قراءة في كتاب "علم الاجتماع الديني بالمغرب: مقدّمات نظريّة" للكاتب إدريس الصنهاجي


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "علم الاجتماع الديني بالمغرب: مقدّمات نظريّة" للكاتب إدريس الصنهاجي

"نجد في الماضي، وقد نجد حتّى اليوم مجتمعات ليس لها علم ولا فنّ ولا فلسفة، لكن ما كان ثمّة أبدا من مجتمع دون أن يكون له دين"

هنري برغسون

تواصل مؤسّسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية إصدار أعمالها تصميما وإخراجا التي تنتمي إلى عديد الحقول المعرفية والفكرية، العلوم الاجتماعية والإنسانية والأدب وفروعه والفن والفلسفة وغيرها؛ وهي بذلك تنير طريق القارئ المهتم والقارئ المتخصص في الآن نفسه. لكن، الجديد هذه المرّة هو إصدار الطبعة الأولى 2018 من كتاب يحمل عنوانا رهانيّا وراهنيّا "علم الاجتماع الديني بالمغرب: مقدّمات نظرية"، ويشمل بين دفتيه 254 صفحة من القطع الكبير، من تصميم التشكيلي المغربي عزيز أزغاي بتوظيف لوحة فنّية للفنان التونسي خالد ميلود.

والكتاب من تأليف الباحث السوسيولوجي إدريس الصنهاجي أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمّد بن عبد الله بفاس الذي سبق أن اشتغل أستاذا للفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي، وأستاذا عرضيا لعلم الاجتماع بجامعة محمّد الأوّل بوجدة، قبل التحاقه بجامعة فاس. والكتاب عبارة عن دراسة نظرية حول علم الاجتماع الديني بالمغرب، جمع فيها الباحث بين التأصيل النظري وإعادة قراءة المنجز السوسيولوجي، ورسم منذ البداية غايات محدّدة للعمل: "المساهمة في الكشف عن المفاهيم والأفكار والطروحات الأساسية، كأدوات نظرية للتحليل تساعد القارئ على فهم الظاهرة الدينيّة وما يرتبط بها من إشكالات معاصرة"[1]، كما يستطرد قائلا في هذا الصدد: "نحاول في هذا العمل إذن، أن نتعرّض للظاهرة الدينيّة والتحوّلات التي تطرأ على الممارسات الدينية في علاقتها بالتفاعلات والتحوّلات الاجتماعية، وأن نستكشف ما به يتطوّر السلوك الديني للإنسان"[2]. يظهر إذن من منطوق الكلام، أنّ للباحث رهانات منهجيّة ومعرفيّة في الآن نفسه.

ويأتي هذا المؤلف الافتتاحي "علم الاجتماع الديني بالمغرب: مقدّمات نظريّة" في صلب اهتمام الباحث حول قضايا الدين والتديّن والتطرّف الديني العنيف والهوية وغيرها من القضايا والأسئلة التي يطرحها علم الاجتماع الديني بعامة وعلم الاجتماع الديني بالمغرب بخاصة، لأنّ اهتمام الباحث وانشغاله بهذه القضايا يتجسّد في مشواره المدني والأكاديمي تدريسا وتأليفا. والجدير ذكره، أنّ هذه القضايا حاضرة في أطروحته لنيل الدكتوراه، وهي امتداد لعديد المقالات والمشاركات العلمية والحوارات ذات الصلة بالموضوع. وأخذ الباحث تحدّيا صريحا في إشارته إلى أنّ هذا العمل النظري التأسيسي لا ينفصل عن عمل ثان يتناول المسألة نفسها من خلال دراسة ميدانية[3]. إذن، يتعلق الأمر بورشة مفتوحة لأشكلة قضايا الدين والتديّن ومفهمتها نظريا أوّلا، ومقاربتها إبستيمولوجيا ووضعها في مختبر السوسيولوجيا ثانيا؛ أي النزول إلى الميدان باعتباره امتحانا لوجاهة التأسيس النظري في البحث السوسيولوجي. فأين تكمن أهمية هذا البحث؟ وما الشروط السياقية التي أسهمت في إخراجه إلى حيز الوجود؟ وما هي القضايا والإشكالات التي يعالجها؟ وما هي الفرضية التي يحاول إثباتها؟ وتبعا لأيّة عُدّة منهجية حاول الباحث تحقيق غايات هذا البحث؟ وما النتائج التي أسفر عنها هذا العمل؟ وما مدى وجاهة البنية الحجاجية التي اعتمدها الباحث؟

