفعالات بقرار حر من إرادتنا؛ إذ ليس في النفس أية إرادة مُطلقة أو حرة (حسب القضية 48 من الكتاب الثاني) يمكنها أن تكون خلاصا من الانفعالات، وبالتالي فالفلسفة الديكارتية حسب الموقف السبينوزي قد راهنت على فكرة وهمية بإقرارها وجود إرادة في النفس (باللاتينية: animae voluntate)، تقود اختياراتنا وتجعلنا نضبط انفعالاتنا ونتحكم فيها.[3]

فغالبا ما يظن المرء أنه يفعل بمحض إرادته، والحال أنه ينفعل بعواطفه وأهوائه ورغباته، ويعزو إلى إرادته ما لا يمكن تعليله بهذه الأمور، "فالصبي [مثلا] يظن أنه يرغب بحرية في الحليب، ويظن طفل غاضب أنه يريد الانتقام، ويظن جبان أنه يريد الهروب [بمحض إرادته]، ويظن السّكير أيضا أنه يتكلم بحرية ذهنية تامة عن الأمور التي عندما يرجع إلى حالته العادية قد يتمنى لو أنه سكت عنها. ويظن المُصاب بالهذيان، والمِهذار، والطفل، وعدد كبير من الأفراد من الطينة نفسها أنهم يتكلمون بحرية ذهنية تامة، في حين لا يستطيعون كبح النزوات التي تدفعهم إلى الحديث."[4] إن الهروب من الخطر حسب سبينوزا ليس فعلا إراديا؛ بل هو مجرد انفعال، لأنه لا يمكن تعليله بطبيعته وحدها، بل يترتب عن طبيعتنا، وكذلك عن عامل خارجي (علة خارجية). وبالتالي، لا وجودة لإرادة حرة مُطلقة في النفس.

ينتقد سبينوزا أيضا التصور الفيزيلوجي الذي يقدمه ديكارت حول مصدر الانفعالات، إذ يُسنِد صاحب "التأملات" الأهواء إلى جزء من الدماغ يتحد مع النفس، يدعوه "الغدة الصنوبرية"، التي بها يحس الذهن بكل الحركات المُثارة في داخل الجسم وبكل الموضوعات الخارجية، وتكون للنفس القدرة على تحريك هذه الغدة في اتجاهات متنوعة، حيث تكون كل حركة مُرتبطة مع أفكارنا مُنذ الولادة، كما يمكنها أن ترتبط بالعادة مع أفكار أخرى. ويعطينا ديكارت مثالا حول هذه المسألة، حيث يقول: "لو صادفنا بغتة شيئا قذرا جدا في طعام تناولناه بشهية، فإن مفاجأة هذا اللقاء تستطيع أن تغير استعداد الدماغ بطريقة تجعلنا لا نعود نشاهد مثل هذا الطعام إلا وينتابنا الهلع، رغم أننا كنا نأكله سابقا بلذة"[5].

كما أن ديكارت يقر بأن هذه الغدة موجودة عند الحيوانات أيضا، إذ بالرغم من أنها لا تمتلك أي عقل، فإن جميع حركات الغدة التي تثير فينا الانفعالات موجودة باستمرار لديها، وتستخدمها في التغذية والتقوية لا في الانفعالات كما هو الحال معنا، ولكن في حركات الأعصاب والعضلات التي تصاحبها عادة. لهذا لو "رأى كلب طائر حجل، فإنه يميل بشكل طبيعي لأن يركض نحوه، وحين يسمع صوت إطلاق نار بندقية فمن الطبيعي أن يحثه هذا الصوت على الهرب."[6] ولم يقف الفيلسوف الفرنسي عند هذا الحد، بل ذهبت به تأملاته إلى الإقرار بإمكانية ضبط الانفعالات وفق إرادتنا واختياراتنا، حيث يقول: "لو كنا نستطيع بقليل من المهارة والجهد أن نغير حركات الدماغ لدي الحيوانات المحرومة من العقل [كأن نجعل كلب الصيد الذي يتوقف حين رؤيته لطائر الحجل، ويركض نحوه بعد ذلك، رغم سماعه لطلقة النار]، فمن الواضح أننا نستطيع التغيير أكثر لدى البشر، وحتى أولئك الذين يملكون أضعف النفوس يستطيعون أن يكتسبوا سيطرة مُطلقة تماما على كل انفعالاتهم، لو بذلوا الجهد الكافي لترويضها وقيادتها."[7]

يرد سبينوزا على هذا التصور الديكارتي بنوع من السخرية، حيث يقول: "إنني لن أستطيع التعجب بما فيه الكفاية من كون هذا الفيلسوف [يقصد ديكارت] الذي كان قد عقد العزم بشكل صارم ألا يستخلص شيئا سوى من المبادئ المعروفة بنفسها، وأن لا يثبت سوى ما كان قد أدركه بوضوح وتميز، والذي غالبا ما كان يأخذ على السكلائيين إرادة تفسير الأشياء الغامضة بواسطة خصائص خفية، [فكيف له] أن يدافع الآن عن فرضية أكثر غموضا من كل خصائص خفية"[8]. إن ديكارت حسب سبينوزا حاول أن يجعل من الانفعالات حِكرا على النفس، في حين أنها مُرتبطة بالجسم أيضا؛ إذ مثلما أن نظام الأفكار واقترانها هو عينه نظام الأشياء واقترانها، فمن حقنا حسب التصور السبينوزي، أن ننظر في الطبيعة من وجهة نظر النفس، كما من حقنا النظر فيها من وجهة نظر الجسم؛ ومن حقنا أيضا أن نقلب الصيغة التي حسبها يكون اقتران الأفكار مُعيدا لإنتاج اقتران الانفعالات الجسمانية، والقول إن اقترانات الانفعالات الجسمانية تُعيد إنتاج اقتران الأفكار (حسب القضية 1 وبرهانها الكتاب الخامس).

وهذا ما يتعارض مع التصور الديكارتي الذي يرى أن انفعالات النفس تختلف عن بقية جميع أفكارها، ويعرفها بكونها "إحساسات أو تأثرات للنفس، وتنسب بشكل خاص للنفس لا لغيرها"[9]. أما التصور الإتيقي لسبينوزا، يجعل منها تأثرات تلحق بالنفس كما بالجسم، وعلاجها سيكون بعواطف مضادة، إذ لا يمكن لعاطفة ما أن تُعاق أو تزول إلا بمُقتضى عاطفة مناقضة لها، أو أقوى منها، فلا وجود إلا لعاطفة لكبح عاطفة أخرى (حسب القضية السابعة من الكتاب الرابع).

من هنا نفهم أن تصور سبينوزا لا يقوم على "القطع مع" الأهواء والانفعالات، كما هو حال التصورات الفلسفية التي سبقته، وإنما يكمن في تعويض انفعال بانفعال آخر مضاد وعاطفة بعاطفة أخرى مُناقضة لها. ووفق هذا المنظور، لا يصير التحرر من هذه العواطف والانفعالات صراعَ العقل ضد الهوى كما هو الشأن عند الرواقيين وديكارت، بل هو عمل تعويض يقوم به الإنسان الحكيم يفضي به إلى تحويل الانفعالات الحزينة إلى انفعالات مرحة، وانفعالات مُنفعلة إلى انفعالات فاعلة. وهنا لا يكون العقل حسب التصور السبينوزي، ملكة تأتي من فوق كي تسقط على الأشياء من أجل إدراكها والتحكم بها، وإنما هو ملكة تساعد على تحقيق معرفة واضحة ومُتميزة بالأشياء؛ فالعقل حينما يصل إلى معرفة واضحة ومُتميزة بالعواطف يجعلها تتوقف من كونها انفعالا مُنفعلا (القضية 3، الكتاب الخامس)، الشيء الذي يُفسح المجال أمام الانفعالات الفاعلة التي كما سنرى ترتبط بجنس مُعين من المعرفة.

هكذا يكون كل واحد منا له القدرة على فهم نفسه وانفعالاته بوضوح وتميز، وإن لم يكن بشكل مُطلق، فعلى الأقل بشكل جزئي (تعليق القضية الرابعة، الكتاب الخامس). الشيء الذي يجعل من المعرفة العقلية، باعتبارها الجنس الثاني من المعرفة (التعليق الثاني من القضية 40، الكتاب الثاني)، تلعب دور المُخفف من حدة الانفعالات، إذ ليس لها سلطان مُطلق عليها، وإنما هي تعمل على التقليل منها ومن تأثيرها، لهذا يجب على كل إنسان أن يسعى إلى تحقيق معرفة بنفسه وبعواطفه بشكل واضح ومُتميز، حتى يتمكن من علاجها، وهنا تكون هذه العاطفة أو هذا الانفعال الذي حققنا حوله هذه المعرفة مفصولا عن فكرة علة خارجية[10] من جهة، ومُقترنا بأفكار صحيحة من جهة أخرى. وهذا العلاج حسب سبينوزا لا يمكن تصور علاج آخر أفضل منه قياسا إلى القدرات والقوى التي نمتلكها في ظل الجنس الثاني من المعرفة، إذ ليس للعقل أية قوة أخرى سوى قوة التفكير وتكوين أفكار مُطابقة حول الأشياء التي يفكر فيها.

إن النظرية السبينوزية حول الانفعالات، حسب فكتور ديلبوس، تتأسس في الواقع فكرة جوهرية، وهي أن على كل إنسان أن يحيا حياته قبل فهمها، فوحدها التجربة تنطوي على دروس ترشدنا في اتجاه العقل. وبالتالي، ليس على الإنسان أن يُموضع ذاته في مُستوى مُتعالٍ على الطبيعة، ويتنكر لأهوائه ورغباته وانفعالاته، بل عليه أن يتقبلها وأن يحيا وفقها، إذ رغم أنها قد تكون مصدر شقاء وتعاسة أحيانا، نظرا لكوننا كنا ننتظر منها أن تمنحنا فرحا أكبر، وكمالا أعظم، إلا أنه لا ينبغي علينا أن نستسلم لهذه الانفعالات الحزينة، بل يجب علينا أن نعمل جاهدين من أجل إعادة بناء ذواتنا، وإعادة تنظيم انفعالاتنا، وأن ندرك أن الأشياء لا تتصرف لجعلنا نشعر بالفرح، ولا تجري وفق مصالحنا الخاصة، بل هي تحدث وفق قوانين الطبيعة المُسيرة لها ولا تحيد عنها. إضافة إلى ذلك، ينبغي علينا قدر المُستطاع أن نقيس رغباتنا على قوانا، فلا نأمل فيما هو فوق طاقتنا لكي لا نُصاب بالحزن إذا لم نبلغه. هذا الأمر يجلعنا نقطع مع كل "العلاقات القائمة على الصدفة"[11] التي كانت تربط ميولاتنا وأهواءنا مع العلل الخارجية، الشيء الذي يؤدي إلى تغيير موضوعات هذه الميولات والأهواء، فنتجنب بذلك النتائج التي كانت ستنتج عن هذه العلل الخارجية. وعلى هذا النحو، تكون الانفعالات المُنفعلة ذاتها تتعارض، ويحطم بعضها بعضا.[12]

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان تكوين فكرة واضحة ومُتميزة حول العواطف والانفعالات يجعلنا نفهمها بشكل أفضل، وبالتالي يسهم في التقليل من حدتها؛ لأنه يفصلها عن فكرة علتها الخارجية، فعلى أيّ أساس ينبغي أن تتعلق هذه العواطف إذا كانت مفصولة عن علتها؟ الجواب يصوغه سبينوزا في القضية 14 من الكتاب الخامس، هو أنه يجعل للذهن القدرة على ربط انفعالات الجسم بفكرة الإله. لكن الإشكال الذي يطرح نفسه مرة أخرى هو: كيف يمكن أن نقيم علاقة بين ما هو عرضي وزائل ومُضطرب (الانفعالات)، وما هو أزلي وكامل وضروري (الإله)؟ هذا ما سيحاول مقال الباحث الإيطالي Saverio Ansaldi[13] الإجابة عنه، والذي سنحاول تلخيصه من خلال الانفتاح على كتاب الإتيقا من جهة، والتأويلات والتعليقات التي قدمها شرّاح الفكر السبينوزي من جهة أهرى، حتى تكون قراءتنا هاته أكثر دقة.

2- الحب، الكمال، القوة: من أجل نموذج للطبيعة البشرية[14]

"إن من يعرف الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة، ينتقل إلى أكبر كمال إنساني"[15]. فبقدر ما يكون المرء قادرا على هذا الجنس من المعرفة، يكون أكثر وعيا بذاته وبالإله؛ أي يكون أكثر كمالا وغبطة (béatitude).[16] ينشأ عن الجنس الثالث من المعرفة بالضرورة الحب العقلي للإله.[17] هنا نريد أن نفحص ونبحث عن معنى هذا الانتقال (transition) وهذا الامتلاك (possession)، الذي يتعلق من جهة بأقوى المعارف (الجنس الثالث من المعرفة) (le troisième genre de la connaissance)، وأعلى درجة من الكمال الإنساني. ومن جهة أخرى، يتعلق بالتجربة الأكثر راديكالية التي يدعوها سبينوزا "بالحب العقلي للإله" (l’Amour intellectuel de Dieu).

