قراءة في كتاب "تسلّف الإخوان" لحُسام تمّام: تأْريخ أم تبْيِيض؟


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "تسلّف الإخوان" لحُسام تمّام:  تأْريخ أم تبْيِيض؟

قراءة في كتاب "تسلّف الإخوان" لحُسام تمّام:  تأْريخ أم تبْيِيض؟ 

يتنزّلُ نصّ "تسلّف الإخوان" للباحث المصري الرّاحل حسام تمّام، ضمن الدّراسات التي تهتمّ بظاهرة الإسلام السياسي، من خلال التركيز على جماعة الإخوان المسلمين التي تُعدّ واحدة من أكثر الجماعات الإسلاميّة إثارة للجدل وأشدّها تأثيراً في الحياة السياسيّة، سواء داخل مصر أو خارجها. وقدْ نُشرتْ هذه الدّراسة في العدد الأوّل من سلسلة "مراصد" الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبليّة بمكتبة الإسكندريّة في أكتوبر 2010[1]، وجاءت لتمثّل دليلاً إضافيّاً يؤكّد ما عُرف عن تمّام من اختصاص في معالجة الظاهرة الإخوانيّة دون غيرها. وليس من باب المصادفة في اعتقادنا أن يختار المؤلّفُ لعنوان دراسته صيغة من أكثر صيغ العربيّة انفتاحاً على ممكنات التأويل، وهي صيغة "تفعّل" فـ"تسلُّف الإخوان" يُمكن أن يُفهم باعتباره إقراراً ضمنيّاً بالتحوّل والصيرورة مع ما يترتّبُ على هذا الفهم من حكم مُضمر على الجماعة الإخوانيّة بالتخلّي عن جملة من ثوابتها ومستنداتها الفكريّة تدرّجاً نحو الاقتراب أكثر فأكثر من الدائرة السلفيّة. والتدرّجُ معنى ثانٍ من أهمّ المعاني الثاوية خلف الصيغة المختارة في العنوان. ويدخلُ ضمن ممكنات التأويل قراءة عبارة "التسلّف"، باعتبارها إشارة إلى شكل من أشكال الانتساب المذهبيّ بما يعني الوصول إلى مرحلة التماهي بين التيّارين الإخوانيّ والسلفي عبر ذوبان الأوّل في جسد الثاني.

وسيكون العنوان الفرعيّ للدراسة "تآكل الأطروحة الإخوانيّة وصعود السلفيّة في جماعة الإخوان المسلمين" ضرباً من التفكيك الجزئيّ للاكتناز الدلالي الذي يسمُ العنوان الرئيسيّ، وتمهيداً لما يدخل في توقّعات القراءة من تفكيك أعمق وأشمل يُنتظرُ أنْ يكون مدار متن البحث.

يتجاذبُ هذا المتنَ في تفاصيله وحيثيّاته خطّانِ رئيسيّان؛ أوّلهما جغرافيّ يرصدُ من خلاله حسام تمّام أوجه التفاعل بين جماعة الإخوان المسلمين ومستقرّها مصر والسلفيّة الوهابيّة ومهدُها الحاضن السعوديّة، مؤكّداً أنّ المملكة قدْ شكّلتْ بداية من منتصف خمسينيات القرن الماضي "الملاذ الأوّل لقيادات الجماعة وكوادرها الهاربة من ملاحقات النظام النّاصري، ففتحتْ أبوابها لأعضاء الجماعة الهاربين، ومنحتْ جنسيّتها لعدد كبير من رموزها وقادتها"[2]، ولنْ يكون هذا التحالفُ الإخوانيّ الوهابيّ في بداياته مبنيّاً على ثوابت عقائديّة دينيّة بقدر ما سيكون في جوهره تحالفاً استراتيجيّاً محكوماً بمقتضيات السياسة وأحكامِها، إذْ ستلتقي بشكل مثاليّ مصلحةُ الإخوان الباحثين خارج مصر عن مُسْتقرّ آمن، ومصلحةُ السعوديّة الساعية نحو افتكاك مكانها، باعتبارها دولة محوريّة يمكن أنْ تُشكّل حاجزاً متيناً تنكسرُ عليه أحلامُ المدّ الإيديولوجيّ النّاصريّ.