تتحدّد أهمّية هذا العمل:

أوّلا - في الإسهام في التراكم حول سوسيولوجيا الدين من خلال عرض بعض الأفكار المركزية التي لامست الإشكالية ومقارنتها وتقديمها للقارئ، والإسهام في تحرير قضايا الدين والتديّن من قارة الفقه والدراسات العمودية وجعلها موضوعا للدراسة العلمية السوسيولوجية الأفقية معتمدا في ذلك على رصد تمثلات الأفراد وفهم اتجاهاتهم ومواقفهم وممارساتهم وطقوسهم المحكومة بخلفية دينية (استنطاق النصّ عد الضرورة المنهجية).

وثانيا - لما يشكّله من إضافة علمية نوعية حول إشكالية الممارسات الدينية والتحوّلات الاجتماعية في الارتباط بظاهرة عودة الديني، [4] قياسا بتقليدانية أدبيّات السوسيولوجيا الكولونيالية والأنجلو-ساكسونية التي تناولت قضايا الزوايا والأولياء والشرفاء، والمعتقدات، والسحر والطقوس من جهة، ومحدودية الدراسات السوسيولوجية المغربية على مدى نصف قرن، والتي أصبحت أكثر انشغالا بالتحولات التي تشهدها الممارسات الدينية للمغاربة دون طرق قضايا الهامش في العلاقة بالموضوع[5] من جهة أخرى.

وأخيرا، صدر الكتاب في سياق مناخ سياسي عام تطبعه انعكاسات أحداث الربيع "العربي" والتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحايثة له من جهة، وسيادة منطق السوقنة التي عرفها العالم بموجاتها الثلاث: سوقنة اليد العاملة وسوقنة المال ومع التحوّل الإيكولوجي الذي اجتاح العالم، تمّ تحويل الأرض والماء والهواء والجينات إلى سلع، ممّا أصبح يهدّد الوجود البشري على حد قول السوسيولوجي ميشال بوراووي[6] من جهة أخرى.

انطلق الباحث من قضية مركزية ينتظم حولها العمل في كلّيته، تتمثّل في علاقة الدين والتديّن بالتحولات والتفاعلات التي يشهدها المجتمع المغربي، ثم بلور ذلك في إشكالية محددة صاغها في الأسئلة التالية: هل للدين من دور في إحداث التغيير الاجتماعي؟ وكيف يحدث التحول الذي يطال السلوك الديني للإنسان (التديّن): هل يكون نتيجة لتحوّل في منظومة القيم والتصورات والتمثلات الدينية أم نتيجة لتحوّل في البنيات والعلاقات الاجتماعية؟، منطلقا من فرضية أولية: أنّ تحوّل السلوك الديني للإنسان إنّما يتم في ارتباط بتحوّل يحدث في أفكاره وتصوّراته وتمثّلاته وتأويلاته الدينيّة.[7]

وتتجلّى هندسة الكتاب وهيكلته في تقديم للسوسيولوجي أحمد شراك ومقدّمة ومدخل وفصلين اثنين يضمّ كل واحد منهما ثلاثة مباحث وخلاصة، إلى جانب الخلاصات العامة والبيبليوغرافيا والفهرس. عنون الباحث المدخل "من المفاهيم إلى التراكم السوسيولوجي"، حيث مفهم فيه موضوع البحث وأشكله وحدد تمفصلاته وخريطته النظرية ورصد ما سمّاه بالتراكم السوسيولوجي في مجال دراسة الدين والتديّن بالمغرب منفتحا على الأبحاث والتقارير والأطاريح ذات الصلة، ثمّ خصّص الفصل الأول لمناقشة الدين كموضوع لعلم الاجتماع من خلال ثلاثة مباحث: الظواهر الدينية ظواهر اجتماعية ومقاربات في علم الاجتماع الديني وسوسيولوجيا الإسلام، بينما الفصل الثاني تناول فيه بالدرس والتحليل إشكالية العلاقة بين الدين والتغير الاجتماعي عبر ثلاثة مباحث: الدين عائق للتغير/الدين دافع للتغير، الإصلاح الديني كمدخل للتغيير الاجتماعي والدين في الانتفاضات العربيّة.