والإشكالات التي سنعالجها هي كالآتي: ما هي القوة التي يمكننا أن نعزوها إلى هذا الحب العقلي للإله؟ وبعبارة أخرى، ما هي القوة التي تتوافق مع الكمال الإنساني، وتجعله ممتلكا للغبطة؟ ولماذا يصف سبينوزا هذه الغبطة بعبارة الحب؟

لكي نفهم هذه الإشكالات والتحديد الممكن للطبيعة الإنسانية التي ينطوي عليها هذا التأكيد على هذه القوة المُوجِّهة/النموذجية (la puissance modale). يجب أن نجيب عن التساؤلات التالية: هل يمكن أن نعزو هذه القوة القصوى إلى الطبيعة البشرية المُنتمية إليها ضرورة؟ وما هي الصلة الموجودة بين هذه القوة وهذه الطبيعة؟ هل يمكن للجنس الثالث من المعرفة أن يسبب تغييرات أو تعديلات أو تحويلات في الطبيعة البشرية –سواءً في النفس أو في الجسم؟ باختصار: هل يمكن اعتبار الجنس الثالث من المعرفة، والحب العقلي للإله هو التعبير الأقصى عن هذه القوة النموذجية التي هي الغبطة؟ وهل يسمح هذا التعريف بإعطاء نموذج للطبيعة البشرية[18] (modèle de la nature humaine)، يتجاوز ذلك الذي وصفه سبينوزا في تمهيد الكتاب الرابع من الإتيقا؟

ففي تمهيد الكتاب الرابع، يقر سبينوزا صراحة بالعلاقة الموجودة بين مفهوم "الكمال" (la perfection) و"نموذج الطبيعة الإنسانية"، حيث يؤكد "أن الناس يكونون أكثر أو أقل كمالا، بحسب اقترابهم أو ابتعادهم من هذا النموذج نفسه".[19] وما يجب الانتباه إليه منذ البداية، هو أن فيلسوف الإتيقا يفكر في مفهوم الكمال انطلاقا من فكرة الحسن والقبيح، باعتبارهما "أحوالا للتفكير"[20] (modes de penser)، أو معاني نشكلها لكوننا نقارن الأشياء بعضها ببعض. وهذا هو السبب في كوننا، سنعتبر كل ما يسمح لنا بالاقتراب من هذا النموذج من الطبيعة الإنسانية (أي بلوغ الكمال)، حسناً (bon)، في حين أن أي شيء يمنعنا من إعادة إنتاج هذا النموذج، سنعتبره قبيحا (mauvais).

يحضر مفهوما الحسن والقبيح وفق هذا المعنى، باعتبارهما معيارين للكمال، الذي أصبح يتحدد انطلاقا من "سلمٍ للقيم" (une échelle des valeurs). ففي هذه الحالة، تكون العواطف (les affects) قادرة على الزيادة والنقصان في قدرتها على الفعل من أجل تحصيل منفعة خاصة. إذن، فالذي يحدد الاختلاف بين الحسن والقبيح هو فهمنا لمفهوم الكمال؛ أي التفسير العقلاني لنموذج الطبيعة البشرية.

في المقطع التالي، يقدم سبينوزا معيارا إضافيا، حيث يقول: "تجدر المُلاحظة أنني عندما أقول إن أحدا انتقل من كمال أقل إلى كمال أكبر، أو العكس، فإنني لا أعني أنه يتحول من ماهية أو من صورة إلى أخرى؛ فالحصان مثلا، يفنى إذا تحول إلى إنسان، كما يفنى إذا تحول إلى حشرة، بيد أنني أعني أننا نتصور أن قدرته على الفعل، من حيث كوننا نفهمها بطبيعتها، تزداد أو تنقص".[21] إن كمال شيء ما، حسب سبينوزا لا يتعلق بـ "طفرة" (mutation) أو تغير فُجائي يحدث في طبيعته، حيث ينتقل من صورة إلى أخرى، وإنما يتعلق الأمر بتزكية لقوته (l’affirmation de sa puissance)، حيث تصبح متوافقة مع طبيعته. إن مسار التحول والانتقال[22] يتحدد وفق معنى الكمال ذاته، الشيء الذي يجعل مسار الكمال هو في الحقيقة مسار تحول وانتقال في القوة.

فالقوة تزداد أو تنقص، لكنها تعبر دائما عن طبيعة الشيء. وهكذا يكون الكمال غير منطوٍ على تغير في البنية أو في الصورة، والذي يعادل الإتلاف الفيزيائي للشيء (الموت)[23]، وإنما ينطوي على تزكية وتعزيز وزيادة في القوة المنسوبة إلى الشيء. إذن، يكون الكمال مُقترنا بقوة الشيء، حيث إذا عظُمت عظُم معها الكمال، وإذا ما تناقصت تدنّى معها الكمال. بهذا المعنى يمكننا أن نقول إنه إذا ما حدثت طفرة أو تغير فُجائيٌّ في شيء ما، فإن هذا التغير لا يلحق طبيعته، وإنما يؤثر فقط على "قوته"، وبالتالي، فما يتغير هو قدرة الشيء على الفعل (puissance d’agir)، إذ إننا نستطيع أن نزيد من قوة شيء ما ومن ثمة نزيد من كماله، دون أن نُلحق أي تغير في شكله و"صورته"، فلا تتعلق الحدود المادية لشيء ما بالتغيرات (سواء كانت زيادة أو نقصانا) التي تلحق بقوته. إذن، يمكن أن تخضع قدرة الشيء على الفعل إلى تغيرات تزكي من طبيعته، حيث تتوافق مع درجة الكمال الذي وصل إليها هذا الشيء، لكن صورة وشكل هذا الشيء تبقى كما هي عليه، إذ إن كل شيء يسير وفق القوانين الفيزيائية التي تدخلت في بنائه وتركيبه وإنتاجه.

لكن سبينوزا لم يتوقف هنا في تعريفه للكمال، وإنما أضاف شيئا آخر، حيث يقول: "أعني بالكمال عموما الحقيقة؛ أي ماهية شيء كيفما كان من حيث كونه موجودا (existe) ومُنتجاً بكيفية ما لفعلٍ (effet)، بغض النظر عن ديمومته. وفعلاً، لا يمكن القول عن شيء جزئي إنه أكثر كمالا، لأنه قد ازداد استمرارا في الوجود؛ لأنه لا يمكن تحديد ديمومة الأشياء بماهيتها، ما دامت ماهية الأشياء لا تنطوي على أي زمن معين ومُحدد للوجود، بل يمكن لأي شيء مهما كان، سواء كَبُرَ كماله أو نَقُصَ أن يستمر دائما في الوجود بالقوة ذاتها التي بدأ بها في الوجود، وهكذا فكل الأشياء مُتساوية في ذلك".[24] هكذا يميز سبينوزا بين إنتاج الفعل من طرف الشيء من جهة، وبين ديمومته من جهة ثانية، واستمراريته في الوجود من جهة ثالثة، إذ إن كمال الشيء؛ أي حقيقته تكمُن كليا في قدرته وقوته على إنتاج الأفعال، بغض النظر عن الزمن التي يحدد وجوده ويَحُدُّه. وهذا ما أكده الفيلسوف الهولندي صراحة في القضية الثامنة من الكتاب الثالث من الإتيقا، حيث يقول: "الجهد أو الكوناتيس الذي به يسعى كل شيء للاستمرار في وجوده لا ينطوي على "زمن مُتناهٍ"، وإنما على زمن غير محدود"[25]، إذ لا يمكن لهذا السعي الذي من أجله تدوم الأشياء في الوجود، أن يكون محدوداً بزمان معين، فما دام هذا السعي لا ينطوي على شيء يحُدُّه، فهو لا مُتناهٍ ولا محدود.

يبرهن صاحب الإتيقا على صحة هذا القول بالآتي: "لو كان الشيء ينطوي على زمن محدود، زمن يُحَدِّدُ ديمومة الشيء. لكان يَنتُجُ عن مجرد القدرة التي يوجد الشيء بمُقتضاها، كون الشيء بعد هذا الزمن المحدود، لا يمكنه أن يوجد، بل يجب أن يتَحطم، والحال أن ذلك ممتنع؛ لأنه حسب القضية الرابعة (من الكتاب الثالث) [لا شيء يمكنُ تحطيمه، إلا بعلة خارجية][26]. وما دام هذا الجهد لا تقوضه أية علة خارجية، فإنه يستمر دائما في الوجود بالقدرة نفسها التي أوجدته في السابق، وبالتالي ينطوي هذا السعي على زمن غير محدود."[27]

ولما كانت ماهية الشيء هي قوته، حسب ما هو مُثبت في برهان القضية السابعة من الكتاب الثالث، [28] وكانت هذه القوة مُطابقة لكماله، حيث إن تحققها يُدرك انطلاقا من حقيقة الشيء نفسها، والتي تعبر عن ماهيته الفعلية وتؤكدها، فإنه لا يمكن أن تُعزى القوة والكمال بالضرورة إلا إلى ماهية الشيء، باعتبارها مُنتجاً للأفعال. بهذا المعنى، فإن كمال الشيء أي قوته تُعبر عن العلة الفعلية لماهيته، وبالتالي، عن حقيقته.

يستند "نموذج الطبيعة البشرية" الذي يوجد في قلب الكتاب الرابع من الإتيقا، على هذا الوضع المزدوج للكمال الذي يقوم من جهة، على تعزيز وتزكية القدرة على الفعل دون إحداث تغيير في الصورة والشكل، ومن جهة أخرى، يستند على إحداث تطابق وتماثل بين القوة والماهية. فما يقود الإنسان إلى الكمال الأعظم، [29] يتوافق مع بحثه عماّ يكون نافعا بالنسبة إليه؛ وذلك تحت توجيه العقل باعتباره قوة وقدرة تقودنا نحو تزكية وجودنا، ومن ثمة نحو الفضيلة، "فما دام هذا الأخير (أي العقل) لا يطلب شيئا مُناقضا للطبيعة، فإنه يطالب إذن، بأن يُحِبَّ كل امرئٍ نفسه، وأن يبحثَ عما يكون نافعا له...وأن يشتهي كل ما يقود الإنسان إلى كمال أكبر: ويعني ذلك، بكيفية مُطلقة، أن كل موجود يسعى بكل ما أوتيَ من قوة، في الحفاظ على وجوده...[هكذا يكون] أساس الفضيلة هو السعي نفسه في حفاظ الإنسان على وجوده الخاص، وأن السعادة تكمن في استطاعة الإنسان الحفاظ على هذا الوجود."[30]

ينشأ الكمال إذن، في سعي الإنسان إلى حفظ وجوده وحفظ ذاته[31] (la conservation de soi)، اعتمادا على قوته وطبيعته (ماهيته)، والفضيلة ليست شيئا آخر غير "كمال القوة" (la perfection de la puissance)؛ أي الإنتاج السببي للذات وسعيها في الحفاظ على طبيعتها الحقيقية، إذ كلما عملنا وفقاً لقوانين قوتنا كلما كنا أكثر كمالا. نستنتج إذن، أن الفضيلة هي التي تثير فينا انفعال الفرح بالضرورة؛ لأنها تتحدد بماهية الإنسان التي لن تكون سوى السعي نحو حفظ البقاء والاستمرار في الوجود، وكل ما يزكي هذا السعي ينمي فينا انفعال الفرح، وكل ما يحدّ من هذا السعي ينمي فينا انفعال الحزن.

إن الفضيلة هي التي توجه كل قوانا، سواء تلك المتعلقة بالنفس أو بالجسم. لذلك، يبحث الإنسان الحكيم (العاقل sapiens) عن كل ما يفيد قوة جسمه، دون أن يبطل هذا البحث بنية هذا الجسم نفسه، من خلال إحداث آثار (des effets) سلبية في صورته أو في قوانين تكوينه. يقول سبينوزا: "من طبيعة إنسان حكيم تقوية نفسه وإطعامها بأكل وبأشربة شهية مُتناولة باعتدال، وأيضا بعطور، وبهاءِ نباتٍ مُخضرّةٍ، ولباسٍ وموسيقى، ورياضات، ومعارض مسرحية، وأشياء أخرى من هذا القبيل يمكن لكل إنسان أن يستعملها من دون ضرر للغير. فالجسم الإنساني مركب من عددٍ كبير من الأجزاء ذات الطبيعة المُختلفة، والتي تحتاج باستمرار إلى غذاءٍ جديد ومُتنوع، كي يكون الجسم بأجمعه كذلك قادراً على كل ما يُمكنه أن يترتب على طبيعته، وبالتالي كي يكون الذهن هو نفسه قادراً على فهم أشياء كثيرة في آن واحد. لذلك، فنظام الحياة هذا يناسب جدا مبادئنا والممارسة العامة. وبالتالي، فإن كانت هناك كيفية أخرى للحياة، فهذه هي الأفضل، وهي المُستحبة على كل حال."[32]

إن الكمال الذي يتحدث عنه سبينوزا لا يمكن أن يشير إلى طفرة مُتدنية أو ناقصة في القدرة على التأثير أو التأثر للجسم، إذ إن هذا التناقص والانخفاض في القدرة لن يؤدي فقط إلى تقهقر قوة تفكير الذهن، بل سيؤدي أيضا إلى هلاك وفناء الجسم، إذ بقدر ما يكون الجسم أكثر قدرة على الانفعال/التأثر والفعل/التأثير بكيفيات كثيرة، يكون الذهن أكثر قدرة على الإدراك.[33] وهذا هو السبب في كون الكمال الذي تتسم به حياة الإنسان الذي يُقادُ بواسطة العقل، يدخل في توازن فيزيائي (un équilibre physique) يميل إلى الحفاظ قدر الإمكان على صورة وتركيب الجسم، وهذا ما يجعل كل تغير أو طفرة تحدِثُ أثرا في عُمق هذه الصورة، وهذا التركيب، تكون قبيحة (mauvais) أو لنقل مضادة ومُناقضة للكمال.

