قراءة في كتاب "التصورات العلمية للعالم، قضايا واتجاهات في فلسفة العلم المعاصر"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "التصورات العلمية للعالم، قضايا واتجاهات في فلسفة العلم المعاصر"

مقدمة:

سبيل النهوض بالحياة الإنسانية كامن في الاعتناء بالمجال العلمي والزيادة في حجم الاستثمار فيه، ومدارسة قضاياه والانفتاح على مشاكله... ولعل كتاب الدكتور يوسف تيبس: التصورات العلمية للعالم، قضايا واتجاهات في فلسفة العلم المعاصر، ينخرط في زمرة البحوث والدراسات التي جعلت من العلم ميدان اهتمامها. فأخضعت قضاياه لمناقشة هادئة تروم تقديم تصور واضح المعالم يقربه من مستويات كل القراء المتخصص وغير المتخصص. يستهدف جعل العلم شأنا عموميا، ومطلبا اجتماعيا، وهو كتاب نشر بمساهمة دار النشر ابن النديم ودار الروافد الثقافية. الطبعة الأولى في 2014. بعدد صفحات بلغ 543 من الحجم المتوسط. وقسمه لمقدمة وسبعة فصول وقائمة للمراجع. الفصل الأول: التصور العلمي للعالم. الفصل الثاني: التصور الإبطالي للعلم. الفصل الثالث: النفي محرك تاريخ العلم. الفصل الرابع: التصور الطبيعاني للعالم (نموذج ويلارد كواين). الفصل الخامس: فلسفة التعددية في إبستومولوجيا مشيل سير. الفصل السادس: مفارقات التصور العلمي التقني للعالم. الفصل السابع: الجسد أفق التصورين الفلسفي والعلمي للإنسان في القرن الواحد والعشرون.

واضح من هذا الجرد السريع لشكل الكتاب ومضمونه ومكوناته، أنه كتاب غني بمواضيعه وأفكاره، فلا غرابة إن وقع عليه الاختيار من أجل تقديمه في حلة مرضية للقراء، عساه يكون مجرد مدخل للاضطلاع على الكتاب. ورغم ذلك لم نأل جهدا، وقررنا تفصيل القول فيه، محافظين على فصوله كما جاءت عند صاحبه.

الفصل الأول: التصور العلمي للعالم، من المعرفة إلى الاعتقاد

المعرفة بما هي اكتشاف مفتوح على المستقبل يتجه لرفع الخطأ والجهل الذي يعتقده عامة الناس وخاصتهم، مما يدخل أصحابها في صراع ونزاع. ومن الغريب أن هذه الاعتقادات الراسخة كانت مجرد معرفة توصف بالصدق/الكذب، لكنها تحولت عبر الزمان لاعتقاد ثابت، وتنقلت من تصور حول العالم worldview أو وجهة نظر Point of view إلى نظرية علمية، مؤسسة منهجيا تقدم نفسها كحل لأزمة، تؤمن بها جماعة علمية كحقيقة كونية، تسطر لها مجال الرؤية؛ مجال المسموح والممنوع، الممكن والمستحيل، المتاح والمستبعد...بمعنى آخر يتشكل لديها تصور مستجد يميل نوعيا للتصلب والجمود والإقصاء، يُنمذج المعرفة ويدرك من خلالها الواقع. نتلمس إذن تحول العالم لقوالب معرفية جاهزة أو "براديغمات" متصلبة.

وعليه، حاول كارناب Rudolf Carnap (1890_1970) - في نظر الأستاذ يوسف تيبس[1] - تصوير ونمذجة المعرفة، بصناعة إطار خاص بها لا تحيد عنه، كيما تصبح أكثر صرامة ودقة وموضوعية، فخمن في الالتجاء لتطعيمها بمفاهيم صورية مشتقة من حقول العلوم الحقة كالرياضيات والفيزياء... فعل كما فعل راسل ووايتهد في جعل الميتافيزيقا تنسحب من فضاء العلم وتكنس بعيدا. يتغيا تنظيف البيت الداخلي للعلم قبل أن تستقر فيه فقط النظريات العلمية. لهذا سمى مشروعه Aufbau أي البنية أو البناء، وهو مجموع الخصائص الصورية لكل موضوع ونوعية العلاقات الجامعة بينها. يحاول كارناب ربط الجانب النفسي بالمحدد البيولوجي أو الفكر بالجسد عن طريق عمليتي الاشتقاق (تكثير المفاهيم والتصورات بالانطلاق من المبادئ الأساسية البديهية) والاختزال (إرجاع هذه التصورات المتكثرة لأقل القليل/التكثيف). نحن أمام بناء منطقي تسهل به الموازنة بين جانب الاشتقاق التمديد وجانب الاختزال التكثيف[2].