إنّ هذه الجسورَ التي امتدّتْ وستمتدّ بيْن مصر والمملكة ستزدادُ متانة وتشعّبا،ً وستحملُ معها مزيجاً من مصالح مشتركة وأطروحات فكريّة متحوّلة وتفاصيل صغيرة[3] لم يتوقّف حسام تمّام عن محاولة اقتناصها للبحث في دلالاتها الثاوية.

أمّا الخطّ الثاني الذي ينتظمُ تمشّيات حسام تمّام في متن دراسته، فهو خطّ زمنيّ تأْريخيّ حاول الباحث من خلاله أنْ يرصُد المنعطفات الكبرى التي سايرتْ ما سمّاه "تسلُّف الإخوان". ويُمكنُ أنْ نوجز هذه المنعطفات في:

- أوّلاً: مرحلة التأسيس: يشير حسام تمّام إلى أنّ حركة الإخوان المسلمين كانت حريصة مع مؤسّسها حسن البنّا على النأي بنفسها عن كلّ ما ينذر بالتفرقة، فتجنّبتْ الخوض في المسائل الخلافيّة، سواء أكانت فقهيّة أم عقائديّة، ولمْ تتوقف عن البحث عن إطار جامع. ويستدلّ على ذلك بقرائن كثيرة، من بينها مشاركة البنّا رفقة شيوخ أزهريّين في إنشاء دار التقريب بيْن المذاهب. أمّا سلفيّة جماعة الإخوان، فقد كانت في هذه المرحلة سلفيّةً بنكهة صوفيّة، تتميّزُ بكونها "جامعة وتجميعيّة تقعُ في أقصى مناطق المُرونة"[4].

- ثانياً: الموجة الأولى من "تسلّف الإخوان": تتزامنُ هذه المرحلة مع الصدام المُعلن بيْن جماعة الإخوان والنظام النّاصري بدءاً من سنة 1954، حين أُعدم عدد من قيادات الجماعة، وأُدخل عدد كبير آخر إلى السجون والمعتقلات. ففي هذا الظرف الدقيق ارتحل الإخوان إلى منطقة الخليج، وكانت المملكة العربيّة السعوديّة الوجهة الفُضلى بالنسبة إليهم، وهناك انطلقتْ أولى عمليّات "التلاقح" الفعليّ بين سلفيّة إخوانيّة نشأت في فضاء منفتح زاخر بالتعدديّة الفكريّة والسياسيّة، وسلفيّة وهابيّة يسودها مناخ شديد الانغلاق والمحافظة. وستتّسم هذه الموجة الأولى من "التسلّف" بانحصارِها في مستوى نخبويّ ضيّق، وببداية ارتباطِها بشكل وثيق بنقلة نوعيّة طالتْ ميدان التحقيق والنشر غدت بمقتضاها المؤلّفات التراثيّة ذات البصمة الوهابيّة أكثر المؤلّفات تحقيقاً ونشراً. ومن البديهيّ القولُ إنّ انفتاح القراءة الجمعيّة على كتاباتٍ جديدةٍ ستُشكّلُ حتماً عقولاً جديدةً وتوجّهاتٍ في الفكرِ والسّلوكِ مُستحدَثَة.

- ثالثاً: الموْجة الثّانية من "تسلّف الإخوان": واكبتْ هذه الموجة الحالة العامّة من الانفتاح التي شهدتها مصر إبّان حكم السادات وشهدتها المملكة أثناء حكم الملك فيصل، ويُلاحظ حسام تمّام في هذا السياق أنّ مرحلة السبعينيّات من القرن الماضي، التي احتضنت هذه الموجة الجديدة من تسلّف الإخوان، قد خلّفتْ بصمتيْن واضحتيْن في الجسد الإخوانيّ النامي: أولاهُما تسريعُ نسق التسلّف على المستوييْن الاجتماعي[5] والتنظيمي، وأمّا البصمةُ الثانية، فهي "تأكيدُ المعتقد الإخوانيّ السلفيّ باتجاه يقتربُ من السلفيّة الوهابيّة، خاصّة في نَفَسها المتشدّد تجاه الآخر الدينيّ داخل الإطار الإسلامي"[6]. وقد أشار حسام تمّام في سياق تأريخه لهذه المرحلة الحاسمة من العلاقات الإخوانيّة/ السّلفيّة إلى محاولات الجماعة الجادّة لإيجاد أرضيّة استقطاب صلبة داخل الجامعات المصريّة من أجل ضخّ دماء جديدة يؤمّنها الطلّابُ الذين بدَوْا متعطّشين إلى الاقتداء بأثر "السلف الصّالح"، وكان من نتائج هذه المحاولات بداية تخلّي كبار الإخوان عن تعريف البنّا للجماعة وابتعادهم عن فهمه المخصوص لطبيعة منهجها السلفيّ، بل انتهى الأمرُ إلى ضرب من التماهي[7] "البراغماتي" بيْن الإخوان والمنهج السلفي في نزعته الانغلاقيّة المتشدّدة.