إن التحقق التام والكامل لقوتنا (فضيلتنا) لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعني تغييرا وطفرة في صورتنا (forma)؛ فمثل هذا التغيير لا يمكن أن يَحدُث إلا بفعل علل خارجية، تحدُّ من قوتنا وتسبب لنا عجزا نهائيا، يقول سبينوزا في هذا الصدد: "لا أحد يُهمل إذن اشتهاء ما ينفعه، أي حفظ وجوده، إلا إذا تغلبت عليه عِللٌ خارجية مناقضة لطبيعته. أقول، لا أحد تدفعه ضرورة طبيعته إلى النفور من الأطعمة، أو إلى قتل نفسه، وإنما تدفعه إلى ذلك علل خارجية...لكن أن يسعى الإنسان، حسب ضرورة طبيعته، في نفي وجوده أو في تغيير صورته؛ فذلك أمرٌ مستحيل كاستحالة نشوء شيء من لا شيء."[34] هكذا إذن، يكون الكمال الذي نحن قادرون على بلوغه، والذي يتوافق مع حقيقة طبيعتنا، لا يمكن أن يفهم إلا عن طريق الضرورة التعبيرية للقوة (la nécessité expressive de la puissance)، التي تتجسد من خلال الخصائص الخاصة بهذه الطبيعة نفسها.

إن "نموذج الطبيعة البشرية"؛ أي ذلك الإنسان الحكيم الذي يعيش وفق توجيه العقل، يتحقق ويبلغ اكتماله مع كل الانتقالات التي تعرفها تلك القوة المنسوبة إلى الطبيعة الإنسانية، والتي ندعوها حسنة دائما.[35] فطبيعة "النموذج الكامل" (الإنسان الحكيم) تقبل فقط انتقالا في قوته لا في صورته، ولا في رهانه الذي يتجسد في السعي نحو ما يزكي وجوده، ولا في ماهيته التي تبحث دائما عما هو خيّرٌ ومفيدٌ (utile). هكذا، تصبح هذه القوة هي نفسها فرحُ الكمال الإنساني أو لنقل إنها الطريق المؤدي إلى الفرح، باعتباره انفعالا فاعلا[36] وحركة انتقالية تؤثر في النفس/الذهن والجسد، حيث ينقله من كمال أقل إلى كمال أعظم (حسب القضية 11 من الكتاب الثالث). يقول سبينوزا في هذا الصدد: "لما كانت هذه الأشياء التي تساعد أجزاء الجسم على تأدية وظيفتها أشياءً حسنة، ولما كان الفرح يتمثل في قدرة الإنسان –بوصفه يتكون من نفس وجسم- تجد ما يساعدها أو ينميها، فإن كل ما يتسبب في الفرح يُنظر إليه على أنه خير."[37] وكل ما ينقضُ ذلك فإننا سنعتبره شراً.[38]

من الآن فصاعدا، أصبحت الطبيعة البشرية تنعكس في نموذجها، إذ "كلما عَظُم الفرح الذي ننفعل به، كَبُر الكمال الذي ننتقل إليه، ومن ثمة عَظُمتْ مشاركتنا في الطبيعة الإلهية".[39] فالقوة التي تزكي وتقوي طبيعتنا تجد تحققها في معرفة الإله ذاته، إذ تشكل هذه المعرفة الانتقال الأعظم لقوتنا نحو الكمال الملائم لطبيعتنا الإنسانية، وهذا ما عبر عنه سبينوزا صراحة، حينما اعتبر أن معرفة الإله هي الخير والفضيلة الأسمى بالنسبة إلى النفس والذهن.[40] ولكن هذه المعرفة السامية، يجب أن تُحصل بواسطة الجنس الثالث؛ أي بواسطة المعرفة الحدسية، يقول صاحب الإتيقا في هذا الصدد: "من النافع في الحياة، أولا، الاهتمام باستكمال الفهم، أو العقل، على قدر المستطاع، وفي ذلك تكمن سعادة الإنسان السامية أو غبطته؛ لأن الغبطة ما هي إلا رِضا النفس ذاته، الذي ينشأ عن المعرفة الحدسية للإله والحال أن استكمال الفهم كذلك ما هو إلا معرفة الإله."[41]

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هنا هو: كيف يختلف المعنى السبينوزي حول الكمال الإنساني عن المعنى الكلاسيكي، الذي يعود في الأصل إلى الفلسفة الأرسطية[42]، التي تحدد الكمال والغبطة الإنسانيتين بوصفهما نتيجتين للمعرفة التأملية؟

لنترك هذا الإشكال جانبا الآن؛ لأن الإجابة عنه ليست موجودة في الكتاب الرابع من الإتيقا، وإنما في الكتاب الخامس منه، الذي سنعرج إليه بعد قليل. لكن قبل ذلك، ما يثير انتباهنا هو أن سبينوزا في نهاية الكتاب الرابع، يؤكد أن هناك تداخلا بين القوة والكمال، وهذا التداخل هو ما يسمح بممارسة الحرية؛ فالإنسان الحر حسب صاحب الإتيقا يعيش وفق أوامر العقل وحده، ولا يقوده الخوف من الموت، ويرغب في الخير مباشرة، كما أنه يرغب في حفظ بقائه "حسب المبدأ القائل بوجوب البحث عما هو نافع لنفسه"[43]، وليس تأمل الموت؛ لهذا فهو يرى في الفِرارِ الذي يساعده في حفظ وجوده، وتجنب المخاطر شجاعة حقيقية.[44] إضافة إلى ذلك ترتبط حرية الإنسان حسب سبينوزا ارتباطا وثيقا بالتزامه بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ فالإنسان الذي يقوده العقل لا يقوده أبداً الخوف من قوانين الدولة، التي يعيش فيها، فرغبته في احترام "قواعد الحياة والمنفعة المُشتركة"، تقوده إلى احترام القوانين العامة للدولة، وذلك حتى ينعم بحرية أكبر.[45] إن الإنسان الحر ميالٌ إلى الخير والحب نابذ للكراهية، حيث يحب لنفسه ما يحب لغيره، "لا يكره أحداً ولا يغضب ولا يحسد ولا يحتقر أحدا، ولا يبدي أدنى زهو بالذات."[46]

إن "النموذج" (le modèle) الذي تحدث عنه سبينوزا في مقدمة الكتاب الرابع، هو في الحقيقة علاقة تأسيسية بين المعرفة (la connaissance) والفعل (l’action) اللذين يقودان إلى الكمال. إن إشكال كمال الطبيعة البشرية لا يمكن أن نجد له جواباً نهائيا في عبارة "نموذج الطبيعة الإنسانية" فقط، التي تم ذكرها في الكتاب الرابع، إذ إن هذا النموذج لا يجد تأكيد قوته النموذجية (التي تتجلى في المعرفة الحدسية للإله) إلا في الكتاب الخامس من الإتيقا، الذي يبسط فيه سبينوزا بشكل صريح الطريقة التي تجعل القوة والكمال الإنساني يزداد وينمو. لكن هذه المرة ليس بارتباطهما بالنموذج. الشيء الذي يجعلنا نطرح التساؤلات التالي: هل مفهوم الكمال الذي عرضه سبينوزا في الكتاب الخامس يختلف عن الكمال الذي بَسطه في الكتاب الرابع؟ وهل هناك تغيّر بخصوص مفهوم القوة؟ بعبارة أخرى، هل ستكون هناك قوة أخرى أعظم من القوة التي تحدث عنها صاحب الإتيقا في الكتاب الرابع، يمكن أن تُسند إليها الطبيعة البشرية، والتي كما قلنا لن تنطوي تحت لواء النموذج؟

ربما الجواب عن هذه التساؤلات نعثر عليها في حديث سبينوزا عن الكمال بارتباطه بمفهوم الحب العقلي للإله (de Dieu l’Amour intellectuel)، الذي ينشأ بالضرورة انطلاقا من الجنس الثالث من المعرفة، إذ إن المعرفة الحدسية بذواتنا وبماهية الإله تثير أعظم فرحٍ في نفوسنا. إنها أكثر الإدراكات كمالاً؛ لأنها تبعث ارتياحا ورِضاً بالذات (acquiescentia).[47] نحن الآن، نتعامل مع قوة إنسانية جديدة فريدة من نوعها، ومن ثمة مع كمال جديد يرتبط بالجنس الثالث من المعرفة، "الذي كلما تفوقنا فيه كنا أكثر وعيا بالإله وبأنفسنا، ومنه كنا أكثر كمالا وغبطة."[48] فالنفس من جهةِ كونها أزلية تعرف الإله، وهذه المعرفة هي بالضرورة تامة، وبنفس الطريقة فالذهن من حيث كونه أزليا فهو قادر على معرفة كل ما يترتب على هذه المعرفة التي تنتجها معرفة الإله. وهذا ما يجعل الذهن من حيث كونه أزليا، علة مُطابقة أو صورية لهذه المعرفة.[49] ومن هنا نفهم كيف أن الذهن حسب سبينوزا، لا يتوفر على قدرة معرفة الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة فحسب، بل يتحدد أيضا باعتباره علة صورية لهذه المعرفة؛ وهذا يعني أن هذه المعرفة التي يؤسسها الذهن لا تكون بفعل تأثير خارجي (علة خارجية)، وإنما بواسطة قوة داخلية.[50]

هذا التحديد الجديد لمفهوم القوة، يتوافق مع امتلاك الغبطة -وهنا نقول امتلاكها وليس انتقالها كما هو الشأن في السابق- إذ إن الكمال المرتبط بالغبطة، لم يعد يتأسس على انتقال القوة من كمال أقل إلى كمال أعظم، ولكن أصبح يتأسس على "التزويد" (dotation) الداخلي؛ أي إن النفس/الذهن أصبحت تمتلك كمالها داخليا دون الحاجة إلى علة خارجية حتى تنميه، يقول سبينوزا في هذا الصدد: "إذا كان الفرح يتمثل في الانتقال إلى كمال أعظم، فإن الغبطة ينبغي أن تتمثل في الذهن [بوصفها] الكمال نفسه."[51]

إن الكمال هنا أصبح هو الفضيلة ذاتها التي يمتلكها من يصل إلى الغبطة؛ أي من يصل إلى الجنس الثالث من المعرفة، على اعتبار "أن أسمى فضائل الذهن هي فهم الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة."[52] وقدرة الذهن على فهم الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة، تزداد بازدياد رغبته في فهم الأشياء بواسطة هذا الجنس نفسه من المعرفة.[53] وهنا يكون الذهن مُعتمداً على ذاته في الوصول إلى هذا النوع من المعرفة. وانطلاقا من هذه القدرة الجديدة في الإدراك ينشأ "الحب العقلي للإله"، باعتبارها حبا أزليا؛ إذا مثلما أن المعرفة المترتبة عن الجنس الثالث من المعرفة أزلية، فبالمثل يكون الحب العقلي للإله أزليا[54]. وبالرغم من كونه ليس له بداية، إلا أنه مع ذلك يمتلك كل كمالات الحب، وذلك لكون نشوء الجنس الثالث من المعرفة يُصاحبه فرحٌ بفكرة الإله، باعتباره علةً، لهذا فحبُّنا له ينشأ من حيث تصورنا له أزليا (حسب لازمة القضية 32، الكتاب الخامس). وقد سبق لسبينوزا أن بين في القضية 29 أن "كل ما يفهمه الذهن من وجهة نظر الأزل، يفهمه، لا لكونه يتصوّر الوجود الفعلي الحاضر للجسم، وإنما لكونه يتصور ماهية الجسم من وجهة نظر الأزل."[55]

إن عبارة "لديه كل كمالات الحب"[56]، تحيلنا على قوة الحب؛ أي القوة التي تعبر عن الخصائص الإيجابية والبناءة (constructifs) للحب، وبعبارة أخرى، تعبر عن قانون حفظ الذات (la conservation individuelle de soi)، وثبات الجهد (la constance de l’effort)؛ ذلك أن الحب حسب سبينوزا هو "فرح يسعى الإنسان قدر المستطاع في الحفاظ عليه؛ وكلما كان هذا الجهد [أي جهد الحفاظ على الحب] كبيرا كان الحب قويا".[57] وما ينبغي التنبيه له في هذا المقام، هو أن الحب الذي يتحدث عنه سبينوزا في الكتاب الخامس، يختلف عن ذلك الذي تطرق له في الكتابين الثالث والرابع. فالحب العقلي للإله يختلف عن حب الآخرين، فالأول أزلي وكامل، في حين الثاني محدود زمانيا وتسري عليه الديمومة، إذ في أية لحظة يُمكن أن ينقلب إلى كراهية، إضافة إلى كونه يكون مصحوبا بفكرة علة خارجية (حاشية القضية 13، الكتاب الثالث)، على عكس الحب العقلي للإله، فمن حيث كونه أزليا، فهو لا يرتبط بأية علة خارجية، ولا يمكنه أن يستحيل كراهية بأي وجه كان.[58] إن الحب العقلي للإله بهذا المعنى هو عبارة عن قوة كاملة (une puissance parfaite)، وهذه القوة تدرك ذاتها وتدرك العلة الأبدية التي أنتجتها (الإله).