بحق يباشر كارناب بناءه المنطقي على أساس مبدأ الاستقراء (من الخاص للعام)، كمعيار للتمييز بين مجال العلم والميتافيزيقا. مبدأ مبتكر ومبدع، يحاول تخليص العلم من القضايا التركيبة والإنشائية... وعلى أهمية المعيار وصدقانيته، إلا أنه أسقط جملة من العبارات والنظريات بجريرة أن ما صدقها غير قابل للتحقق فيزيائيا واقعيا. وفي التضحية بهذه العبارات ما فيه من إجهاز على مقومات اللغة الطبيعية ومقومات جماليتها، وحرفها عن معانيها. دفعا لمثل هذا الصنيع، تقدم كارل بوبر Karl Raimund Poppe (1902_1994) بمعيار القابلية للتكذيب/الإبطال (لنا عودة له). مثل هذا الحوار بين الرجلين، دفع كارناب لمعاودة النظر في معياره، ولم لا تعديله لمعيار القابلية للتصديق/التأكيد بما هو ميل لاحتمال التصديق والتأكيد كلما قربت العبارات من التجربة، إذ لا مجال للفصل بين العلم والواقع المعيش، كما يستحيل خلق لغة صناعية على أنقاض اللغة الطبيعية دون أن نتباعد عن المعيش اليومي.

يرفض إدغار موران Edgar Morin (1921م) اعتبار العلم نقيضا للميتافيزيقا والأساطير، بقدر ما هو إغناء واغتناء بها خصوصا حال اقترابه منها ومن قضاياها[3]، ففي نواة كل نظرية علمية تسكن مسلمات ميتافيزيقية وأسطورية، تمتح نظيمتها من اليومي، وتعبر على مشاكله وقضاياه، بل تحاول إيجاد حلول مفصلية له. فكيف تبيح لنفسها التباعد عن قضاياه؟

الفصل الثاني: التصور الإبطالي للعالم

يحل الأستاذ تيبس في هذا الفصل ضيفا على كارل بوبر الذي وجده منهمكا في إنشاء معيار لنقد النظريات وتصنيفها بين مجال العلم ومجال اللاعلم. فالعلمية ليست بالصفة السهلة المنال، المتاحة أمام كل النظريات. يضيق بوبر بهذا المعيار مجال العلم، ليعمد لإبطال كل النظريات التي لا تسمح للعالم بمد نقاط ضعفها وموجبات تفنيدها... قصد إصلاحها ثم مدها بإمكانات استمرارها، إذ العلم بتاريخه المديد ميدان لترامي الأخطاء، فلا يصح استثمار أية نظرية ما لم تقدم عربون قوتها، وتطمئن العلماء لقدرتها على حل كل الإشكالات العويصة، وهو مدى قابليتها للإبطال. فكل نظرية تتضمن جانبا من الصواب وآخر من الخطأ. وعليه، على العالم ممارسة النقد الذاتي بالكشف عن "عور" نظريته وتمحيص كل فرضياتها ومسلماتها، انطلاقا من الفروض العامة إلى الفروض الخاصة. ولهذا انتقد بوبر المنهج الاستقرائي المكلف ماديا ومعنويا والصعب التنفيذ واقعيا. فلو قال قائل: "كل البجع أسود" وأراد بوبر أو أي عالم البث في هذه العبارة الخبرية، لاستلزم الأمر إحصاء كل البجع شريطة سواده وفقط، عسى أن يتم تأكيدها أو تصديقها عمليا بمطابقتها للواقع. وتظهر صعوبة الأمر ولامعقوليته في ضرورة زيارة العالم لكل مناطق العالم قصد تصديق قوله. تهربا من ذلكم العمل الشاق المكلف والمتعب ذي النتائج الهزيلة، يوجب عليه بوبر البحث عن بجعة واحدة سوداء ليبطل بها قول القائل.