- رابعاً: خلال استقرائه للتغيّرات الواقعة صُلب الجسد الإخوانيّ أثناء تسعينيّات القرن الماضي ركّز الباحث حسام تمّام على تأثّر الجماعة بشكل عميق بما شهدته علاقتها بالسلطة السياسيّة القائمة من مدّ وجزر، متوقّفاً بشكل ملحوظ على مجاراة كوادرها لـ "المزاج الدّينيّ للمجتمع المصري" الذي أصبح يميلُ أكثر فأكثر نحو المحافظة، بما يعني اقتراباً من الأطروحة السلّفيّة، هو أشبه بالتّبنّي الصريح والمعلن لمساراتها ومآلاتها، "وعلى هذا النحو سيظهرُ شيُوخ إخوانيّون لكنْ بزيّ ونكهة سلفيّة تكاد تكون خالصةً... وسوف يستفيد هؤلاء من أدوات نشر الدّعوة السلفيّة نفسها من فضائيّات ومواقع إليكترونيّة، حيث يجدون فيها احـتفاء وحظوة"[8]. والملاحظة الأهمّ في هذا السياق هي إقرار حسام تمّام بأنّ جماعة الإخوان المسلمين، وهي تنفذُ إلى دائرة السلفيّة من باب "الدعويّة الأخلاقيّة"، إنّما كانت في العمق تحصّنُ نفسها داخليّاً من أطروحات الجاهليّة، و"تغتسلُ" طوعيّاً من التداعيات التي انجرّتْ عن "الطفرة القطبيّة" (نسبة إلى السيّد قطب) في تاريخ الحركة[9].

- خامساً: المنعرجُ الأخير الذي يدخلُ في اهتمامات الدراسة هو ذاك الذي عاشت جماعة الإخوان المسلمين بمقتضاه صراعاً داخليّاً حادّاً بين تيّار "إصلاحيّ" يطرحُ بشدّة الفصل بين السياسي والدعوي ويطالب بالتفاعل الإيجابي مع الخطابات الغربيّة الداعية إلى الإصلاح، وتيّار "تنظيميّ" ينحو منحى التشدّد ويستمدّ مرجعيّاته الإيديولوجيّة من فكر سيّد قطب. وقد حُسم هذا الصّراع المحوريّ لصالح التيّار الثاني بعد نجاح "التنظيميّين" خلال انتخابات ديسمبر 2009 في إحكام سيطرتهم على مكتب الإرشاد وصولاً إلى انتخاب محمّد بديع أحدِ رموز التيّار القطبي مرشداً عامّاً للجماعة في مطلع سنة 2010.

وينتهي حسام تمّام في خاتمة دراسته إلى أنّ التفاعلات الداخليّة التي شهدتها جماعة الإخوان طيلة عقود طويلة قد عكست في عمقها "تحوّلاً طال الأرثوذكسيّة الإخوانيّة التي انتقلت من استعادة الهُويّة في مواجهة الوافد في الثلاثينيّات والأربعينيّات نحو مفهوم الحاكميّة في مواجهة الدولة والمجتمع في السبعينيّات، قبل أنْ تتّجه نحو التركيز على فكرة الدفاع عن الأخلاق العامّة من داخل مؤسّسات النظام في التسعينيّات، وصولاً إلى أرثوذكسيّة سـلفيّة مفارقة للثقافة والمجتمع على نحو ما يحدث اليوم".[10]