يشير السوسيولوجي أحمد شراك في تقديمه إلى أهمية المسألة الدينية ليس في المغرب فقط، بل في العالم العربي الإسلامي، وذلك للإشكالات التي تطرحها، وتحديدا بعد الربيع العربي الذي أبان عن نجاح الإسلام السياسي في اقتحام مراكز القرار السياسي في أكثر من بلد عربي[8]، مبرزا أنّ قيمة الدين تتجاوز ما هو تديّني يتصل بممارسات محكومة باعتقادات روحية ووجدانية لدى الإنسان. لكن استبداد الفقه والفقهاء معرفيا بقضايا التدين، جعل دراستها فلسفيا وعلميا أشبه بمغامرة فكرية غير محسوبة العواقب، نظرا لحجم التهم والأخطار التي تبدأ بالقذف وتصل إلى حدّ القتل مرورا بتهم المروق والكفر والنفي وغيرها؛ وهو ما يفسّر تأخّر انتساب تاريخ السوسيولوجيا العربية إلى علم الاجتماع الديني الذي نجد جذوره مبثوثة في أعمال روّاد النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع. لذلك، يعتبر أحمد شراك أنّ المؤلّف غامر بالعُدّة السوسيولوجية في مقاربة المسألة الدينية بالمغرب، وقدّم قراءة توصيلية واستيعادية للمنجز السوسيولوجي حول الموضوع بالمغرب ملتزما بشروط الكتابة العلمية "بعيدا عن الحشو وقريبا من البرودة في المناولة والاستفهام والاستشكال[9]".

يقدّم الباحث في المدخل التأطير النظري والمنهجي للعمل، ويعرض المسوّغات الجوهرية لتناول المسألة الدينية، إن على المستوى العالمي أو المستوى القطري أو الوطني، في الماضي والحاضر، بحكم حجم التحوّلات الجذرية، على جميع المستويات والأصعدة، التي تعيشها المجتمعات المعاصرة.

وفي النقطة المرتبطة بالمفاهيم الإجرائية والمتغيّرات الأساسيّة للبحث: يسجّل الباحث، بشكل صريح، أنّ اللجوء إلى التحديد الإجرائي للمفاهيم ضرورة منهجية سوسيولوجية، لكنه يضيف في الآن نفسه أنّ طبيعة المفاهيم مركّبة وإشكاليّة مما يجعلها تطرح جملة من الصعوبات، نظرا لتقاطعها ومفاهيم أخرى وطابعها العابر لعديد التخصصات العلمية والفروع المعرفية.

مفهوم الدين: يتقاطع مع مفاهيم المقدّس والمدنّس والنسق والرمز والطقس. لذلك، يعتبر الباحث أنّ الدين يحيل إلى فكرة وتجربة المقدّس[10].

مفهوم التديّن: "يحيل إلى الممارسة بالأساس، أي التعبير عن المعتقدات والأفكار الدينية ليس عبر الخطاب والمواقف، وإنّما عن طريق الفعل المادي الملاحظ في طقوس وسلوكات تعبدية (صلاة، حج، لباس...) يمكن إدراكها بالحواس قبل تعقّلها".[11]

مفهوم التغيّر الاجتماعي/التحوّل الاجتماعي: تحوّل يطال المجال الاجتماعي على مرّ الزمن "تبعا لإيقاع ما"، ملاحظ وقابل للقياس، ويهمّ البنية وليس الفرد وله عوامل وشروط (ديمغرافية وبيئية واقتصادية وتقنية وثقافية) وفاعلين يسهمون في حدوثه أو عرقلته[12].

التغيّر الاجتماعي والتحوّل الثقافي: يسجّل الباحث صعوبة التمييز بين النسقين الاجتماعي والثقافي لارتباطهما وتمفصلهما، لكن يعتبر أنّ متغيّر التديّن في علاقته بالتحوّلات الاجتماعيّة هو قاسمهما المشترك.

مفهوم الثقافة: من المفاهيم الأكثر حضورا في العلوم الاجتماعية والإنسانية والأكثر غموضا فيها في الآن نفسه؛ لأنّه مفهوم عابر للتخصّصات ويثير عديد القضايا والإشكالات. لكن انتصر الباحث، للضرورة المنهجية، إلى التحديد الذي قدّمه أنتوني غيدنز:[13] "منظومة من الأفكار والتمثّلات والمعتقدات والقيم المشتركة التي تؤطّر سلوك الإنسان ونظرته إلى الكون، وهي أيضا طريقة في العيش ترتبط بالجوانب الملموسة كالأشياء والرموز والتقنيات التي يتم اكتسابها بالتعلم."