محصول القول إن النظريات العلمية أو الفروض النظرية القابلة للإبطال تستبعد العبارات المتناقضة أو التحصيلية وكذا الميتافيزيقية[4]، ويشترط فيها تماسكها الداخلي المنطقي ومدى استعدادها للإبطال، وهو ما يعني أن العبارات العلمية تقع بين درجتي الصفر والواحد، لاسيما وأن العبارات العلمية ليست يقينية، بل توجد في موقع بين اليقين والاستحالة. وزيادة في التوضيح يقترح بوبر مفهومي: العمومية والدقة كشرطين منهجيين لتنفيذ معيار الإبطال، فكلما زاد حجم عمومية ودقة وبساطة النظرية زاد حجم محتواها التجريبي والمنطقي وارتفعت درجة قابليتها للتكذيب والعكس صحيح.

يستنتج الدكتور تيبس في الأخير أن حركة العلم، تتقوم في صراع نظرياته وإثبات قوتها وجدارتها في البقاء، فعليها إبطال ونفي نظريات أخرى من أجل البقاء، إذ مجال العلم مجال للتدافع والتنازع، محركه الأول تأييد ورجحان قيمة الصدق دونما نفي للكذب وإلغاء لدوره. يمر بنا معيار القابلية للإبطال نحو أفضل وأحسن وأرقى وأجمل النظريات، كما هو حاصل في نظرية التطور الاصطفائية. فهل النظريات العلمية اليوم أفضل وأحسن النظريات في تاريخ العلم؟ هل استفادت من أخطاء الماضي؟ هل انتبهت لتموجات التاريخ وحركيته؟ وهل لازالت صالحة أم تحولت لمجرد تاريخ أثري؟

الفصل الثالث: النفي محرك تاريخ العلم

يؤكد الأستاذ تيبس في هذا المحور على حركية العلم ومساره من وجهة نظر كارل بوبر الذي وجد عنده رؤية لتاريخ العلم، تتميز بكونها ثاوية غير معلنة ولا مصرح بها، فيحاول الأستاذ تيبس سوقها للعلن؛ فهي حركة متقلبة متسارعة، تنحو لتحقيق أفضل النظريات في عملية انتقاء الأحسن فالأحسن...وهو أمر يتم على عين فعل النفي الذي يتحول إلى محرك لتاريخ العلوم. يتوجه به نحو إصلاح الأخطاء والاقتراب من الحقيقة ومعانقة الموضوعية بما هي دقة وصرامة وصحة وصدق.

يقسم بوبر العوالم إلى ثلاثة: عالم الموضوعات الفيزيائية، عالم حالات الشعور والحالات العقلية، عالم المحتويات الموضوعية[5]. يضاف كل عالم من العوالم لفئة مخصوصة من العلماء تعبر عنه. والمهم هو العالم الثالث الفوقي المجرد الذي يكون سببا مباشرا في إنتاج العلم الذي يكفل الموضوعية، ويضمن بقاء المعرفة، ويمكن من عدم خلطها بالوهم والخطأ عبر خطوات المناقشة النقدية القائمة على المحاولة والخطأ، في مشابهة صارخة لتطورية داروين Charles Robert Darwin(1809_1882). يقترح بوبر صيغة رمزية: م1- ح ح- إخ- م2. م مشكل أول، ح ح حل مقترح للخطأ إخ يتطور ل م2 وهو مشكل ثان يسعى العالم إلى حله. تتصارع كل المشاكل من أجل البقاء، وينتقى وينتخب أفضل وأحسن حل مقدم. يدفع بدوره إلى بروز مشاكل أكثر تطورا تحتاج إلى إقصاء...هكذا التقت النظريتين، واستفاد منها بوبر، رغم أنه لم يعتقد في علميتها، لكونها لم تأت بصيغة خبرية، بل وصفية. فلو كانت بصيغة الخبر لقبلت معيار الإبطال أي نفي وتفنيد كل ادعاءات الحقيقة التي باتت مطلبا يجب الاقتراب منه وترجيح صوابيته. تحل قيمة الترجيح على قيمتي الصدق والكذب، ويتحرك العلم في تاريخية من الاحتمال إلى الترجيح[6] عبر قطائع وثروات. تظهر المعرفة العلمية «فتكون بذلك فلسفة النفي رفضا لكل تصور يعتبر العلم نسقا أو حقيقة مكتملة، وبالتالي ساكنا »[7]. ويعاد النظر في تاريخية العلم وشكل حركته بإدخال عناصر اللامفكر واللاعقل...تأسيسا عليه؛ يتم نسف مقولات الموضوعية والصدق واليقين، وتستبدل بالاحتمال والترجيح والذاتية...سمى الأستاذ تيبس هذا التحول بالمأساة أو النظرة التراجيدية[8]. ففي كل مرة تشهد تاريخا من الاكتشافات والاختراعات، وبذلك تعبر عن مضمون تاريخ العلم الجديد، كترجمة للقطائع والفواصل، للقفزات والطفرات، للنفي والتجاوز...لزمنية جديدة، تتقوم بالجديد والآني...زمنية معقدة وضبابية، محكومة بالصدفة وعوامل خارجية كالتكوين الثقافي للعالم وميولاته ورغباته ونزواته...تتدخل بشكل كبير في صياغة نظرياته ورؤاه العلمية. بلغة أكثر دقة، تصاغ في شكل ملاحظة قوامها عودة العلم والعالم للعالم المعيش واستعادته لروح اللغة الطبيعية وشفافيتها، خصوصا بعد فشل اللغة الصناعية في التعبير عن معضلاته ومشكلاته، وفي هذا ضرب مباشر في النماذج الحتمية لتاريخ العلوم، وإعلاء اللاحتمية والتقلب والتذبذب وكل ضروب الصيرورة والتقدم التي شكلت إبستيمي هذا العصر.