والواقعُ أنّ هذه النتيجة التي تختزل بشكل ما المحاور الكبرى لدراسة حسام تمّام تضع القارئ أمام سؤال في غاية الأهميّة هو: ما المبرّرات الكامنة وراء قفز الباحث على مرحلة الستينيّات، بالرّغم ممّا تشكّله هذه المرحلة من أهميّة قصوى في تاريخ الفكر الإخوانيّ؟ فبقدر ما أطنبَ تمّام في تفكيك مكوّنات أطروحة حسن البنا التأسيسيّة، وفي استحضار مختلف المؤيّدات التي تثبت في نظره جنوح هذه الأطروحة نحو الاعتدال والتجميع، فإنّنا نراه يهملُ إهمالاً تامّاً أطروحات سيّد قطب، التي سيُقرّ هو ذاته في خواتيم دراسته بمدى أهمّية تداعياتها على فكر الجماعة، وعلى منزلتها داخل المشهد المصريّ في بُعديْه الاجتماعيّ والسياسيّ.

إنّ هذا التغييب المتعمّد للأطروحات "القطبيّة" يدفعُنا إلى مراجعة مُجمل المصادرات التي بنى عليها حسام تمّام قراءته لما سمّاه "تسلّف الإخوان"، ومن أهمّ هذه المصادرات إقرارُه بأنّ السلفيّة مفهوم جامع تتنازعه "تيّارات وجماعات مختلفة، ويمكن فهمها على أكثر من مستوى، فهي يمكن النظرُ إليها كمذهب اعتقاديّ أو كمذهب فقهيّ أو كتيّار فكريّ"[11]، وهذا الإقرارُ سينتهي به إلى التمييز بين سلفيّة الجماعة الإسلاميّة الأمّ في مرحلة التأسيس والسلفيّة الوهابيّة، فبقدر ما اتّسعت الأولى لتضمّ كلّ المكوّنات الثقافيّة للمجتمع، ضاقت الثانية كي تعنيَ حصراً التمسّك بقواعد ومعايير مستمدّة من عصر السّلف الصالح دون غيره.

لقد أراد تمّام من خلال هذا التمييز أنْ يُشكّلَ في أذهان قرّائه صورة مخصوصة لنشأة الإخوان المسلمين، تكون بمقتضاها هذه الجماعة أقرب في أصل تكوينها إلى الجمعيّة المدنيّة،[12] بما يعني بداهة النأي بها عن دائرة التوظيف السياسيّ للدين. ومن أجل تشكيل هذه الصورة، عمد الباحث إلى اتخاذ منهج انتقائيّ واضح، نرى أنّه قد أخلّ في العمق بحياديّة الدراسة وموضوعيّتها، فاستحضر من أقوال حسن البنّا ومواقفه ما به تترسّخ في الأذهان "كاريزما" المؤسّس الحكيم المتسامح والمرشد الموحّد والجامع، واستبعد في الوقت ذاته استبعاداً مطلقاً كلّ ما من شأْنه أنْ يمسّ من بريق هذا الحضور الكاريزمي. فلا إشارة في "تسلّف الإخوان" إلى مواقف البنّا من الجهاد، بالرّغم من أنّ له في هذا الباب رسالةً شهيرةً تُعدّ من أدبيّات الجماعة ومن ثوابت توجّهاتها الإيديولوجيّة. "رسالة الجهاد" التي جاء في خاتمتِها: "أيّها الإخوان، إنّ الأمّة التي تُحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهَب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنّعيم الخالد في الآخرة. وما الوَهنُ الذي أذلّنا إلّا حبّ الدنيا وكراهيَة الموت، فأعدّوا أنفسكم لعمل عظيم. احرصوا على الموت توهبْ لكم الحياة."[13]