وحده الحب العقلي، إذن، المناسب للكمال، بوصفه امتلاكا وهبة للقوة المنسوبة للذهن البشري؛ فالتداخل بين الحب العقلي وقدرة الذهن على إدراكه هو في الحقيقة ضرورة يفرضها التلاقي الموجود بين الإنتاج التكويني (la production génétique) والجنس الثالث من المعرفة. إذ لا يمكن للذهن أن يتصور شيئا من وجهة نظر الأزل، إلا من حيث كونه يتصور ماهية جسمه (تكوينه) من وجهة نظر الأزل؛ أي من حيث كونه أزليا، وهذا ما أكده سبينوزا في القضية التاسعة والعشرون، كما رأينا سابقا. فالذهن حينما يصل إلى معرفة الإله، تصبح معرفته مُطابقة، أي كلية؛ إذ لا يمكنه أن يدرك الإله بكيفية أخرى غير تلك التي أدركه بها في المعرفة التي حققها حوله. هنا تُصبح معرفة الإله معرفةً واضحة ومتميزة وكاملة ومُشتركة.[59]

إن تحقيق الإنسان لمعرفة مُطابقة حول الإله يجعله يحقق معرفة الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة، الشيء الذي يجعل الذهن –من حيث كونه أزلياً- يكون هو العلة المُطابقة والصورية لهذه المعرفة (formelle ou adéquate cause). فمن خلال ممارسته لهذا النوع من المعرفة، يُطور الذهن قدرته على معرفة كل الأشياء المترتبة (الناتجة) عن هذه المعرفة المُعطاة للإله. وهذا ما أكده سبينوزا صراحة في القضية 40 من الكتاب الثاني، حينما اعتبر أن "كل الأفكار التي تُنتج في الذهن، عن أفكار تامة، تكون بدورها أفكارا تامة."[60] وحين يصل الذهن إلى هذه المعرفة يكون قد بلغ أقصى حد من قوة التفكير الموجودة فيه، الشيء الذي يجعله أزليا حسب البديهية الثالثة الواردة في الكتاب الأول القائلة: بأنه متى ما "وُجدت علة محددة مُعطاة نَتُجَ عنها بالضرورة معلول ما".[61] وهنا نجد أن هناك علاقة ضرورية بين العلة والمعلول، وهو ما تعبر عنه العبارة اللاتينية "sequitur" التي تقابل في اللسان العربي "ينتج عنه" أو "يترتب عنه" (suit)، وقد حاول سبينوزا تطبيقها من خلال ربطه الجنس الثالث من المعرفة مع الحب العقلي للإله الذي هو في الأصل مُترتب عن هذه المعرفة، ومن ثمة هو نتاج الذهن من حيث كونه أزليا.[62]

ينتج عن هذا، مُحايثة بين الكمال الإنساني والكمال الإلهي (القضيتين 35 و36، من الكتاب الخامس)، حيث أصبحت هناك وشيجة بين الحب العقلي للإله والحب الذي يحب به الإله ذاته. ولما كانت طبيعة الإله طبيعة لا مُتناهية (حسب برهان القضية 35 من الكتاب الخامس، والتعريف الثاني من الكتاب الثاني)، فإن كماله سيكون لا مُتناهٍ أيضا، الشيء الذي يجعل حب الإله لذاته لا مُتناهيا أيضا، ما دام هذا الحب نابع من علته الذاتية. وبما أن ما يشعر به الذهن من حب عقلي للإله لا يختلف عن الحب الذي يحب به الإله نفسه، -لا من حيث كونه لا مُتناهٍ، وإنما من حيث كونه أزليا قياسا إلى ماهية الذهن الأزلية- فإن الحب العقلي للإله هو جزء لا يتجزأ من الحب اللامتناهي الذي يحب به الإله ذاته.[63]

إن الذهن من حيث كونه فاعلا، ينظر إلى الإله من حيث كونه علة من جهة، وأزليا من جهة أخرى؛ أي من جهة كونه علة لوجود الأشياء وعلى لماهيتها أيضا، على اعتبار أن سبينوزا يُماهي بين هاتين العلتين، ويعتبر أن الذهن البشري جزء من فهم الإله اللامتناهي (حسب لازمة القضية 11، الكتاب الثاني). وبالتالي، يكون الحب المرتبط بالذهن والنفس البشرية هو الآخر جزء لا يتجزأ من الحب اللامتناهي لحب الإله لذاته.[64] وهذا ما يترتب عنه أن الإله يحب البشر من حيث كونه يحب ذاته؛ لأن حب الإله لذاته والحب العقلي للإله هما نفس الشيء (حسب لازمة القضية 36، الكتاب الخامس).

إننا إذن، أمام حب مشترك (commune) ومن ثمة أمام كمال مشترك، يتوافق فيه كمال الإله وكمال الذهن البشري، حين انتقاله من الجنس الثاني من المعرفة إلى الجنس الثالث منها، والتي يدعوها سبينوزا "بالمعرفة الحدسية". هذه المُحايثة بين هذين الكمالين وهذين الحبين، تجعلنا نُحصِّل الغبطة والحرية باعتبارهما نتيجتين حتميتين للحب الدائم والأزلي للإله، وحب الإله للبشر. فالذهن البشري من حيث تعلقه بالإله وحبه له عقليا، يحقق الفرح بوصفه انفعالا إيجابيا يقود النفس البشرية نحو السكينة والطمأنينة. أما الغبطة، فإنها مع هذا الحب المُحايث (أي حب الإله لذاته وحب الإله للبشر من جهة كونهم يحبونه عقليا)، ستكون كما يقول دولوز فرحٌ يزيد ويزكي قوة فعلنا، إنها فرحٌ نابع بصورة مُطلقة من ذاتنا كما هي في الإله وكما يتصورها الإله.[65]

ولنا أن نتساءل في هذا المقام عن الكيفية التي يحب بها الإله ذاته من جهة، ويحب البشر من جهة أخرى؟ وهذا السؤال يقودنا بدوره إلى إشكال آخر، يتعلق بالفرق بين إدراك فكرة الإله من زاوية الجنسيين الثاني والثالث للمعرفة؟

إن الجواب الذي يقترحه دولوز على هذا الإشكال هو أن فكرة الإله لا تنتمي إلى الجنس الثاني من المعرفة إلا بقدر ما هي مردودة إلى المعاني المشتركة (les notions communes) التي تعبر عنها؛ حيث يكون شرط معرفتنا هي أن نصل إلى فكرة الإله بواسطة هذه المعاني المُشتركة. لكن، فكرة الإله ليست في حد ذاتها أحدا هذه المعاني، بل على العكس من ذلك، هي من تخرجنا من الجنس الثاني للمعرفة وتكشف لنا عن مضمون مستقل (un Contenu indépendant)؛ حيث لم تعد فكرة الإله تنتمي إلى الخصائص المشتركة، ولكنها أصبحت هي ذاتها جوهراً، تتكون من صفات لا متناهية تُعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية، ومن ثمة أضحى كل ما يوجد، يوجد في الإله، ولم يعد بالإمكان أن يوجد شيء أو يُتصور شيء ما من دون الإله (القضية 15 الكتاب الأول). فحسب سبينوزا حينما تُردُّ فكرة الإله إلى المعاني المُشتركة، فإنها تجعل منه يَمْثُلُ أمامنا باعتباره كائنا مُتسيدا (un être souveraine)، لا يحب ولا يفرح. لكن حينما ننظر إلى هذه الفكرة من خلال الجنس الثالث من المعرفة فإن الأمر يتغير، حيث يصبح الحب والفرح - من حيث كونهما انفعالان فاعلان-، جزءاً من الإله ذاته، ويصبح الفرح الذي نشعر به في الجنس الثالث من المعرفة فرحُ الإله ذاته؛ وذلك لكون الأفكار التي تتبع هذا الفرح تكون أزليةً وتنبعُ مباشرة من الإله، من حيث هو علة.[66]

هناك إذن، نوعان من الحب المرتبطان بالإله: الأول، يكون مصدره الجنس الثاني من المعرفة؛ حيث يصل الذهن إلى محبة الإله عن طريق المعاني المُشتركة، ويحب الإنسان حينها الإله، لكنه لا ينتظر منه أن يحبه في المقابل (القضية 19، الكتاب الخامس). وحبٌّ ثانٍ، مصدره الجنس الثالث من المعرفة ويكون جزءاً من الحب اللامتناهي الذي يحب به الإله ذاته، ويكون هذا الحب يمتلك كل الكمالات الإلهية والإنسانية؛ وذلك لأنه لم يعد يقتصر على مجرد "انتقال في العاطفة"، يحصل في الأحوال، بل أصبحت هذه الأحوال تُعرف وتُحدد انطلاقا من ماهيتها الفردية (essence singulière).

إن ماهية الحب، تكمن في إنتاج نفس القوة الأزلية للحياة، والتي تتجلى في قوة المعرفة الأزلية، التي أصبحت الآن، بفعل الجنس الثالث من المعرفة، متطابقة مع الحياة الأزلية للحب الذي يجعل النفس والذهن أقل تأثُراً بالعواطف القبيحة وأقل خوفا من الموت. يقول سبينوزا في هذا الصدد: "إن الموت يكون أقل ضرراً [حينما] يُحصل الذهن أكبر معرفة واضحة ومُتميزة. وبالتالي، بقدر ما ازدادت هذه المعرفة ازداد معها حب الذهن للإله. وعلاوة على ذلك، ما دام ينشأ من الجنس الثالث من المعرفة أكبر قدر ممكن من الارتياح، فإنه يترتب على ذلك أن النفس الإنسانية يمكنها أن تكون من طبيعةٍ تجعل جزءها الفاني مع الجسم يكون بلا قيمة بالنظر إلى ما يظل باقيا فيها".[67]

إن العلاقة بين القوة الإنسانية والقوة الإلهية، (والكمال الإلهي والكمال الإنساني، والحب العقلي للإله وحب الإله للبشر)، لا يمكنها أن تنشأ إلا من حب الحياة (l’Amour de la vie)، باعتباره وشيجة بين الكمال الإنساني والكمال الإلهي، وغبطتهما المُتبادلة. لهذا يدعو سبينوزا هذا الحب الذي يتداخل فيه الإلهي بالإنساني بالمجد (Gloire)، حيث يقول: "هذا الحب، أو الغبطة، يُسمى في الكتب المُقدسة –عن جدارة واستحقاق مجداً. فسواءً تعلق هذا الحب بالإله أو بالذهن، يحق تسميته بارتياح النفس، وهو لا يتميز عن المجد في الحقيقة. (...) فما دامت ماهية ذهننا تكمن في المعرفة وحدَها، التي يكون الإله مبدأها وأساسها، فإننا ندرك بوضوح كيف وبأي صورة يترتب بها الذهن، من حيث الماهية والوجود عن الطبيعة الإلهية، وكيف يظل هذا الذهن تابعا لهذه الطبيعة باستمرار، وجزءاً منها."[68]

لا ينبغي في الحقيقية الاعتقاد بأن نظرية سبينوزا حول "المجد" الناتج عن الغبطة أو حب الإله الأزلي والثابت للبشر، استنساخا للموقف الديني، بل على العكس من ذلك فهو مُناقض له تناقضا تاما؛ إذ إن الغبطة باعتبارها مجدا كما يقول دولوز: "لا تدل فقط على امتلاك فرح فاعل كما هو في الإله، بل أيضا، على حبٍّ فاعل كما هو في الإله. لهذا يجب دائما تأويل كلمة "جزء" (partie) [الواردة أعلاه] دائما بطريقة تعبيرية (expressive) أو بالأحرى إيضاحية/تفسيرية (explicative)؛ فالجزء ليس هو من يؤلف ولكنه من يعبر ويوضح، إذ إن ماهيتنا جزء من الإله، وفكرة ماهيتنا هي الأخرى جزء من الإله، لكن، ذلك من حيث كون ماهية الإله تُفسر/تُوضح من خلال ماهيتنا (...) وهنا لم تعد فكرة الإله يُعبر عنها بواسطة المعاني المُشتركة بشكل عام، بل أصبحت هي من تُعبر عن نفسها [دون الحاجة إلى علل خارجية]، وتفسر ذاتها في جميع الماهيات وفقا لقانون الإنتاج (la loi de production) المُطابق لها، لهذا فالفرح الذي يختلجنا هو الفرح الذي يشعر به الإله ذاته من حيث كونه يمتلك فكرة عن ماهيتنا، والفرح الذي يشعر به الإله هو الفرح الذي نشعر به نحن، من حيث كوننا نملك الأفكار كما هي في الإله."[69]

إن الإشكال إذن، يكمن في المماثلة بين حب الإنسان للإله وحب الإله للبشر؛ فسبينوزا في الواقع، يتحدث عن الإله من حيث كونه الأساس (le fondement) والركيزة التي يكون الذهن الإنساني تابعا لها ولطبيعتها باستمرار. وفي الواقع كما يقول "أنسالدي" استخدام مثل هذه المصطلحات المُلغزة تجعل المرء يقع في حيرة من أمره، وسبينوزا نفسه يعتذر من القارئ على استخدامه لمثل هكذا كلمات؛ لأنه لم يجد كلمات أخرى يعبر بها عن هذه المماثلة بين الحبين.[70] ولعل هذا ما يجعل من اتحاد القوة الإنسانية مع الكمال الإلهي الناتج عن الحب، يؤثر فقط على الطبيعة البشرية وليس على الإله، وبعبارة أخرى يؤثر في بنيتها الصورية الجسدية والعقلية.