الفصل الرابع: التصور الطبيعاني للعالم (نموذج ويلارد كواين).

ينتمي ويلار كواين Willard Van Orman Quin(1908_2000) إلى الوضعية المنطقية، وهي مجال معياري يحاول المنتمين له التمييز بين مجال العلم واللاعلم، بإقصاء الميتافيزيقا والاشتغال على اللغة خصوصا قضاياها الخبرية، بالنظر في تراكيبها ومعانيها، وتقسيمها لمكونات صغرى ثم التحقق من مدى مطابقتها للواقع (مشكل الإحالة). والإحالة تقوم على حدود ثلاثة: الدال والمدلول والمرجع.

للبث في مدى صحة القضايا تقسم العبارات لتحليلية وتفيد تحصيل الحاصل، إذ لا يضيف موضوعها لمحمولها شيء تظل قضايا فارغة مثل: كل المثلثات لها ثلاثة أضلاع، لا واحد من العزاب متزوج، كل غراب أسود...عكس القضايا التركيبية التي تجمع اللغة مع الواقع والشعور الداخلي للمستعمل فتنتج جمل معقدة، يضيف محمولها لمضمونها شيء جديد. فلا تنفصل دلالتها عن الواقع بقدر ما تترجمه، يقدم كواين مثلا: بالأرنب غافغاي Gavagai والتمثلات التي تأتي معه عند استحضار سرعته، طريقة أكله، وجبة غذاء لذيذة بلحمه...إذ كل عبارة تركيبية تحيل بالضرورة على معنى مفهوم من ورائها يحيل للواقع. يبسط الباحث تيبس مثلا ثانيا بقول قائل: "ابن رشد مؤلف فصل المقال" عبارة إحالية، لأن موضوعها يكافئ محمولها، لاسيما وأن ابن رشد شخص متعين وجد في الواقع عاش ومات، وكذا بالنسبة إلى كتاب فصل المقال له وجود عياني مترابط تاريخيا مع الوجود العياني لابن رشد، مما مكن للإحالة لابن رشد ككاتب لفصل المقال، ولفصل المقال كمؤلف لابن رشد، الإحالة متبادلة بينهما. وحاصل التكافؤ في الإحالة بينهما يجوز استبدال أحدهما بالآخر دون أن يؤثر في قيمة العبارة صدقيا. وبيانه؛ يمكن تغيير مؤلف فصل المقال بابن رشد، فيقال: ابن رشد هو ابن رشد. وليكتمل المعنى وتفهم العبارة بشكل أفضل يزيد كواين على الإحالة سياق التوارد. لنفترض تصريحا: الملك الحالي لفرنسا حكيم[9] دلاليا الجملة سليمة، وإحاليا خاطئة. ففرنسا اليوم يحكمها رئيسا منتخبا لا ملكا، فإما أن المتحدث جاهل أو مريض أو متفكه متنمر...ولمعرفة ظرفية المتكلم يسوقنا كواين لسياق التلفظ: متى؟ وأين؟ وكيف؟...وكأن كواين يدخل الجانب الثقافي في البناء العلمي، فينسبه ويعيد الفرع للأصل الطبيعي. باختصار، يدخل كواين الأنثربولوجيا في العلم، وهي من الملاحظات السديدة للأستاذ تيبس، شكلت نقلة نوعية من كواين، جعلت انتماءه للوضعية المنطقية محل تساؤل واستشكال.