مفهوم القيم: إجرائيا هي: "أفكار أو معتقدات أو إحساسات أو مؤسسات أو أشياء مادية ... تتعلق بالمجتمع وليس الفرد؛ وهي متعدّدة ومتباينة ونسبية. وتشكّل كلاّ قابلا للتحوّل حسب حركية المجتمع، كما أنّها مصدر للتعايش أو للصراع"[14].

مفهوم الفاعل: "ما يحمل القدرة على الفعل وتحويل قدراته الكامنة إلى ممارسات علمية لها آثار على المجتمع" يمكن أن يكون فاعلا مدنيّا أو سياسيّا أو اجتماعيّا.

يناقش الباحث في الفصل الأوّل قضيّة الدين موضوعا لعم الاجتماع، ويبيّن الخلفية الاجتماعية للظواهر الدينية ومدى قابليتها للدراسة السوسيولوجية بالمغرب على غرار مثيلاتها لدى الجماعات العلمية ومختلف مقارباتها على المستوى الدولي، في إشارة صريحة إلى الصعوبات المرتبطة بالهالة القدسية للدين من داخل دائرة الفقهاء الذين يعتبرون أنّ موضوع الدين وقضاياه مجال من اختصاصهم من جهة، ومعيقات تتصل برهانات سلطة الدولة من جهة أخرى، ثم تناول قضايا ما سمّاه الباحث بسوسيولوجيا الإسلام بالدرس والتحليل، حيث سجل في هذا الصدد أنّ هناك تزايدا على مستوى خلق مسالك أو شُعَب علم الاجتماع العام بعدد من الجامعات المغربية، بينما لاحظ أنّ هناك محدودية في علم الاجتماع الديني، إلاّ أنّ دراسة عديد من القضايا الدينية لا زال واعدا في المستقبل.

أمّا الفصل الثاني، فقد خصّصه الباحث لمناقشة مسألة الدين والتديّن الإسلامي في علاقته بالتغير الاجتماعي -حالة المغرب، ناظرا في معرفة مدى درجة الارتباط بين الإصلاح الديني والتغيير الاجتماعي، ومنفتحا في ذلك على واقع المجتمع المغربي وما عرفه من احتجاجات ومظاهرات شعبية، أي بحث مسألة حضور الدين ومدى تأثيره في هذه المظاهرات؛ وهي الإشكالية النواتية للبحث. ولعلّ من المفارقات التي سجّلها الباحث أنّ النصوص الدينية يتم إقحامها فيما هو سياسي الذي ينبني على المصلحة أساسا لصالح هذا الطرف أو ذاك في معترك الصراعات والرهانات حول السلطة. لذلك، أثبت الباحث من خلال دراسة الأحزاب والقيادات الإسلامية ومتابعتها، أنّ العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تحدث تغيّرا في الدين كمعتقد وفي التديّن كممارسة للدين مع فارق في وتيرة التغير. وفي المقابل، المعتقدات والممارسات الدينية يمكن أن تحدث تغييرا جزئيا أو شاملا في مجتمع ما. لهذا فالتفاعل جدلي منفتح بين المتغيّرين. ويبقى الدين متغيّرا مهمّا وعاملا محددا في تغيير الأوضاع أو الإبقاء عليها حسب التوظيف السياسي له.[15]

ومن أهم الخلاصات التي توصّل إليها الباحث لا تنفصل عن استثمار الدين سياسيا ورصد أهمّيته الاجتماعية والوجودية والكشف عن مفارقات الدين والتديّن لدى الفرد المغربي. حيث يواجه علم الاجتماع عديد الصعوبات في دراسته للظواهر الدينية. إضافة إلى أنّ الدين يحتل موقعا مركزيا في الثقافة والسياسة بالمغرب، ويوجد في قلب الصراعات والرهانات حول السلطة. كما أنّ الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية تبرز أنّ المعتقدات والتمثلات والممارسات الدينية خاضعة إلى تحوّلات الواقع وديناميته وتغيراته، وكلما اقترب صاحبها من السلطة السياسية أو مارسها، كانت قناعاته قابلة للمراجعة. وبالنسبة إلى مسألة دفاع رجال الدين عن السلطة هو في العمق دفاع عن مكانتهم الرمزية والمادية. والمستفيد الأكبر ... تبعا للباحث دائما.. من احتجاجات ما سمي "بالربيع العربي" زعماء الإسلام السياسي.