وتخلو دراسة حسام تمّام من أدنى إشارة إلى رسالة المؤتمر الخامس التي تحتلّ مكانة جوهريّة ضمن النسق الفكريّ الإخوانيّ، والتي يدعو فيها مؤسّس الجماعة إلى استخدام القوّة العمليّة، حيث لا يُجدي غيرُها. ونحن نذهب إلى أنّ هذا "الطّمس" الواضح لجزء مهمّ من أطروحات حسن البنّا لا يمكنُ أنْ يُفهمَ إلّا في سياق المقصد العامّ الذي يتنزّلُ ضمنه نصّ "تسلّف الإخوان"، وهو "تبييض" حركة الإخوان المسلمين من خلال العمل، بدءاً على تنقية معينها الأوّل من مختلف الشوائب[14] وصولاً إلى الإدانة الصّريحة لما آلتْ إليه الحركةُ قبيل ثورة يناير 2011 من تغليبٍ للتيّار القطبيّ في مواجهة التيّار الإصلاحيّ. فمنطوق الدراسة يوهم بأنّ الفكر الأصيل لجماعة الإخوان أقربُ ما يكون إلى معزوفة هادئة خالطها نشازان حادَا بها عن تناغمها؛ أوّلهما داخليّ وهو الانزياح الذي أحدثه سيد قطب حين عزف على أوتار التكفير والجاهليّة والحاكميّة، وثانيهما خارجيّ تمثّله الدواخلُ ذات الرافد السلفيّ الوهابيّ المغرق في الانغلاق، والتي لم تكفّ طيلة عقود متعاقبة عن مناكفة الأطروحات الإخوانيّة ذات التوجّهات التي يغلب عليها الاعتدال والانفتاح. وبهذا الطّرح، يخرجُ حسام تمّام في اعتقادنا من دائرة الباحث الموضوعيّ الذي يلتزم الحياد تجاه موضوع دراسته، ليتّخذ لنفسه موقعاً محكوماً بمقتضيات الذاتيّة والانتقائيّة، وهو ما جعله ينأى بدراسته عن ملامسة جملة من الأسئلة الجوهريّة التي لا يستقيم دونها تفكيكُ المنظومة الفكريّة الإخوانيّة القائمة على النموّ والتغيّر، ومن بين هذه الأسئلة: ألم تكنْ "سلفيّة" الإخوان منذ لحظة التأسيس الأولى مهيّأة في عمق بنائها للقبول بضرب من "التفاعل البراغماتي" ينشأ بينها وبين السلفيّة الوهـابيّة على وجه التحديد؟ ألا يمكن أن نقرأ فكر سيّد قطب الموغلَ في الانغلاق والتطرّف، باعتباره النتاج الحتميّ لالتقاء رافديْ السلفيّة المصريّة في نسختها الإخوانيّة والسلفيّة السعوديّة في نسختها الوهابيّة[15]؟ هل يمكن القولُ إنّ كتابات حسن البنّا ورسائلَه وتعليماته كانت تستبطنُ بشكل جنينيّ تفاصيلَ المشروع القطبيّ اللّاحق، وفي الوقت ذاته كانت تشكّل تجلّياً مخصوصاً من تجلّيات المشروع الوهابيّ القائم؟ وأخيراً كيف لنا أن نفهم في ضوء ما خطّه تمّام في دراسته من تمشّيات وما بلغه من نتائج بعض المعطيات السياسيّة اللّاحقة لكتابة الدراسة، والتي نراها على غاية قصوى من الأهميّة من قبيل النجاح اللّافت الذي حققه الإخوان في مصر في الانتخابات المنعقدة بعيْد ثورة 2011 وتحوّل بوصلة المحور الرئيسي للتحالف الإقليمي الإخواني من المملكة السعوديّة في اتجاه دولة قطر؟[16]

إنّ هذه الأسئلة وغيرها كانت فيما نرى كفيلة بأن توسّع من أفق البحث في أشكال التفاعل بين تيّاريْن يلتقيان في مربّع أساسيّ هو الإيمان بأنّ إنقاذ اللحظة الرّاهنة لا يمكنُ أنْ يتأتّى إلّا عبر إلغاء رهاناتها الحارقة والبحث عن مرفأ نجاة بين طيّات الماضي وفي ثنايا تفاصيله.