الفصل الخامس: الفلسفة التعديدية في إبستومولوجيا مشيل سير

يعتبر مشيل سير-في نظر الأستاذ تيبس- العلم تاريخ للاشتجار والاختصام والنزاع الحاصل في النظريات، يستعجل التشذي والتشذب الذي يعيشه العلم والعلماء، كل في مجال تخصصه دون الدخول في فصل الجهويات العلمية عن بعضها البعض. بناء عليه؛ يظن الأستاذ تيبس أن الفلسفة معنية اليوم بالمحافظة على التعدد والتنوع وسلوك درب الدفاع على الممكن والمحتمل مع لحم الجهويات العلمية ودفعها للتعاون والتضام. يطلق سير على هذا الأمر: إنسكلوبيديا أو وحدة علمية[10]. لكل علم داخلها وظيفة، مناط له تأديتها في تكامل وتوازن مع باقي الفروع المعرفية. يتحقق بموجبه تقاطب معرفي كبير، ينهي ما بينها من اشتجار حول العلم المرجع أو الأصل الصافي الذي يجب على باقي العلوم أن تلوذ به وتتبعد خطواته. تلكم إذن مميزات الفكر العلمي الجديد-الجديد الذي بات أكثر إعلامية ومهنية، يقدم الأخبار عن العالم والكون، شارحا ومفسرا كيفية وقوع الظواهر مع التعليق عليها وللمشاهد فرصة الحكم. بفقدان علم العلوم أو قائدها أمسى المجال العلمي هائما بدون مرجع أو أصل ثابت ودائم على أسه يتم تحديد إحداثيات العالم. فقد تأثرت حركة العلم بهذه النظرة، نشأ عنها تذبذب واضطراب في مساره حتى صعب التنبؤ بوجهته. يلخص أستاذ المنطق يوسف تيبس القول: «وجهتنا في مسار هذا القول فرضية أساسية أو لنقل تساؤلا أساسيا يتعلق بمعالم الجدة والتقليد في النظرة الإبستمولوجية لمشيل سير؛ بمعنى آخر حاولنا أن نتبين نقط التجديد وجوانب التقليد»[11]. وبعده يمر للتقعيد لقول سير وتلخيصه في النقط التالية:

1- لا وجود لأصل بما هو أول، إذ لكل علم في فترة زمنية محددة أصله داخلها، دونما حاجة للرجوع إلى علم آخر. يحرز م. سير في هذه النقطة السوية بين العلوم.

2- لا وجود لإبستومولوجيا عامة، فلكل علم قضاياه ومشاكله الخاصة وطرق حلحلتها، وله منهج مخصوص، وجماعة علمية محددة وتاريخ منفرد...وهذه هي الجهوية العلمية أو الإبستمولوجية الجهوية.

3- العقل العلمي الجديد-الجديد الذي تجاوز النظيمة الباشلارية ونفاها، يشتغل على موضوع المادة الصلبة لا السائلة أو الغازية التي سادت من قبل.

4- لا وجود لمرجعية تامة، سواء للعلم أو العلماء، نحن نتكلم عن تنسيب دور العالم وتقزيم فعالية مرجعياته. فللعالم كل الحق في الخلط بين المرجعيات.

5- وجهة التاريخ ليست تراجعية ولا تقدمية، بقدر ماهي زمنية مشتتة منفتحة على كل المسارات، تُحكم بمفاعيل الصدفة والحظ، محتملة وممكنة، قابلة لكل أشكال الحركة.

الفصل السادس: مفارقات التصور العلمي التقني للعالم.