إنّ الدين وسيلة مزدوجة؛ لأنّه أداة للتحريض والتعبئة والتغيير الإيجابي، وفي الآن نفسه يستخدم لشرعنة الاستبداد والسيطرة وإعاقة أي تغيير أو تطور يطمح إليه عامة الناس. وثمة انفصام بين المعتقد والممارسة اليومية لدى الإنسان المغربي. وأخيرا، يشير الباحث، إلى حقيقة سوسيولوجية جديرة بالتأمل، وهي لا وجود لأديان خاطئة، فكلّ الأديان حقيقية، وكلها تجيب وبأشكال مختلفة على شروط معيّنة للوجود الإنساني.[16]

ممّا سبق عرضه، يبدو أنّه إذا كانت كلّ من المدرسة الكولونيالية والأنجلو-ساكسونية والمدرسة المغربية قد تناولت بعض جوانب البحث، فإنّها درسته في سياقات سياسية وعلمية وثقافية أخرى مغايرة، وكانت إمّا محكومة بالهاجس الاستكشافي الوصفي، أو لم تكن بالصرامة المنهجية المطلوبة كما أنّها لم تتطرّق لظاهرة "عودة الديني"[17] بوصفها ظاهرة راهنية وأداة مفهومية للبحث. فإنّ البحث موضوع القراءة، يرصد التحوّل الذي يشهده المغاربة على مستوى ممارساتهم الدينية. وسنده في ذلك، ممارسة حقّ العودة إلى المتون في السوسيولوجيا منذ نشأتها، بكثير من الحذر المنهجي والمعرفي، واستنطاق مراجعها متمتّعا بنصيبه في الشك والفحص والنقد والتساؤل والتمحيص والفهم والتحليل والتأويل واستخلاص المعاني والدلالات وامتداداتها ومآلاتها الما-بعدية المحتملة، مجسّدا بذلك مقولة آلان تورين: "لا سوسيولوجيا دون تاريخ ولا تاريخ دون سوسيولوجيا".

والعُدّة المنهجية نفسها اعتمدها الباحث في رصد الظاهرة الدينية بالمغرب في تشابكها مع التحولات والتفاعلات الاجتماعية من منظور السوسيولوجيا الدينية وسوسيولوجيا التغير الاجتماعي في تقاطع مع سوسيولوجيا المعتقدات الدينية كما يؤسّس لها شارل هنري كوين[18]، منفتحا على الدراسات الأنثربولوجية والتاريخية وغيرها الأنجلو-سكسونية والفرانكوفونية أو ما يسمى بالمعرفة الكولونيالية منذ القرن التاسع عشر إلى حدود حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956[19]، كيف لا يتّخذ غير هذا المنحى المنهجي و"سوسيولوجيا المجتمع المغربي محكوم عليها أن تكون سوسيولوجيا تاريخية"[20]؟ ممارسا بذلك طقوس العبور من حقول معرفية أخرى لسبر أغوار جوانب مهمة من موضوع البحث وتحديدا فهم الحضور المكثف للطقوس والرموز (حيث الدين يتداخل مع السحر والخرافة لتفسير كل شيء، تكون فيها كل الأمكنة والفضاءات مشبعة بما هو ديني على حد تعبير عالم الاجتماع الدوركهايمي موريس هالفاكس[21]) في مختلف أبعاد حياة المغاربة وتفاصيلها واستثمار المعرفة الكولونيالية، باعتبارها معرفة علمية تم توظيفها في إحكام السلطات الاستعمارية الفرنسية قبضتها على المجتمع المغربي. كما أنّ الباحث، استثمر عديد دراسات الباحثين المغاربة كل من زاوية تخصّصه (علم الاجتماع والسياسة والفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا).