لم يهمل سبينوزا هذه المسألة في نهاية الإتيقا، إذ إن فكرة رضا النفس (باللاتينية: l’animi acquiescentia) التي تعني "كمال القوة العقلية" في الإنسان، والناتجة عن الحب، يرافقها إعادة اكتشاف (redécouverte) قوة جديدة في الجسم ووظائفه ونشاطاته وأفعاله. وهنا بالتحديد تتخذ إشكالية الطبيعة البشرية بُعداً جديدا، حيث تصبح جميع العواطف (الانفعالات الإيجابية les affections) التي تخرج من الجسم مُرتبطة بفكرة الإله. يقول سبينوزا في هذا الصدد: "إن من يمتلك جسما قادرا على القيام بأكبر عدد من الأشياء، يكون أقل خضوعا للعواطف القبيحة؛ أي العواطف المضادة لطبيعتنا، وبالتالي، لديه قوة تنظيم انفعالات الجسم وترتيبها وفق نظامٍ مُطابق للفهم، وبالتالي فإنه يجعل كل انفعالات الجسم تتعلق بفكرة الإله، وذلك لكون الذهن بإمكانه أن يجعل كل انفعالات الجسم، تتعلق بفكرة الإله (حسب القضية 14). وبناءً على ذلك، فهو سيشعر نحو الإله بالحب الذي ينبغي أن يشغل أو يُكّون أعظم جزء في الذهن".[71]

هكذا يكون الجسم يحيا على محبة الإله، وتكون كل كمالات الحب تتأسس على قوة الجسم، هذه القوة الكاملة (parfaite) التي يتأثر بها الجسم نفسه من جهة، والذهن من جهة أخرى. إنها الكمال الازلي الذي يجعل كل انفعالات الجسم والحب بصفة خاصة تتعلق وترتبط بفكرة الإله، باعتباره جوهرا أزليا. هذا الارتباط هو من يسهم في تشكيل وحدة (une communauté) بين قوى الأجسام، حيث يكون الحب العقلي للإله هو الرابطة (le lien) المُحايثة التي توحد بين الأجسام والأذهان/النفوس وتوحد كمالها وقواها أيضا. هذا ما يفضي بنا إلى النتيجة التالية:

"الأجسام أزلية من حيث ارتباطها بفكرة الإله، إذ إن إله الحب (le Dieu de l’Amour) هذا، يمكنه أن يتصَوَّر فقط القوة الأزلية للأجسام أو لنقل كمال ماهيتها (la perfection de leur essence) على اعتبار أن الإله ليس فقط علةً لوجود الجسم الإنساني وإنما علة ماهيته أيضا.[72] أما ما يدركه الذهن من وجهة نظر الأزل (باللاتينية: sub specie aeternitatis)[73]، فهو لا يتصوره من حيث وجود الجسم الفعلي في الحاضر، وإنما يتصوره باعتباره ماهيةً للجسم من منظور الأزل.[74] فما دامت من طبيعة الذهن تصور ماهية الجسم تحت نوع من الأزل، وما دام لا شيء ينتمي إلى ماهية الذهن بمعزل عن الجسم؛ على اعتبار أن موضوع الذهن الإنساني هو الجسم (حسب القضية 13، من الكتاب الثاني)، فإن، القدرة على تصور الأشياء من وجهة نظر أزلية لا تنتمي إلى الذهن إلا من حيث كونه يتصور ماهية الجسم من وجة نظر أزلية. وبالتالي، فالحب هو الذي يجعل الجسم يقوي قدرته على الفعل".

ولما كان سبينوزا لا ينفك عن التأكيد على كون هذه التقوية يجب عليها أن ترتبط بتغير الجسم، فإن الإشكال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو العلاقة القائمة بين صورة الجسم الإنساني وقوته. وهذا ما يجيب عنه صاحب الإتيقا بقوله: "ما دامت الأجسام الإنسانية قادرة على عدد كبير من الأشياء، فلا شك أنها تستطيع أن تكون من طبيعة تجعلها تتعلق بأذهان لديها قدْرٌ كبير من المعرفة بذاتها وبالإله، ويكون أكبر أو أهم جزء منها أزليا، وبالتالي لا تخشى الموت أبداً. لكن كي نفهم ذلك بوضوح أكبر، يجب أن نلاحظ هنا أننا نعيش في تحول مستمر (in continua vivimus variatione) وأننا نسمى سعداء أو تُعساء بحسب تغيرنا نحو الأفضل أو نحو الأسوإ. فمن انتقل من حالة الصغر أو من حالة الطفولة إلى حالة جثة يُقال عنه إنه تَعِسٌ، وبالعكس نعتبرُ السعادة هي قدرتنا على العيش طول ديمومة الحياة بذهن سليم في جسم سليم. فمَن لديه كالصغير أو كالطفل، جسم قادر على عدد قليل من الأشياء ويتعلق إلى أقصى درجة بالعلل الخارجية، كان ذِهنه، إذا اعتُبِرَ في ذاته وحدها، لا يكاد يعي ذاته أو الإله أو الأشياء؛ وبالعكس، إن من لديه جسما قادراً على عدد كبير من الأشياء، يكون لديه ذهن يكون، إذا اعتبِرَ في ذاته، شديد الوعي بنفسه، وبالإله وبالأشياء".[75]

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي الصورة البشرية المُلائمة لهذه القوة القصوى التي يكون بموجبها الذهن واعيا بذاته وبالإله، والتي تُسند إلى طبيعة محدودة؟ وبعبارة أخرى، ما هو الدور الذي تلعبه الطبيعة البشرية المحدودة والمُتناهية في تأكيد وتزكية الحب العقلي والأزلي للإله؟

للإجابة عن هذا الإشكال، ربما يجب علينا أن نعود إلى ما يقوله سبينوزا ذاته، حيث يدعونا في الكتاب الثالث من الإتيقا إلى التفكير في التغيرات التي تلحق قدرات الجسم، فربما يكون هذا التغير يتضمن حداً بدون شك، لهذا يجب على هذه التغيرات أن تتناسب مع بنية الجسم لكي لا يتم تدميره (détruire)، فتقوية قدراته لا يجب أن تؤدي إلى تشويه (déformation) طبيعته. لكن، تبقى حقيقةُ أن على الجسم أن يتغير بالضرورة حتى يكون مُلائما للحب العقلي للإله، والحاجة إلى هذا التغيير لا يمكن أن تشير في هذا الصدد إلا إلى تقوية الجسم (la potentialisation du Corps)؛ أي الوصول إلى كمال في قدراته الناشئة في الأصل من الحب الذي يتأثر به الجسم. يقول سبينوزا: "لا بد من أن نُلاحظ بصدد الحب، أنه عادة ما يحدث في الوقت الذي نتمتع فيه بالشيء الذي نشتهيه، أن يكتسب الجسم بهذه المُتعة بنية جديدة تحدده بشكل مُغاير، وأن تُثار فيه صورٌ أخرى للأشياء، وأن يشرع الذهن في تخيل شيء آخر وفي الرغبة فيه، في الوقت نفسه".[76]

وبالتالي، فتجربة الحب العقلي تقدم نفسها بدون شك، باعتبارها "لقاءً مُتكرراً" (rencontre fréquente)، مع الشيء الذي نرغب فيه ونشتهيه، وهو لقاءٌ يؤثر علينا بسعادة قصوى، الشيء الذي يجعل الجسم من خلال هذا الفرح وهاته السعادة مُكتسبا لحالة جديد (un état nouveau)؛ وهذه الحالة الجديدة يمكنها أن تؤدي إلى تحديد جديد للجسم البشري وبنيته. وبعبارة أخرى، تُزكي قوته على الفعل من جديد. لهذا يجب أن يُفهم هذا التحديد الجديد (أو العزم الجديد حسب ترجمة أحمد العلمي) (la nouvelle détermination) بالمعنى المُوافق لما يسميه "أنسالدي" ب: "التقوية المُمتدة"[77] (intensification accrue) لقوة وقدرة الجسم وتأثره بالحب الأزلي (l’Amour éternel)، حيث يكتسب الجسم بفعل هذا التأثر قوة على تنظيم الانفعالات وترتيبها وفق نظامٍ مطابق للفهم، الشيء الذي يجعل كل انفعالات الجسم تتعلق بفكرة الإله (برهان القضية 39، الكتاب الخامس)، وهذا ما يقوده إلى الغبطة، باعتبارها تأكيداً إيجابيا لطبيعته الجديدة التي صارت مُرتبطة ارتباطا وثيقا بماهيتها الفعلية؛ أعني: "حب الإله".

إن هذا التحديد الجديد لقوة الجسم وقدرته، جعل منه مصدراً للكمال ومُنتجا له في نفس الوقت، إذ أصبحت قوته ترتبط بالفعل والانفعال؛ وذلك لاتحاده مع النفس/الذهن التي أصبحت مع "المحبة العقلية" تدرك ذاتها تماما والإله والأشياء. من زاوية النظر هذه، يكون التأكيد الذي ضمنه سبينوزا في التعليق على القضية الثانية من الكتاب الثالث القائل بأننا: "لا نعرف ما الذي يستطيعه جسم ما"[78] لا يبقى فقط صالحا في نهاية الإتيقا، ولكنه يصبح مُرتبطا أكثر بمفهوم الحب العقلي للإله.

نحن إذن، نواجه نوعين من التغيرات التي تؤثر على الجسم: الأولى، تشير إلى تشوه يلحقه، كون أجزائه مهيأة بكيفية تحقق فيما بينها نسبة مغايرة من الحركة والسكون. وفي هذه الحالة، يتعرض الجسم إلى تغير في طبيعته؛ حيث يستحيل من طبيعة إلى طبيعة مُختلفة تماما، "مع بقاء الدم وبقاء الوظائف الأخرى التي يُعتقد أنها تجعل الجسم حياّ."[79] ويعطينا سبينوزا مثالا حول هذا النوع من الجسم، حيث يقول:

"إن الأشياء التي تجعل أجزاء الجسم الإنساني في نسبة مُغايرة من الحركة والسكون (التعليق على القضية الثانية من الكتاب الثالث)، تجعل أيضا الجسم الإنساني على صورة مُغايرة؛ أي إن الجسم الإنساني يتلُف، وبالتالي، يصبح غير قادر على الانفعال بكيفيات كثيرة (...) [لكن] ليس هناك ما يجعلني أسلّم بأن الجسم لا يموت إلا إذا تحول إلى جثة. والواقع، أن التجربة نفسها تثبت خلاف ذلك. إذ يحدث في بعض الأحيان أن تطرأ على إنسان مثل هذه التغيرات، حيث لن أقول بسهولة إنه هو عينه؛ ذلك ما سمعته عن شاعر إسباني أصيب بمرض وظل مع ذلك، حتى بعد شفائه منه، في نسيان عميق لحياته الماضية، حيث لم يصدق أن القصص القصيرة والتراجيديات التي كان قد ألفها هي من تأليفه؛ وكان يمكن اعتباره كهلا طفلا لو نسي لغته الأم. وإذا كان ذلك أمرا لا يصدق فما عسانا نقول عن الأطفال؟ يعتقد رجل مُتقدم في السن أن طبيعتهم شديدة الاختلاف عن طبيعته، حيث لن يقتنع بأنه كان طفلا، إذا لم يحكم على نفسه من خلال الآخرين".[80]

أما النوع الثاني من التغيرات التي تلحق الجسم، فتشير عكس النوع الأول، إلى تقوية (potentialisation) قدرات الجسم على أساس العزم (détermination) الأقصى لصورته أو طبيعته. وبالتالي، فالنوع الأول من التغيّر ينتج عنه إبادة الجسم (l’annihilation du Corps). أما النوع الثاني، فيسمح لنا بتصور "كل ما يستطيعه جسم ما في هذه الحياة".[81] إن الجسد الذي يحيا في محبة الإله والذي تتعلق قوته بتأثره بفكرة الإله ذاته، التي تسطو على هذه القوة بشكل كامل، وعلى ماهيةِ وأزليةِ طبيعته. فالجسد يكون في هذا النوع "كما لو أنه وُجد للتو" (comme s’il commençait seulement d’être)، إذ تصبح طبيعة الجسم مُتكاملة بشكل مثالي مع صورته، وتكون هذه الصورة تابعة لكمال قوته، وكل ما تستطيعه طبيعته ذات الفعل الأزلي، التي تجد تحققها في الغبطة الناتجة عن الحب. فالغبطة التي تؤثر على الحب المتعلق بالجسد، تكون مُرتبطة بالتغير الذي تسمح به طبيعة هذا الجسد، وما يتناسب معه.