يلخص الأستاذ تيبس هنا مختلف التعالقات التي ربطت العلم بالتقنية في التاريخ، ويحددها على شكل تكامل بين الجانب النظري والتطبيقي، سيما وأن العلم مجال للتنظيرات الفوقية، بينما التكنولوجيا ميدان للتطبيقات التحتية. لا غنى لأحدهما عن الآخر، كما لا مناص للفكر عن اللغة التي تسنده وتعبر عنه. كذا بالنسبة إلى العلم، يوظف اللغة إما صناعيا بين جماعة العلماء المتخصصين أو طبيعيا في حال مخاطبة العوام وتقريب مجاله من المعيش اليومي. ولا يتوقف الأستاذ تيبس، بل يرصد علاقة الفلسفة بالعلم، مقرا بدورها المحوري في متابعة العلم ورصد هفواته علاوة على تبسيط أقانيمه للعوام، عساه يتاح للكل ويعمل به الجميع[12]. بيد أن هذا المطلب قد يتعارض في جوانب عديدة مع رغبات العلماء وطموحات بعضهم في الاغتناء والترقي الاجتماعي أو مع سياسات الدولة وحاجاته للتوسع والسيطرة على مقادير الأرض. وبالتالي، أضحت التقنية وسيلة للسيطرة على جسم الإنسان والتسيد على روحه، تخلق فيه الرغبة، وتستجديه في فعل الإشهار لإشباعها موفرة له فائض الإنتاج، فقط عليك أن تستهلك. تستبد به كما يستبد السيد بعبده قديما، فيظن هذا الأخير متوهما أنه تحرر فقط لكونه اختار سيّدا بين أسياد كثر أو كما يعتقد مسجون أنه تحرر نظرا لتواجده في ساحة السجن الوسيعة[13]. هي إذن عصور جديدة من الاستعباد تمارسها التقنية بأدواتها وآلاتها على أجسام وأرواح الناس الذين تنظر لهم كمستهلكين، غاية وكدهم إشباع رغباتهم ولذاتهم الصغيرة. فلا غرابة إن جاء من يرفضها وأقله أن يتزهد فيها ويقلل من استخدامها كجاك إيلول الذي حذر من مظاهر تشيئها لإنسانية الإنسان وتأليهها لرغباته ونزواته واهتمامها المفرط والمُفرط؛ المفرط في الاعتناء بظاهره الخارجي، والمُفرط في باطنه الداخلي. علاوة على تسيدها على الطبيعة وإحكام قبضتها عليها، ولعل رغبتها في صناعة الحياة والإنسان بواصفات جديدة خير دليل. وما تم من حل يتبادر في الأفق إلا بفتح نقاش عمومي مبني على مشاركة وانخراط كل الفاعلين الاجتماعين في الفضاء العمومي ومن مختلف مشاربهم وتخصصاتهم، على أن يؤخذ بالحجة الأفضل والحل الأحسن في استعادة لأدوار ووظائف ساحة الأغورا عند الإغريق كما تصوره هابرماس Jürgen Habermas (1929م) الذي تبنى مشروع الفعل التواصلي كحل لأزمة التقنية.

الفصل السابع: الجسد أفق التصورين الفلسفي والعلمي للإنسان في القرن الواحد والعشرين.

يصطلح على هذا القرن في نظر الدكتور يوسف تيبس بقرن الجسد، وهو ما يبرر مدارسته وبحثه من أستاذ المنطق. ففي هذا القرن، طفت للسطح بحوث البيولوجيا، وحدثت في أتونه ثورة تكنولوجية توظف ما اجتمع حول الجسد من بحوث ودراسات تاريخية، وبه استطاعت إعادة اكتشاف الجسد، وسعت إلى إنتاج جسد جديد كمرحلة ثانية بمواصفات فنية (عمليات التجميل، ترميم الأعضاء، الزيادة في حجم بعضها...) ورياضية (الاهتمام بالقوام، البحث عن كمال الأجسام ومنح جوائز مالية كبيرة...)...حتى الفعل السياسي وجد لنفسه متنفسا في الجسد كوسيلة لممارسة السلطة والتسيد على حركته ومراقبة خطواته داخل الفضاء العام. الأمر الذي دفع الأستاذ تيبس للتساؤل: ما الجسد (الجسم) هل روح أم مادة؟ فكر أم لحم؟...للإجابة عن إشكالاته، يأخذنا في رحلة فلسفية ماتعة تمنح رصيدها من التاريخ، تناجي بداياته مع اليونان في شخص أفلاطون)Platon427 ق.م - 347 ق.م). الرجل الذي تصور الجسم منفصلا عن الروح في بدايته ونهايته؛ ففي البداية عاش في عالم الأرواح قبل أن يأتي بخطيئة ستحمله إلى سجن العالم الحسي وسجن الجسم، وريثما يتخلص من الخطيئة وتصفى روحه تبقى معذبة إلى أن يأذن الموت بتخليصها من معاقرة دناءته، فيتصعد بها مجددا إلى عالمها الأصلي. يرجع أفلاطون كل القرارات الذكية والنابهة إلى الروح لا إلى الجسد الغبي، فجلوس سقراط في السجن لا يرجع لتملكه للعظام والعضلات والأعصاب وهذه موجودة عند الحيوان، بقدر ما هو استجابة لإملاءات روحه الذكية[14].