وما كان بالإمكان في اعتقادنا أنْ تتّسع آفاق البحث في مسألة تسلّف الإخوان مع ما يمكن ملاحظته من غياب يكاد يكون تامّاً لآليّات علميّة ومنهجيّة تساعد على تفكيك المكوّنات الأساسيّة التي تنتظمُ العقلَ الإخوانيّ من جهة والعقل السّلفيّ الوهّابيّ من جهة ثانية. فإذا استثنيْنا بعض السّياقات الواردة في مطلع الدراسة، والتي احتوت عرضاً انتقائيّاً لجملة من أفكار حسن البنّا، فإنّنا لا نكاد نظفر في متن البحث بأيّة محاولة جدّيّة للنفاذ إلى أعماق المنظومة الذّهنيّة المسيِّجة للفكر الإخوانيّ في مختلف تجلّياته ومراحل نموّه وتطوّره. وهنا يستشعرُ القارئُ عمق المسافة التي تفصلُ بيْن آفاق الانتظار الواسعة التي يُبشّر بها العنوان الفرعيّ للدراسة "تآكل الأطروحة الإخوانيّة وصعود السلفيّة في جماعة الإخوان المسلمين"، وما يشبه خيبة الأمل التي يُفضي إليها التعمّق في محتويات المُنجَز. هذا المُنجز الذي نراه قد عجز عن الإقناع بوجود "أطروحة إخوانيّة" فضلاً عن الإقناع بتآكُلها. ومن العوامل المساهمة في هذا العجز ضمورُ الضبط المفهوميّ وتهافتُه صُلب مقاربة حسام تمّام، إذْ على الرّغم من استعمال عدد هامّ من المصطلحات المحتاجة إلى تدقيق مفهوميّ من قبيل "التسلّف" و"الإصلاح" و"المحافظة" و"التنظيم"، إلّا أنّ هذا الاستعمالَ ظلّ في معظم الأحيان فضفاضاً منفتحاً على ممكنات عدّة في الفهم والتأويل. وبالتوازي مع هذا الضمور في الضبط المفهوميّ، من المهمّ أن نشير إلى أنّ حسام تمّام قد جنح في حيّز نصّي قصير من بحثه إلى توظيف عبارة "المزاج" ستّ مرات توظيفاً يؤكّد في نظرنا أنّ هدفه الرئيسيّ من عمله لم يكن الإخلاصَ للحقيقة العلميّة والمعرفيّة، إنّما كان في صميمه بحثاً عن توفير غطاء تبريري لجماعة الإخوان التي ما انفكّت تواجه اتّهامات جدّيّة بالانخراط في مسارات الانغلاق والتعصّب والتطرّف. ومن خلف هذا الغطاء يظهرُ بجلاء تضخّم منسوب "الإيديولوجي" و"الذاتي"، بالرغم من حرص الكاتب الواضح على الإيهام بالتزامه الموضوعيّة والحياد. وهذا يعني أنّ "تسلّف الإخوان" دراسة "مفخّخة" تُبْطن غير ما تُظهر، إذْ من اليسير أنْ توهم متقبّلها عند القراءة الأولى بأنّها نصّ ينبش حقّاً في أغوار المنظومة الإخوانيّة، لكن سرعان ما يتّضح عند البحث في الدلالات الثاوية خلف الأسطر أنّه قصد بالأساس إلى تبييض هذه المنظومة في إطار مقصد دفاعيّ تبريري.

ننتهي في خاتمة هذه القراءة إلى أنّ ما سقناه من ملاحظات نقديّة حول "تسلّف الإخوان" لا يُنقص البتّة من قيمة هذه الدراسة، باعتبار أنّ أهمّية أيّ نصّ لا تتحدّد في نظرنا بما يقدّمه من إجابات بقدر ما تتحدّد بما يثيره فينا من أسئلة وما يحرّك من سواكن وثوابت.

[1] أعادتْ دار الشروق نشرها سنة 2012 مرفوقة بسبع دراسات للباحث نفسه، ضمن كتاب: "الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة".