يبدو لنا أن السؤال الذي يطرح نفسه في نهاية الكتاب الخامس من الإتيقا هو: كيف يمكننا التفكير في قوة مثالية ومُتكاملة تُعزى إلى طبيعة محدودة؟ الجواب الذي يقدمه سبينوزا حول هذا الإشكال يسير بالضرورة عبر تعريف أو لنقل إعادة تعريف (redéfinition) الوضع الأنطولوجي للطبيعة البشرية (du statut ontologique de la nature humaine)، حيث يقلب سبينوزا المسألة ويتحدث عن القوة المثالية التي يمكن أن نعزوها إلى الطبيعة البشرية بوصفها طبيعة محدودة. إن هذا الإشكال في الحقيقة، ينقلنا إلى إشكالات أخرى أكثر تعقيدا، تتعلق بالخصائص والكيفيات المُناسبة لهذه القوة (الجديدة)، والتي تنضوي حسب صاحب الإتيقا ضمن عبارة "الحب العقلي للإله". إضافة إلى ذلك، تطرح مسألة كمال هذه القوة الجديدة، إشكالا مُرتبطا بكمال الطبيعة البشرية وأزليتها الناتج عن هذه العلاقة السببية بينها وبين هذا الحب العقلي للإله، إذ إن النفس والذهن صارا يحملان نفس صفة الجسد من حيث الأزلية.[82]

إن جهد سبينوزا إذن، قد انصب في التفكير حول إقامة توازي (parallélisme) بين النفس/الذهن والجسم، حيث أصبح من "يملك جسما لديه عددا كبيرا جدا من الاستعدادات (d'aptitudes)، كان الجزء الأعظم من نفسه أزليا."[83] وصارت الغبطة الأزلية للجسم تعني امتلاك الذهن القدرة على الفعل وتقليله من الانفعال. وهنا أضحت مسألة كمال القوة البشرية (القوة الفاعلة لا المنفعلة)، مُتعلقة بالنفس والجسم، باعتبارهما مكونين مُتوازيين من حيث الأزلية للطبيعة البشرية المحدودة والمُتناهية. لكن السؤال الذي يبقى عالقا في هذا السياق، هو كيف لشيء يكون أزليا وفي نفس الوقت متناهيا ومحدودا؟ في الواقع، المحدودية هنا (finitude) تفيد: الموت من جهة، و"أقصى ما يمكن أن تصل إليه الطبيعة البشرية" من جهة أخرى، والذي كما سبق وأن أشرنا، لن يكون سوى الحب العقلي للإله (بوصفه أقصى ما يمكن أن تصل إليه هذه الطبيعة). وهذا ما يجعلنا نقول إن إتيقا الحب (l'éthique de l’Amour) التي يريد أن يؤسس لها سبينوزا في الكتاب الخامس، تتعلق بفكرة الإله من حيث كونها فكرة أزلية وكاملة، الشيء الذي يجعل الطبيعة البشرية -التي تمارس هذا الحب- مُتعلقة هي الأخرى بهذه الفكرة، حيث تصبح من خلالها قوة هذه الطبيعة المحدودة فاعلةً لا منفعلة بفعل تأثير الحب العقلي عليها.

إن الحب العقلي للإله يجعل الطبيعة البشرية من حيث كونها محدودة ومتناهية قياسا إلى الجزء الفاني في الجسد (والذي هو كما رأينا جزء ضئيل بالمقارنة مع الجزء الأزلي)، تنتقل إلى الكمال اللامتناهي عبر قوة الحب العقلي للإله؛ لأنها أصبحت فاعلة وقللت من انفعالها؛ لهذا يقول سبينوزا: "بقدر ما يزداد كمال كل شيء، يكبر فعله ويقل انفعاله؛ وبالعكس، بقدر ما يزداد فعله، يزداد كماله."[84] ومن هنا نفهم أن إتيقا الحب العقلي تسعى إلى الارتقاء بالإنسان وطبيعته من كمال أقل إلى كمال أعظم. إنها تجعل الحب ينتقل من مجرد انفعالٍ للجسم (كما تم تعريفه في الجزء الثالث من الإتيقا)، إلى قوة فاعلة في ماهية الجسم ذاتها (الكتاب الخامس). فالحب الأول انفعال يرتبط بالحس (الجنس الأول من المعرفة) يمكنه في أية لحظة أن يستحيل إلى الكراهية. أما الحب الثاني، فعاطفة ترتبط بالذهن وهو أزلي؛ لأنه مرتبط بالجنس الثالث من المعرفة (العلم الحدسي)، ولا يمكنه أن يتحول إلى كراهية (لأنه حسب القضية 18 من الكتاب الخامس، "لا أحد يمكنه أن يكره الإله، لأن وجوده وجود مُطابق وكامل، وبالتالي لا يمكن أن يترتب عنه حزنٌ ما"[85]).

بهذا المعنى، يصير لدينا نوعان من الحب في إتيقا سبينوزا؛ الحب الأول يرتبط بالإله، نسميه "حبا فاعلا"، ليست له أية غاية أو هدف (مصلحة)، وحب ثانٍ نسميه مُنفعلا (l’amour-passion)، تكون له غاية ومصلحة محددة.[86] فالأول يمتلك كل كمالات الحب، لأنه حسب القضية 40 من الكتاب الخامس "الشيء الذي يكون أكثر كمالا هو الذي يكون له أكثر فعلا"، إضافة إلى ذلك يكون هذا النوع من الحب مرتبطا بالفهم (لأنه أزلي حسب لازمة القضية 40 من الكتاب الخامس)، فضلا عن كونه يجعلنا فاعلون، عكس الحب الثاني المُنفعل فلأنه مُرتبط بالخيال، فهو يجعلنا مُنفعلين.[87]

هكذا نخلص في نهاية هذا التحليل، إلى أن الصورة المُلائمة للطبيعة البشرية وإتيقا هذه الطبيعة، تجد أصلها في الحب الكامل واللامتناهي للإله؛ دون أن يشير هذا الكمال إلى إقرارٍ بوجود تماهي/تطابق بين الإله والإنسان، إذ إن فعل الإله حسب الفلسفة السبينوزية لا يتأسس على إنقاذ الطبيعة البشرية (sauver la nature humaine) المحدودة، بمنحها حرية التصرف في قواها وفق هواها وميولاتها وانفعالاتها، بل يتأسس على تمكين هذه الطبيعة من قوة تجعلها تتحكم في هذه الانفعالات، وتقلل من السلبية منها وتزكي الإيجابية. إن خلاصنا (notre salut) وغبطتنا وحريتنا تتأسس في الواقع، انطلاقا من حبنا الدائم والأزلي للإله، وكذلك من حب الإله للبشر. وهنا تكون القوة الكاملة للطبيعة البشرية في تواطؤ بين الخلاص والغبطة والحرية والحب، هذا التواطؤ الذي يقودنا إلى لغة المُحايثة الراديكالية (le langage de l’immanence radicale) التي تحدثنا عنها في البداية، والتي تجد تعبيرها في الترادف بين هذه المفاهيم (الخلاص، الغبطة، الحرية، الحب).

في نهاية الإتيقا، يحضر الحب بوصفه الاسم المُشترك، الذي يشير إلى المزج المثالي بين محدودية الإنسان ولا تناهِي الإله؛ إذ بفضل هذا المزج تكون الطبيعة البشرية و"كل ما يستطيعه جسمها" قياسا إلى الحب العقلي للإله، مُطابقة (adéquate) مع ماهية هذا الإله وتعبيرا عنها، حيث تكون عواطفنا تعبر بصورة مُطابقة عن هذه الماهية الأزلية. وهذا ما يجعلنا حسب دولوز "نصير تعبيريين بالكامل."[88] إذ إننا في الجنس الثاني من المعرفة لم نكن نأمل إلا بغبطة جزئية. أما الآن مع الحب العقلي للإله، فأصبحت الغبطة تملؤنا بالكامل. وبناءً على ذلك، لم تبق أية رواسب (résidu) للقوة الخالصة، فكل قوة تُحمل وتُعزى إلى ماهية الإله ومحبته العقلية. وهكذا يكون الإشكال الذي عرضناه سابقا حول إسناد القوة الكاملة إلى الطبيعة البشرية، يجد في الحب العقلي للإله مبدأ يستند عليه ومعياراً لإمكانية القول بكمال هذه القوة، على الرغم من كون هذه الطبيعة محدودة.

على هذه الشاكلة ينتهي هذا النص البديع في تفاصيله ومضامينه، بالتأكيد أن الخلاص؛ أعني تحقيق النفس للتحرر من الانفعالات السلبية وتزكية العواطف الإيجابية، ليس سهل المنال، إذ إنه "غاية في الصعوبة. ومع ذلك، فإنه يمكن بلوغه [بالعمل الدؤوب]، فلو كان الخلاص سهل المنال وكان الفوز به ممكنا دون عناء كبير، لما أهمله الجميع تقريبا، لكن كل ما هم رفيع يكون صعبا بقدر ما يكون نادرا."[89]

وهنا نفهم أن الخلاص عند سبينوزا، ليس مواساةً أو مُكافأةً سيتقاضاها الإنسان في الآخرة مُقابل ما يستحقه وما عناه في الدنيا كما شأن التصورات الدينية، ولا هو أيضا إنقاذ النفس من خطر الوقوع في الخطيئة. فكل هذه المعاني المرتبطة بالخطيئة والجزاء والمُواساة، تعد بعيدة كل البعد عن الإتيقا السبينوزية. إن الخلاص السبينوزي يكمن في "الحكمة" ومعرفة الصواب والخطأ وتحقيق رضا النفس وارتياحها. كتب سبينوزا إلى أولدنبرغ حول هذه المسألة، فقال: "وحتى أكون أكثر وضوحا، أقول إنه ليس من الضروري إطلاقا أن نعرف المسيح معرفة عينية كي نفوز بالخلاص، لكن يختلف الأمر تماما إذا تعلق بابن الإله السرمدي؛ أعني بالحكمة الإلهية الأزلية إذ تتجلى في كل الأشياء، ولا سيما في فكر الإنسان، (...) فلا أحد يستطيع أن يبلغ السعادة بدون هذه الحكمة؛ لأنها وحدها من تعلمنا ما هو صائب وما هو خاطئ، وما هو الخير وما هو الشر".[90]

 

قائمة المصادر والمراجع

- Saverio Ansaldi, Amour, perfection et puissance: un modèle de la nature humaine ? En marge de la Cinquième Partie de l'Éthique (Spinoza et G. Bruno), Dans Archives de Philosophie 2001/4 (Tome 64), pages 741 à 756; in: site web; https://www.cairn.info/revue-archives-de-philosophie-2001-4-page-741.htm.

- Gilles Deleuze, Spinoza et le problème de l'expression, (Paris: Éditeur Minuit, 1968(

- Aristote, Éthique à Nicomaque, Livre 10, Chapitre 7, (1177 a-1178a), Traduction: J. Tricot.

- Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, (Paris: Éditions de l'Éclat, 2005.

- Pierre Macherey, Introduction à l'Ethique de Spinoza: La cinquième Partie. Les voies de la libération, (Paris: PUF, 1994(

- P.-F. Moreau, «Métaphysique de la gloire. Le scolie de la Proposition 36 et le «tournant» du livre V», in Revue Philosophique de la France et de l’Etranger, tome CLXXXIX, 1994, 1

- سبينوزا، الإتيقا، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد العلمي، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2010).

- سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، مراجعة جورج كنتورة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009).

- رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009).

- رينيه ديكارت، انفعالات النفس، تقديم وترجمة: جورج زيناتي، (بيروت: دار المُنتخب العربي، 1993).

- فكتور دلبوس، الإشكال الأخلاقي، في فلسفة سبينوزا وفي تاريخ الفلسفة السبينوزية، ترجمة: أحمد العلمي، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2018).

- جيل دولوز، سبينوزا فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2015).

[1]- باحث مغربي، وأستاذ مادة الفلسفة في السلك الثانوي التأهيلي، حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة والفكر المعاصر.

 

[2]- سبينوزا، الإتيقا، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد العلمي، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2010)، ص 319

[3]- يقول ديكارت واصفا الإرادة المُطلقة التي منحها الإله للإنسان: "إن تجارب وجداني تشهد بأن لي إرادة ضافية مُترامية لا تحصرها حدود ولا تحبسها قيود. وبما يبدو لي هنا جديرا بالمُلاحظة أنه ما من قوة أخرى من قوى نفسي مهما تبلغ من كمال وعظمة، إلا وأتبين أنه كان من الممكن أن تكون أكمل وأعظم مما هي [عليه]. فإذا نظرت مثلا إلى ما لدي من قوة التصور، وجدت أن نطاقها ضيق محدود جدا، وتمثلت في الوقت نفسه فكرة قوة أخرى أوسع منها كثيرا بل غير مُتناهية ولا محدودة. (...) أما الإرادة أو حرية الاختيار فقد خبرتها في نفسي فوجدتها وحدها كبيرة للغاية، بحيث لا أتصور غيرها أوسع وأرحب منها. ولما كانت إرادتي بمثل هذه القوة فهي على وجه الخصوص الأمر الذي يجعلني أحكم أني على صورة الإله ومثاله. (...) فالإرادة، إنما تقوم على استطاعتنا أن نفعل الشيء أو لا نفعله، وأن نثبته أو ننفيه، وأن نُقدم عليه أو أن نحجم عنه." رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009)، ص 186-188. وقد رد سبينوزا على القول الديكارتي في القضيتين 48 و49 من الكتاب الثاني، يُنظر: ص 138-147

[4]- الإتيقا، تعليق القضية 2، الكتاب الثالث، ترجمة العلمي، ص 157

[5]- ديكارت، انفعالات النفس، التأمل الأول، الفقرة 50، تقديم وترجمة: جورج زيناتي، (بيروت: دار المُنتخب العربي، 1993)، ص 40

[6]- نفسه، ص ص 40-41

[7]- نفسه، ص 41

[8]- سبينوزا، الإتيقا، تمهيد الكتاب الخامس، ترجمة أحمد العلمي، ص 321

[9]- ديكارت، انفعالات النفس، التأمل الأول، الفقرة 27، ص 28

[10]- تحضر فكرة العلة الخارجية هنا باعتبارها أفكارا ناتجة عن الجنس الأول من المعرفة الذي يقوم على الحس والتخيل والظن. كما هو معلوم فإن سبينوزا يميز بين ثلاثة أجناس من المعرفة؛ المعرفة الحسية empiriste/sensualiste: تتمثل في الإدراكات الحسية التي نراكمها من خلال التجربة اليومية، وهي تفتقر إلى الدقة العلمية؛ لأنها جزئية وغامضة، تَرِد إلينا عن طريق السمع والتقليد وذكريات التجارب الماضية التي لا نتدخل في فهمها وتصنيفها، وبالتالي تكون معرفة غير دقيقة، فهي تثير الشك في النفوس، لأنها مصدر للأوهام. ثم هناك المعرفة العقلية rationnelle: وهي المعرفة الممكنة والصادقة، التي تحوي المعاني المشتركة، إذ إن جميع الناس يتفقون على صحة المعرفة العقلية لتضمنها على أفكار تامة. والجنس الأخير، وهو أرقى درجات المعرفة، هو المعرفة الحدسية intuitive: وهي المعرفة التي يرتقي فيها الذهن من الفكرة التامة للماهية الصورية لبعض الصفات الإلهية إلى المعرفة التامة لماهية الأشياء، وفيها تصل النفس إلى كمال معرفتها، إذ إنها تصبح قادرة على أن ترى الأشياء رؤية مباشرة؛ فترى مثلا في كل جسم الامتداد الإلهي، وفي كل فكرة الفكر الإلهي، وفي كل صفة من الصفات الجوهر اللامتناهي للإله. وهنا تمتزج معرفتنا بمعرفة الإله، بحيث نصبح ندرك الأشياء في تعالقاتها الأزلية.