كما أنّ الباحث وظّف لغة سوسيولوجية دقيقة على مستوى بناء موضوع البحث ومفاهيمه وأسئلته وبنيته الحجاجيّة وآلياتها وميكانيزماتها وعرض نتائجه، مشغّلا بذلك عُدّة نظرية سوسيولوجية غنيّة جدا تنهل من النظريات الكلاسيكية والمعاصرة في علم الاجتماع، منفتحا على أعمال إميل دوركايم ومارسيل موس وماكس فيبر وجورج زيمّل ولازارسفيلد وغي روشي وبيير بورديو وآلان تورين وبول باسكون وغيرهم من أجيال السوسيولوجيا بالمغرب، ويظهر ذلك، في تنوّع البيبليوغرافيا كمّا ونوعا ولغة بين المصادر والمراجع والأطاريح والمجلات المتخصصة والمقالات والوثائق والمواقع الإلكترونية والصحف والجرائد؛ إذ إنّ الباحث أسهم في التراكم البيبليوغرافي الذي لا يمكن للباحثين في موضوع سوسيولوجيا الدين الاستغناء عنه والاستفادة من معينه.

يشكّل هذا العمل بحقّ مقدّمات نظرية لأبحاث واعدة في قضايا الدين والتديّن، ويمكن تسجيل الملاحظة التي يشير إليها شارل كوين في دراسة قيمة حول حدود سوسيولوجيا المعتقدات الدينية، والتي تبدو لنا ملائمة في هذا المقام: "بأنّ عالِم الاجتماع غير قادر بمفرده على كشف هذه الأشياء[22]، حتى لو كان ذا موهبة كبيرة؛ فهو لن يستطيع مقاربتها إلاّ إذا تعلّم مشقّة الاطلاع على أعمال المؤرّخين والفلاسفة والأنثروبولوجيين واللسانيين وعلماء النفس، وحتى علماء الاقتصاد -باختصار، يلزمه الاطلاع على أعمال جميع أولئك الذين ليست لهم رغبة في أن يكونوا علماءَ اجتماع[23]."

يبدو إذن، أنّ قراءة هذا الكتاب ورطة جميلة جدّا ومغامرة حقيقية وممتعة في الآن نفسه، يتحمّل فيها القارئ تبعات قراءته من رواسب السؤال وقلق العبارة وافتتان المعنى وشغف الكتابة الملتزمة وإثارة الذهن والممارسة الواعية للفكر والدفع بالبحث إلى آفاق لها ما بعدها، ولا يمكن الكشف عن قضايا المسألة الدينية في تعالقها مع التحولات الاجتماعيّة والثقافيّة دون الانفتاح على باقي الحقول المعرفيّة الأخرى.


[1]ـ الصنهاجي إدريس، علم الاجتماع الديني بالمغرب مقدمات نظرية، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، الطبعة الأولى، 2018، فاس المغرب، ص: 10

[2]- المصدر نفسه، ص: 10

[3]- المصدر نفسه، ص: 10

[4]- المصدر نفسه، ص: 70

[5]- المصدر نفسه، ص: 71

[6]- Michael Burawoy, «L’avenir de la sociologie», Sociologie. http://journals.openedition.org/sociologies/4774

[7]- المصدر نفسه، ص: 9

[8]- المصدر نفسه، ص: 5

[9]- المصدر نفسه، ص: 6

[10]- المصدر نفسه، ص: 25

[11]- المصدر نفسه، ص: 27

[12]- المصدر نفسه، ص: 29-30

[13]- المصدر نفسه، ص: 35-36

[14]- المصدر نفسه، ص: 36-39

[15]- المصدر نفسه، ص: 226

[16]- المصدر نفسه، ص: 228-230

[17]- المصدر نفسه، ص: 51

[18]- Charles-Henry Cuin, “La Sociologie des croyances religieuses à ses frontières”, Sociologie, vol. 4, no. 1 (2013).

[19]- المصدر نفسه، ص: 43

[20]- الزاهي نور الدين، المدخل إلى علم الاجتماع المغربي، دفاتر وجهة نظر، عدد 20، الطبعة الأولى 2011، ص: 204

[21]- المصدر نفسه، ص: 44

[22]- في إشارة إلى قضايا سوسيولوجيا المعتقدات الدينية ومجال اختصاصها في ارتباطاتها مع الفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاقتصاد واللسانيات وغيرها من العلوم الاجتماعية والإنسانية.

[23]- Charles-Henry Cuin, “La Sociologie des croyances religieuses à ses frontières”, Sociologie, vol. 4, no. 1 (2013).