[2] حُسام تمّام، تسلّف الإخوان تآكل الأطروحة الإخوانية وصعود السلفيّة في جماعة الإخوان المسلمين، ط مكتبة الإسكندريّة، 2010، ص 10

[3] من بيْن هذه التفاصيل إشارة حسام تمّام المهمّة إلى أنّ الإخوان الذين استقرّوا فترة في المملكة، نقلوا حين عودتهم إلى مصر جزءاً كبيراً من تكوينهم السلفي إلى المشهد الديني المصري، ليلاحظ مثلاً "كيف انتشرتْ أشرطةُ القرآن الكريم المسجّلة بأصوات سعوديّة مثل الحذيْفي والسّديس العجمي لاحقاً، لتحلّ محلّ كبار القرّاء والمرتّلين المصريّين من أمثال عبد الباسط عبد الصمد والحصري والمنشاوي وغيرهم". المصدر نفسه، ص 14

[4] المصدر نفسه. ص 9

[5] يُلاحَظ في هذا الصّدد أنّ حسام تمّام، وفي سياق اهتمامه الواضح بالتفاصيل الدالّة، قد أولى عناية خاصّة في دراسته لمسألة الهدي الظاهر، راصداً في كلّ مرّة مواقفَ الإخوان من إطلاق اللّحية وارتداء النّقاب واللباس الشرعيّ، متوقّفاً عند الدلالات الثاوية وراء هذه المواقف. انظر مثلاً، المصدر نفسه، ص 16

[6] المصدر نفسُه، ص 13

[7] المصدر نفسُه، ص 18

[8] المصدر نفسُه، ص ص 22، 23

[9] المصدر نفسُه، ص 18

[10] المصدر نفسُه، ص 28

[11] المصدر نفسُه، ص 5

[12] يُشير حسام تمّام إلى أنّ حسن البنّا "حين أسّس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 سجّلها بوصفها جمعيّة خيريّة، على غرار الجمعيّات الخيريّة ذات التوجّه الصّوفي المعروفة آنذاك". المصدر نفسه، ص 7

[13] حسن البنّا، الله في العقيدة الإسلاميّة ورسائل أخرى، دار الشهاب، القاهرة، 1977، ص 83

[14] ينقل حسام تمّام في مستهلّ دراسته تعريف حسن البنا لهويّة الجماعة باعتبارها "دعوة سلفيّة وطريقة سنيّة وحقيقة صوفيّة وهيئة سياسيّة وجماعة رياضيّة ورابطة علميّة ثقافيّة وشركة اقتصاديّة وفكرة اجتماعيّة." حُسام تمّام، تسلّف الإخوان، ص6، وهو يعتبر هذا القولَ قرينة مهمّة على الإطار الجامع الذي يسم الحركة في بدايات تشكّلها دون الإشارة إلى ما يحمله هذا التعريف من دلالات سياسيّة على غاية من الأهميّة والخطورة، إذْ عبره سيُشرّع الإخوان لأنفسهم لاحقاً الامتداد صلب مفاصل الدولة والمجتمع. إنّه تعريف يُضمر في اعتقادنا نوازع الهيمنة السياسيّة، وهو يعبرّ بشكل ما عن رؤية استشرافيّة ثاقبة للمرشد الأوّل رسم من خلالها الخطّ الرّئيسيّ لمسار الجماعة المستقبليّ... خطّاً عنوانه الأبرزُ هو الهيمنة والنّفوذ.

[15] نجد في "تسلّف الإخوان" إشارة مهمّة مفادها "اعتراض المملكة على الأحكام المشدّدة التي أصدرتها المحكمة العسكريّة عام 1966 في حقّ خمسة من قادة الجماعة، وإعدام سيّد قطب واثنين من رفاقه، رغم محاولة المملكة التدخّل لوقف تنفيذ الحكم". حسام تمّام، تسلّف الإخوان، ص 11

[16] بدا محور التحالف الإخواني القطري مغيّباً تماماً في دراسة حسام تمّام، بالرغم من أهميته الاستراتيجيّة، وممّا يلفت الانتباه في هذا السّياق سكوت الباحث عن الدور الحاسم الذي لعبته قناة الجزيرة الفضائيّة طيلة عقديْن أو أكثر في دعم جماعة الإخوان في الوقت الذي نراه فيه قد توسّع في تعداد المساحات التي خصصّتها قنوات فضائيّة ذات توجّه سلفي لعدد مهمٍّ من "الإخوان المتسلّفين"، حتى يحقّقوا ضرباً من النجوميّة والانتشار الجماهيري، ومن بين هذه القنوات يذكر "قناة الناس" و"قناة الحافظ ". المصدر نفسه، ص ص 23، 24

البحث في الوسم
الإخوان