- Robin Guilloux, Les trois modes de la connaissance chez Spinoza, in: http://lechatsurmonepaule.over-blog.fr/2014/11/les-trois-modes-de-la-connaissance-chez-spinoza.html#: ~: text=Commentaire%20%3A,elle%20procède%20par%20enchaînement%20déductif.

[11]- فكتور دلبوس، الإشكال الأخلاقي، في فلسفة سبينوزا وفي تاريخ الفلسفة السبينوزية، ترجمة: أحمد العلمي، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2018)، ص ص 176-177

[12]- سبينوزا، الإتيقا، القضية 2 وبرهانها، الكتاب الخامس، ترجمة أحمد العلمي، ص 324

[13]- Saverio Ansaldi est maître de conférences habilité à l'Université de Montpellier III et chercheur à l’ENS Lyon. Il a notamment publié Spinoza et le Baroque (2001), Nature et puissance. Giordano Bruno et Spinoza (2006) et Giordano Bruno. Une philosophie de la métamorphose (2010).

[14]- Saverio Ansaldi, Amour, perfection et puissance: un modèle de la nature humaine ? En marge de la Cinquième Partie de l'Éthique (Spinoza et G. Bruno), Dans Archives de Philosophie 2001/4 (Tome 64), pages 741 à 756; in: site web; https://www.cairn.info/revue-archives-de-philosophie-2001-4-page-741.htm.

[15]- الإتيقا، الكتاب الخامس، القضية 27، البرهان، ترجمة أحمد العلمي، ص 344

‘‘Qui res hoc cognitionis genere conoscit, is ad summam humanam perfectionem transit’’.

[16]- الإتيقا، الكتاب الخامس، تعليق القضية 31، ص347

[17]- الإتيقا، الكتاب الخامس، لازمة القضية 32، ص 348

[18]- باللاتينية: Exemplar humanae naturae

[19]- مقدمة الكتاب الرابع، الإتيقا.

[20]- باللاتينية: modi cogitandi

[21]- سبينوزا، الإتيقا، ترجمة أحمد العلمي، مقدمة الكتاب الرابع، ص 236

[22]- باللاتينية transitio

[23]- نلاحظ هنا بأن سبينوزا عكس التصورات الدينية والسكولائية، التي ترى في الموت أمرا ميتافيزيقيا ولاهوتيا، في حين يراه هو أمرا فيزيائيا؛ إنه عرض يحصل للجسم حين يستنفذ جميع إمكاناته، فمجرد أن تختل القوانين الميكانيكية التي تحكم الأجسام، يحدث الموت. يقول في برهان القضية 39 من الكتاب الرابع: "فالأشياء التي تجعل أجزاء الجسم الإنساني في نسبة مغايرة من الحركة والسكون، تجعل أيضا الجسم الإنساني على صورة مغايرةٍ، أي أن الجسم الإنساني يتلف، وبالتالي يصبح غير قادر على الانفعال بكيفيات كثيرة" سبينوزا، الإتيقا، ترجمة العلمي، ص 276

[24]- الإتيقا، مقدمة الكتاب الرابع، ترجمة أحمد العلمي، ص 236

[25]- نفسه، ص 161

[26]- نُلاحظ هنا التأثير الواضح لفيزياء العصر الحديث على الفكر السبينوزي، وعلى وجه الخصوص الفيزياء الجاليلية والديكارتية بما هي فيزياء عطالية تقر بأن الأجسام تستمر في الحركة إلى ما لا نهاية ما لم توقفها على خارجية، وبالمثل سبينوزا يعتبر أن سعي الأشياء نحو الاستمرار في الوجود (الكوناتيس) لا يتوقف أبدا ما لم تَحُده علة خارجية.

[27]- الإتيقا، ص 162

[28]- "القدرة أو الجهد الذي به يسعى للاستمرار في وجوده ليس بشيء بمعزل عن الماهية الموجودة والفعلية" الإتيقا، برهان القضية 7، الكتاب الثالث، ترجمة أحمد العلمي، ص 161

[29]- باللاتينية: ad majoren perfectionem

[30]- الإتيقا، الكتاب الرابع، تعليق القضية 18، ص 253

[31]- باللاتينية: quantum in se est

[32]- تعليق القضية 45، الكتاب الرابع، ص 282

[33]- برهان القضية 38، الكتاب الرابع، ص 275

[34]- تعليق القضية 20، الكتاب الرابع، ص 256

[35]- "تكون أفعالنا؛ أي هذه الرغبات التي تتحدد بقوة الإنسان أو بالعقل، حسنة دائما" تذييل الكتاب الرابع، من الإتيقا، ص 309، ترجمة العلمي.

[36]- تجدر الإشارة أن سبينوزا يميز بين الانفعالات الفاعلة (affections actives) والانفعالات المنفعلة (affections passives)، فالأولى سعيدة أو بالأحرى فرحة والثانية حزينة.

[37]- الفصل 30 من تذييل الكتاب الرابع، ص 310 من ترجمة جلال الدين سعيد: سبينوزا، علم الأخلاق، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009).

[38]- تمثل هذه المسألة أصالة الموقف السبينوزي وتميزه عن كل التصورات الأخلاقية واللاهوتية، إذ إنه لا يعتبر مفهوما الحسن والقبيح، مفهومان قبليان يتحددان بشكل مسبق، وإنما هما مفهومان يتحددان بعديا. فرغبتنا في الشيء ومدى كونه نافعا ومفيدا لنا، هي التي تدعنا إلى نعته بالحسن، ونفورنا من الشيء لأنه لا يفيد مصالحنا هو الذي يجعلنا ندعوه بالقبيح أو الشرير. راجع بهذا الخصوص الهامش 30 من تعليق العلمي على ترجمة الإتيقا، ص 163

[39]- الفصل 31، من تذييل الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص 317

ربما ينبغي التفكير جديا في المعنى الذي يحيلنا إليه مفهوم المشاركة (participation) عند سبينوزا؛ لأن هذا المفهوم ليس واضحا بما فيه الكفاية عند صاحب الإتيقا ويحتاج إلى المزيد من التوضيح، إذ تبدو مُشاركة المتناهي للامتناهي واضحة ومتميزة في معرض حديثنا عن نظرية المُحايثة (la théorie de l’immanence)، وخاصة الجانب المتعلق بالعلة المُحايثة، التي تسمح بإثارة التفكير حول الأحوال بوصفها أجزاءً (parties) محدودة ومُتناهية، قياسا إلى قوتنا اللامتناهية. لكن، في الحقيقة، لا تقتصر "المشاركة" في خلق علاقة تداخلية (implication) وصريحة بين الجوهر الواحد، والأحوال المتعددة من حيث الكم، ففي حالة القوة الإنسانية وسعيها نحو الكمال مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعتها الحالية (نسبة إلى الحال)، يبدو أن "الفائض الإنتاجي" (excédent productif) (أي إنتاج الانفعالات بشكل مفرط؛ يُنظر الفصل 30 من تذييل الكتاب الرابع)، قد أخذ في الظهور وهو يشير على وجه التحديد إلى ذلك "الانتقال السعيد" (transition joyeuse) للذات نحو التعبير عن العلة المتناهية.

راجع، بهذا الخصوص كتاب جيل دولوز:

-Gilles Deleuze, Spinoza et le problème de l'expression, (Paris: Éditeur Minuit, 1968), chapitre 11, pp. 153-169

الذي يؤكد فيه، على أهمية موضوع "المشاركة" في فلسفة سبينوزا، ولكنه يشرحها في سياق التقابل التاريخي بين منطق الفيض (l’émanation) المثالي ومنطق المُحايثة الإنتاجي (الذي يجد صداه في فلسفة أفلوطين، وسكوت إريجينا، ديونيسيوس الأريوباغي، وأخيرا وليس آخرا سبينوزا).

[40]- القضية 28، من الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص 261

[41]- الفصل الرابع، من تذييل الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص ص 309-310

[42]- راجع بهذا الخصوص: "الفصل السابع من الكتاب العاشر، الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو، حيث يقول: "إن من بين الأفعال المُطابقة للفضيلة أفعال السياسة وأفعال الحرب، التي تفوق غيرها من الأفعال في البهاء أهمية. لكن هذه الأفعال ترمي دائما إلى غرض غريب عنها؛ فهي ليست مطلوبة لذاتها. عكس فعل التفكير؛ فلأنه نشاط تأملي يقتضي جدية أوفى ويطمح إلى شيء آخر غير ذاته ويحوز متعة كاملة وحقيقية –التي تزيد بازدياد هذا النشاط التأملي- هكذا إذن، يكون الاستقلال المُكتفي بذاته والطمأنينة والسكينة وجميع المزايا الأخرى التي يُحقق بواسطتها الإنسان السعادة والغبطة، مُرتبطة بالنشاط التأملي، إذ من المؤكد من المؤكد أن هذا الأخير هو مصدر السعادة الكاملة للإنسان. (...) ومع ذلك لما كانت حياة من هذا النوع فوق طاقة الإنسان قياسا إلى [وضعه داخل الكون]؛ وذلك لأنه غير متعود على العيش بهذه الطريقة، لكن بوجود بعض= =العناصر الإلهية فينا، وبقدر تفوق هذا العنصر الإلهي على المركب الإنساني، بقدر ما يكون نشاط الإنسان هو الآخر متفوقا على ذلك النوع من الفضيلة الأخرى. فإذا كان العقل شيئا إلهيا بالمقارنة مع الإنسان، فإن الحياة وفقا للعقل ستكون هي الأخرى إلهية بالنسبة للحياة الإنسانية. لذلك لا ينبغي أن نستمع إلى أولئك الذين ينصحون الإنسان بأن يقتصر فكره على الأشياء الإنسانية الفانية ... لكن يحب على الإنسان، أن يحاول قدر الإمكان بأن يُخلد نفسه، وأن يفعل كل شيء ليعيش وفقا لأشرف جزء فيه؛ إذ حتى لو كان هذا الجزء ضئيلا قياسا إلى وزنه وقوته وقيمته إلا أن هذا الجزء الصغير يتجاوز بكثير كل الباقي".

- Aristote, Éthique à Nicomaque, Livre 10, Chapitre 7, (1177 a-1178a), Traduction: J. Tricot. pp. 228-229

[43]- يُنظر: القضية 67، الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص 302

[44]- يُنظر: لازمة القضية 69، الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص 304

[45]- يُنظر: القضية 73، وبرهانها، الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص ص 305-306

[46]- القضية 73، الكتاب الرابع، ص 306

[47]- "Acquiescentia in se ipso" التي يمكن ترجمتها أيضا ب: "التوافق مع الذات" (accord avec soi-même) أو ارتياح النفس (le

repos en soi-même)، وأيضا الرضا بالذات (satisfaction de soi) وأحيانا تدل على الإقبال على الذات (la présence à soi)، والبهجة والقدرة على الفعل (le pouvoir d'agir). يُنظر تعليقات روبيرت ميسراحي حول هذه المسألة، الواردة في ترجمته الفرنسية للإتيقا:

- Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, (Paris: Éditions de l'Éclat, 2005), note N° 82-85, p. 519

[48]- حاشية القضية 31، الكتاب الخامس، ترجمة جلال الدين سعيد، ص 341 (بتصرف طفيف).

[49]- القضية 31، وتعليقها، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص ص 346-347

[50]- Pierre Macherey, Introduction à l'Ethique de Spinoza: La cinquième Partie. Les voies de la libération, (Paris: PUF, 1994), p. 146.

[51]- تعليق القضية 33، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 349 (بتصرف طفيف).