يستنتج أن العقل/الفكر علة الفعل بينما الجسد شرطه. يؤكد صحة هاته القضية ديكارت René Descartes (1650_1596) عندما يعتبر الجسم آلة مادية تشتغل وفق نظام محدد وبطريقة غبية كساعة مبرمجة، نقيضا للجوهر المفكر العاقل المنوط به فعل التدبير. يحل في الجسم كحلول الربان في السفينة، يتماسا في الدماغ/الغدة الصنوبرية دون أن يختلطا ليشكّلا جوهرا واحدا.

لا يستكين الأستاذ يبيس عند هذا الحد، بل يتابع مناولة الجسد في الفلسفة، وهذه المرة بإيعاز من سبينوزا Baruch Spinoza (1632_1677م) الذي لم ينجر للفصل بين الجسم والعقل، كما لا يحل الفصل بين الشمس ونورها، كونهما يشكلان كيانا واحدا، تلبس أحدهما في الآخر، فمرة يتمظهران في صفة جسم، وأخرى بسمة العقل. فلو ترك العقل لانقاد يؤدي وظائف الجسم، ولو أهمل الجسم لتألم العقل وانحنى يهتم به. وعليه؛ اعتبرهما سورل مترابطين أشد الترابط والفصل بينهما عمل منهجي نظري أكثر مما هو فعل عملي تطبيقي واقعي، إذ إصابة في كاحل القدم (الجسم) يشعر بها العقل ويقرر حيالها إيقاف الدم أو تضميد الجرح. لهذا لم يفصل سورل على غرار فلاسفة العلم بين العقل والدماغ، كما لا يستطاع الفصل بين الهدروجين والأوكسجين في الماء ولا بين فريق كرة القدم وأحد أفراده، فمن تضافرهم تخرج الروح الرياضية[15]. لهذا يقر ميرلوبنتي بظاهريه وتجليه في كل مرة على وجه أو شكل محدد، فالجسد دائما مختبئ قادر على الامتداد لكل شيء. يدرك في إطار علاقاته مع المحيط الخارجي. ولا يحس به إلا في تجربة الألم، حيث تنبث مكوناته لتعبر على تعطل في وظائفها.

خاتمة:

محصول القول إن الاهتمام بالجسد، اهتمام بهذا الكل الذي يربطنا بالعالم ويحدد شكل تفاعلنا معه، بله هو جواز انتمائنا للأرض. فلا نذيع سرا إن قلنا إنه كان ولا يزال محط مناقشة ومدارسة من كل التخصصات: المنطق، علم النفس، علم الاجتماع، اللسانيات، البيولوجيا، الفلسفة... فلا غرابة إن ختم به الدكتور يوسف تيبس كتابه هذا، وجعله ثمرة للبحوث السابقة ومركز يشد المواضيع بعضها لبعض، إذ كان هو الحاضر الغائب في كل الفصول الستة الأولى، ولا نحتاج إلى دليل إلا بأن نحيل القارئ لمعاودة قراءة الفصول بتمعن، ولم لا يبدأ بقراءة هذا الفصل كمدخل عام للكتاب على أساس أنه كتاب عبارة على مقالات كتبت في مجلات متنوعة وفي فترات مختلفة، فيحق أن يبوب بهذا الشكل.

[1]- الدكتور يوسف تيبس أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بجامعة محمد بن عبد الله، فاس/ المغرب. مؤلف ومترجم لعديد من الكتب.

[2]- نفسه، ص 76

[3]- نفسه، ص 111

[4]- نفسه، ص 164

[5]- نفسه، ص 203

[6]- نفسه، ص 225

[7]- نفسه، ص 228

[8]- نفسه، ص 245

[9]- نفسه، ص 307

[10]- نفسه، ص 348

[11]- نفسه، ص 408

[12]- نفسه، ص 423

[13]- نفسه، ص 431

[14]- نفسه، ص 474

[15]- نفسه، ص 505