[52]- برهان القضية 25، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 343

[53]- القضية 26، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 343

[54]- نشير فيه هذا السياق إلى أن سبينوزا يتحدث عن الأزلية وليس الخلود؛ وذلك لأن هذا الأخير يعني الاستمرار في الزمان، بينما المقصود بالأزلية ما لا يسري عليه الزمان، وما لا شيء قبله ولا شيء بعده، وهو ما سُمي في الفلسفة الإسلامية "بالقدم". وقد سبق لسبينوزا أن عرف ما يقصده بالأزل في "أفكار ميتافيزيقية، حينما اعتبر أن الإله أزلي بنفس المعنى الذي تكون به ماهية الدائرة أزلية. (يُنظر: علم الأخلاق، ص 340، ترجمة جلال الدين سعيد.)

راجع بهذا الخصوص التعليق الذي خصصه روبير ميسراحي للحديث عن هذا المفهوم، حيث يقول:

« L'éternité réside dans le rapport de signification d'une existence à une essence éternelle: l'existence est alors vérité («vérité éternelle ») et signification sans référence à la durée empirique. Ainsi, l'éternité est posée simultanément comme existentielle et comme gnoséologique, tout en étant située hors de la durée, c'est à-dire hors temps. » Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, op-cit. note N° 15, p. 411

[55]- القضية 26، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 345 يقول سبينوزا في تعليقه على هذه القضية: "نحن نتصور الأشياء على أنها فعلية بكيفيتين اثنتين: إما من حيث كوننا نتصورُ أنها موجودة في علاقة بزمان ما ومحلٍّ ما، أو من حيث كوننا نتصور أنها مُتضمنة في الإله وأنها تترتبُ على ضرورة الطبيعة الإلهية. والحال أن تلك التي تُتصور بهذا الشكل الثاني وكأنها حقيقية أو واقعية، نتصورها من وجهة نظر الأزل، وأفكارها تنطوي على الماهية الأزلية واللامتناهية للإله." نفسه، ص 346

لا وجود لماهية أزلية بحد ذاتها، بل الجوهر الإلهي وحده الأزلي، بموجب ذاته، لهذا فكل ماهية لا تكون أزلية إلا بموجب علة، التي لن تكون سوى الإله ذاته. وبالتالي، فكل ماهية أزلية لن تكون إلا مُتصورة من خلال هذه العلة المُنبثقة منها. فهي إذن، بالضرورة، مُتصورة وفق الضرورة الأزلية التي تُشتق من هذه العلة. ومن هنا نفهم لماذا سبينوزا يتحدث عن الفكرة التي تعبر عن ماهية الجسم من منظور الأزل والموجودة في الإله (القضية 22، الكتاب الخامس)، فالجسم إضافة إلى جانبه المادي الممتد (extensives)، هناك جانب آخر أزلي مُكثف (intensive) يستمد أزليته من علة ماهيته؛ أي من الإله، ومن ثمة فماهية هذا الجسم تُتصور بالضرورة بماهية الإله الأزلية ذاتها. ونفس الأمر بالنسبة للذهن، إذ يضم أجزاء ممتدة، من حيث أنها تعبر عن وجود الجسم في الديمومة أي في الزمن، وله أيضا أجزاء أزلية هي بمثابة فكرة لماهية الجسم (l'idée de l'essence du corps). وهذا ما يجعل الذهن يمتلك ملكةً، أي قوةً تُفسَّرُ بماهيته الخاصة؛ قوة فعالة للفهم (puissance active de comprendre) بصفة عامة، ولفهم الأشياء بواسطة الجنس الثالث من المعرفة ضمن نوع من الأزلية. إضافة إلى ذلك يمتلك الذهن من حيث كونه يعبر عن الوجود الفعلي للجسم في الديمومة، قوة على تصور الأجسام الأخرى ضمن نوع من الأزلية. (القضية 29، وبرهانها).

يُنظر: - Gilles Deleuze, Spinoza et le problème de l'expression, op-cit, chapitre 19, pp. 291-292

[56]- باللاتينية: Habet tamen omnes Amoris perfectiones

[57]- برهان القضية 38، الكتاب الثالث، ترجمة العلمي، ص. 189. يُنظر أيضا: تعليق القضية 13، الكتاب الثالث، ص 167

[58]- Cf. à ce propos, P.-F. Moreau, «Métaphysique de la gloire. Le scolie de la Proposition 36 et le «tournant» du livre V», in Revue Philosophique de la France et de l’Etranger, tome CLXXXIX, 1994, 1, p. 55-64

وقد انتبه بيير ماشري أيضا إلى هذه المسألة، حيث اعتبر أن عبارة الحب الواردة في الكتاب الخامس، لا تدل على المعنى الذي وردت به في الجزء الثالث، إذ إن الحب العقلي للإله حسبه هو حب لذاته، لا لعلة خارجية (كما هو حال الحب في الكتاب الثالث، القضية 13) أو موضوع خارجي. وبالتالي فالحب العقلي للإله ليس حبا شخصيا، بل حب ذاتي يرتبط بفكرة الإله من حيث هو ماهية لهذا الحب. راجع بهذا الخصوص: =

= - Pierre Macherey, Introduction à l'Ethique de Spinoza: La cinquième Partie. Les voies de la libération, op-cit, pp. 162-167

[59]- يُنظر: القضية 38، والقضية 46، من الكتاب الأول للإتيقا.

[60]- القضية 40، الكتاب الثاني، ترجمة جلال الدين سعيد، ص. 123. (بتصرف طفيف) - يُنظر أيضا: برهان القضية 31، من الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص. 347

[61]- «D'une cause donnée et déterminée suit nécessairement un effet», Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, op-cit. p. 84

[62]- Pierre Macherey, Introduction à l'Ethique de Spinoza: La cinquième Partie. Les voies de la libération, op-cit, pp. 146-147

[63]- يُنظر: القضية 36، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 350

[64]- برهان القضية 36، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص ص 350-351

[65]- Gilles Deleuze, Spinoza et le problème de l'expression, op-cit, p. 287. Voir aussi ; Ethique, V, Prop. 33, scolie.

[66]- ibid, p. 288

[67]- تعليق القضية 38، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 353 –بتصرف- يُنظر أيضا:

Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, op-cit. p. 396.

[68]- تعليق القضية 36، الكتاب 5، ترجمة العلمي، ص 351 (بتصرف طفيف) يُنظر أيضا: ص. 344، ترجمة جلال الدين سعيد.

[69]- Gilles Deleuze, Spinoza et le problème de l'expression, op-cit, pp. 288-289

[70]- Saverio Ansaldi, Amour, perfection et puissance: un modèle de la nature humaine ? En marge de la Cinquième Partie de l'Éthique (Spinoza et G. Bruno), Dans Archives de Philosophie 2001/4 (Tome 64), p.750 ; Ethique, V, Prop. 36, scolie.

[71]- برهان القضية 39، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 345 (بتصرف طفيف).

[72]- يُنظر: القضية 25، الكتاب الأول، والقضية 26، الكتاب الخامس.

[73]- «sous l'aspect de l'éternité» ou encore, d'une façon moins littérale, «de toute éternité» est une notion à la fois religieuse et philosophique qui remonte à l'herméneutique de la Torah. Développée par Spinoza, cette métaphysique de la non-temporalité est illustrée par Ludwig Wittgenstein.

[74]- يُنظر ص. 9 مقال أنسالدي. يُنظر أيضا: القضية 29، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 345

[75]- تعليق القضية 39، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 354

[76]- تعليق القضية 59، الكتاب الثالث، ص 214

[77]- Saverio Ansaldi, Amour, perfection et puissance: un modèle de la nature humaine? En marge de la Cinquième Partie de l'Éthique (Spinoza et G. Bruno), pp.751-752

[78]- «on ne sait pas ce que peut le Corps », Spinoza explique cette phrase: «Or personne n'a jusqu'à présent déterminé quel est le pouvoir du Corps, c'est-à-dire que, jusqu'à présent, l'expérience n'a enseigné à personne ce que le Corps est en mesure d'accomplir par les seules lois de la Nature, considérée seulement en tant que corporelle, et ce qu'il ne peut accomplir sans y être déterminé par l'Esprit. Car personne jusqu'ici n'a acquis une connaissance assez précise de la structure du Corps pour en expliquer toutes les fonctions, et nous ne dirons rien de ce que l'on observe souvent chez les animaux et qui dépasse de loin la sagacité humaine, ou des nombreuses actions qu'accomplissent les somnambules pendant leur sommeil et qu'ils = =n'oseraient pas entreprendre pendant la veille.», Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, op-cit. p. 200

إن ما يقترحه سبينوزا من خلال هذه العبارة التي يُعلي فيها من شأن الجسم قياسا إلى الوعي، هو أن نجعل من هذا الجسم الذي تزدريه الديانات والفلسفات المثالية وتقلل من شأنه نموذجا Modèle للطبيعة البشري، لهذا فعبارة "إننا لا نستطيع أن نعرف ما الذي يستطيعه جسم ما" حسب دولوز "تخبرنا بقدر الجهل الذي يتملكنا حيال هذا الجسم"، إنها في الواقع تقلل من شأن الوعي قياسا إلى الجسم، إذ إن هذا الأخير حسب سبينوزا يتجاوز أي معرفة نملكها عنه، فمثلما أن الفكر حسبه يتجاوز أي وعي نبنيه حوله، كذلك الأمر بالنسبة للجسم الذي يتجاوز شروط معرفتنا وتجاربنا. يُنظر: جيل دولوز، سبينوزا فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2015)، ص ص 28-29

[79]- التعليق على القضية 39، الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص 276

[80]- تعليق القضية 39، الكتاب الرابع، ترجمة العلمي، ص ص 276-277

[81]- Le premier type de changement aboutit à l’annihilation du Corps, le second permet de concevoir «tout ce que peut un Corps dans cette vie», Saverio Ansaldi, Amour, perfection et puissance: un modèle de la nature humaine? En marge de la Cinquième Partie de l'Éthique (Spinoza et G. Bruno), p.752

الجدير بالذكر أن سبينوزا يثبت صراحة الصلة الموجودة بين تعليق القضية 39 من الكتاب الرابع، التي يتحدث فيها عن الموت، باعتباره تغيرا يلحق بالجسم الفاني، والذي يؤدي بالإنسان إلى التدمير (الموت) وإلى الشقاء، وبين التعليق على القضية 39 من الكتاب الخامس، الذي يتحدث فيه سبينوزا عن الموت الذي يكون أقل ضررا وأقل شقاءً نظرا لكونه يلحق بجزء من الجسم وليس الجسم كاملا، حيث يقول: "نفهم من ذلك ما تناولته في التعليق على القضية 39 من الجزء الرابع وما وعدت بتفسيره في هذا الجزء؛ أي إن الموت يكون أقل ضررا بقدر ما كانت معرفة الذهن الواضحة والمتميزة معرفة أكبر، وبالتالي بقدر ما ازداد حب الذهن للإله. علاوة على ذلك، مادام ينشأ عن الجنس الثالث من المعرفة أكبر قدر من الارتياح، فإنه يترتب عن ذلك أن الذهن الإنساني يمكنه أن يكون من طبيعة تجعل ما بيّنا يفنى مع الجسم يكون بلا قيمة بالنظر إلى ما يظل باقيا منه." التعليق على القضية 38، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 353

[82]- يعد موقف سبينوزا هذا نقيضا تاما للتقليد الميتافيزيقي واللاهوتي على حد سواء، فهو يجعل من مصير الذهن والنفس مُتعلقا بالجسم وفقط، بل وصل به الحد إلى القول بتطابقهما وتوازيهما من منظور الأزل. ولعل هذا في الحقيقة، ما يجعل من سبينوزا ينفصل عن كل الفلسفات المثالية والتصورات الدينية التي تحط كما قلنا سابقا من قيمة الجسم باعتباره مصدرا للشر وكل ما هو خسيس، بالمقارنة مع النفس الطاهرة التي هي مصدر الخير والسعادة، لأن مصدرها إلهي.

[83]- “Qui Corpus ad plurima aptum habet, is Mentem habet, cujus maxima pars est aeterna”, E, V, Prop. XXXIX. Voir la traduction française de cette phrase; Spinoza, Ethique. Introduction, traduction, notes et commentaires de Robert Misrahi, op-cit. p. 396

[84]- القضية 40، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 355

[85]- يُنظر: القضية 18 وبرهانها، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 336

[86]- إن الحب العقلي للإله هو أكثر العواطف ثباتا بحيث لا يمكن لأية عاطفة مُضادة أن تحطمه. يُنظر تعليق القضية 20، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 338

[87]- يقول سبينوزا في نهاية الكتاب الخامس: "بقدر ما يتمتع الذهن بهذا الحب الإلهي أو بهذه الغبطة، يزداد فهمه، أي تزداد سلطته على العواطف، ويقل انفعاله بالعواطف القبيحة. وبالتالي، فلكون الذهن يتمتع بهذا الحب الإلهي أو بهذه الغبطة، فإنه يملك قوة كبح ميوله. وما دامت قدرة الإنسان على كبح العواطف تتمثل في الفهم وحده، فلا أحد إذن، يتمتع بالغبطة بكبح العواطف، بل على العكس قوة كبح الميول هي التي تنشأ عن الغبطة نفسها." برهان القضية 42، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 358

[88]- “Nous sommes devenus totalement expressifs”, Cf. G. Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, op. cit, p. 294

[89]- تعليق القضية 42، الكتاب الخامس، ترجمة العلمي، ص 358

[90]- سبينوزا، الرسالة 73، إلى أولدنبرغ؛ أوردتها: فاطمة حدّاد الشامخ في كتابها: الفلسفة النسقية ونسق الفلسفة السياسية عند سبينوزا، ترجمة جلال الدين سعيد، مراجعة صالح مصباح، (الرباط: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017)، ص ص 153-154